الفصَل الثامِن: الطّوفان: الِمياه تَتراجَع فتجَفّ الأرْض

الفصَل الثامِن
الطّوفان: الِمياه تَتراجَع فتجَفّ الأرْض
(8: 1- 22)

أ- المقدّمة:
1- بعد العاصفة الهدوء، وبعد الشتاء الصحو والطقس الجميل. هذا ما حدث في الكون يوم تذكّر الله نوحاً والذين كانوا معه في السفينة. أرسل الريح فهدأت المياه، وأمر فانسدّت العيون التحتيّة وأغلقت كوى السماء فانحبس المطر. الربّ الذي يجعل الرياح رسله ويفجّر العيون في الوهاد، يستطيع أن يجعل للمياه حدّاً لا تجاوزه فتغطّي الأرض (مز 104: 4 ي). ولقد رأى الرسل باعينهم الربّ يسوع يزجر الريح فتهدأ ويأمر البحر فيصمت ويخرس (مر 4: 39- 40). كلّ ما يفعله الآب يفعله الابن مثله (يو 5: 19).
2- نقرأ في هذا الفصل أن الشتاء انقطع والسماء صفت والمياه تراجعت. فأرسل نوح الغراب والحمامة. ولمّا لم تعد الحمامة إلى السفينة، رد نوح غطاء السفينة فإذا وجه الأرض جفّ (8: 1- 14). حينئذٍ خرج من السفينة ومَن معه من العيال والحيوانات، ثمّ بنى مذبحاً قدّم عليه لله محرقة (8: 15- 22).
3- يرجع هذا الفصل إلى مقاطع من التقليدَين اليهوهيّ والكهنوتيّ اللذَين امتزجا في إطار واحد، مع سيطرة للتقليد اليهوهي. غير أن ما يلفت انتباهنا هو إقحام آية أو نصف آية من التقليد الكهنوتيّ في سياق الخبر اليهوهيّ والعكس بالعكس. أجل، أخذ الكاتب الملهم نصَّين مختلفَين يرجع الأوّل إلى حكماء أورشليم والثاني إلى كهنة الهيكل فأعطانا نصّاً واحداً هو كلام الله بالنسبة إلى المؤمنين.
ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- إنخفاض المياه (8: 1- 14)
(آ 1- 2 أ) نصّ كهنوتيّ، بعد أن انتهت عدالة الله من عملها في إفناء الخطأة، ظهرت رحمته على البارّ نوح وعياله والحيوانات التي رافقته (رج يون 4: 11؛ مز 105: 21- 28)، فأرسل ريحاً كتلك الرياح الشرقيّة الآتية من الصحراء والتي تجّفف الأرض بسرعة. هذا ما سيحدث في أرض مصر يوم خروج بني إسرائيل منها (خر 14: 21).
(آ 2 ب-3 أ) نصّ يهوهيّ. توقّف المطر الآتي من فوق (الشتاء) وتراجعت المياه الآتية من تحت (الينابيع).
(آ 3 ب- 5) نصّ كهنوتيّ. يتحدّث عن مئة وخمسين يوماً أو خمسة أشهر وكلّ شهر يتضمّن ثلاثين يوماً. إستقرّت السفينة على جبل أراراط الذي سمّته الترجمة السريانيّة البسيطة "جبل كردو" والشعبيّة اللاتينيّة "جبل أرمينيا". ومهمَا يكن من أمر فالسفينة استقرّت على الجبل ليتمّ اللقاء مع نوح وشعبه الجديد على الجبل كما تمَّ مع موسى وشعب الله على جبل سيناء بعد الخلاص العجيب الذي تمَّ لهم فنجَوا من غضبة الماء.
(آ 6-12) مرجع يهوهيّ.
أراد نوح أن يعرف أين وصلت المياه في تراجعها. فتح النافذة وأطلق الغراب، كما فعل بطل الطوفان في التقاليد البابليّة، تمّ أطلق الحمامة مرّة أولى، فعادت إليه فأخذها وأدخلها السفينة. ولمّا أطلقها مرّة ثانية عادت إليه عند المساء، كما ترجع الطيور إلى أعشاشها، وهي حاملة غصناً من الزيتون لتدلّ على أنّ الحياة بدأت تعود إلى عالم النبات. وأرسلها مرّة ثالثة، ولأنّها لم تعد في حاجة إلى سقف السفينة ليحميها، لم ترجع إليه، فرفع نوح غطاء السفينة ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف.
أرسل نوح الغراب، تمّ الحمامة ثلاث مرّات، أمّا البطل البابليّ فأرسل الحمامة ثمّ السنونو تمّ الغراب.
(آ 13 أ) مرجع كهنوتيّ يتميّز بأرقامه الدقيقة.
(آ 13 ب) مرجع يهوهيّ يروي كيف رفع نوح غطاء السفينة (رج 6: 16).
(آ 14) مرجع كهنوتيّ فيه دام الطوفان اثنَي عشر شهراً وأحد عشر يوماً. أمّا في المرجع اليهوهيّ فدام مئة يوم ويوماً: أربعون يوماً من الشتاء (7: 4، 12) أربعون يوماً تراجعت فيها المياه (آ 3، 6)، وواحد وعشرون يوماً أرسل فيها نوح الحمامة.
2- الخروج من السفينة (8: 15- 22)
(آ 15) مقطع كهنوتيّ يروي خروج نوح من السفينة.
(آ 16- 17) ويعدّد الكاتب الحيوانات كما في 1: 22، فكأنّنا في حقبة ثانية بعد حقبة أولى مع آدم. ولكنّ النصّ لا يقول إن الله بارك الحيوانات كما فعل يوم الخلق (1: 22). فالبركة ستكون محفوظة للإنسان (9: 1) ويبقى للحيوان أن يشارك الإنسان في خيرات العهد مع نوح وأبنائه: أُقيم عهدي معكم ومع الطيور والبهائم ووحوش الأرض (9: 9- 10).
(آ 18- 19) وخرجت الحيوانات بنظام أمام نوح كما مرّت أمام آدم ليسمّيها بأسمائها.
(آ 20) هنا ينتهي خبر الطوفان في المرجع اليهوهيّ: بنى نوح مذبحاً وقدّم المحرقات للربّ.
بنى نوح مذبحاً (12: 7، 8؛ 13: 18). عبادة الربّ وتقدمات الذبائح له بدأت قبل موسى، بل مع نوح والآباء، بحسب التقليد اليهوهيّ (4: 3- 26). ولهذا احتاج نوح إلى سبعة أزواج من الحيوانات الطاهرة، لا إلى زوج واحد يكون كافياً للتناسل على وجه الأرض.
المحرقة هي الذبيحة التي تحرق بكاملها على المذبح ( لا 1: 3) فلا يأخذ منها الكاهن أو مقدّمها شيئاً.
(آ 21) وتنسّم الرب رائحة الرضى. (رج لا 26: 31؛ خر 30: 38). يصعد دخان الذبيحة فيدخل في أنف الإله (والأنف مركز الغضب) فيهدّئ من غضبه. مثل هذه العبارة تدلّ على أنّ الله رضي عن الذبيحة وعن مقدّمها (خر 29: 18، 25؛ لا 2: 2، 9).
وقال الربّ: لن ألعن الأرض... رضي الربّ فمنع اللعنة اللاحقة بالأرض من جرّاء خطيئة الإنسان. وعرف أنّ الإنسان يميل إلى الشرّ منذ حداثته فعذره واكتفى بفعل حبّ صغير يكفّر عن تقصير كبير. واستعدّ لإقامة عهد بينه وبين الإنسان (9: 9- 17).
(آ 22) لن تلعن الأرض. إذاً ستسير مسيرتها بحسب شرائع الطبيعة ولن تعرف الطوفان من بعد. نرى في هذا الوعد الذي أخذه الله على نفسه برهاناً على صبره وطول أناته (روم 3: 25- 26) نحو الخطأة. أليس هو الذي "يشرق شمسه على الأشرار والأخيار ويسكب غيثه على الأبرار والفجّار" (مت 5: 45)؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM