الفصَل السَادِس: الاسْتِعدَاد للطّوفَان

الفصَل السَادِس
الاسْتِعدَاد للطّوفَان
(6: 1- 22)

أ- المقدّمة:
1- بعد مقدّمة يهوهيّة تربط بين ما قرأناه في ف 4- 5 ورواية الطوفان (6: 1- 4)، وبعد مقطع يحدّثنا عن شرّ البشر وبرارة نوح (6: 5- 12)، يروي لنا الكاتب الكهنوتيّ أنّ الله أمر نوحاً ببناء سفينة له ولأهل بيته (6: 13- 22) ليعاقب البشر على خطاياهم.
2- في هذا النصّ يتمازج الكهنوتيّ باليهوهيّ، ولكنّ الكاتب لا يهتمّ بالصيغة الأدبيّة بقدر ما يهمّه أن لا يضيع شيء من تقليد تناقلته الأجيال منذ قديم الزمان. أمّا المعنى الدينيّ فهو في كلا التقليدَين: شخص بارّ ينجو وعياله من الموت، وشعب خاطئ يهلك. هذا أيضاً يكون مصير لوط الذي ينجو وعياله يوم تحترق سدوم لخطايا أهلها (19: 1 ي).
ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- أبناء الله وبنات البشر (6: 1- 4)
(آ 1) بدأ الناس يكثرون... بعد الخطيئة الأولى وما تبعها من خطايا... يحدّثنا الكاتب وكأنّه نسي ما قاله لنا في الماضي.
(آ 2) بنو الله... مَن هم؟ بنات الناس... مَن هنَّ؟
بنات الناس هنّ المولودات من رجل وامرأة. أمّا بنو الله فهم كائنات من العالم العلويّ، ويبدو أنّ اتّحاد بني الله ببنات الناس ولّد الجبابرة.
أبناء الله هم "أبناء ألوهيم" في العبرانيّة، وقد ترجمت السبعينيّة اليونانيّة هذه العبارة "بالملائكة" في هذا النصّ وفي غيره من النصوص (رج أي 1: 6؛ 2: 1؛ 38: 7؛ مز 29: 1). وانطلاقاً من هذا التفسير تداولت أسفار اليهود المنحولة الحديث عن خطيئة جسديّة بين الملائكة والبشر ولد على أثرها الجبابرة (على غرار زواج الآلهة بالبشر في الميتولوجيا اليونانيّة). وتلمح رسالة القدّيس يهوذا (6- 8) إلى خطيئة الملائكة الجسديّة دون أن تذكرها بوضوح. ونسي الجميع ما قاله الربّ يسوع إن ملائكة الله في السماء لا يتزاوجون (مت 3:19).
تحدّث ترتليانوس إلى نساء عصره فقال: "لستنّ في حاجة إلى التبرّج والتزيين لإرضاء الرجال إذ إنّ نساء أمّيّات فظّات قد وضعن البلبلة بين الملائكة". ورأى القدّيس أمبروسيوس في هذه العلاقة بين أبناء الله وبنات البشر سبباً تخفيفيّاً للزنى الذي وقع فيه داود (2 صم 11: 2 ي) وقال: "هؤلاء الملائكة أبناء الله، قد أخطأوا فقيّدهم الله في الظلمة وعاقبهم (سي 16: 7) عندما أهلكهم في الطوفان".
ولكن ظهر تيّار آخر عند الآباء يرفض الحديث عن خطيئة جسديّة عند الملائكة: "أبناء الله هم أبناء شيت، وبنات الله هنّ بنات قايين". ويعطي أفرام تفسيره الدينيّ: "كان أبناء شيت رجالاً أشدّاء لقربهم من الفردوس الأرضيّ وخيراته فاتخذوا بجمال بنات قايين ولمّا اجتمعت القوّة بالرذيلة امتلأت الأرض فساداً".
هذا التفسير لا يشبع رغبتنا في معرفة أساس هذه الأسطورة المنتشرة في الشرق والغرب. ولكن يبقى أنّ الكاتب الملهم نقلها كما عرفها، ونقّاها من كلّ ما تشتمّ منه رائحة شرك، وحمّلها تعليماً توجّه به إلى أبناء عصره. فأبناء الله هم شعب الله (خر 4: 22؛ تث 32: 6) وبنات الناس هنّ نساء غريبات عن شعب الله، والشريعة التي شدّد عليها نحميا وعزرا خاصّة بعد الجلاء، تمنع زواج أبناء شعب الله من نساء غريبات (خر34: 16؛ تث 7: 3). وهكذا لا يجوز أن يختلط أبناء الله الذين يعرفون الله ببنات الناس اللواتي يجهلن الله، لأن العيلة لا تعطي أولادها حياة الجسد فحسب، بل تعطيهم الإيمان وحياة الروح. ونزيد فنقول: إن كان من زواج بين المؤمن وغير المؤمن فليكن في جوٍّ من الحريّة الدينيّة تسمح للزوجَين بممارسة إيمانهمَا في حوار يجعل الواحد قريباً من الآخر ولا يقتل الإيمان في قلب الأولاد بسبب جوّ اللامبالاة الذي يسيطر على البيت باسم التسامح الدينيّ، هذا إذا لم يفرض الأقوى دينه على الأولاد على حساب ضميرهم وبحثهم عن الحقيقة.
(آ 3) الله الذي وضع روحه في البشر فأعطاهم نسمة حياة (2: 7؛ رج مز 104: 29- 30)، عزم على استرجاع روحه فيعود البشر الضعفاء (رج مز 78: 39؛ اش 40: 6) إلى العدم (أي 34: 14- 15). وبدأ فقصّر حياة الإنسان مئةً وعشرين سنهّ.
(آ 4) غضب الله من هذه الزواجات التي فيها يحاول الإنسان أن يطيل عمره أكثر ممّا تسمح له الطبيعة.
نحن هنا أمام عناصر أسطوريّة وجد فيها أوسابيوس مصدر الأساطير اليونانيّة عن الجبابرة و"التيتان" (آلهة يونانيّة ضخمة)، بينما رأى فيها آخرون اقتباساً من عناصر أسطوريّة يشترك فيها شعوب البحر الأبيض المتوسّط.
أمّا مَن هم الجبابرة (جبر في العبريّة أو نفليم أي الذين سقطوا في هجومهم على مدينة الله)؟ هم أولاد بنات الناس الذين يذكرهم الكتاب. هم شعب سكن في أرض كنعان والتقاهم العبرانيّون الآتون من البرّيّة، من وراء الأردنّ، فشبّهوهم بالأشباح وخافوا مهم لأنّهم رأوا فيهم شعباً كثيراً، طويل القامات (تث 2: 10- 11؛ 20- 21). يشير سفر يشوع (15: 13- 14) إلى أنّهم أبطال مشهورون في الحرب ومقيمون في حبرون. ولقد قال عنهم مرسلو موسى إلى قادش بعد أن جسّوا جنوبيّ كنعان: "لا نقدر أن نصعد إلى هذا الشعب لأنّهم أشدّ منّا... وجميع الشعب الذين رأيناهم أناس طويلو القامات، وقد رأينا هناك الجبابرة، جبابرة بني عاناق، فصرنا في عيوننا كالجراد، وكذلك كنّا في عيونهم" (عد 13: 32- 33). إنطلاقاً من هذه المعلومات نستطيع القول إنّه كما انطلق الكاتب الملهم من حادثة في قبيلة القينين ليصوّر العداوة بين الإخوة في بداية الكون، كذلك انطلق من تقاليد قديمة عن جبابرة بني عاناق ليرينا في الخطيئة المتزايدة مقدّمة لتدخّل العدالة الإلهيّة.
2- قبل الطوفان (6: 5- 12)
(آ 5) مقدّمة التقليد اليهوهيّ لحدث الطوفان: فسد البشر فعزم الربّ على معاقبتهم، أجل ما زال الشرّ يتفاقم منذ سقطة الفردوس وخطيئة قايين وهتافات الأخذ بالثأر التي أطلقها لامك. فهل يكون جيل نوح أفضل من باقي الأجيال؟ أعطاهم الله مهلة فلم يصلحوا مسلكهم وظلَّ تصوّر قلوبهم شريراً.
(آ 6) عبّر الكاتب عن ندم الربّ وتأسّفه لخلق الإنسان بصورة تشبيهيّة، فجعل في الله عواطف البشر، وهو يعني بذلك أنّ الله لم يترك الخليقة وشأنها، بل ما زال يهتمّ بها، وهو إن غضب فلأنّ الخطيئة هي أكثر ما يضرّ بالناس. ولكنّ الكتاب يعرف أنّ الله ليس إنساناً فيكذب ولا كبني البشر فيندم (عد 23: 19).
(آ 7) عزم الله على إفناء (حرفيّاً: محو) كلّ من فيه نسمة حياة، من البشر الخاطئين إلى الحيوانات المتضامنة مع الإنسان.
(آ 8) ولكنّ الله استثنى نوحاً: نال حظوة عند الربّ.
هنا يتوقّف النصّ اليهوهيّ، وسنعود إليه في 7: 1- 5.
(آ 9) مقدّمة التقليد الكهنوتيّ: فساد البشر وبرارة نوح.
هذه سيرة، في العبريّة "توليدوت" أي مواليد. سيحدّثنا الكاتب عن نوح الصدّيق السالك مع الربّ على مثال أحنوخ وغيره من الأبرار.
البرارة والصدق (صدق في العبريّة) هما التقوى والأمانة للربّ. أمّا الكمال (تم في العبرّية) فهو صفة الذبيحة التي لا عيب فيها (خر 12: 5؛ لا 1: 3) فتصلح لكي تكون تقدمة يرضى عنها الربّ. وقياساً، فالإنسان الكامل هو مَن لا عيب فيه ولا غبار على أخلاقه وتصرّفاته.
وسلك نوح مع الله. هذه العبارة تدلّ على أنّ نوحاً يعيش في قداسة يتفوّق بها على البشر العاديّين. وهكذا تكون صفات الصدق والكمال والقداسة ما يبرّر الحظوة التي نالها نوح فصار أخاً لاحنوخ. لهذا قال فيه ابن سيراخ (44: 17): "كان بارّاً كاملاً في يوم الغضب".
(آ 10) يذكر الكاتب أبناء نوح مرّة ثانية (ذكرهم مرّة أولى في 5: 32؛ رج 9: 18، 10: 1) وهم سام وحام ويافث.
(آ 11) وفسدت الأرض بسبب أعمال البشر (آ 12؛ رج حز 20: 24) لا أنّ كلّ ما خلقه الله كان حسناً. أجل امتلأت الأرض (أي الكون) عنفاً وجوراً فاستبدّ القاسي والظالم بالمسكين، والقويّ والمتسلّط بالضعيف.
(آ 12) كلّ بشر، كلّ جسد: كلّ كائن حيّ من الناس ومن البهائم. هذه العبارة الخاصة بالتقليد الكهنوتيّ ترد ثلاث عشرة مرّة في خبر الطوفان.
3- بناء السفينة (6: 13- 22)
مقطع من المرجع الكهنوتيّ نقرأ فيه التعليمَات التي أعطيت لنوح من أجل بناء السفينة (آ 13- 16) ثمّ الأسباب التي حدت بالله إلى أن يطلب من نوح أن يبني سفينته (آ 17- 22).
(آ 13) عزم الله على أن يمحو كلّ بشر: ستخرب الأرض ويموت من عليها بسبب المياه الغامرة.
(آ 14) بعد أن أنذر الله البشريّة بالهلاك الآتي، أمر نوحاً بأن يبني سفينته لينجو بنفسه هو وأهل بيته. إن كلمة سفينة أو فُلك هي ترجمة الكلمة العبرانيّة "تبت" أي تابوت، التي لا ترد إلاَّ في هذا النصّ وفي سفر الخروج (2: 3- 5) وهي تعني القفّة أو الصندوق الذي وضع فيه موسى على ضفاف النيل لينجو من الموت. لا شكّ في أنّ الكلمة دخيلة. فإن قابلناها باللغة البابليّة دلّت على سفينة (اليفو) وإن أرجعناها إلى المصريّة (طبت) عنَت الصندوق أو التابوت. ومهمَا يكن من أمر فكلمة "تبت" تدلّ على وسيلة عجيبة تساعد على النجاة من موت محتّم.
(آ 15) بعد أن يتكلّم عن الخشب القطرانيّ والقار، يذكر الكاتب قياسات السفينة (100×50×30) الكبيرة التي يجب أن تتّسع لجيش عرمرم من الناس والحيوان.
(آ 16) يذكر الكاتب الطاقة التي منها ستنطلق الطيور، والباب الجانبي الذي سيدخل فيه الناس والحيوان، والطبقات الثلاث اللازمة لتأمين المسكن والمأوى للجميع.
(آ 17) لماذا السفينة؟ سيأتي طوفان فيهلك كلّ جسد حيّ. سيهلك الناس والبهائم جميعاً، ولكن سينجو نوح وعياله وحدهم بفضل العهد الذي يقيمه الله معه.
(آ 18) للمرّة الأولى تذكر كلمة عهد بين الله والبشر في الكتاب المقدّس. الله يريد أن يقيم علاقة مع بارّ من الأبرار: يتّخذ المبادرة، يطرح الصوت وينتظر الجواب.
كلمة عهد (بريت في العبرانيّة) تعني تنظيماً أو اتفاقيّة تفرض على شخصَين اثنَين عيش السلام وحياة الصداقة. ولقد أراد الله أن يقيم على مثال البشر عهداً مع عباده، أن يقطع عهداً معهم. فالطقوس المرافقة لإقامة العهد كانت تفرض على المتعاهدين أن يقطعوا الذبيحة قطعتَين ويمرّوا بينهما (15: 9- 10؛ 15: 17- 18). في هذا العهد، الذي هو وليد نعمة الله، يتعهّد الربّ أن يحفظ نوحاً من نتائج الطوفان المدمّرة، ويتعهّد نوح أن يبقى أميناً لله هو ونسله. سيسرد الكتاب في الفصل التاسع تفاصيل العهد بين الله ونوح، وهو على غرار العهد الذي قام بطريقة ضمنيّة بين الله وآدم.
(آ 19- 20) يأخذ نوح زوجاً من جميع الحيوانات لئلاّ ينقرض نسلها. لا يميّز النصّ الكهنوتيّ بين الحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة، لأنّه يعتبر أنّ العبرانيّين لم يعرفوا هذا التمييز قبل موسى، وهو ضروريّ لاختيار ذبائح لم تقدّمها البشريّة إلاَّ بعد إعلان الشريعة الموسويّة.
(آ 21- 22) نفّذ نوح بدقّة أوامر الله. ومنها أنّه أخذ طعاماً للناس وللحيوانات بحسب ما ورد في سفر التكوين (1: 29- 30).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM