القسم الثاني: الطوفان

القسم الثاني
الطوفان
(ف 6 – 9)

1- من حادثة قايين إلى الطوفان ما زالت أمواج الخطيئة تزداد وتقوى إلى أن غمرت البشريّة التي رفضت وصايا الله وأبت أن تستمع لكلامه. وعلى هذا يقول الكاتب: "رأى الربّ أن شر الناس كثر على الأرض" (6: 5)، "ورأى الله أن الأرض فسدت لأن كل بشر أفسد طريقه عليها بعد أن امتلأت ظلماً" (6: 12- 13). نفهم من هذه الكلمات أن الخطيئة التي بدأت فأدخلت شوكتها في قايين سوف تفسد جميع الناس العائشين في زمن الطوفان.
2- ويروي لنا الكتاب حدث الطوفان في أربعة فصول. في فصل أوّل (6: 1- 22) يخبرنا عن نوح الذي بنى سفينة له ولأهل بيته إطاعة لأمر الله. وفي فصل ثاني (7: 1- 24) نرى مياه الله تنبع من الأرض وتنزل من السماء فتفيض وتغرق كل كائن فيه نسمة حياة. وفي فصل ثالث (8: 1- 22) تتراجع المياه فيخرج نوح مع عياله وبهائمه من السفينة فيقدّم ذبيحة لله. وفي فصل رابع (9: 1- 28) تنطلق الخليقة من جديد مع نوح وأبنائه الذين سيكثرون ويملأون الأرض ويتسلّطون عليها.
3- هذه النصوص التي نقرأها في فصول أربعة هي مزيج من التقليد الكهنوتي والتقليد اليهوهي، وهذا ما يفسّر الترداد وإعادة التفاصيل غير مرة. أمّا النصوص اليهوهيّة فهي التي تحدّثنا عن فساد الأرض (6: 1- 8)، عن دخول نوح إلى السفينة مع اثنَين من كل حيوان (7: 1- 10) قبل بداية الطوفان، وعن تراجع المياه وخروج نوح من السفينة ليقدّم لله ذبيحة شكر والتماس رضى (8: 2- 23).
4- ويرسم أمامنا التقليد الكهنوتي صورة عن البشريّة الخاطئة (6: 9- 12) ويروي لنا بالتفصيل كيف بنى نوح السفينة (6: 13- 22) لينجو بها من الطوفان هو وأهل بيته واثنان من كل حيوان من الحيوانات. ويبدأ الطوفان فيهلك كل حيّ على الأرض (7: 6- 24). وما إن تراجعت المياه حتى خرج نوح من السفينة (8: 1- 19)، فأقام الله عهداً معه ومع نسله من بعده (9: 1- 17).
5- تتحاشى الرواية الكهنوتيّة كلّ الصوَر الأنتروبومورفيّة التي تشبّه الله بالبشر، كما لا تذكر الذبيحة التي قدّمها نوح للرب، لأن تقليد الكهنة يعتبر أن لا ذبائح شرعيّة إلا تلك المنصوص عنها في الشريعة الموسويّة. وهنا نلاحظ أيضاً أن التقليد الكهنوتي لا يذكر ذبائح قدّمها الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب كما فعل التقليدان اليهوهيّ والألوهيمي.
6- أما الكاتب اليهوهيّ فيستعين بالصوّر والتشابيه ليحدّثنا عن الله وأعماله في الكون. هو يذكر الذبيحة التي قدّمها نوح ويميّز بين الحيوانات الطاهرة التي تصلح للذبيحة والحيوانات غير الطاهرة التي لا تؤكل ولا تصلح للذبيحة. لا شك في أن التمييز بين الحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة أمر قديم في مدنيّات الشرق المطبوعة بطابع الدين، إلاَّ أن التشريع المتعلّق بهذا التمييز ظلّ تقليداً شفهيّاً ولم يدوّن قبل زمن الجلاء.
7- بحسب التقليد اليهوهي تمطر السماء أربعين يوماً وأربعين ليلة، ثم ينتظر نوح أربعين يوماً قبل أن يطلق الحيوانات التي تنبئه بنهاية الطوفان. أمّا في التقليد الكهنوتي فالمطر يدوم 150 يوماً، وتدوم آثار الطوفان 365 يوماً، أي سنة شمسيّة كاملة. يختلف التقليدان في عدد أيّام المطر وعدد الأيّام التي قضاها نوح في السفينة، ولكنّهما يلتقيان في أن سبب الطوفان هو خطيئة الإنسان وفي أن نتيجته هي هلاك كل ضن في أنفه نسمة حياة.
8- الطوفان هو أهمّ حدث في تاريخ الكون بعد حادث الخلق وسقطة الإنسان الأولى. الطوفان نهاية عهد قد زال وبداية تاريخ جديد، فيه ماتت بشريّة قديمة وماتت معها خطيئتها، وفيه عاشت ونمت بشريّة جديدة أقام الله معها عهدا جديداً يثبت مدى الدهر. في الطوفان تتجلّى عدالة الله الذي يجازي البشر على شرهم وفيه يظهر صلاح الله الذي يجازي نوحاً الأمين على عهده فيحميه من الموت

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM