الفصل الخامس: السُّلالات البشريّة بحسب التّقليد الكهنوتيّ

الفصل الخامس
السُّلالات البشريّة بحسب التّقليد الكهنوتيّ
(5: 1- 32)

أ- المقدّمة:
1- ترتبط هذه السلالات بنشيد الخلق، وهي تعود مثله إلى التقليد الكهنوتيّ، فتبرز بشكل موازٍ لما قرأناه في الفصل السابق كما ورد قي المرجع اليهوهيّ. فالأسماء هي هي مع بعض اختلافات في الكتابة وتبدّل في الأمكنة.
2- طريقة السرد في هذا الفصل رتيبة ممِلَّة: يورد الكاتب لكلّ أبٍ من الآباء ملخّصاً صغيراً يذكر فيه عمر الأب حين وُلد له ابن، تم عدد السنين التي عاشها بعد أَن وُلد له البنون والبنات، وبعد ذلك عدد السنين التي طالت حياته فيها.
3- هدف الكاتب من سد هذه الأسماء أن يربط الطوفان بخلق العالم. وفي فصل لاحق سيسرد أسماء أخرى تربط إبراهيم بالطوفان. وهكذا يدلنا على أنّ البشريّة وإن خطئت، فقد تواصلت على الأرض إلى أن جاء إبراهيم، حامل مشعل الإيمان وموضوع بركة الله.
4- يذكر الكاتب عشرة أسماء: آدم، شيت، أنوش، قينان، مهللئيل، يارد، أحنوح، متوشالح، لامك، نوح، والعدد عشرة عدد يرمز إلى الكمال وهو يتضمّن الأرقام الأربعة الأولى (1، 2، 3، 4). هذا يعني أنّنا لن نبحث عن أمور تاريخيّة، بل نقرأ هذه الأسماء كمحطّات في التاريخ الطويل الذي عاشته البشريّة قبل أن تصل إلى أسماء الملوك الذين تذكرهم الوثائق.
5- اتّبع الكاتب الكهنوتيّ في تحديد أعمار الآباء طريقة البابليّين الذين جعلوا ملوك ما قبل الطوفان يعيشون آلاف السنين، فجعل عمر الآباء الذين عاشوا قبل الطوفان يتراوح بين ألف وست مئة سنة، والذين عاشوا بين الطوفان وإبراهيم يتراوح بين ست مئة ومئتي سنة، والذين عاشوا من إبراهيم إلى يشوع يتراوح بين مئتي سنة ومئة سنة، فوصل بنا إلى أرقام عرفها في عهد داود في القرن الحادي عشر.
ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- من آدم إلى يارد (5: 1- 17)
(آ 1- 2) يعيد الكاتب إلى أذهاننا ما قرأناه في تك 1: 26 أنّ الإنسان خُلق على صورة الله، ثمّ يقول إنّ آدم وُلد له ولد على مثاله كصورته. وهذا يعني أنّ الإنسان ما زال شبيهاً بالله رغم وجود الخطيئة، وأنّ شابهه بالله ينتقل إلى أبنائه.
هذا سفر، كتاب، سجلّ. لقد أراد الكاتب أن يسجّل في كتاب ما تناقلته الأجيال شفهيّاً. لا ننسى أنّ التقليد الكهنوتيّ سجّل تقاليده خوفاً عليها من الضياع بعد الضربة التي حلّت بالبلاد سنة 587.
"سلالة" ترجمة كلمة مواليد (تولدات العبرّية). بدأ الناس يلد لهم أولاد ويتكاثرون على وجه الأرض. ولكنّنا لسنا أمام شجرة العائلة البشرّية كما تعوّدنا أن نقرأ في أيّامنا، بل أمام أسماء جعلها الكاتب في إطار مصطنع ليدلّ بها على مجمل البشريّة.
(آ 3- 5) سمّاه شيتاً. في التقليد الكهنوتيّ الأب هو من يعطي الولد اسماً (رج 4 : 1، 25 بالنسبة إلى التقليد اليهوهيّ).
ينقلنا الكاتب من آدم إلى شيت فلا يذكر شيئاً عن السقطة الأولى ولا عن قايين وهابيل.
(آ 6- 8) أنوش لفظة تعني الإنسان (كذا في اللغات الساميّة) وهي تستعمل خاصّة في النصوص الشعريّة. يقول التقليد اليهوهيّ عن أنوش انّه أوّل من دعا الربّ باسم يهوه، الإله الكائن (4: 26).
(آ 9- 15) يورد الكاتب أسماء قينان ومهللئيل ويارد
قينان يذكّرنا بقايين، ومهللئيل يعني المهلل لإيل الله (رج محويائيل في 4: 18)، ويارد (من ورد) يقابله لفظاً اسم عيراد (4: 18 من عرد: الصلب الشديد). وتتسلسل الأسماء في الكهنوتيّ: مهللئيل، يارد، أحنوخ، وفي اليهوهيّ: احنوخ، عيراد، محويائيل.
2- من أحنوخ إلى نوح (5: 18- 32)
بين أحنوخ ونوح يرد اسم متو شالح (رج متو شائيل في 4: 18) الذي امتدّ عمره أكثر من كلّ الآباء فوصل إلى تسع مئة وتسع وتسعين سنة ولكنّه لم يبلغ الألف، رمز الخلود وضرب 10 × 10 × 10. معنى اسمه : رجل شالح أو الرجل المرسل. ويرد اسم لامك الذي ذكرته النصوص اليهوهيّة وأطالت الحديث عنه (4: 19 ي).
أحنوخ سلكَ مع الله فلم يمت، بل أخذه الله إليه، أمّا سنو حياته فكانت على عدد أيّام السنة، وهذا يعني أنّه وجد كمال الحياة كما تجد السنة كمالها في تمام أيّامها.
ونوح أراح قلب الله وحمل العزاء إلى البشريّة بالنسبة إلى التقليدَين اليهوهيّ والألوهيميّ، وهو البطل الذي ينجو من الطوفان فتكون به بداية بشريّة جديدة.
ج- ملاحظات:
1- نقرأ في هذا الفصل أسماء عبرانيّة، واللغة العبرانيّة إحدى اللغات الساميّة. ولكنّ هذه الملاحظة اللغويّة لا تفيدنا شيئاً، لأنّنا عندما نعرف أنّ اللغة البابليّة لم تتغيّر طوال 3500 سنة نفهم أن اللغات الساميّة احتاجت إلى آلاف السنين لتصل إلينا على ما هي عليه الآن. وهكذا لن نعرف أوّلاً هل كانت هذه الأداء أسماء الآباء الأوّلين أو غيرهم من الآباء... والكاتب لا يقول لنا أين عاش هؤلاء الناس ولا في أيّ زمن عاشوا. إذاً، لن يجد عالم الجغرافيا ما يشبع فضوله، وكلّ ما نعرفه عن هؤلاء الأقدمين أنّهم عاشوا في هذا الشرق الذي نعيش فيه. ولن يكتشف عالم التاريخ شيئاً عندما يقابل ألفاً أو ألفَي سنة بنصف مليون سنة أو أكثر منذ بدأ الإنسان على هذه الأرض.
2- يذكر لنا الكتاب أعمار الآباء الذين عاشوا في البدايات فيبدو كبيراً إن نحن قابلناه بعمر الناس اليوم، ولكنّه يبدو صغيراً إن قابلناه بعمر الأبطال الكلدانيّين الذين وصلت أعمار بعضٍ منهم إلى 36000 سنة. تلك ظاهرة نجدها عند الأقدمين فيعطون أبطالهم عمراً طويلاً يقارب الخلود (أبطال اليونان خالدون في جبل الأولمب قرب أثينا). أيكون السبب في ذلك أنّهم أدركوا أن عمر البشريّة طويل جدّاً وأطول ممّا يتصوّرون، فجعلوا عمر الناس طويلاً جدّاً لكي يملأوا هذا العدد الكبير من السنين؟ إن اللاحقين أرادوا تخليد أجدادهم فمنحوهم هذا العمر الطويل وهم لا يزالون أحياء في أبنائهم.
3- ونزيد أن فكرة الثواب والعقاب راودت الكاتب الملهم. يوم لم يكن يعرف شيئاً عن الحياة الأخرى فتصوّرها حياة منقوصة في دنيا الموت تشبه حياة الأشباح، فأعطى الآباء أيّاماً طويلة كانوا فيها سعداء برفقة الله وبركته. العمر القصير علامة قصاص من الله، وما يتوق إليه الإنسان هو أن يعيش سنين كثيرة يفرح فيها جميعاً (جا 11: 8) على أرض الأحياء (مز 67: 13) ولا يموت إلاَّ بشيبة صالحة، شيخاً، مثل إبراهيم، قد شبع من الحياة (25: 8). قال سفر الأمثال (10: 27) إنّ مخافة الله تطيل الأيّام، وشدّد موسى في الوصايا العشر (خر 20: 12) على أنّ إكرام الإنسان لوالدَيه يطيل عمره. وقالت الرواية اليهوهيّة في قصّة الطوفان بأنّ الله رأى فساد البشرّية يتزايد فجعل حياة الإنسان قصيرة: "إنّ الإنسان جسد وتكون أيّامه مئة وعشرين سنة" (6: 3). وإذا أضفنا إلى كلّ هذا أنّ الناس الأوّلين (نحن نشبههم) كانوا يحسبون الآباء أكثر إيماناً بالله منهم، نفهم لماذا أطال الكاتب الكهنوتيّ سني حياة آبائه، وهو الذي كتب عن نوح أنّه سلك مع الله (6: 9) وكان أبرّ من كلّ أهل زمانه، فطال شبابه وولد البنين في عمر 500 سنة وامتدّت أيّامه فقاربت الألف سنة. ونقرأ في أشعيا النبي (65: 20- 25) عن تطلّعات الأزمنة المسيحانيّة وما تتمتعّ به البشرّية من خير: لا يكون هناك طفل لم يستكمل أيّامه، لأنّ الصبي يموت وهو ابن مئة سنة. في هذا الزمن، الذئب والحمل يرعيان معاً، والأسد كبقر يأكل التبن، ويعود الكون إلى زمن البدايات حيث كانت الحيوانات المفترسة تأكل العشب والبقول.
هذه الكلمات تربط سعادة البشر بفكرة حياة طويلة، وتجعل المستقبل صورة عن ماض كان الإنسان فيه قريباً من الله.
4- سعى الكتاب المقدّس إلى تنظيم سلسلة أنساب وترتيب تاريخ زمنيّ يربط آدم بالمسيح الذي هو آدم الثاني. ومهمَا كان عدد السنين الذي يفصل آدم عن المسيح، فالعهد القديم قسم الزمن إلى ثلاث حقبات: من آدم إلى الطوفان، من الطوفان إلى إبراهيم، ومن إبراهيم إلى المسيح.
ونتساءَل عن رمز الأعداد كما وردت في الكتاب المقدّس وفي الشرق القديم.
العدد 10 هو عدد كامل لأنّه يحوي جمع الأعداد الأربعة الأولى. ونحن عبده في رواية الخلق بحسب الرواية الكهنوتيّة عندما تلفّظ الربّ بعشر كلمات يدعو فيها الخليقة وكلّ ما فيها إلى الوجود. ونجده أيضاً في عدد الآباء الذين عاشوا قبل الطوفان والذين عاشوا بعده. إنّه يمثِّل كمال البشرّية. والعدد 365 علامة الدورة الشمسيّة. العدد 7 هو عدد الكمال. فالخليقة تمّت في اليوم السابع، يوم استراح الربّ من عمله ومنح البركة لخليقته. واحنوخ هو الأب السابع بعد آدم، سلك مع الربّ فأخذه إليه. ونجد العدد 7 في حياة لامك الذي ولد نوحاً وعمره 182 (7 × 26) سنة، وعاش بعد ذلك 595 (7 × 85) سنة، فكانت كلّ أيّامه 777 سنة.
5- ونجد تشديداً على ما ترمز إليه الأعداد في سلسلة نسب يسوع بحسب إنجيل القدّيس لوقا (3: 33- 38). من المسيح إلى زور بابل 21 ( 7 × 3 ) جيلاً. من زور بابل إلى ناتان 21 (7 × 3) جيلاً، من ناتان إلى إسحق 14 (7 × 2) جيلاً، ومن إسحق إلى آدم 21 (7 × 3) جيلاً. ونجد عناية مماثلة بالأرقام عند القدّيس متى (1: 1- 17) الذي بنى نسب يسوع على العدد 14 (7 × 2)، وهو تعبير رمزيّ عن اسم داود (يكتب في العبريّة دود، د= 4، و= 6، د= 4، فيكون المجموع 14). إنّ يسوع هو حقّاً ابن داود وهو يجمع في شخصه الشعب اليهوديّ والأم الوثنيّة، وكلُّهم عرفوا كمال الوحي في شخص يسوع المسيح.
6- إذاً، عندما نقرأ هذه الأرقام والتواريخ، لا نعمل على جمعها كما فعل الأقدمون فكان بين آدم والمسيح ما يقارب 4000 سنة، بينما تعلِّمنا الأبحاث الحديثة أنّ عمر البشريّة يزيد على نصف مليون سنة. إنّ ما توخّاه الكاتب الملهم هو التعبير بأعداد رمزية عن مراحل مهمّة في تاريخ خلاص البشرّية، فذكر في تلك الفترة الزمنيّة الكبيرة بعض أحداث جعلها مثالاً لأحداث كثيرة غيرها. أمّا الدقّة التاريخيّة التي نبحث عنها في علم التاريخ كما يراه الباحث اليوم، فلن نجدها قبل عصر الملوك (القرن 10) عهدَ بدأ الكتّاب يدوّنون أخبار الملوك وأعمالهم. أمّا والكتاب المقدّس ليس كتاب تاريخ وفيزياء، بل هو كتاب الله، فقد أراد الكاتب أن يسبغ ثوباً من المهابة والوقار على الآباء فأعطاهم العمر الطويل، ففعل كالرسّام الذي يصوّر الله، بقامة كبيرة ولحية كثّة بيضاء وشعر مستفيض. وهكذا أعطى الكاتب الآباء هذا العمر الطويل ملأ عقل معاصريه وقلبهم بالاحترام الواجب للآباء والأجداد.
7- ماذا يقول الكتاب في أحنوخ؟
سلك مع الله. وهذا يعني أنّه عاش قداسة خارقة، فأحبّ الرحمة وسار بتواضع مع إلهه (مي 6: 8). وسلك مع الربّ بالسلام والاستقامة فكانت في فمه شريعة الحقّ ولم يوجد إثم في شفتَيه (ملا 2: 6. رج تك 17: 1؛ 24: 10؛ تث 13: 5؛ 2 مل 24: 8).
أخذه الله. يستعمل الكاتب الكلمة العبرانيّة "لقح" وهي تدلّ على اختفاء سرّيّ لا يقع تحت نظر البشر. وكما أخذ الله أحنوخ، كذلك أخذ إيليّا الني فطلع في العاصفة نحو السماء (2 مل 2: 2- 11). الرسالة إلى العبرانيّين (11: 5) تقول: "بالإيمان أخذ الله أحنوخ إليه من غير أن يرى الموت، فما وجده أحد لأنّ الله أخذه إليه".
إنّ سفر التكوين لا يقول إلى أين أخذ أحنوخ، ولكنّه يعلن أن إنساناً تحلّى بمثل هذه القداسة لا يمكنه أن يخضع لقصاص الطوفان كسائر البشريّة، كما لا يمكنه أن يموت في عمر مبكر، والعمر الطويل علامة بركة الله وجزاء لمحبّيه. وهكذا يبدو أحنوخ، قبل نوح، صورة للقداسة في عالم فاسد، وكما نال نوح حظوة عند الربّ فلم يمسّه الطوفان، كذلك رضي الربّ عن أحنوخ فأخذه إليه ونجّاه من الموت.
إنّ حادث أحنوخ وارتفاع إيليّا لم يستطيعا توعية الناس إلى رجاء حياة سعيدة بعد الموت أو إلى فكرة القيامة للأبرار... والسبب في ذلك يعود إلى أنّ قداسة هذَين الشخصَين لم تكن في متناول باقي الناس فما تجرّأوا على التطلعّ إلى حظٍّ كحظِّهمَا. وسوف ننتظر آخر كتب العهد القديم لنجد العلاقة التي تربط ذكر أحنوخ وإيليّا برجاء حياة سعيدة في الآخرة (حك 4: 10؛ سي 44: 16). أمّا الكتاب المنسوب إلى أحنوخ ، فيصوّره لنا رجلاً بارّاً فتح الله عينَيه، فرأى القدّوس في السماء وتعلّم من الملائكة كلّ شيء، وأعلن للأبرار السعادة والسلام من نور الربّ الذي سيشعّ عليهم. وتنطلق رسالة يهوذا (14) من هذا الكتاب لتقول إنّ أحنوخ بشّر بالتوبة الخاطئين الفجّار.
8- ويذكر الكاتب اسم نوح الذي سيكون به للبشرّية عزاء، وقد ذاقت الأمرَّين بعد أن حلّت اللعنة بالأرض. وكلمة نوح معناها الراحة (أنيح في السريانيّة معناها أراح) ونوح هو الذي استنبط النبيذ الذي يضفي على قلب الإنسان راحة وسعادة (مز 105: 15؛ ار 16: 7؛ ام 31: 6- 7)، كما أنّه هو الذي أراح بذبيحته قلب الربّ فتعهّد بألاّ يلعن الأرض من جديد بسبب الإنسان، و بألاَّ يضرب كلّ كائن حيّ كما فعل (8: 21). ولقد قرأ بعض آباء الكنيسة في كلام لامك نبوءة مسيحانيّة بعد أن فسّروه تفسيراً روحيّاً فقالوا: نوح هو صورة المسيح الذي يعزّي البشريّة كلّها. فالمواعيد لآدم في جنّة عدن، والمواعيد لنوح بعد الطوفان، والمواعيد لإبراهيم المؤمن ستتحقّق كلّها في شخص المسيح وتجد فيه كمالها.
د- مواضيع عامّة
1- مقابلة أسماء الرواية اليهوهيّة (4: 17- 26) بأسماء الرواية الكهنوتيّة (5: 1- 32)
إذا كانت الرواية الكهنوتيَة تذكر عمر الآباء وتجعل حياة كلّ منهم داخل إطار موحّد، فالرواية اليهوهيّة تهتمّ فقط ببداية المدنيّة وبأوّل عبادة يقوم بها الإنسان لله الواحد. بهذا تفترق الرواية اليهوهيّة عن الرواية الكهنوتيّة. ولكنّهمَا تلتقيان في ذكر أسماء كلّ الآباء تقريباً دون الاتفاق بعض المرّات على مرتبة هذا الأب أو ذاك. والجدول اللاحق يساعدنا على التحقّق من ذلك:
التقليد اليهوهيّ التقليد الكهنوتي
1- آدم 1- آدم

هاببل شيت 2- شيت

أنوش 3- أ نوش
2- قايين 4- قينان
3- أحنوخ 5- مهللئيلِ
4- عيرا د 6- يارد
5- محويائيل 7- متوشالح
6- متوشائيل 8- أحنوخ
7- لامك 9- لامك

يابل ، يوبل ، توبل قايين 10- نوح
نوح ؟
تبدأ اللائحة الكهنوتيّة بآدم وتنتهي بنوح. أمّا اللائحة اليهوهيّة فلا توضح هل كان نوح يرتبط بسلالة قايين أو بسلالة شيت. يبدو أنّ اسم نوح كان وارداً مع الآباء الذين عاشوا قبل الطوفان ولكنّ كاتب سفر التكوين اكتفى بذكر ولادته في 5: 29، تاركاً الحديث عنه في ما بعد. ويكفي أن نقابل 5: 28- 31 بالملاحظات التي يكرّسها الكهنوتيّ لكل أب من الآباء (5: 3- 27) لنفهم أنّ آ 29 زيدت في ما بعد على النصّ الأساسيّ.
يذكر التقليد اليهوهيِّ ثلاثة أولاد لآدم: قايين، وهابيل، وشيت، بينما لا يذكر الكهنوتيّ إلاَّ ولداً واحداً اسمه شيت، وأنوش هو ابن شيت في التقليدَين. بعد هذا سنجد التباين بين التقليدَين، إذ إنّ السلالة الكهنوتيّة تنحدر من شيت بينما السلالة اليهوهيّة تنحدر من قايين. وتتوالى الأداء: ستة أسماء مشتركة: آدم، شيت، أنوش، أحنوخ، لامك، نوح. ثلاثة أسماء متشابهة: قايين، قينان، عيراد، يارد، متوشائيل، متوشالح. واسم واحد يفترق عند التقليدَين: محويائيل في اليهوهيّ ومهللئيل في الكهنوتيّ.
وينتهي الفصل الخامس بذكر نوح وأولاده سام وحام ويافث، فيوجّه أنظارنا إلى حادث الطوفان الذي سيحمل العقاب على الخاطئين، والخلاص إلى الذين حافظوا على عهد الله مع الإنسان.
2- مقابلة النصّ الماسوريّ العبرانيّ بالنصّ السامريّ والنصّ اليونانيّ
أراد الكاتب الملهم في التقليد الكهنوتيّ أن يربط قصّة إبراهيم بالطوفان، وحدث الطوفان برواية الخلق، فذكر أسماء وتواريخ وصلت إليه عبر التقاليد القديمة. وإذا تطلّعنا إلى الأرقام وجدنا أنّ النصوص العبريّة تختلف عن النصوص السامريّة واليونانيّة، والجدول الذي نقرأه يساعدنا على رؤية الفروقات بين نصّ وآخَر. نقرأ في العمود الأوّل عمر كلّ أب من الآباء عندما وُلد ابنه الأوّل، وفي العمود الثاني عدد السنوات التي عاشها. فإذا جمعنا أعداد العمود الأوّل حصلنا على عمر العالم والبشريّة.
النص العبرانيّ النص السامريّ النص اليوناني - السبعينيّة
آدم 130 930 130 930 230 930
شيت 105 912 105 912 205 912
أنوش 90 905 90 905 190 905
قينان 70 910 70 910 170 910
مهللئيل 65 895 65 895 165 895
يارد 162 962 62 847 162 962
أحنوخ 65 365 65 365 165 365
متوشالح 187 969 67 720 187 969
لامك 182 777 53 653 188 753
نوح 500 500 500
100 100 100
1656 1307 2262

وُلد لنوح أولاده الثلاثة يوم كان عمره 500 سنة. ومضت سنة جاء بعدها الطوفان (7: 11). وهكذا يكون الطوفان قد حدث في سنة 1656 لخلق العالم بحسب النصّ العبرانيّ، وسنة 1307 بحسب النصّ السامريّ، وسنة 2262 بحسب نصّ الترجمة السبعينيّة اليونانيّة. كيف نفسِّر هذه الفروقات؟ يبدو لأوّل وهلة أنّ النصّ اليونانيّ صحّح الأرقام التي وصلت إليه، وهذا ما يدفعنا إلى القول إنّ الفروقات لم تكن وليدة خطإٍ في النقل والكتابة، بل صحّحت لغايةٍ في نفس المترجمين.
نودّ أن نقول للتذكير إن السامريّين انفصلوا عن اليهود في القرن الرابع ق. م. وأخذوا بسلطة كتب التوراة الخمسة دون سواها. أمّا الخطوط الذي عليه يستندون فهو من القرن الأول ب. م. وقد كُتب بحرف قريب من الحرف الفينيقيّ واختلف نصّه عن النصّ الماسوريّ ونصّ السبعينيّة (6000 اختلاف) وقد وجد في مغاور قمران نصّ قريب منه. أمّا نصّ الترجمة السبعينيّة فقد بدأ الكتَّاب يترجمونه في القرن الثالث ق. م. وانتَهوا منه قي القرن الثاني ق. م. وقد هدفوا من هذه الترجمة إلى تعريف الوثنيّين بالكتاب المقدّس، وإلى تهيئة نصّ يفهمه يهود الشتات الذين لا يلمّون باللغة العبرانيّة. والنصّ الماسوريّ هو النصّ العبرانيّ الذي أثبته علماء يهود في نهاية القرن الثامن وبداية القرن التاسع ب. م.. فحقَّقوا في كتابة الكلمات ووضعوا الحركات والعلامات التي تساعد القارئ على تلاوة كلام الله وفهمه فهماً صحيحاً.
إذا تطلّعنا إلى النصّ اليونانيّ وجدنا أنّ الآباء الخمسة الأوَل وُلد لهم الولد الذي يخلفهم حين كان عمر الواحد مئة سنة أكثر ممّا في النصّ الماسوريّ، كما نجد في النصّ اليونانيّ فروقات صغيرة تميّزه عن النصّ الماسوريّ. (النصّ السريانيّ يتوافق والنصّ الماسوريّ) وهذا يعني أنّنا، إذا وضعنا جانباً المئة سنة التي زيدت خمس مرّات، نرى أنّ النصّ العبرانيّ نقل بأمانة إلى اليونانيّة. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل حذفت المئة سنة من النصّ العبرانيّ، أم زيدت في النصر اليونانيّ؟ يبدو أنّ النصّ اليونانيّ زاد مئة سنة على عمر الآباء الأوَل، لأنّه اعتبر أنّ تاريخ المدنيّة أقدم ممّا تصوّره النصّ العبرانيّ، ولأنّه أراد أن يجعل تناسباً بين أعمار الآباء.
النصّ السامريّ يتوافق والنصّ الماسوريّ في عمر الآباء الخمسة الأوَل وفي عمر الأب السابع ، ولكنّ عمر يارد في النصّ السامريّ مئة سنة، ومتوشالح مئة وعشرون سنة، ولامك مئة وتسع وأربعون سنة، أقلّ ممّا نقرأ في النصّ الماسوريّ عند ولادة من يخلفهم.
إذا كان النصّ السامريّ حافظ على عمر أحنوخ، والتقليد يفرضه عليه، فهو قد جعل عمر الآباء ينقص تدريجاً إن بالنسبة إلى السنة التي فيها وُلد لهم ولد، وإن بالنسبة إلى سنة موتهم. وقد توخّى من ذلك أن يجعل الأرقام أكثر منطقيّة، على أنّ تكاثر الخطيئة في العالم جعل عمر الإنسان يتناقص شيئاً فشيئاً.
3- مقابلة بين الأسماء الواردة في الكتاب المقدّس وتلك الواردة في النصوص البابليّة
كان للبابليّين لوائح بأشخاص عاشوا قبل الطوفان وقد وصلت إلينا منها ثلاث: الأولى والثانية مكتوبتان بالخطّ المسماريّ، والثالثة مكتوبة باللغة اليونانيّة على يد كاهن كلدانيّ اسمه بيروزيوس، عاش في عهد إسكندر المقدونيّ، ونقل تقاليد بلاده إلى العالم الإغريقي. الأسماء المذكورة في هذه اللوائح هي أسماء ملوك بابل الأوائل بحسب التقاليد الملكيّة القديمة. وها نحن نذكرهم ونذكر عدد السنوات التي ملكوا فيها، وهو رقم خياليّ جدّاً.
وإليك اللائحة المسماريّة الأولى وهي موجودة في المتحف البريطاني:
1- ألوليم من إريدو ملك 28800 سنة
2- ألاجار من إريدو " 36000
3- إنمانلوانا من بادتيبيرا " 43200
4- إنمانجلوانا من بادتيبيرا " 23800
5- دوموزي، راعي بادتيبيرا " 36000
6- إنسيبزينا من لاراك " 28800
7- إنماندورانا من سيفار " 21000
8- أو بارادودو من سوروفاك " 18600
المجموع 236200 سنة
وإليك اللائحة المسماريّة الثانية وهي من مجموعة ويلد بلونديل الموجودة في المتحف البريطاني:
1- ألوليم من سوبارو 76200 سنة
2- ألاجار من سوبارو 72000
3- أكيدونوساكينكين من لارسا 72000
4- اوكوك (؟) من لارسا 21600
5- دوموزي، راعي بادتيبيرا 28800
6- إنمانلوانا من بادتيبيرا 21600
7- إنسيبزينا من لاراك 36000
8- إنماندورانا من سيفار 72000
9- سوكورلام ابن أوباراتوتو من سوروفاك 28800
10- زيوسودو إبن سوكورلام من سوروفاك 36000
المجموع 465000 سنة
تنتهي اللائحة الأولى باوبارادودو من سوروفاك الذي هو أبو أوم نافيستيم، بطل الطوفان في ملحمة جلجامش. وتنتهي اللائحة الثانية بزيوسدو الذي هو بطل الطوفان.
هناك أسماء تتردّد في اللائحتَين (الأول والثاني والخامس)، وهناك اسمان (السابع والثامن) مشتركان في اللائحتَين مع اختلاف في عدد سني ملكهما. إذاً، لم يتّفق المؤرّخون لا على ترتيب الأسماء ولا على سنوات كلّ ملك من هؤلاء الملوك. اللائحة الثانية أطول من اللائحة الأولى.
وإليك لائحة بيروزيوس وهي تتوسّط بطولها اللائحتَين وتذكر عشرة أسماء نقرأها في اللائحة الثانية:
1- ألوروس من بابل 36000 سنة
2- ألافاروس بن الوروس 10800
3- أميلون من فوتيبيبلا 46800
4- أمينون من فوتيبيبلاِ 43200
5- ميجالاروس من فوتيبيبلا 64800
6- داوس راعي فوتيبيبلا 36000
7- إفيدوراكوس من فوتيبيبلاِ 64800
8- أمامفسينوس من لاركا 36000
9- أوتياستيس من لاركا 28000
10- كسيسوثروس بن أوتياستيس 64800
المجموع 431200 سنة
هناك شبَه بين هذه الأسماء والتي قرأناها في اللائحتَين المسماريّتين. لاراكا ولاراك. بابل حلّت محلّ أريدو، وفوتيبيبلا تحريف لبادتيبيرا. الوروس يقابل الوليم، والأفاروس تحريف لأجاروس أي الاجار.
إذا قابلنا اللوائح البابليّة، بما نقرأ في الكتاب المقدّس نجد بعض التشابهات وبعض الفروقات.
تنطلق النصوص الكتابيّة من البداية لتصل إلى الطوفان، وكذا نقول عن اللوائح البابليّة، لكنّ الاختلاف يقع في أداء الملوك والأماكن.
يذكر التقليد البابليّ أداء ملوك ومدن شهيرة، لأنّ أفقه أفق وطني. ويذكر التقليد الكتابيّ أداء الآباء ويغفل أسماء المدن المعروفة في التاريخ لأنّ أفقه أفق إنسانيّ وعائلي.
يعدّد التقليد الكتابيّ عشرة أسماء، واللائحة المسماريّة الثانية ولائحة بيروزيوس توردان عشرة أسماء. هل نعتبر أنّ المصدرَين يستقيان من تقليد شرقيّ تناقلته الأجيال منذ القديم، أم إنّهمَا استعانا بأسلوب يساعد الإنسان على الحفظ فجعلوا أسماء الملوك والآباء عشرة على عدد أصابع اليد؟
واجتهد العلماء في إيجاد علاقة بين التقليد الكتابيّ واللوائح البابليّة، فاقترح أوبيرت في دائرة المعارف اليهوديّة (سنة 1903) افتراضاً يقابل العدد 1656 الذي نقرأه في النصّ الكهنوتيّ بالعدد 432000 الذي نقرأه في لائحة بيروزيوس فقال: إنّ الثريّا البابليّة تساوي خمس سنوات، وتساوي سنوات بيروزيوس (432000: 5) 86400 ثريّا.
وهذا العدد يقابل تقريباً عدد الأسابيع الموجودة في رقم التقليد الكهنوتيّ (52 × 1656) أي 86112 ، غير أنّ كلّ ذلك يبقى مجرّد افتراض.
ونتوقّف على عمر أحنوخ بحسب التقليد الكهنوتيّ: 365 سنة، وهو عدد السنة الشمسيّة. يقابل أحنوخ أفيدولاكوس في لائحة بيروزيوس أو انماندورانا ملك سيفار، أي مدينة الشمس. يقول مفسّر التقاليد البابليّة إنّ انماندورانا كان إمام مفسّري الأحلام وحافظ أسرار الآلهة ومعلّم السحرَة والمنجّمين. أمّا سفر التكوين فيقول إنَّ أحنوخ سلك مع الله (5: 22- 24، راجع ما قيل في نوح 6: 9). غير أنّ سفر يشوع بن سيراخ (44: 16) يذكر في النصّ العبرانيّ أنّ أحنوخ كان رجل علم لجميع الأجيال على مثال سليمان الحكيم، كما نجد بعض النتف المتفرّقة من قصّة أحنوخ (كتبت في القرن الأول ق. م.) التي تقرّبنا ممّا نعرفه في النصوص البابليّة. ونتساءَل: هل أثّرت النصوص البابليّة في النصوص الكتابيّة أم إنّ كلا التقليدَين استقيا من معين واحد؟ هذا ما لا نستطيع أن نجيب إليه.
في النصوص الأشوريّة والبابليّة ينجو بطل الطوفان من الموت فيصبح خالداً كالآلهة. هذا ما حدث لكسيسوثروس (وهو الاسم الأخير في لائحة بيروزيوس). أمّا في الكتاب المقدّس فنوح، بطل الطوفان، سوف يموت كسائر الناس. غير أنّنا نقرأ أنّ أحنوخ اختفى فلم يعد يراه الناس، وقد يكونون قد بحثوا عنه كما بحث أبناء الأنبياء عن إيليّا بعدما طلع في العاصفة (2 مل 2: 16)، وكما سبق لرفاق كسيسوثروس أن بحثوا عن صديقهم بعد أن أضاعوا كلّ أثرٍ له. تقول النصوص البابليّة عن كسيسوثروس إنّه خلد مع الآلهة. أمّا الكتاب المقدّس فيقول إنّ أحنوخ سلك مع الله فرضي الله عنه.
ونتساءَل أخيراً: لماذا جعل الكاتب لكل أبٍ من الآباء عمراً طويلاً وهو يعلم كم تدوم حياة الإنسان: سبعون أو ثمانون سنة (مز 90 : 10). هل تفترق طريقة عدّ السنين عمّا نعرفه اليوم؟ ولكن يبدو أنّ الأقدمين عرفوا الحساب الشمسيّ والقمريّ منذ أقدم العصور، فكان عدد السنين عندهم كما نعرفه اليوم. يرى بعض الشرّاح أنّ كلمة ابن لا تفهم بحسب تصوّراتنا، ولا تعني فقط الولادة بحسب الجسد بل تعني الرباط بسلالة فلان أو بقبيلة فلان. فليس من المفروض أن يكون قايين أو شيت ابنَي آدم بحسب مفهومنا، وقد يكوّن هناك أسماء عديدة بين آدم وشيت أو بين شيت وأنوش. شيت هو من سلالة آدم، وأنوش هو من سلالة شيت. وهكذا يكون التقليد قد حفظ لنا بعض الأسماء المشهورة وأغفل البعض الآخر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM