الفصل الرابع: سلالة آدم وحوّاء بحسب التقليد اليهوهيّ

الفصل الرابع
سلالة آدم وحوّاء بحسب التقليد اليهوهيّ
(4: 1- 26)

أ- المقدّمة:
1- بعد أن طُرد أبوانا من الجنّة، أخذت البشريّة تكتب بالدموع والدماء فصولاً من تاريخها لن تنتهي إلاَّ في نهاية الزمن. وهذا التاريخ أراد الكاتب الملهم أن يعالجه في سبعة فصول، فذكر أحداثاً متفرّقة في حقبة طالت خمس مئة ألف سنة. حدّثنا عن مدنيّة الفلاّح والبدو في قصّة قايين وهابيل، وذكر بناء المدن وصبّ المعادن قبل أن يعرّفنا بسفينة نوح ومدينة بابل.
2- ذكر الكاتب الملهم هذه المعلومات التي كانت عالقة في أذهان الناس، ولكنّ هدفه لم يكن كتابة التاريخ القديم، بل مساعدة المؤمنين على اكتشاف أسباب الشرّ ونتائجه في تاريخ البشر: أخٌ يقتل أخاه، رجل تتعدّد زوجاته أو ينتقم فلا يضع حدّاً لانتقامه. في كلّ هذه اللوحات ينطلق الكاتب من أحداث الزمن الحاضر إلى الماضي السحيق، فيربط بين قصّة الخلق مع آدم ومسيرة الإيمان مع إبراهيم.
3- جمع الكاتب اليهوهيّ في هذا الفصل أخباراً متفرّقة وجعلها في وحدة ترمم لوحة عن مدنيّة تعيش العنف والقتل. في قسم أوّل (4: 1- 16) نقرأ خبر قايين وهابيل، وفي قسم ثانٍ (4: 17- 24) نتعرّف إلى نسل قايين، وفي قسم ثالث (4: 25- 26) نتعرّف إلى نسل شيت، الابن الذي أعطاه الربّ آدم بدل هابيل.
ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- قصّة قايين وهابيل (4: 1- 16)
(آ 1) فرحت حوّاء لأنّها وضعت ابناً، وفي تقاليدنا الشرقيّة الفرحة كبيرة بولادة صبي. "وعرف آدم حوّاء". تدلّ كلمة عرف (يدع في العبريّة) على المعرفة العقليّة وعلى الاختبار الحميم الذي يعيشه شخصان اثنان. في هذه العبارة تدلّ الكلمة على العلاقات الزوجيّة بين آدم وحوّاء.
إسم ابنهما قايين. وقايين تعني "الحربة" (القناة في العربيّة تعني الرمح، وفي السريانيّة "قنيو" تعني القصبة). ولكنّ الكاتب يتوقّف على التفسير الشعبي كما نعرفه في اللغات الساميّة (رزق المال وجمعه وكسبه واقتناه). فمن يكون له المال والقنية يكون الأقوى، ويقدر بغناه أن يفرض نفسه على الآخرين.
"رزقت من عند الربّ". الولد هو عطيّة الله. وإقامة العلاقة الزوجيّة بين الرجل وامرأته أمر إلهيّ تقبّله أبوانا الأوّلان قبل الخطيئة، والله لا يرجع عن هباته وعطاياه (روم 11: 29).
(آ 2) إسم الثاني أي الابن الثاني هابيل، ومعنى الكلمة "النَّفَس والعدم والتفاهة"، وفي هذا تلميح إلى ضعف هابيل تجاه أخيه قايين الذي يملك الأرض والغلال، وإلى ما سيحدث لهابيل عندما يقتل وكأنّه لم يكن. أيكون المعنى الأساسيّ لكلمة هابيل من ثكلته أمّه وفقدته؟
كان هابيل راعي غنم، وهي مهنة لا تتطلّب الكثير من الجدّ والتعب، وكان قايين فلاّحاً يكدّ ويعمل في الأرض. انقسمت البشريّة إلى فئَتين: فئة الرعاة وفئة الفلاّحين. وبنى كل من قايين وهابيل مذبحاً للربّ، وقدّم كلّ منهمَا ذبيحته بعيداً عن الآخر: تجزأت البشرّية وجزّأت إلهها معها.
(آ 3- 5) قدّم قايين تقدمته من ثمار الأرض، وهابيل حملاً صغيراً مع شحمه (لا 3: 4؛ عد 18: 17). هذا ما كانت عليه التقادم عند شعب الله. رضي الربّ عن تقدمة هابيل، ولم ينظر بعين الرضى إلى تقدمة قايين. لا يذكر الكتاب كيف عرف الأخوان موقف الله بالنسبة إلى كلٍّ منهمَا، كما لا يعطي السبب الذي جعل الله يفضَل ذبيحة الواحد على الآخر. أيكون أنّ الله يقف دوماً بجانب الوضعاء الضعفاء ويحطّ المقتدرين عن الكراسي؟ ومهمَا يكن من أمر، حزن قايين وتصرّف بطريقة لا ترضي الله. جاءته التجربة فلم يقف بوجهها، وهكذا انتقلت آثار الخطيئة من آدم إلى أحد أبنائه. رفض قايين أن يرجع إلى ربّه ويتوب، فانغمس عميقاً في الخطيئة. دخل الحسد قلبه فاندفع وراء التجربة وقتل أخاه.
(آ 6- 7) يشدّد الكاتب في هاتَين الآيتَين على حريّة الله وقد قال فيه الكتاب: أصفح عمّن أصفح وأرحم عمّن أرحم (خر 33: 19) ويبيّن لنا موقفه الأبويّ عندما ينبّه قايين قبل فوات الأوان إلى التجربة التي تهدّده.
يشبّه الكاتب الخطيئة بحيوان رابض على باب قلوبنا، وهو يعني بذلكَ أنّها "كائن" خارج عن قلب الإنسان ومسلّط فوق رأسه، بل كوحش يركب في ابتلاعه. وكما يسيطر الإنسان على حيوان يهاجمه كذلك نسيطر على الخطيئة، لأنّ مسؤوليّة السقوط فيها ستقع علينا في النهاية وقد جعلنا الربّ أحراراً.
(آ 8- 10) وقال قايين: لنخرج إلى البريّة... وتقع أوّل جريمة قتل في العالم. وكما حضر الله بعد السقطة الأولى، حضر على قايين بعد جريمته، وكما اختبأ آدم وحوّاء من وجه الله لئلاّ يرى عريَهما، كذلك هرب قايين من وجه الربّ فلا يقع نظره على نظر الرب.
سأل الربّ آدم: أين أنت، ليذكّره بحضور الربّ الخاصّ في الفردوس، وسأل قايين: أين أخوك لينبّهه إلى أنّه البكر وهو مسؤول عن أخيه. تهرّب قايين من الإجابة إلى السؤال الذي طرحه عليه ليساعده على الإقرار بخطيئته والحصول على المغفرة إذا كانت ندامته صادقة. تلاعب على الكلمات وأراد أن يتخلّص من الحديث مع الله بطريقة وقحة. كذب أمام الربّ وقسّى قلبه أكثر ممّا فعله آدم يوم جعل التهمة على امرأته حوّاء، فلم يعد هنالك من مجال إلى استجواب الربّ له. ولما سأله الله: ماذا صنعت، لم يتوخَّ أن ينتظر جواباً، بل هدف إلى إظهار فظاعة الجريمة التي ارتكبها قايين. قتل أخاه وأخفى جثته ليخفي معالم فعلته الشنيعة. ولكنّ دم الضحيّة صرخ إلى الربّ، فوصل الصراخ حالاً إلى عرش الله. فالحياة والدم ملك له وحده، هو يميت وهو يحي (تث 32: 39). أمّا الإنسان فلا سلطان له على حياة الإنسان (2 مل 5: 7)، وإن فعل ذلك اقترف خطيئة عظيمة وتعدّى على حرم الله فاستحقّ عقاباً عظيماً. الدم المهدور لا نستطيع أن نجمعه بعد أن يسيل إلى الأرض، فيصرخ من أعماق الأرض صراخاً، ويصل إلى السماء. نقرأ هذه العبارة فنحسن نجوف ورهبة أمام الدم المسفوك ونتعرّف إلى الله الذي يدافع عن حياة الإنسان ويحافظ عليها.
(آ 11- 12) ملعونٌ أنت... يعاقب الله الإنسان فيطرده من الأرض المزروعة التي ترفض أن تعطيه محاصيلها، وتمنع عنه الملجأ الذي يقيه أخطار الطبيعة، فيذهب شريداً تائهاً، وبعيش حياة لا استقرار فيها. ملعون أنت من الأرض. اللعنة تصيب الأرض بصورة مباشرة والإنسان بصورة غير مباشرة، لأن ما يصيب الأرض من شرّ يعود على الإنسان سيّد الأرض.
(آ 13- 14) أحسّ قايين بوطأة اللعنة تسقط عليه، فانهار ولكنّه لم يندم. خاف، لا من الخطيئة، بل من القصاص الذي تجرّه عليه الخطيئة. صرخ وقد هاله ما صارت إليه حياته: حياة لا راحة فيها ولا سلام، حياة إنسان تلاحقه اللعنة.
عرف قايين أنّ الحياة البعيدة عن الله هي حياة لا يجد فيها الإنسان حماية لنفسه. لقد تركه الله والجميع سوف يهاجمونه ويقتلونه. عندما كان قريباً من الفردوس كان حضور الله يؤمّن له الحماية اللازمة، فلمّا صار بعيداً عن الفردوس، رمز حضور الله، فسيلاحقه الانتقام القاسي الذي لا حدّ له. ولكنّ الله، رغم خطيئته الفظيعة سوف يفع له علامة على رأسه، ووشماً خاصًّا، لئلاّ يقتله من يجده. فالله لا يريد حتى قتل القاتل لأنّه يكره سفك الدماء. لم يسمح بقتل قايين فأعطاه مهلة ليحسّ بالندَم ووخز الضمير. قال الكتاب بلسان الله: "لا أريد موت الخاطئ، بل عودته عن ضلاله ليحيا" (حز 18: 32).
(آ 15- 16) تنتهي قصّة قايين وهابيل على غير ما عوّدتنا الأخبار القديمة من الثأرات المتبادلة التي لا تنتهي قبل أن تفنى القبيلتان المتصارعتان. فالله جعل حياة القاتل تحت حمايته، فأعطاه هذه العلامة دلالة على حمايته له. إنّ حياة قايين، وإن تحت اللعنة، تبقى ملك الله، وهي ليست ملك الإنسان في أيّ حال من الأحوال.
2- أبناء قايبن (4: 17- 26)
(آ 17- 22) نقرأ في هذا المقطع عن سلالة قايين وبداية المدنيّة. ترك قايين الريف فتحضّر وسكن المدن. وينسب الكاتب بناء المدن إلى سلالة الخاطئين، لأنّ المجموعات المدنيّة هي أماكن الشرّ والخطيئة. في المدينة يستطيع الإنسان أن يتوارى عن الأنظار ويفعل ما يشاء من الشرّ في مكان لا يعرفه فيه أحد. أمّا في الخيمة فالحياة بسيطة والأخلاق مفروضة على السكّان، وكلّ واحد يقدر على مراقبة الآخر. يمكننا أن نذكر سادوم وعامورة فنفهم إلى أيّ مدى تكون الخطيئة فظيعة في المدن.
يسرد الكاتب بعض الأسماء ويتوقّف على شخص لامك الذي اتّخذ له امرأتَين، فكان أوّل رجل تعدّدت زوجاته. في البداية كان للرجل زوجة واحدة، ومع لامك صار له زوجات عديدات، وهكذا أخذت البشريّة تنحرف يوماً بعد يوم عن مخطّط الله.
أولاد لامك استنبطوا بعض الاختراعات فكان يابل (الذي يسوق الإبل، وقد يكون هابيل) أوّل من سكن الخيام ورعى المواشي، ويوبل ("يوبل" تعني الكبش وقرن الكبش الذي ينفخ فيه هتافاً بنصر أو إعلاناً لعيد. رج لا 25: 9- 10) أوّل من عزف الكنّارة والمزمار، فنظم الأناشيد التي ينشدها الرعاة لقطيعهم خلال النهار، أو في حلقات السَمَر خلال الليل، وتوبل قايين (توبال: اسم قبيلة. رج حز 27: 13. ثم قايين) أوّل من صقل المعادن وأدخلها في حياة الناس اليوميّة.
(آ 23- 24) نقرأ هنا نشيد لامك لامرأتَيه، أنشده بعد رجوعه من الحرب. نشيد يشبه نشيد نساء إسرائيل بعد أن قتل داود جليات الجبّار (1 صم 18: 7). هو نشيد الانتقام المريع والأخذ بالثأر الذي لا حدود له. الخدش والجرح يقابله القتل، وقتل إنسان واحد من قبيلة رجل يقابله قتل سبعين من قبيلة القاتل، لينام المقتول مرتاحاً في ترابه. هذه الممارسة سيطوّرها موسى إلى شريعة المِثل (سن بسن، عين بعين) خر 21: 24 فيضع حدّاً لرغبة الانتقام الجامحة الطالبة للقتل والعنف والدم. ولكن مع المسيح لن يكون حدود للمغفرة، فيطلب الربّ من بطرس أن يغفر لا سبع مرّات، بل سبعين مرّة سبع مرّات (مت 18: 22).
(آ 25- 26) يذكر الكتاب نسل شيت وهو النسل الذي أقامه الله لآدم عوض هابيل. أمّا ابن شيت، أنوش، (الإنسان بنوع عامّ. رج انس في العربيّة) فمعه أبتُدئ بالدعاء باسم الربّ، كما بدأت مع أبناء قايين الصناعات والفنون. والدعاء باسم الربّ يعني التعبّد لاسم الربّ (يهوه في العبريّة) والتلفّظ باسمه في بداية الصلاة (مز 3: 2؛ 4: 2؛ 5: 2؛ 6: 1) أو قبل تقدمة الذبائح (12: 8؛ 13: 4؛ 26: 25). يعتبر التقليد اليهوهيّ أنّ معرفة اسم الربّ (يهوه) ومناجاة اسمه قديمة قِدَم البشرّية. ولكنّ هناك تقليداً آخر يجعل العبرانيّين يكتشفون اسم يهوه في عهد موسى الذي سأل الربّ عن اسمه فقال: أنا يهوه، أنا هو الذي هو (خر 3: 13- 15؛ 6: 2- 3). يبدو أنّ اسم يهوه قد عرف قبل موسى، والدليل على ذلك الأسماء المركّبة من يهوه مثل "يوكابد" ومعناه "مجد يهوه" (خر 6: 20). غير أنّ موسى استعمل الاسم بطريقة خاصّة مشدّداً على أنّه الإله الذي خلّص بني إسرائيل من عبوديّة المصرّيين.
نلاحظ عند قراءَتنا هذه النصوص اختلافاً في مضامينها. فقايين يبدو تارة ذلك الفلاّح التائه الشارد، وطوراً ابن المدينة المتحضّر، يابل هو أبو الرعاة بينما نعرف أنّ هابيل كان راعي غنم. هذا الاختلاف يعود إلى اختلاف التقاليد التي استقى منها الكاتب الملهم. لن نتوقّف على هذا الاختلاف في التفاصيل بل ننظر إلى المعنى العامّ الظاهر من هذا التاريخ الذي يقدّمه الله بحضوره عبر أشخاص مثل أنوش ونوح وإبرهيم.
ج- المعاني التي نستنتجها من قصّة قايين وهابيل
1- القصّة كما دخلت الكتاب المقدّس
لمّا دوّن الكاتب اليهوهيّ رواية قايين رجع ولا شك إلى معلومات وجدها في قبيلة القينيّين 2 مل 10: 15؛ ار 35: 1؛ 1 أخ 2: 55) المكوّنة من جماعة عاشت على حدود الصحراء، وكان الوشم علامة يُعرَفون بها. يبدو أنّهم كانوا يشتغلون الحديد والنحاس (لا يزال اليوم بعض البدو الرحَّل يطلون الطناجر والدسوت بالقصدير لتعود بيضاء)، واسمهم يعني في اللغات الساميّة الحدّادين والذين يسوّون الحديد ويصلحونه. أخذ الكاتب الملهم خبراً من هذه القبيلة وجرَّده من ملامحه التاريخيّة وأعطاه معنًى شاملاً. فلم يعد قايين وهابيل ابنَي قبيلتَين متناحرتَين، بل رمزاً للفلاّحين والرعاة الذين كانوا يضمرون العَداء بعضهم لبعض، ورمزاً للبشرّية التي لا تزال تعيش العنف والقتل والحرب والدمار. لقد انطلق سفر التكوين (4: 1- 16) من رواية قبيلة فجعلها فصلاً من تاريخ البشريّة ربطه بسقطة الإنسان الأوّل، ثم بيَّن لنا الطريق الذي يسلكه الإنسان بعد أن عصى أمر الله: ترك الخطيئة تنمو في قلبه وتسود عليه، فدفعه إلى قتل أخيه وجعلته يتبع سبيل القساوة والعنف ويترك سبيل الرحمة والمحبّة. انعزل الإنسان عن الله فتمرّد عليه وعصى أوامره، ثم انعزل عن أخيه فقتله دون أن يحسب حساباً للربّ الذي تهمّه حياة الإنسان.
هذه القصّة تناقلها الرواة مراراً قبل أن تسجّل في الكتاب المقدّس. ولقد جمع فيها الكاتب الملهم الماضي والحاضر، فحدّثنا عن قايين وهابيل وكأنّهمَا وحيدان على الأرض، ثمّ ذكر لنا الأعداء العديدين الذين يهدّدون حياة قايين. هذا ما نسمّيه تشويشاً في الأخبار بنظرتنا الحديثة، ويمكن أن نفهمه تراكماً مقصوداً يجعلنا نرى في كلّ نزاع نعيشه اليوم ترداداً لذلك النزاع الأوّل المبنيّ على بغض أوّل أخ لأخيه. وكما أنّ كلّ خطيئة نرتكبها اليوم هي تكرار لتلك الخطيئة الأصليّة الأولى التي بها رفض الإنسان الأوّل الله، كذلك كلّ قتل وحرب هما تكرار لتلك الخطيئة الني بها رفض قايين أخاه وقتله. فالحاضر يجد جذوره في الماضي، والماضي يجد صورته في الحاضر. ما فعله قايين لهابيل يستطيع كلّ واحد منّا أن يفعله بأخيه.
نقرأ قصّة قايين وهابيل فنحسّ أنّ البشر صاروا كثيرين، وإلاّ كيف نفسّر تصرّف قايين عندما قرّر أن يقترف جريمته. يقول الكتاب إنّه أخذ أخاه إلى البرّية، أي بعيداً عن الأماكن الآهلة كما أنّنا نتساءَل: لو لم يوجد على الأرض في ذلك الوقت إلاَّ قايين وهابيل، فلماذا يخاف الله على حياة قايين من قاتل يقتله ثأراً لدماء هابيل؟ ومَن هم هؤلاء الناس الذين يطلبون دم قايين وقد قال عنهم: كلّ مَن وجدني يقتلني؟ هذه القصّة التي جعلها الكاتب في بداية الكون تحدث كل يوم في مجتمعنا. اليوم يقتل الأخ أخاه رغم تنبيه الله له، واليوم يدافع الله عن القاتل لأنّه لا يرضى أن يعمل فينا روح الانتقام عمله. الله إله حياة وليس إله موت.
2- الذبيحة المقبولة:
نظر الله بعين الرضى إلى هابيل وتقدمته. فلماذا يرضى الله عن الراعي وتقدمته ويترك الفلاّح يقترف خطيئة بعد أن هدم الحسد قلبه؟ أتكون هذه الرواية صورة عن الصراع القائم بين مدنيّة الرعاة ومدنيّة الفلاّحين؟ عندما ترك شعب إسرائيل البريّة وأقام في بلاد كنعان أخذ بمدنيّة الحضَر وتأثّر بالفلاّحين وعاش عيشهم. تعرّت إلى المدن وعرف فسادها. فانجرّ إلى عبادة البعل والعشتاروت وتعبّد لآلهة كنعان طالباً إليها خصباً لحقوله ونموّاً لمواشيه. حينئذٍ عادت به الذكرى إلى حياة الرعاة التي بدت له أكثر أخلاقيّة وصلاحاً من حياة الفلاّحين، لأنّها حياة يرضى الله عنها. أمَا قال الربّ لشعبه على لسان هوشع (2: 16) إنّه سيقوده إلى البرّية ويحدّثه في قلبه؟ ولقد كانت جماعة الناذرين (عد 6؛ قض 13: 7- 14) يمتنعون عن الخمر وكلّ نقيع من العنب، ويهتمّون بالرجوع إلى الحياة المثاليّة في البريّة. أمّا جماعة قران فتركت حياة المدنيّة وعاشت في البرّية المحاذية للبحر الميت منتظرة مجيء المسيح في تمام الأزمنة.
ولنا هنا تعليم في التقادم والذبائح. أن يقرّب الإنسان لله تقدمة طالباً إليه رضاه، فهذا لا يكني إن لم ترافق التقدمة استعدادات قلب الإنسان. ولقد قال الله:
"لا أُعاتبك على ذبائحك،
فمحرقاتك أمامي كلّ حين.
لا آخذ من بيتك عجلاً،
ولا من حظائرك تيساً،
فلي جميع وحوش الغاب...
إن جعت فلا أقول لك...
أَنا لا آكل لحم الثيران...
فليكن الحمد ذبيحتك لله" (مز 50: 8- 14).
ويزيد المزمور 51: 19 "ذبيحتي لك يا الله روح منكسرة متواضعة". فالديانة الحقّة هي ديانة القلب، والعبادة الحقّة ترافقها حياة بارّة نقيّة، ونحن نرضي الله باستعدادات قلوبنا الصالحة. ما نفع الاحتفالات، ورفع أيدينا للصلاة، وممارسة الصوم، إن لم نتعلّم الإحسان، فنغيث المظلوم وننصف اليتيم والغريب، ونداء عن الضعيف والأرملة (اش 1: 14- 17)؟ وهنا نفهم السبب الذي لأجله رضي الله عن ذبيحة هابيل ولم يرضَ عن ذبيحة قايين. أعمال قايين كانت شرّيرة وأعمال أخيه كانت صالحة (1 يو 3: 12)، أعمال قايين بدأت بالبغض والحسد وانتهت بالقتل، فكيف لا يعيش في الموت بعيداً عن الله؟
وهنا نورد ما قاله الترجوم ليبرِّر تصرّف الله تجاه قايين وهابيل. وقال قايين لأخيه هابيل: أنا أرى أنّ الله لم يخلق الكون بمحبّة، وأنه لا يديره بحسب ثمرة الأعمال الصالحة، وأنّه حين يدين فهو يحابي الوجوه، وإلاّ فلماذا رضي عن تقدمتك كلَّ الرضى ولم يرضَ عن تقدمتي؟ أجاب هابيل وقال لقايين: إنّ الله خلق العالم بمحبّة وهو يديره بحسب ثمرة أعمالنا الصالحة. وبما أنّ أعمالي أفضل من أعمالك فالله قَبِلَ تقدمتي ولم يقبل تقدمتك. أجاب قايين وقال لهابيل: لا دينونة ولا ديّان ولا عالم آخر. لا مجازاة خير للصالحين ولا عقاب للأشرار. فقال هابيل: بل هناك مجازاة خير للصالحين وعقاب للأشرار. وأخذا يتجادلان. فوقف قايين تجاه أخيه هابيل وضربه بحجر على رأسه فقتله.
3- قايين البكر الذي غمره الله بعطاياه
عندما نقرأ هذه القصّة نجعل قايين ذلك الشرّير، وهابيل ذاك الطيّب القلب. غير أنّ الكاتب الملهم لا يقول إنّ قايين بدأ حياته مجرماً، بل هو أنجزّ تدريجاً إلى الخطيئة لأنّه فضَّل صوت شهوته على صوت الله. لقد كان قايين الابن المفضَّل عند والدَيه إذ هو البكر وهو القويّ الذي يقوم بأعمال لا قِبَل لأخيه بأن يقوم بها. وكان هابيل الإنسان الضعيف صاحب البنية السريعة العطب الذي أوكلت إليه رعاية القطيع، وهو عمل بسيط لا يتطلّب جهداً.
لقد تعوّد التقليد المسيحيّ أن ينظر إلى هابيل على أنّه صورة للمسيح وعلى أنّ ذبيحته رمز لموت المسيح الخلاصيّ (عب 4: 11). لكنّ الكاتب الملهم يتوقّف طويلاً على شخصيّة قايين عبر أحداث حياته المتعدّدة، فيذكر اختيار الله له ويحدّثنا عن ابتعاده عن الله، تم يخبرنا كيف قتل أخاه فعاقبه الله، فتذمّر من قساوة العقاب وذهب شريداً ترافقه رحمة الله رغم خطيئته الفظيعة.
كان قايين البكر الذي اختاره الله ومنحه النِعَم العديدة. ولكنّ هذه العطايا التي وُهبت له صارت لهلاكه بسبب كبريائه وقساوة قلبه ونكرانه لجميل ربّه. هذه الميول الرديئة فعلت فعلها في قلبه قبل أن تظهر إلى الخارج خلال الذبيحة التي قدّمها للربّ، فكانت تقدمته صلاة شكليّة وعملاً خارجيّاً لم يضع فيه فكره وقلبه.
يقول الكاتب إنّ الله رضي عن هابيل وذبيحته ولم يرضَ عن قايين وذبيحته. وكانت العلامة الظاهرة لرضى الله دخاناً يرتفع إلى السماء ثمّ يعود إلى الأرض. ولكن لا نظنّ أنّ الدخان المتصاعد كان عنصر الذبيحة الأساسيّ، بل استعدادات القلب الداخليّة التي نعبّر عنها بعمل خارجيّ. فالله ينظر إلى القلب لا إلى الوجه.
ومنذ ذلك الوقت بدأ التضعضع في علاقة قايين بالربّ. فأثّر هذا الوضع في حياته أيّ تأثير وجعله يحزن وينهار بسبب رضى الله عن أخيه. وبما أنّه لا يقدر أن يفعل شيئاً بالله ارتدّ إلى من رضي عنه الله. هو لا يقدر أن يقتل الله، لذلك قتل أخاه ليتحدّى الله ويعبّر عن عداوته له.
بعد هذا القتل تصلّب قلب قايين. ظهرت حياة أخيه وكأن لا قيمة لها في عينيه، فلم يبدِ أيّ ندم على ما فعل، ولهذا اكتفى بإجابة الله جواباً كاذباً: "هل أنا حارس لأخي"؟ وحين لعنه الله لم يظهر أيّة علامة من علامات التوبة بل اكتفى بالتذمّر على الربّ بسبب العقاب القاسي الذي أصابه، وابتعد عن الأرض الخصبة كما يبتعد الابن المنبوذ عن البيت الوالدي.
وهنا ندخل في سرّ الله الذي ما زال يهتمّ بالخاطئ ويحيطه بعنايته ونعمته. قال القدّيس بولس (روم 5: 20): "حيث كثرت الخطيئة فاضت نعمة الله". إن الله يحافظ على حياة الخاطئ وكرامته. قال الكتاب: جعل الربّ علامة لقايين لئلاّ يقتله كلّ من وجده. كانت هذه العلامة وشماً يجعل القاتل شريداً طريداً لا يقتله أحد، ولا يستقبله أحد عنده، فيسير إلى حتفه بعد أن تخلّى عنه الجميع. ولكنّ الكاتب الملهم شدّد على حماية الله للقاتل لا ليجعله يمعن في الشرّ، بل ليعود إلى الربّ وإلى القريب عن طريق الندامة والتوبة.
نرى في هذه القصّة طريق عمل الله في قلب الإنسان: إختار قايين وأحاطه بعطفه ونعمته فأجاب قايين إلى نداء الربّ بالرفض وقساوة القلب واقترف ما اقترف من خطيئة. غير أنّ الله لم ينبذ الخاطئ نبذاً نهائيّاً ولم يترك القاتل يتخبّط في اليأس فأعطاه علامة عن رحمته له واعتنائه به. فوجه الله هو وجه الراعي الصالح الذي يبحث عن الخروف الضالّ، ووجه الأب المحبّ الذي لا يتخلّى عن الابن الذي ترك البيت الوالديّ (حز 34: 11؛ مت 18: 12- 14؛ لو 15: 4- 24؛ يو 10: 11).
قايين هو صورة الإنسان الخاطئ. في خطيئة أبوَينا الأوَّلَين انقطعت علاقة الصداقة القائمة بين الله والإنسان، وفي خطيئة قايين ظهرت عداوة الإنسان لله عندما انقطعت علاقة المحبّة والأخوّة بين الناس. فالخطيئة لا تقطع العلاقة القائمة بين الله والإنسان فحسب، بل تفصل الإنسان عن أخيه الإنسان وتجعل بينهمَا جدار العداوة الذي جاء يسوع يهدمه (أف 2: 14- 15). إنّ الخطيئة لا تؤثر فقط في حالة النعمة التي تجعل الإنسان قريباً إلى الله، بل في الإنسان نفسه الذي ينهار ويعيش في الحزن والقلق، فيسمّم ببغضه وأنانيّته الجماعة البشريّة. إنّ الإنسان لا يعيش وحده ولا يخطئ وحده، ومن يصبحِ عدوّاً لله لا يعتّم أن يصبح عدوّاً للناس، لأنّ بعدنا عن الله يبعدنا عن الناس أيضاً.
4- هابيل رمز إلى المسيح
لا نجد في العهد القديم ذكراً لقايين، خارجاً عن سفر التكوين، إلاَّ في سفر الحكمة (10: 3). "ولمّا ارتدّ عنها (عن الحكمة) الظالم في غضبه، هلك في حنقه الذي كان به قاتل أخيه". أمّا كتّاب العهد الجديد فيستعيدون الفكر اليهوديّ السابق للمسيحيّة ويقابلون تقوى هابيل بفساد قايين. يتحدّث القدّيس متّى (23: 35) عن "سفك كلّ دم برفي من دم هابيل الصديق"... فيلمّح إلى قايين وجريمته. وتذكر الرسالة إلى العبرانيّين (11: 4) ذبيحة الأخوَين وتشدّد على إيمان هابيل، كما أنّ القدّيس يوحنّا في رسالته الأولى، (3: 11- 12) يذكّرنا بوصيّة المحبّة مستشهداً بقايين الذي كان من الشرّير فقتل أخاه (رج يهو 11؛ رؤ 6: 9- 11؛ عب 12: 24). وانطلاقاً ممّا نقرأه في الرسالة إلى العبرانيّين رأى آباء الكنيسة في موت هابيل رمزاً إلى موت المسيح على الصليب ونظموا المقابلة التالية بين يسوع وهابيل:
هابيل المسيح
الراعي الراعي الصالح
تقدمة البواكير باكورة كلّ الخلائق
حمل مذبوح حمل الله
بريء قتله بُغض أخيه صُلب رغم براءَته
دمه يصرخ إلى السماء دم المسيح يصرخ إلى السماء
طالباً النقمة للنعمة والمصالحة
ونتوقّف أخيراً على الفكرة الأساسيّة في الكتاب، وهي أنّ الشرّ بدأ يتسلّط على البشر، وأنّ الإنسان ببعده عن الله أخذ ينغمس في التعاسة يوماً بعد يوم. إنّ الخطيئة الأولى كشفت عن حريّة تصرّف الإنسان أمام الله. أمّا خطيئة قايين فدلّت على أنّ الشرّ يتجدّد مع كلّ جيل وينتشر في الجماعة البشريّة. كان سلوك قايين مرتبطاً بحريّته واختياره ولكنّ تأثير الخطيئة الأولى عليه دفعه سريعاً إلى عمل الشرّ، فكان قتله لأخيه ورفضه لنداء الله بعضاً من أمواج الخطيئة التي أخذت تغمر الكون منذ آدم.
ونذكر أخيراً أنّ الأخوَين قايين وهابيل هما رمز البشريّة في كلّ زمان إذ يستطيع كلّ واحد منّا أن يجد في أعماق قلبه آثاراً من عواطف قايين نحو أخيه. قايين هو أنا وأنت وكلّ واحدٍ منّا. إنّه يمثّل عالم القتل والحرب بين الاخوة والقبائل والشعوب والدول، وهذا ما عبّر عنه أحد الشعراء الألمان بعد الحرب العالميّة الأولى قال:
"كان يا ما كان، كان رجلان
لمّا كان عمرهما سنتَين، هشم الواحد ظهر الآخر بأظافره،
لمّا صار عمرهما اثنتَي عشرة سنة، ضرب أحدهما الآخر بالعصيّ وتراجما بالحجارة،
لمّا صار عمرهما اثنتَين وأربعين سنة، أنهيا نزاعهما بالبندقيّة والمدفع،
لمّا صار عمرهما اثنتَين وستّين سنة، استعملا الموادّ الكيميائيّة ليفنيَ أحدهما الآخر.
ولمّا صار عمرهما اثنتَين وثمانين سنة، مات الواحد قربَ الآخر ودُفن الواحد قرب الآخر.
أجل لم يزل قايين حيّاً بيننا اليوم وتبّاعه كثيرون. ولسنا في حاجة إلى أن نكون قتلة لنكون من أبناء قايين، فبغضنا للغير وقساوة قلبنا وأنانيّتنا تكفي لأن ندفع القريب في طريق اليأس والموت. أمّا جواب الكتاب المقدّس إلى هذه القصّة الحزينة فنقرأه في المزمور (133: 1): "ما أطيبَ وألذّ أن يسكن الإخوة معاً"

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM