الفصل الثالث: السقـطة الأولى

الفصل الثالث
السقـطة الأولى
(3: 1- 24)

أ- المقدّمة:
1- بعد رواية خلق الإنسان على صورة الله، وبعد الحديث عن تكوينه وإقامته في جنّة عدن ليفلحها ويحرسها، تأتي رواية السقطة الأولى لتفسّر حالة التعاسة التي يعيشها الإنسان بعد عصيانه أمر الله.
2- ترجع هذه الرواية إلى التقليد اليهوهيّ الذي استعمل الطريقة الأنتروبومورفيّة التشبيهيّة ليصوّر عمل الله، فاستفاد من الإطار الذي تعرّفنا إليه في الفصل السابق، أي جنّة عدن، حيث يعيش آدم وحوّاء، ليروي قصّة الخطيئة الأولى في الكون، وقصّة كلّ خطيئة من خطايانا.
3- يبدأ المقطع الأوّل (آ 1- 7) من دون مقدّمة ومن دون رباط بما سبق فيرسم أمامنا مشهد التجربة والسقطة ويضع أمامنا "شخص الحيّة". والمقطع الثاني (آ 8- 19) يدخلنا غرفة القضاء حيث يحاكم الله المذنبين ويفرض عليهم العقاب الذي يستحقّون. والمقطع الثالث (آ 20- 24) يفتح عيوننا على نتائج الخطيئة الأولى.
4- الحيّة هي خليقة من خلائق الربّ العائشة في الحقول (آ 14؛ رج 2: 19) ولكنّها أكثر الحيوانات حكمةً (رج أم 12: 16، 23؛ مت 10 : 16) إلاَّ أنّ حكمتها موجّهة شطر الكذب والاحتيال (رج أي 5: 12؛ 15: 25). بالإضافة إلى ذلك تبدو الحيّة كائناً مطّلعاً على الحالة الحاضرة وعارفاً بسرّ الشجرة المحرّمة. هي تتّهم الله بالكذب والحسد وتحاول أن تبعد الإنسان عن الله. هذا "الحيوان" العاقل الذي يتكلّم كالإنسان يرمز إلى قوّة تعادي الله في هذا الكون وتسلِّط شرّها على الإنسان. إسمه إبليس والشيطان (حك 2: 24، يو 8: 44؛ رؤ 20: 2) وهو يرتبط بأعمال السحر والعبادات الوثنيّة في الشرق.
5- نلاحظ في هذا المشهد طريقة الحيّة لتوخ الإنسان في الخطيئة. تتحدّث إلى المرأة لأنّ المرأة تتأثر بالأحداث أكثر من الرجل، ولأنّ الوصيّة لم تُعطَ لها مباشرة بل للرجل (2: 14). وتوجّه سؤالها بمكر وخداع لتدخل السمّ في قلب السامع: هل قال الله: لا تأكلا من شجرة الجنّة؟ تمّ زادت: لن تموتا، بل تنفتح عيونكما. هذه هي طريقة الشيطان اليوم ليدخل قلوبنا ويدفعنا إلى اقتراف الخطيئة. هو الكذّاب وأبو الكذب (يو 8: 44) وهو يخادع الإنسان ويجعل الله كاذباً.
6- ونتعرّف إلى الله قاضياً يبحث عن المذنبين ويقوم بالتحقيقات اللازمة، يسأل المتّهمين ويدفعهم عبر أجوبتهم إلى الإقرار بخطاياهم وإعلان مسؤوليّتهم عمّا فعلوا. حاولوا أن يختبئوا، أن يتوارَوا عن نظر الله. نسُوا أنّ الله يدين من استهان بنعمته ويجازي كلّ إنسان بما فعل، ولمّا سمعوا صوت الربّ عرفوا أنِّ الوقوع في يد الله مخيف (عب 10: 29- 31). فمن يقوى على الثبات يوم يجيء غضبه العظيم (رؤ 6: 17)؟
ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- التجربة والسقطة (3: 1- 7)
(آ 1) الحيّة تتميّز عن سائر الحيوان بذكائها الحادّ، ولكنّها لا تجسّد في أي حال من الأحوال قوّة شيطانيّة كما كان الأقدمون يعتقدون. كلّ ما في الأمر هو أنّ الكاتب انطلق من خرافة عن عالم الحيّات وحكمتها؟ فاهتمّ لا بما تمثّله الحيّة، بل بما تقوله الحيّة، وكلامها جعل سفر الحكمة (2: 24) يقول: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم، فيذوقه الذين هم من حزبه". (رج يو 8: 44؛ رؤ 20: 2؛ أي 3: 8). إنّ سفر التكوين يبيّن ذكاء الحيّة وفسادها وشرّها. غير أنّه يؤكّد أنّها أدنى من الإنسان، وقد أعطاها اسماً كما لسائر الحيوانات، إلاَّ أنّها تغلّبت على الإنسان عندما حملت اسم الشيطان وصوته، فصارت عدوّة الإنسان وأخسرته صداقة الله وحرمته السعادة التي أُعطيها.



عندما نقرأ هذا النصّ، لا نتوقّف على الصورة، بل نعرف أنّ المهمّ هو التجربة الآتية إلى الإنسان. أساس الخبر هو الشيطان الذي يعمل فينا، وما تبقّى لا يتعدّى أن يكون لباساً تصويريّاً خياليّاً يركّز أنظارنا على أمر من الأمور.
وجّهت الحيّة الكلام إلى المرأة. هل هذا يعني أنّ المرأة أكثر تأَثّراً من الرجل، أم أنّنا أمام نظرة احتقار إلى المرأة، ذلك الكائن الضعيف والمتخاذل الذي به وصلت الخطيئة إلى العالم؟ هذا ما كان عليه تفسير القدماء، وقد قال مار أفرام بأنّ المرأة ساعدت الحيّة على إسقاط الرجل في الخطيئة. وقال القدّيس أغوسطينوس: "إنّ آدم أكل من الثمرة إرضاءً لامرأته، لئلاّ تموت حزناً".
(آ 2- 3) بالغ المجرّب في تصويره أمر الله الذي ينهى عن أكل الثمرة المحرّمة، فأجابت المرأة على الوتيرة ذاتها وبالغت في أمر الله. قالت: "لا نأكلُ منه ولا نمسّه". زادت هذه العبارة الأخيرة وهي عالمة بالنتيجة المترتّبة على عملها: إنْ أكلَ الإنسان من الشجرة المحرّمة فسوف يموت. كان هدف المجرّب أن يزعزع ثقة الإنسان بالله، وهذا ما وصل إليه تاركاً "الثمرة المحرّمة" تفعل فعلها في قلبه.
(آ 4) زعزع المجرّب إيمان المرأة بالله. الله لن يعاقب فلا تخافيه.
(آ 5) وقال المجرّب: الله يخاف أن يصبح الإنسان مثل الله إن أكل من شجرة معرفة الخير والشرّ. عيناكما تنفتحان كما عيون العميان فتنظران وتفهمَان ما كان مخبّأً عنكما. كان عالم الشرق القديم يعتبر أنّ الآلهة محسودة من الإنسان بسبب سعادته لأنّها لا تريد له خيراً، أمّا الفكر اليهوديّ المسيحيّ فقد جعل هذا الحسد في قلب الشيطان الذي يعمل على الإيقاع بالإنسان.
(آ 6) نجد في هذه الآية تحليلاً نفسيّاً دقيقاً للتجربة: تتأمَّل المرأة طويلاً في الشجرة المحرَّمة، فتشعر أنّها طيّبة للمأكل وشهيّة للعيون. أما نحسّ بمثل هذا الإحساس قبل سقوطنا في الخطيئة؟ وكان الرجل ترب المرأة، فأحسّ بالتجربة كما أحسّت بها، وسقط كما سقطت.
(آ 7) وكانت النتيجة الأولى لسقوطهمَا أنِ أنفتحت عيونهمَا لا على هذه المعرفة العجيبة المنتظرة التي وعدهما بها الشيطان، بل على اكتشاف هذا الشعور بالإثم الذي ظهرت آثاره الخارجيّة في عريهمَا، فصارت شجرة المعرفة شجرة الضمير الذي يبكّتهمَا على فعلتهمَا فاختبأا من وجه الله. وفي هذا السبيل يقول أحد الشرّاح: تولّد الإحساس بالحياء أمام عالم الجنس مع الخطيئة فبدت نظرة البراءة عند الإنسان وكأنّها ثمرة من ثمار الصداقة مع الله. كان الإنسان عالماً بأنّه عريان قبل الخطيئة ولكنّه لم يكن ليشعر بذلك. أمّا بعد الخطيئة فسيجد نفسه صغيراً يحمل عيباً في ذاته، لأنّ شهوة الجسد قد ولدت فيه. وهكذا نقول إنّ هذه الشهوة هي نتيجة الميل إلى الخطيئة وليست سبباً له. ليست الخطيئة الأولى رغبة ولَّدَها الميل الجنسيّ بين الرجل والمرأة، وليست المعرفة الجديدة التي وصل إليها أبوانا الأوّلان اكتشاف الميل الجنسيّ وإنجاب الأولاد وإعطاء الحياة. الخطيئة الأولى هي خطيئة كبرياء، والمعرفة التي سعى إليها آدم وحوّاء هي اكتشاف سرّ الله في وصاياه وأوامره: عندما تأكلان تصيران كالآلهة. هذا ما تاق إليه أبوانا الأوّلان بقواهما الشخصيّة أو بمساعدة الشيطان فلم يصلا إليه. ولكنّنا بواسطة المسيح سنحصل على البنوّة الإلهيّة. قال القدّيس لاون الكبير : "صار ابن الله إنساناً فجعل الإنسان ابن الله".
نجد في هذا النصّ تلاعباً على الألفاظ بين كلمة "عروم" (محتال) وكلمة "عيروميم" (عريانين). فالحيوان المحتال أقنع آدم وحوّاء بأنّهـا سيحصلان على علم سامٍ بعد أكلهما من الثمرة، فتشوّق الإنسان إلى وقت يصِبح فيه صاحب حيلة ودهاء. ولكنّه لم يحصل على الحيلة، بل أصبح عرياناً، أي مرغماً على الحياء والخجل دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه.
وهذه المعرفة التي سعى إليها وتمنّاها، لم تجعله شبيهاً بالله، بل نزعت منه نعمة الله التي هي أساس كرامته الإنسانيّة، وسلّمته إلى سلطان الشرّ. أراد الإنسان أن يصبح "محتالاً" فصار "عرياناً" لا يملك حتى ما أعطاه الله إياه. هذه السخريّة المقصودة نقرأها على لسان الله، وهي الممزوجة بالشفقة على الإنسان الذي وصلت به الحالة إلى هذه التعاسة: لقد صار آدم كواحد منّا يعرف الخير والشرّ، لقد صار مثل الله والله سيخاف منه. صار الإنسان في حالة لا يُحسد عليها، والله عندما يقول مثل هذا الكلام يلفت نظرنا إلى جنون الإنسان عندما يقترف الخطيئة. حسب الإنسان نفسه أكثر حكمة من الله، فصار أدنى من الحيوانات بعد أن غرّرت به حيّة سافلة وأسقطته إلى عالم الخطيئة والموت.
2- حكم الله على المذنبين (3: 8- 19)
بعد أن يستجوب الله آدم وحوّاء والحيّة (8- 13) يصدر حكمه على كلّ واحدٍ منهم (14-19).
(آ 8) نسيم النهار. هو ساعة تخفّ حرارة الشمس ويحلو للناس أن ينطلقوا إلى التنزّه في مناخ الفردوس المعتدل الذي لا يعرف الحرّ الشديد أو البرد القارس. راحة الجسد هي رمز إلى راحة النفس والضمير.
جاء الربّ ليرى ما فعله آدم وحوّاء. بهذه العبارة يشبّه الكاتب الله بالإنسان ليجعل فكرته قريبة إلى الناس. ولكنّ الله يعلم كلّ شيء، وهو لا يحتاج إلى أن يبحث عن آدم أو يناديه. لقد عرف ورأى كلّ شيء قبل أن يأتي إلى الجنّة. سمع آدم وحوّاء صوت الربّ أو بالأحرى وَقع أقدامه (2 صم 5: 24، مل 4: 16) فخافا واختبأا.
(آ 9- 10) كان آدم وحوّاء يحسّان بالسعادة في لقائهما بالله، ولكنّ الخطيئة جعلتهما يرتعبان من حضوره. أحسَّا بخطيئتهمَا فاختبأا، لئلاّ يظهر عريهما، فامتزجت عاطفة الحياء بعاطفة الندم... هل يمكن أن يخفيا جسدَيهما وضميرَيهما أمام الله؟ ونادى الله آدم كما ينادي القاضي المتّهم للمثول أمامه.
(آ 11) يبدأ الإنسان بالاعتذار: عريه لا يسمح له بالمثول أمام الله. لقد بدأ آدم يشعر بخطيئته. اختبأ لأنّه عرف أنّه خاطئ. قال الربّ: "مَن أعلمك أنّك عريان"؟
(آ 12) لم يقدر الرجل على إنكار خطيئته، ولكنّه أراد أن يتهرّب من مسؤوليّتها: لم يكن هو صاحب المبادرة، بل اكتفى بتقبّل الثمرة التي قدّمتها له امرأته. عُذر أقبح من ذنب، وكأنّ إرضاء امرأته أهمّ بالنسبة إليه من إرضاء الله والطاعة لوصاياه. أراد أن يبرّئ نفسه فاتّهم المرأة عونه ومساعده، واتّهم الله أيضاً لأنّه أعطاه إيّاها فكانت سبب هذه الحالة التعيسة التي وصل إليها.
(آ 13) سأل الله المرأة : ماذا فعلت، فبرّأت نفسها ملقية التبعة على الحيّة. حينئذٍ أصدر الله الديّان قرار الحكم، فابتدأ بالحيّة.
(آ 14-19) حكم الله على الحيّة فلعنها، لأنْ لا عذر لها. أمّا الحكم الصادر بحقّ الإنسان فسيكون مملؤاً حناناً وغفراناً رغم ظاهرة القساوة البادية فيه. الله يلعن الحيّة لأنّها تمثّل الشرّ، ولكنّه لا يلعن الأشرار، بل يغمرهم برحمته علَّهم يتوبون.
(آ 14) لا نعرف كيف تخيّل الكاتب الحيّة قبل حكم الله عليها. هل كانت تمشي على أرجل أربع كسائر الحيوانات تمّ حرمت منها؟ لا يهتمّ الكاتب بهذا السؤال، بل هو يعتبر أنّ الحالة التي تعيش فيها الحيّة اليوم هي نتيجة لعنة الله وقصاصه لها. فهل يستطيع بعض الناس في الشرق أن يتعبًدوا لها؟
على صدركِ تسلكين وتراباً تأكلين. هذه الكلمات تعبِّر عن حالة الذلّ والاحتقار التي صارت إليها الحيّة بفعل قدرة الله الجبّارة. أمَا هكذا يعامل الأسير والمقهور في الحرب (اش 49: 23؛ مي 7: 17؛ مز 72: 9)؟
كان الساميّون يعتبرون الحيّة قوّة إلهيّة خيّرة ومخصبة (عد 21: 6- 9؛ 2 مل 18: 4)، ولهذا حقّرها العبرانيّ فكان موقفه ردّة فعل على عبادة الحيّات والاتّكال على قدرتها. بالنسبة إلى المؤمن لا إله إلا الإله الواحد، ولا قدرة تقدر على الوقوف بوجه الله أو النجاة من سلطانه.
(آ 15) وأجعل عداوة... إنّ كلمة "زرع" العبريّة تعني أساساً بذار النبات، تم دلّت على زرع الإنسان أي نسله، فيقول الكاتب إنّ الله أقام لأدم نسلاً بدل شيت (4: 25) أو إنّه سيعطي أرض الميعاد نسلَ إبراهيم (13: 15). هذا النسل يمكن أن يعني فرداً أو جماعة.
سيكون عداء بين نسل الحيّة ونسل المرأة، وبما أنّ الحيّة هي صورة عن الشيطان، فالعداء سيكون بين الناس والشيطان، ولكنّ النصّ يجعلنا نترقّب انتصار الإنسان يوم يدوس نسل المرأة بعقبه رأس الحيّة.
منذ بداية الصراع يقف الله بجانب الإنسان، فلا يسمح للحيّة بالدفاع عن نفسها، بل لا يستمع لها، بينما يعطي الإنسان الوقت الكافي ليرجع إلى نفسه، تم يشجّعه ليتابع النضال حتى النهاية.
نسل المرأة هو جماعة البشري هكذا فهمه النصّ العبريّ، وهو يعني أيضاً شخصاً فرداً بحسب الترجمة السبعينيّة اليونانيّة والشعبيّة اللاتينيّة. فيكون أمامنا موقفان متكاملان. تدلّ كلمة "زرع" على كلّ أبناء آدم وحوّاء، كما تدلّ على شخص فرد من زرع آدم. وتفترق الترجمة السبعينيّة (ومثلها الترجمة السريانيّة) في تحديد هذا الشخص الفرد، فتقول إنّ ابن المرأة هو من يظفر بالحيّة، بينما تقول الترجمة اللاتينيّة إنّ المرأة هي التي ستحوز الغلبة. ولكنّنا إذا نظرنا إلى هذه النبوءة التي تجد كمالها في المسيح، نقول إنّه وإن كانت الغلبة باسم مريم، فهي في النهاية عمل يسوع الذي بدأ فنجّى أمّه من سلطة الخطيئة قبل أن يمنح جميع إخوته الخلاص التامّ.
(آ 16) لم يلعن الله المرأة، كما لعن الحيّة، بل جعلها تحسّ بنتائج الخطيئة القاسية عبر عذابات الأمومة وتسلّط رجُلها عليها. كانت المرأة مساوية للرجل قبل الخطيئة، فخسرت هذه المساواة بسبب الخطيئة الأولى. صار زوجها مسلّطاً عليها، فخسرت صفة المساعد والعون لتصير تحت إمرة الرجل في الحياة المادّيّة والاجتماعيّة والزوجيّة والعائليّة. ففي الزواج التعدّديّ، حيث يكون للرجل زوجات عديدات، تصبح المرأة أداة بيد زوجها يتصرّف بها كما يشاء وساعة يشاء. وهكذا لا يعودان اثنَين في جسد واحد، الواحد إزاء الآخر، بل ينفصل الواحد عن الآخر، يصير الواحد خادماً وعبداً للآخر، إن لم يكن سلعة بين يدَيه يشتريها أو يتخلّص منها بحسب إرادته.
(آ 17- 19) يصدر الله حكمه على الرجل فيذكر الخطيئة ويعلن عن عقاب مضاعف: فريضة العمل المتعب المضني الذي به يؤمّن الإنسان عيشه، وفريضة الموت التي تعيد الإنسان إلى التراب لأنّه اخذ من التراب.
3- نتائج الخطيئة الأولى (3: 20- 24)
(آ 20) طرد الله آدم وحوّاء من جنّة عدن بسبب خطيئتهما.
كان آدم قد أعطى حوّاء اسماً مشتقّاً من اسمه، لأنّها أخذت منه، فسمّاها أنثى لأنّها أخذت من الإنسان وامرأة لأنّها أخذت من امرئ. أمّا بعد السقطة، فهو يعطيها اسماً آخر يعبّر فيه عن وظيفة الأمومة وما تحمله من آلام. أسمها يكون حوّاء، لأنّها أمّ كلّ حيّ، ومن جسمها تنتشر الحياة في العالم. حوٍّاء اسم جنس واسم علم، كما أنّ آدم اسم جنس واسم علم إذ يعني الناس ويعني إنسانا فرداً.
قال البعض إنّ حوّاء تعني الأمّ، دلالة على وحدة الجنس البشريّ، ورأى البعض الآخر تقارباً بين الحيّة وحوّاء، لأنّ الحيّة تمثّل قوّة الحياة في التقاليد الكنعانيّة. إنّمَا يجب أن نلاحظ أنّ الكلمة المستعملة للحيّة في الكتاب المقدّس ليست "حيت" العبرانيّة القريبة من العربيّة أو السريانيّة، بل "نحش" (راجع كلمة حنش في العربيّة وهي تعني نوعاً من الحيّات). ولو عرف الكاتب الملهم أنّ كلمة "حوّا" هي اسم إلهة من الآلهات القديمة لأعرض عن تسمية المرأة به.
(آ 21) يتصرَّف الله كالإنسان، فيخترع الثياب ليكسي بها آدم. بهذه الملاحظة أراد الكاتب أن يبيّن لنا أنّ الله لم يتخلَّ عن الإنسان رغم خطيئته فاهتمّ بلباسه، واللباس من أولى ضروريّات الحياة، وهو ما يميّز الإنسان عن الحيوان. العري علامة الأسر والعبوديّة، وتقديم اللباس أوّل الطريق إلى الحريّة.
(آ 22) عاقب الله الإنسان دون أن يتخلّى عنه. طرده من الفردوس دون أن يلعنه. وكما اهتمّ به قبل الخطيئة فهو لا يزال يهتمّ به كالأمّ التي لا تستطيع أن تنسى ثمرة أحشائها. ولكنّ الفردوس لم يعد المكان المناسب للإنسان الذي لن يستطيع أن يقف أمام شجرة الحياة بعد أن أدخل بخطيئته الموت إلى العالم.
يقول الكتاب بلسان الله. "هوذا آدم قد صار كواحد منا". حسب آدم أنّه ارتفع إلى مستوى الله، فكانت النتيجة هبوطاً أبعده عن الله. أراد الإنسان أن يحصل على معرفة تفوق معرفة الإنسان ولكنّ تهوّره جلب عليه القصاص. وهذه الغيرة الإلهيّة ليست حسداً للإنسان، بل هي تعبير عن امتياز إلهيّ لا يحقّ للإنسان أن يمسّه: لا يقدر الإنسان أن يرى وجه الله دون أن يموت (خر 33: 20). قالت الحيّة لحوّاء إنّها ستصبح مع زوجها من مصافّ الآلهة إن هي أكلت من الشجرة المحرّمة. طمحت حوّاء إلى ذلك، فكان طموحها جريمةً وعصياناً، لأنّ الله يدافع عن سلطانه المطلق وتساميه الرفيع. ومَن تعدّى هذا السلطان يكون نصيبه الموت والهلاك.
وهكذا طرد الله الرجل والمرأة من الفردوس. كلاهما أخطأ، وكلاهما نال العقاب، وسيتحمّلان مع أبنائهما نتائج خطيئتهما.
(آ 23) طرد الإنسان من الجنّة فعاش من الزراعة. وهكذا سيفعل قايين في ما بعد، وشغل الأرض يرافق الإنسان منذ بداية الكون. من الأرض يستخرج ما بقوم بأَوَده وأود عياله، وإلى الأرض يتطلعّ فيعرف أخرته. لا يقول الكاتب الملهم إنّ الله علّم الإنسان شغل الأرض، أم إنّه تعلّمه بنفسه. بل يكتفي انطلاقاً من اختباره بأن يحدّثنا عن هذا الفلاّح الذي تعرّف إليه في هذا الشرق. وعاش الإنسان على الأرض، بعيداً عن الفردوس فصارت شجرة الحياة بعيدة عن متناول يده. عاش على الأرض ولامس التراب، فاختبر الموت يقترب منه يوماً بعد يوم: إنّه تراب وإلى التراب يعود.
(آ 24) أقام الرب الكروبين... الكروب شخص أخذت صورته من عالم البابليّين، وهو نوع من "الجنيّة" نصفها إنسان ونصفها حيوان. وظيفته حراسة باب الهياكل والقصور. وفي كتب العهد القديم نجد صورة الكروبين في خيمة الاجتماع فوق تابوت العهد لتدلّ عن، حضور الله (خر 37: 7- 9)، ونجدها في هيكل سليمان تحيط بعرش الله (1 مل 6: 23- 28) كما نراها تجرّ عربة الله في رؤيا حزقيال النبي (1: 1 ي؛ 10: 1 ي) وهكذا ينطلق الكاتب من صورة معروفة في العالم القديم ليدلّ على حضور الله وقدرته. الله حاضر على باب الفردوس فلا يقدر الإنسان على الاقتراب منه، لأنّه خاطئ. ويزيد من خوف الإنسان وجود سيف يلمع كالبرق وهو رمز غضب الله والقصاص الذي يهدّد آدم وحوّاء.
ج- ملاحظات:
1- ما هي طبيعة الصراع بين الحيّة والمرأة؟ يستعمل الكاتب فعل "شوق" العبرانيّ ومعناه راقبَ وترصَّدَ ليدلّ على جوّ العداء. ولكنّ القدّيس إيرونيموس فسّره في اللاتينيّة بعبارة "داسَ برجلَيه" أو "نصبَ فخّاً" معتمداً بذلك على كلمة "شيفو" الأشوريّة التي تعني كاسمٍ "الرِّجل" وكفعل "داس وسحق برجله" (أي 9: 17) أمّا إذا رجعنا إلى كلمة "ساف" العربيّة التي تعني ضرب بالسيف، فيكون معنى العبارة أنّ نسل المرأة يضرب نسل الحيّة على الرأس بينما لا يُصاب إلاَّ على العقب. ومهما يكن من أمر فالصورة تدلّ على صراع أدبىّ أخلاقيّ، وهذا الصراع سينتهي بانتصار الإنسان على قوى الشرّ المتمثّلة بالحيّة، ولكنّ نصّ سفر التكوين لا يسمح لنا بمعرفة مدى هذا الانتصار وشموله. وإنّ النبوءات وأحداث تاريخ العهد القديم تساعدنا على رسم الخطوط الكبرى لشخصيّة المخلّص، ولكنّ الصورة لا تتوضّح قبل تجسّد ابن الله من العذراء مريم (49: 10؛ اش 7: 14؛ 11: 1؛ 53: 1- 12؛ مي 5: 1).
2- إنطلاقاً من تك 3: 15 نستطيع أن نجد تفسيراً يدلّ على أنّ المسيح يسحق رأس الحيّة، وتفسيراً آخر يدلّ على أنّ العذراء مريم تسحق رأس الحيّة. ولقد قال أحد شرّاح الكتاب المقدّس مشدّداً على العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد ومستنداً إلى المعنى التامّ الذي يساعدنا على ربط العهدَين الواحد بالآخر، قال: "إذا نظرنا إلى الأمور كما نظر إليها الكاتب الذي كتبها، فالمنتصر وأمّه شخصان غامضان، ولو نظرنا إليها بمنظار الله، لَفَهمنا من خلال هذه النبوءة أنّ المنتصر على الشيطان هو المسيح، والمرأة المشتركة معه هي العذراء مريم".
3- كما أنّ اللعنة لم تقع على المرأة، بل على الحيّة، كذلك لم يلعن الله الرجل بل الأرض المزروعة، فتحوّل العمل الذي كان متعة في جنّة عدن، إلى عمل قاسٍ مضنٍ بسبب الخطيئة، كأنّمَا الطبيعة قد انحدرت وتشوّهت فصارت عدوّة الإنسان. لا شكّ في أنّ الخطيئة لم تغيّر شيئاً في عالم النبات والحيوان، ولكنّ علاقة الإنسان بالكون تغيّرت بسبب التبدّل في علاقته بالله. قبل السقطة كان الشوك شوكاً والقطرب قطرباً، وكان الأسد وافر من الحيوانات المفترسة. ولكن الكاتب أحبَّ أن يشرك الطبيعة في البلبلة التي دخلت قلب الإنسان، فجعل الزرع الجيّد ينقلب شوكاً والحيوان الداجن مفترساً. وما يقوله الكاتب عن شغل الحقل يعمّمه على أشغال الناس كلّها: إذا كان العمل مضنياً متعباً، فليس الله هو السبب، بل هي خطيئة الإنسان التي غيّرت وجه الطبيعة وشوّهت علاقة الإنسان بالكون.
4- كان العمل طبيعيّاً وسهلاً للإنسان قبل سقوطه في الخطيئة وكان الموت طبيعيّاً بالنسبة إليه بسبب جسده. ولكن بعد الخطيئة صار الموت قصاصاً كما صار العمل عقاباً. غير أنّ بعض الشرّاح يقولون: لو بقي الإنسان عائشاً في صداقة الله لَما حكم عليه بالموت، ولقد قال سفر الحكمة (2: 23- 24): "إنّ الله خلق الإنسان خالداً وصنعه على صورة ذاته، لكن، بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم". ومهمَا يكن من أمر، فعندما يعود الإنسان إلى التراب الذي اخذ منه، نفهم العلاقة التي تربط الإنسان (آدم) بالأرض (أدمة)، نفهم أنّه تراب وإلى التراب يعود. والعقاب الذي يصيب المرأة يصيب بناتها، والقصاص الذي يحلّ بآدم يحلّ بأبنائه. فعذابات الأمومة ترافق كلّ النساء والعمل المضني يلاحق كلّ الرجال، وجميع البشر صائرون إلى الموت بفعل الخطيئة. "بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت" (روم 5: 12).
د- مواضيع عامة:
1- رواية الحلق والسقطة في الكتاب المقدّس وأساطير الشرق القديم.
كتبت التوراة في هذا المحيط الشرقيّ الذي عرف مدنيّات مصر وأشور وبابل وفينيقيا، فاستقت وآداب الشرق القديم من معين واحد، وهذا الأمر جعلنا نرى التشابه بين نصوص الكتاب المقدّس ونصوص الأشوريّين والبابليّين. أمّا الفوارق العميقة التي سنتعرف إليها فهي تدلّ على أنّ الكاتب الملهم هيّأ هذه الصيغ الأدبيّة لتقبل كلام الله بعيداً عن جوّ الشرك وصراع الآلهة، وسعياً إلى التشديد على أن الله هو وحده الذي خلق كلّ شيء بكلمة فه أو بعمل يديه.
أوّلاً- المشابهات في تصوير خلق الكون
- في بابل. وصل إلينا من بابل نشيد "أنوما إيليش" وهو يقول عن الخلق: في البدايات كان سديم ماء، مزيج مياه مالحة، مزيج الأوقيانوس "افسو" والبحر "تيامات "... من هذه الكتلة المائيّة ولد الآلهة العمالقة والآلهة العقلاء. أراد هؤلاء أن ينظّموا السديم فعارضهم أولئك. حينئذٍ وقعت حرب بين الإله "بال" و"التنّين"، ثمّ بين "مردوك" و"تيامات"، انتهت بانتصار العقل والفكر على الفوضى.
هذا النشيد يمجّد "مردوك" على ما عمل ويروي كيف أجمع الآلهة على ترشيح إله بابل الشابّ كرئيس لهم. يومَ لم يكن أحد يجرؤ على مجابهة "تيامات"، تهيّأ "مردوك" للحرب ولم يخف التنّانين العظام الهائلة التي أنجبتهم "تيامات" لمحاربة "مردوك". ولكنّ إله بابل ظفر بها و بمعاونيها، وبعد أن قتل مردوك تيامات كوّن من جسمها العالم وبدأ عمل الخلق: نظّم في السماء مسكن الآلهة وهناك جعل النجوم، ونظم في الأرض مسكن الإنسان، فخلقه وجعله على الأرض ليقوم بفعل العبادة للآلهة.
- في مصر. كانت أساطير مصر تقول بأنّ المياه هي أصل الكون. ففيضانات النيل تغطّي الحقول كلّ سنة، وعندما تنحسر المياه تظهر الأرض من جديد وكأنّها خارجة من داخل المياه. هكذا بدا العالم وكأنّه مولود من الماء، على مثال الشمس التي تلد من زهرة اللوتوس فتخرج هي أيضاً من الماء.
يمكننا أن نذكر نصوصاً أخرى من الشرق القديم، ولكنّنا نكتفي بهذَين المثلَين عن نشأة الكون لنبيِّن وجه الشبه بين نصوص الكتاب المقدّس ونصوص الشرق. فإذا قرأنا الفصل الأوّل من سفر التكوين رأينا أنّ الماء هو أصل العالم، وأنّ "تهوم"، تلك الظلمات التي تغمر الأوقيانوس الأوّل، لا تفترق عن "تيامات"، ذلك البحر الصاخب في "أنوما إيليش"، ولا عن الأوقيانوس العظيم الذي تذكره الأساطير الفينيقيّة. يفصل الربّ السماء والأرض كما يفصل "مردوك" جسم "تيامات" إلى سماء وأرض. أمّا وجود الماء الذي فوق الكون فنقرأ عنه في سفر التكوين وفي نشيد "أنوما إيليش". ولكن، ما لا نقرأه في سفر التكوين هو هذا الصراع بين الخالق والتنّين الذي يرمز إلى السديم، لأنّ "تهوم" هو تلك المادّة في فوضاها، والتي لا شخصيّة لها وهي قريبة من العدم، ولا تستطيع أن تقف بوجه الله الخالق والقدير.
ونتذكّر الأساطير البابليّة أيضاً عندما نقرأ بعض النصوص الشعريّة من سفر المزامير أو أيّوب أو أشعيا. إليك هذا المقطع من المزمور 89: 10- 13 الذي يرسم لنا صورة عن الله عندما يتغلّب على الوحوش البحريّة (رهب، لاويثان) فيخضعها لسلطانه:
أنت تسلّطت على طغيان اليمّ،
أنت تسكّن أمواجه عند ارتفاعها،
أنت سحقت "رهب" مثل القتيل،
وبذراع عزّتك بدّدت أعداءك.
لك السماوات ولك الأرض،
أنت أسّست المسكونة وما فيها.
أنت خلقت الشمال والجنوب،
لاسمك يرنّم "تابور" و"حرمون".
وفي سفر أيّوب (26: 7- 13) يصوّر الكاتب كيف خلق الله العالم بعد أن هزم "رهب" ودمّر "تيامات" بجيوشها. وعندما يتوسّل الني أشعيا (51: 9- 10) إلى الله القويّ ليعيد بناء صهيون يذكّره بانتصاره على رهب (تهوم أو الأوقيانوس) ويدعوه إلى مساعدة شعبه على عبور البحر الأحمر كما على اليابسة (رج مز 84: 13- 17؛ أي 3: 6- 9).
وهكذا بقيت في نصوص الكتاب المقدّس آثار من أسطورة الصراع بين مردوك و"تيامات"، فلمّح الكتّاب الملهمون إلى قوّة معادية للخالق تسعى إلى هدم ما خلق، ولكنّ هذه القوّة خسرت نفوذها وهيبتها فلم تعد تشكّل أيّ خطر على الخليقة، بل صارت عنصراً يدخل في إطار الكون لتدلّ على عظمة الله وقدرته.
ثانياً: المشابهات في تصوير خلق الإنسان
نقرأ في رواية الخلق بحسب التقليد اليهوهيّ، أنّ الإنسان جُبل تراباً من الأرض. وهذه الفكرة شائعة في النصوص الأشوريّة والبابليّة، كما عند المصريّين واليونان. فإليك مثلاً عن الإلهة "مامي" التي أرادت أن تخلق سبعة رجال وسبع نساء، فاقتطعت أربع عشرة قطعة من التراب المبلّل. أخذ أعوانها هذه القطع وبنَوا منها أجساماً، فأعادوها إليها فوضعت اللمسات الأخيرة (كالفاخوريّ على فخّاره) ثمّ رحمت قسمات الوجه البشريّ بحسب صورتها. لا حاجة إلى القول كم يتقارب نصّ الكتاب المقدّس من هذه الأسطورة.
ثالثاً: صورة الفردوس
ذكر الكتاب المقدّس جنّة عدن العجيبة حيث عاش الإنسان سعيداً مع امرأته، وتخيّلت الأساطير الأشوريّة جنّة عدن بشكل بستان سحريّ كانت تعيش فيه حيوانات داجنة أليفة بعد أن أبعدت الحيوانات المفترسة، وكان الإنسان في هذه الجنّة لا يعرف المرض ولا الشيخوخة. أمّا النصوص البابليّة فتتحدّث مراراً عن شجرة الحياة التي تعطي الإنسان الخلود.
نورد هنا فكرة عن جلجامش، ذلك البطل الأشوريّ الذي ذهب يطلب الخلود. يخبر نشيد "الرجل الذي رأى كلّ شيء" أنّ جلجامش رأى صديقه يموت فراح يلتمس الخلود، ولكن قيل له إنَّ الموت هو مصير كل البشر. غير أنّه لم يرضَ بهذا، بل ذهب إلى "نافستيم" بطل الطوفان الذي حصل على الخلود، فكشف له عن نبات يمنعه من أن يشيخ. ذهب جلجامش إلى أعماق المحيط حيث قطف نبات "الشباب" وعاد به إلى بلاده ولكنّ الحيّة سرقته منه.
يقول شرّاح الكتاب المقدّس انّ هناك أسطورتَين استقى منهمَا الكاتب الملهم. في الأسطورة الأولى، يتمتعّ الإنسان بمعرفة واسعة، يعمل كفلاّح في الأرض فيجعلها خصبة ويهتمّ بالزواج وإيلاد البنين العديدين. أمّا في الأسطورة الثانية، فالإنسان العائش في الفردوس يتمتعّ ببراءة كبراءة الطفل، ولذا فهو يجهل العلاقات الجنسيّة مع امرأته. هو لا يعمل في الزراعة كالفلاح بل يقتات من أثمار الأشجار البرّيّة.
وهكذا نجد عناصر مشتركة بين نصوص الكتاب المقدّس وأساطير الشرق القديم عن أصل العالم المائيّ، عن نظام الكون وخلق الإنسان من تراب الأرض، عن الجنّة وشجرة المعرفة والكروب وسيف الله. فنقول: أو إنّ النصوص العبرانيّة استقت من نصوص أقدم منها عهداً، كنصوص أشور وبابل، أو إنّ النصوص العبرانيّة استقت كما استقت النصوص الفينيقيّة والأشوريّة... من ينبوع واحد مشترك. ولكن مهما يكن من أمر، فالكاتب الملهم اختار الإطار والصوَر والتعابير ليضع فيها فكرة جديدة، فيعبّر بها عن إيمانه بالله الذي خلق الإنسان ووضع له شريعة لا يحقّ له أن يتعدّاها. وسوف نرى كيف أنّ الكاتب نقّى هذه الأساطير من كلّ الشوائب لئلاّ تتعارض وإيمانه بقدرة الله الخلاّقة ووحدانيّته المطلقة. وهذا ما سنشدّد عليه عندما نتطرّق إلى الفوارق بين النصوص العبرانيّة والنصوص البابليّة والأشوريّة والكنعانيّة والفينيقيّة.
رابعاً: الفوارق
إنّ سفر التكوين يرفض الشرك وتعدّد الآلهة ويقول بوجود الله الواحد. إنّ سفر التكوين يرذل كلام الأساطير عن أصل الآلهة والكائنات فيقول بأنّ الله خلق كلّ شيء، وبأنّ الإنسان لا يجد علّة وجوده في ذاته، بل في الله الذي خلقه.
تقول الأساطير إنّ الآلهة خلقت الكون من الفوضى السابقة، بينما يقول الكتاب إن الكائنات خلقت من العدم، وإن الله هو فوف كلّ لشيء ويعلو كلّ شيء ويتميّز عن كلّ الكائنات.
إعتبرت الأساطير القديمة أنّ الوحوش البحرّية (رهب، لاويثان) هي قوىً معادية تقف بوجه الله وتهدّد الخليقة بالرجوع إلى العدم، أمّا الكتاب المقدّس فيعتبرها خلائق خلقها الله كما شاء وساعة شاء. فكانت بيده تأتمر بأمره وتخضع لسلطانه.
هذا الإله الواحد الرفيع والسامي عن العالم هو الإله الشخصيّ الحيّ الذي يتدخّل في خلق الكون وفي حياة الإنسان. ولقد لجأ الكاتب الملهم إلى الصور والتشابيه ليدلّ على عمل الله، كما شدّد في الوقت ذاته على سلطانه المطلق وسموّه على الخلائق. أحسّ الكاتب بصعوبة التكلّم عن الله ونحن نحسّ مثله بهذه الصعوبة. فإن لجأنا إلى تعابير مجرّدة عن الصور لنحافظ على رفعته وتساميه جعلناه بعيداً عنّا لا يربطه بنا شيء. وإن عبّرنا عن حضوره وعمله بطريقة تجعله "شبيهاً بالإنسان" أحسسنا بأنّ تعابيرنا أضعف من أن تحيط بعظمة الله فتفقدها بعض قيمتها. أمام هذا الواقع ننتبه إلى أنّ الكتاب المقدّس ليس كتاب فلسفة بل كتاب دين، والدين علاقة الله بالإنسان يعبّر عنها اللسان قدر المستطاع. يلجأ الإنسان إلى التعابير والصور والتشابيه ليعبّر عن عمق إيمانه، ومن خلال هذه التعابير الحسيّة المادّيّة نستشفّ إلهاً قريباً من الإنسان مع أنّه خالق الإنسان.
نقرأ في الكتاب أنّ الله يحبّ الإنسان ويهتمّ به. عندما سقط عاقبه ولكنّه لم يتخلَّ عنه. هذا الإنسان خلقه الله على صورته ومثاله، وعظمة الإنسان تنبع من عظمة الله. الله الذي أراد الأشياء والكائنات وأرادها حسنة وصالحة، ما اكتفى بأن يعطي الإنسان الحياة، بل أعطاه النبات والحيوان وجعل كلّ شيء بين يدَيه، وجعل الأرض وما عليها في خدمته. في مخطّط الله، كلّ كائن يأتمر بأمر الإنسان الذي هو سيّد الخليقة باسم الله.
خلق الله الإنسان رجلاً وامرأة وطبيعة المرأة كطبيعة الرجل، وهي تقاسمه سلطانه على الكون. أمّا الزواج الذي يوحِّد بينهما فقد أراده الله لخيرهما وسعادتهما ولإكمال عمل الخلق الذي بدأه هو. فكانت أولى وصايا الله لآدم وحوّاء: "أنموا وأكثروا وأملأوا الأرض". الخطيئة عصيان لأمر الله وادّعاء بأنّنا نعرف أكثر من الله، وكبرياء نريد أن نرتفع بها إلى مستوى الله. بسبب الخطيئة خسر الرجل والمرأة صداقة الله القدّوس الذي يفرض علينا وصايا أدبيّة أخلاقيّة. غير أنّ الخالق لم يترك الإنسان، بل مما زال يحبه ويهتمّ به رغم بُعد المسافة التي تفصله عنه. قطع الله اتّصاله بالإنسان يوم طرده من حضرته فتبدّلت حياته وحياة نسله من بعده. أصبح عمل الرجل شاقّاً ومتعباً، وحبَل المرأة ألماً وأمومتها عذاباً، والعلاقة بين الرجل والمرأة تسلُّطاً وعبوديّة، ومصير الإنسان إلى المرض والشيخوخة والموت. ولكن بالمسيح سيعود اتّصال الله بالإنسان: "الفضل لربّنا يسوع المسيح الذي به نلنا المصالحة" (روم 5: 11) مع الله الأب.
هذا التعليم عن الله والإنسان والخطيئة لا نجده في النصوص البابليّة والأشوريّة والمصرّية... لأنّه تعليم خاصّ بالكتاب المقدّس، وهذا ما يجعل الفرق شاسعاً بين الكتاب المقدّس وغيره من الأساطير وإن تقاربت وسائل التعبير بين المصدرَين.
خامساً: كيف نفسّر تقارب نصوص الكتاب المقدّس من أساطير الشرق القديم؟
هناك شرّاح قصيرو النظر يعتبرون أنّ الكتاب المقدّس حفظ تقاليد البشريّة الأولى بعد أن ضاعت أو تشوّهت في سائر كتب الشرق القديم. مثل هذا الموقف يعتبر أنّ الكتاب المقدّس أقدم من كتب مصر وأشور وبابل، وهذا خطأ. إنّ عمر البشريَة يزيد على نصف مليون سنة، فكيف انتقلت هذه التقاليد عبر أجيال وأجيال إلى أن وصلت إلى الشعب العبرانيّ الذي دوَّن كتبه ابتداءً من القرن العاشر ق. م.؟ مثل هذا الموقف ينسى أنّ العبرانيّين أطلّوا إلى الوجود في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر ق. م. مع إبراهيم، بينما كانت مملكة مصر قائمة في الألف الرابع ق. م.
ولكن الرأي الأصحّ هو أنّ العبرانيّين الآتين من جنوبيّ العراق إلى شماله والمنحدرينِ إلى مصر، قد حملوا معهم تقاليدهم، وردّدوا في سهراتهم ومجالسهم أساطير وأخباراً عرفها الشرق القديم كلّه. هؤلاء العبرانيّون، أجداد اليهود، كانوا يدينون بالوثنيّة مثل سائر الشعوب على ما جاء في سفر يشوع (24: 2)، ولكنّ الله أعلن لهم أنّه الإله الواحد، فكشف عن ذاته لإبراهيم وللآباء، ثمّ لموسى وللأنبياء، فعرف الشعب العبرانيّ في الأجيال السابقة للمسيح أنّه الشعب الذي يوحّد الله فيخالف في ذلك الشعوب المجاورة المشرِكة.
إنّ الشعب العبرانيّ يشترك وبقيّة الشعوب في المعارف التاريخيّة والجغرافيّة والطبيعيّة، وهو يستقي من معين الأخبار والأساطير التي انتشرت في الشرق كلّه. ولكنّه يختلف عن سائر الشعوب في الحقائق الدينيّة التي حصل عليها بوحي من الله على لسان أناس تحدّثوا إليه باسم الله. هذا التعليم الديني انتقل من الآباء إلى الأبناء بطريقة شفهيّة أو كتابيّة، فعبّر عنه "رجال الدين" بمفاهيم وصوَر أخذوها من محيطهم وعصرهم. إنّ الفكر الإنساني يحمل في داخله عالماً من الأفكار يلجأ إليها ليتصوّر المعارف التي يكتنهها. فإن كانت هذه المعارف جديدة كلّ الجدّة استعان بصور قديمة معروفة وحمّلها ما استطاع من المعاني الجديدة. هكذا يفعل العلماء والكتّاب والشعراء، وهكذا يفعل رجل الإيمان الذي يحسّ بأنّ الحقائق الجديدة تعارض الحقائق القديمة، وبأنّ عبادة الله الواحد تفترق عن عبادة الآلهة المتعدّدة. فلا نتوقّف على التعابير والصوَر، بل لنذهب إلى الحقيقة التي يريد الله إعلانها على البشر.
أيّ ضرر على الوحي والإيمان إن تصوّر العبرانيّون أنّ النور كائن مستقلّ عن الشمس، وأنّ الحيوانات الداجنة خلقت حيوانات داجنة، وأنّ الإنسان تكوّن من تراب الأرض؟ بهذه الصوَر فكَّر العالم السامي القديم، والعبرانيّون منهم، فلا يجدوا ما يعارض ديانتهم التوحيديّة أو يؤثّر على حقيقة الإيمان التي يعلن عنها الكتاب، فاخذوا هذه الصور وجعلوها إطاراً لتفكيرهم وإيمانهم.
هذا التعبير عن الإيمان بلغة الإنسان نسمّيه تجسّد الوحي. فكما أنّ الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس اتّخذ جسداً من مريم العذراء، مع ما في هذا الجسد من ضعف، هكذا تتّخذ الحقيقة التي يعرّفنا إيّاها الله شكلاً بشريّاً وكما نميّز في يسوع المسيح بين الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة نميّز هنا بين الحقيقة الدينيّة والتعبير عن هذه الحقيقة الدينيّة. فالحقيقة الدينيّة وحي من الله، والتعبير عنها عمل بشريّ، ومهمَا اجتهد الإنسان فلا يستطيع أن يعبّر تعبيراً كاملاً عن هذا الوحي. وهو سيلجأ إلى وسائل بشريّة ضعيفة ليعبّر عن حقيقة الوحي الإلهي. من هذه الوجهة نفهم أنّ الكتاب المقدّس هو لقاء حقيقة الله بتعبير البشر.
2- نظرة أنتروبولوجيّة إلى الإنسان في الكتاب المقدّس
يتميّز الإنسان عن سائر الخلائق بطبيعته ومصيره. فإنّ الحيوان يسعى إلى إشباع حاجاته البيولوجيّة الجسديّة فحسب، أمّا الإنسان فيسعى إلى تحقيق ذاته، لأنّه أكثر من حيوان متطور.
مصير الإنسان أو الهدف الذي إليه ينتهي، هو أنْ يحقّق طبيعته، والطبيعة والمصير يعبّران عن بنية الكائن البشريّ وهما يترابطان بطريقة حميمة، فلا نستطيع أن نعزل الواحدة عن الآخر. فالعلم الذي لا ينظر إلاَّ إلى عالم الطبيعة يتوقّف عند عالم الأخلاق ولا يتعدّاه، ويمكن للدين أن تكون نظرته إلى الإنسان نظرة مجرّدة تنسى أبعاداً مهمّة من طبيعته. لكنّ الكتاب المقدّس لا يقول لنا: كيف صنعنا الله، بل يقول لنا: مَن نحن، وما هو مصيرنا؟
على ضوء ما سبق نستخلص من قصّة الخلق في سفر التكوين أنّ كلّ ما خلقه الله قبل الإنسان إنّمَا خلقه ليهيّئ مجيء الإنسان. فالإنسان هو سيّد المملكة التي خلقها الله، وفيه نفخ نسمة من روحه. أمّا نظرة الكتاب المقدّس إلى المرأة فهي متأثّرة بالظروف الاجتماعيّة التي تعرّف إليها الكاتب الملهم وسنجد صدىً لتعليمه في رسالة القدّيس بولس إلى أهل أفسس (5: 21- 22) وإلى أهل كورنثس الأولى (11: 3).
وهذا التعليم سيكون أساس البرهان عند مفكّري القرون الوسطى على أنّ طبيعة المرأة هي دون طبيعة الرجل، وهذا ما لا يرضاه تعليم الكنيسة اليوم.
ماذا يقول العهد القديم عن طبيعة الإنسان؟ لا نجد فيه تعليماً كاملاً، بل نكتشف بضع كلمات نفهمها داخل الإطار الدينيّ والأخلاقيّ في الكتاب المقدّس. نقرأ كلمة "بثر" (في العربيّة بشر. البشرة: ظاهر الجلد) وتعني الجسم واللحم، تمّ كلمة "نفش" (النفَس هو نسيم الهواء الذي يدخل ويخرج من فم الحيّ، والنفس هي الشخص) وكلمة "روح" (ما به حياة الأنفس. والريح هي الهواء ونسيم كلّ شيء). ويقابل الكتاب بين الجسم واللحم من جهة وبين النفس والروح من جهة ثانية. ويبدو أنّ النفس هي ما يعبّر عن حياة الإنسان على الأرض، أمّا الروح فتعبّر عن علاقات الإنسان بالله. النفس تسكن الدم، بل هي الدم، وقد نكتشفها من خلال حياة الحيوان.
قال سفر التكوين (1: 26) إنّ الله خلق الإنسان على صورته. وهذا التعبير نجده في سفر الحكمة (2: 23، خلق الله الإنسان خالداً وصنعه على صورته) وفي سفر يشوع بن سيراخ (17: 3، ألبس الإنسان قوّة بحسب طبيعته وصنعه على صورته) في معرض حديثهما عن خلق الإنسان رجلاً وامرأة وعن الرسالة التي أوكلها إليه.
يذكر القدّيس بولس خاصة في رسالته إلى أهل روما (6: 9؛ 7: 5؛ 8: 3...) "الجسم" و"اللحم" ليدلّ على ضعف الإنسان، أمّا النفس فهي مبدأ الحياة، والروح هو مَن يعمل عمل الله في الإنسان.
ويفسّر آباء الكنيسة فصول سفر التكوين الأولى فيقول يوستينوس ليس الخلود ميزة خاصة بالنفس، الخلود لله وحده. أمّا الحياة التي فينا فالنفس تملكها لأنّها تشارك الله في حياته. ويقول أكليمنضوس الإسكندريّ: قد يكون في طبيعة الإنسان صورة الله وشبهه. ولكن لا بد من التمييز بين الصورة والشبه. كلّ إنسان على صورة الله بالخلق ولكن لا يملك الشبه بالله إلاَّ الذين يعيشون في حالة البرارة والنعمة. فعلى الإنسان المخلوق على صورة الله أن يرضي الله في حياته ليحصل على هذا الشبه بالله.
ويشرح غريغوريوس النيصيّ نصوص سفر التكوين في كتابه "خلق الإنسان" فيقول: عندما خلق الله الكون أراد أن يكون هذا الخلق تهيئة لمجيء الإنسان. فالإنسان صورة الكون لأنّه صورة الله المالك على الكون. ليست عظمة الإنسان في أنّه صورة مصغّرة عن الكون فحسب. عظمة الإنسان الحقيقيّة تكن في أنّه صورة الله والوسيط بين الله والكون. أمّا أثناسيوس، أسقف الإسكندريّة فيقول: الإنسان هو على صورة الله لأنّ نفسه خُلِقت على صورة الله ومثاله. وهذا الشبه بالله يجعل النفس تنظر إلى ذاتها، كما في مرآة، الكلمة ابن الله. الخطيئة تحرم النفسَ النظرَ إلى الكلمة، ونعمة الله توصل النفس إلى معرفة الكلمة.
ونستنتج من هذه النصوص وغيرها أنّ الإنسان وحدة عميقة تتكوّن من عنصرَين اثنَين: النفس والجسد، أو العنصر الروحيّ والعنصر المادّيّ. فلا انفصال أو ثُنائيّة في الإنسان بل وحدة تامّة، إذ ليس الإنسان نفساً أو جسداً، بل هو نفس وجسد. والجسد ليس الينبوع الوحيد لكلّ شرّ يقترفه الإنسان، كما قال فلاسفة اليونان وتلامذتهم، فالجسد يشترك مع النفس في الخير والشرّ وكلاهما خليق بالثواب والعقاب. كلّ ما خلقه الله كان حسناً، ولو كان الجسد شرّاً لَمَا خلقه الله. بالإضافة إلى ذلك فسرّ التجسّد يفهمنا أنّ ابن الله المتأنّس أخذ جسداً من بني البشر ليدلّنا على عظمة الجسد الذي سيتمجّد في القيامة الأخيرة.
ما هي علاقة الإنسان بالعالَم الفائق الطبيعة؟ يتوزّع اللاهوتيّون في معالجهَ هذه العلاقة إلى اتجاهَين اثنَين. قال الأوّلون: لم يكن في طبيعة الإنسان ما يهيّئه مسبقاً ليتقبّل غنى العالم الفائق الطبيعة الذي وهبه الله إياه. إنّ الإنسان لا يفترق عن أيّة خليقة في علاقته بالله، وتبقى المسافة غير محدودة بين الله وأيّة خليقة ومنها الإنسان، غير أن الله شاء بإرادة مجّانيّة أن يرفع الإنسان إلى عالم السماء. وقال الآخرون: عندما خلق الله الإنسان جعل في طبيعته استعداداً لتقبّل العالم الفائق الطبيعة، غير أنّ هذا لا يعني أنّ الإنسان يستطيع بقواه البشريّة أن يصل إلى مقام جدير بالله وحده، لولا أنّ الله وضع في الإنسان هذه القوّة وخلقه على صورته ومثاله. وفي هذا السبيل يقول نيميسيوس الحمصيّ: النفس هي من سلالة الله، وهي بذار الله الذي يعطي الجسد الحياة. أمّا وحدة النفس بالجسد فهي وحدة جوهريّة، كوحدة اللاهوت والناسوت في يسوع المسيح، لأنّ النفس هي على صورة الكلمة المتجسّد.
3- البرارة الأصليّة
أولاً: حالة البرارة
تعلن الكنيسة في إيمانها أنّ الله خلق الإنسان بطريقة مباشرة وصنعه على صورته ومثاله ليعيش معه في صداقة حميمة. ثم أراد اللاهوتيّون أن يبحثوا عن مضمون البرارة الأصليّة انطلاقاً من نصوص الكتاب المقدّس وبعض الأساطير القديمة.
ما هي البرارة الأصلية؟ هي حالة من النعمة يعيش فيها الإنسان مع ما يرافق هذه الحالة من ابتعاد عن الألم والموت ومن امتلاك للحياة والمعرفة.
يقول سفر التكوين إنّ الله خلق الإنسان في حالة من السعادة وجعله ملك الخليقة وسيّدها. هي حالة من البرارة لا نفهم معناها وإن كنّا نستشفّ حقيقتها عندما نقابلها بما وصل إليه آدم وحوّاء بعد الخطيئة. كان أبوانا الأوّلان يعيشان مع الله في عالم من الثقة البنويّة، ولكنّ هذا لا يعني أنّ الخلود كان ثمرة هذه الحياة البنويّة. فالكتاب لا يوضح لنا الطريقة التي كان الله سيجازي بها الإنسان لو لم يخالفه الوصيّة، بل يبيّن لنا أنّ الإنسان خضع بعد الخطيئة للمرض والألم والشيخوخة وصار مصيره الموت.
تذكر نصوص سفر الحكمة (1: 13- 14؛ 2: 23- 24؛ 10: 1- 12) ويشوع بن سيراخ (40: 1- 11) أنّ الإنسان المخلوق على صورة الله لا يمكنه أن يتعرّض للموت والفساد، لأنّ الألوهيّة والخلود أمر واحد بالنسبة إلى المحيط الهلّينيّ الذي كتب فيه هذان السِفران.
أمّا القدّيس بولس فينطلق خاصة في رسالته إلى الرومانيّين (ف 5- 8) من حالة الإنسان الحاضرة، أي حالة الخطيئة فيقابل آدم بالمسيح ويشدّد على العلاقة بين الخطيئة والموت، ولكنّه لا يلمّح إلى خلود الإنسان في بداية الكون، لأنّه لا يتطرّق إلى الحقيقة المجرّدة، بل إلى الحقيقة المتجسّمة في التاريخ: خطئ الإنسان فخضع للموت.
استفاد آباء الكنيسة من هذه المعطيات الكتابيّة وأغنوها بما قرأوا في التقاليد اليهوديّة عن آدم وحوّاء وفي التقاليد اليونانيّة عن عصر ذهبي عاشه الإنسان الأوّل. فقال القدّيس إيريناوس في جوابه على الغنوصيّين الذين يقولون إنّ الله خلق الخير والشر ّكلَيهمَا، قال: "قبل الخطيئة عاش أبوانا الأوّلان في حالة من السعادة والبرارة". وفي إثره انطلق تقليد يشدّد على نظرة أنتروبولوجيّة إلى الإنسان تربط ارتفاع آدم إلى الحياة الفائقة الطبيعة بنظام الخليقة كما كوّنها الله منذ البداية. وانطلق تقليد آخر من أوريجانيس فشدّد على صورة الإنسان المثاليّ المنزّه عن كلّ شهوة جامحة، والخالي من كلّ بذار فساد، والحامل موهبة المعرفة الشاملة. وفي هذا الخطّ حدّد القدّيس أغوسطينوس حالة البرارة بالبعد عن كلّ ميل إلى الشرّ والخلوّ من كلّ ما يقيّد الحريّة كالجهل والضعف البشريّ، وقال إنّ علامات البرارة الأصليّة هي ثلاث: العلم والكمال والخلود.
ثانياً- العناصر التي تكوّن حالة البرارة الأصليّة
عندما نرجع إلى الفصل الثالث من سفر التكوين نلاحظ ثلاثة أمور: نظرة إيمان إلى حالة الشقاء التي تعيشها البشرّية، وتعليم ينبع من نظرة إلى وراء تاريخيّ عاشه الكاتب الملهم، ورواية تعرض هذا الواقع بطريقة فنيّة وتعبّر عن هذا الإيمان بصوَر وتشابيه لتجعله قريباً من أذهان الناس.
أراد الكاتب في رواية السقطة الأولى أن يدافع عن الله الخالق، كما أراد في رواية الخلق أن يبرهن على أنّ كلّ ما خلقه الله كان صالحاً وحسناً. وهكذا فالألم الذي يحزننا والموت الذي يخيفنا كانا الجزاء على عصيان أبوَينا الأوّلين. لقد أراد الإنسان لنفسه هذه الحالة التعيسة بإرادة واعية وحريّة كاملة، وانتقل الألم والموت به إلى كلّ الجنس البشري. ونتوقف على العناصر التي تميّزت بها حياة آدم وحوّاء قبل السقوط في الخطيئة.
- خلود النفس ودوامها: خلق الله الإنسان مائتاً بطبعه وقد قال له: أنت تراب وإلى التراب تعود. أمّا الخلود الذي وعد به الله أبوَينا الأوَّلَين كامتياز لا يُقدَّر ونعمة ثمينة، فهو يتمثّل في شجرة الحياة. يقول الآباء إنّ شجرة المعرفة هي أساس العلم الذي لا حدود له وشجرة الحياة هي أساس الحياة التي لا نهاية لها. وهكذا كان آدم وحوّاء منزَّهَين عن الموت، لا لأنَّهما حصلا على الخلود بفضل طبيعتهمَا، بل لأنّ الربّ أعطاهما نعمة الخلود. ونتساءَل: ماذا كان سيحدث لو لم يخطئ أبوانا، فنجيب، قياساً إلى ما نقرأه في تعليم القدّيس بولس عن القيامة (كور 15: 35- 38) ونقول: لو حصل ذلك لَعاش الإنسان عدداً من السنين ثم انفلت من سلطة القوانين البيولوجيّة قبل أن ينتقل إلى عالم آخر. بعد أن يتطوّر الجسم بشكل لا يمكننا أن نتصوّره، يصير إلى حالة الأجسام الممجّدة.
- كمال الإنسان وسموّ فضائله: بهذه الميزة نعني أنّ الإنسان منزّه عن كل ميل شرّير وهو يعيش توازناً داخليًّا يجعله ب هل هذا التنازع الداخليّ بين الخير والشرّ، بين الحياة والموت. الإنسان الكامل لا يشعر بميل إلى الشرّ، بل يحسّ باندفاع إلى الخير وحسب. هذه الحقيقة صوّرها الكاتب الملهم عندما تحدّث عن عري أبوَينا الأوّلين. قبل الخطيئة لم يكن عريهمَا ليبعث فيهمَا حياءً أو خجلاً. بعد الخطيئة أحسّا بالحياء، وخجل الواحد من الآخر فذهبا يستران عريهمَا حتى لا يظهرا في هذه الحالة أمام الله.
- الراحة والبُعد عن الألم: جعل أبوانا في الفردوس الذي صار لهمَا إطاراً لسعادة ينتفي منها كل تعب وعناء. لا شكّ في أنّ الله وضع آدم في الفردوس ليفلحه ويحرسه، وأنّ الإنسان أطاع ربّه فعمل كأيّ فلاّح في أرضه فاستخرج الإمكانات المخبّأة في الخلائق، وربط الكائنات بعضها ببعض أب نظام جديد. ولكن عمله كان متعة ولذّة، فما أحسّ بتعب ومشقّة إلاّ بعد الخطيئة ففهم كلام الربّ: بعرق جبينك تأكل خبزك. وكما أحسّ الرجل بالعناء في عمله، كذلك رافقت الآلام أوقات الحبل والولادة عند المرأة، وامتزج الحبّ بينهمَا بالغريزة الشهوانيّة التي فيها يسيطر الواحد على الآخر بعد أن تسلّطت الأنانيّة على علاقتهمَا المتبادَلة.
- العلم والمعرفة عند الإنسان: يعتبر اللاهوتيّون أنّ أبوَينا الأوّلَين تمتّعا بمعرفة كاملة تساعدهما على الحياة مع الله وتعينهما، فيكون سلوكهما في الكون سهلاً، والعلاقة في ما بينهمَا مبنيّة على الاحترام المتبادل والثقة والتعاون. خلق الله آدم وحوّاء، فكانا كائنَين بالغَين في هذه الحياة ليستطيعا مشاركة الله في الحياة الفائقة الطبيعة التي يدعوهما إليها.
- التسامي إلى الحالة الفائقة الطبيعة: عاش أبوانا الأوّلان تربطهمَا بالله علاقة حميمة وصداقة متينة، فتميّزا بحالة البرارة والقداسة. هذه الحالة نستشفّها من كلام الكتاب الذي صوّر لنا الربّ يتمشّى عند نسيم النهار (3: 8) ليتحدّث إلى آدم حديث الصديق لصديقه. ونفهمها من كلام القدّيس بولس عن الإنسان الجديد الذي يتجدّد في المعرفة على صورة خالقه (كو 3: 9) فيخلع الإنسان القديم وكلّ أعماله، ويتخلّص من كلّ ما فيه غضب ونقمة وخبث وشتيمة.
كلّ هذه الامتيازات جعلت طبيعة الإنسان تتكيّف لتسمو إلى مصيرها الفائق الطبيعة، وأبرزت كرامة الإنسان فلم يعد خليقة من الخلائق فحسب، بل صار ابن الله والمسلّط باسمه على كلّ الكائنات. ولكن، لمّا جاءت الخطيئة، قطعت رباطنا بالله وقتلت صداقتنا معه، فلم يبقَ شيء من هذا الجمال الذي وهبه الله للإنسان بصورة مجانيّة. فصار الإنسان عرضة للموت، وسيطرت عليه غرائزه وميوله السافلة واستعبدته. ولكن بمجيء المسيح ستتجدّد البشريّة وتظهر شجرة الحياة التي تعني القداسة المعادة إلى الإنسان: هنيئاً لمن يعملون بوصايا الله "ليكون لهم سلطان على شجرة الحياة" (رؤ 22 : 14).
نستنتج إذاً من الكلمة القائلة إنّ الإنسان مخلوق على صورة الله، أنّ هذه الصورة كانت كاملة قبل الخطيئة وأنّ صداقة الإنسان مع الله كانت أساس دعوته إلى حياة دائمة معه. ولكننا لا ننسى أنّ الإنسان البارّ يبقى إنساناً بكلّ معنى الكلمة، فيعمل كفلاّح في أرضه ويعيش في عائلة ويرتبط بامرأة ويكون لهمَا أولاد، ويكون له في نفسه إدراك وإحساس وشعور وميل جنسيّ واجتماعيّ، وتكون بين الناس فوارق اجتماعيّة وعاطفيّة وفكريّة تجعل الواحد يتميّز عن الآخر فيكمّل الآخر.
والنظرة إلى الفردوس ليست نظرة إلى الماضي الذي نحنُّ إليه وحسب، بقدر ما هي نظرة إلى المستقبل الذي نتوق إليه. وهذا يعني أنّ الإنسان يتطلعّ إلى سعادة تأتيه في الأيّام المقبلة فيتصوّر هذه السعادة التي ينتظرها وكأنّها كانت حاضرة في الماضي فخسرها، وها هو يبحث عنها. وهكذا نفهم كلمة القدّيس أغوسطينوس: "خلقتنا لك يا ربّ ولا يزال قلبنا قلقاً مضطرباً إلى أن يستريح فيك". ونقول: الله خلقنا للسعادة معه، ولن نزال نتطلعّ إلى هذه السعادة رغم حياة الشقاء التي نعيشها. إنّ الإنسان يحسّ أنّه في هذا العالم كائن محدود ضعيف يسيطر عليه الجهل والألَم والخطيئة والموت والمرض والميل الجنسيّ، ولذا فهو يتطلعّ إلى اللامحدود، إلى وقت يتخلّص فيه من محدوديّته وضعفه فتعود إليه صورة الله كما كانت في البدء، ويعيش مع الله حياة حميمة. هذه هي حالة البرارة التي خسرها الإنسان بخطيئته وسوف تعود بطريقة أفضل عندما يحصل على نعمة المخلّص. الله خلقنا بطريقة مدهشة وخلّصنا بطريقة أدهش.
وخلاصة القول: كما أنّ الربّ أعطى الإنسان الفردوس ليزرعه ويفلحه ويجني خيراته، هكذا يجب على الإنسان أن ينظر إلى الجهل الذي فيه فيقلبه معرفة، والضعف الذي فيه فيجعله قوّة، والمرض الذي فيه فيحوّله إلى صحّة، والموت الذي فيه فيصيّره حياة بنعمة يسوع الذي مات وعاد إلى الحياة بعد أن تغلّب على الموت.
4- الخطيئة الأصلية
عندما يتحدّث الناس عن الخطيئة الأصليّة يذكرون لك التفّاحة والحيّة والمرأة ويبتسمون، تم يقولون: إنّ ما نقرأه في الكتاب المقدّس عن الفردوس والخطيئة الأصليّة هو مجرّد أساطير تحكي عن تفّاحة أو ثمرة محرّمة. ويحدّثك بعضهم عن عدالة إله عاقبَ الإنسان الأوّل والبشريّة جمعاء بسبب زلّة بسيطة.
ولكنّ الكاتب الملهم أراد، عبر هذه الصوَر والتشابيه الموضوعة في رواية، أن يحدّثنا عن أصل الشرّ وأسبابه. وهو يتساءَل: هل الله هو أصل الشرّ؟ هل توجد قوًى شرّيرة تعادي الله وتفشّل مخطّطه؟ هذه الأسئلة ترتبط بفكرة وجود الله وطبيعته، والجواب عنها يؤثّر على إيمان الكثيرين. فلا بدّ لنا إذاً، ونحن نقرأ الفصل الثالث من سفر التكوين، من أن نتوقّف على الصوَر والتشابيه لنكتشف من خلالها حقائق الإيمان، فنتعرّف إلى إله قريب من الإنسان تربطه به علاقات من المحبّة المتينة.
ونودّ أن نرجع إلى النصوص لنقرأ ما تقوله لنا عن الخطيئة الأصليّة.
أوّلاً: الحوار بين الحيّة وحوّاء... نلاحظ أنّ الحيّة هي التي تتكلّم، لا الشيطان الساكن فيها. لماذا جعل الكاتب الحيّة تتكلّم؟ لأنّ خبرة البريّة علَّمته الكثير عن هذا الحيوان المحتال الذي كثيراً ما يجلب معه الموت. إنّ الحيّة هي، بالنسبة إلى اليهوديّ المؤمن، رمز عبادة الأوثان وقد وقع فيها مراراً مقتفياً عادات الكنعانيّين. وعندما يذكر الكاتب الحيّة فهو يعبِّر عن احتقاره لإلهٍ يعبده الكنعانيّون، ويبيّن للمؤمنين أنّ هذا الحيوان الحقير ليس إلهاً من الآلهة، بل خليقة الله. فن سحر بحضور الحيّة يكون كمن تخلّى عن إيمانه بالإله الحيّ واتَّبع عبادات الأوثان الكنعانيّة.
هذا هو الشرّ الذي يختفي وراء الحيّة: يخون المؤمن ربّه ويتعبّد للأوثان فيعصي أولى وصاياه: أنا هو الربّ إلهك، لا يكن لك إله غيري... لا تصنع لك منحوتاً ولا صورة (خر 20: 2- 4) وإذا عرفنا أنَّ ذبائح الوثنيّين هي ذبائح للشياطين، لا لله (1 كور 10: 20) فهمنا العلاقة بين تماثيل الحيّة التي تعرَّف إليها العبرانيّون وعبدوها عند الكنعانيّين والشيطان الذي يتكلّم بلسان الحيّة فيجعل الإنسان يخون ربّه ويعصي أوامره.
ثانياً: أكل الإنسان من الشجرة المحرّمة ففهم أنّه لم يصبح حكيماً محتالاً كالحيّة، ولا حكيماً عليماً كالله. لقد خسر كلّ الغنى الذي كان يتمتعّ به فصار عرياناً في عينَيه وفي عين الله. وعندما يستجوب الله الإنسان الخاطئ الواقف في حضرته، نتعرّف عبر الصوَر البسيطة إلى نفسيّة الإنسان الذي عرف إلى أين وصلت به حالته، وإلى رجه الله الذي ما زال يهتمّ بالإنسان رغم إعلان القصاص العادل. يطرد الله الإنسان من الفردوس، وهذا يعني أنّه لا يحقّ له خلال حياته أن يدخل بيت الله ويتمتعّ بالحضور الإلهي الذي هو منتهى سعادة المؤمن. فإذا كان الفردوس بيت الله ومسكنه (خر 25: 18- 25) والكروب حارس البيت، فمنتهى شقاء اليهوديّ المؤمن هو أن يمنعه مانع من دخول بيت الله. وإذا كان المقيمون في "الجحيم" بعيدين عن الله لا يرون وجهه ولا يسبّحونه (مز 114: 17)، فآدم البعيد عن الله صار في عالم الموتى.
وهكذا نفهم أن رواية الخطيئة وطرد آدم من الجنّة هي تفسير للماضي انطلاقاً من الحياة الحاضرة. ويتساءَل المؤمن: كيف دخل الشرّ إلى العالم؟ كيف استطاع الإنسان أن يفعل الشرّ؟ ما دور الشيطان في مقاومته لله وعداوته له، ما خطيئة أبوَينا الأوّلَين في الفردوس؟
يشدّد الكاتب أوّلاً على أنّ الإنسان كان حرّاً عندما اختار الطريق التي تصرفه عن الله. وشجرة معرفة الخير والشرّ هي رمز عن هذا الاختيار الحرّ. إنّ الإنسان مخلوق على صورة الله، وفيه تنعكس حريّة الله المطلقة. وشبهه بالتل يعطيه مجداً وكرامة، ولكنّه يحمل في داخله خطر استعمال الحريّة في غير طريقها. يستطيع الإنسان أن يتصرّف بحرية، وهذه عظمته، ولكنّه يستطيع أيضاً أن يوجّه حريّته ضدّ الله فيسلك طريقاً يخالف وصايا الله، وهذا هو الخطر الذي يهدّده. يستطيع الإنسان أن يختار طريق الله أو طريق الشرّ فيصبح ضميره ساحة حرب ستنتهي مع آدم بالوقوف بوجه الله والتمرّد عليه وعصيان أوامره. وهذا ما عبّر عنه الكاتب الملهم عندما قال إنّ الإنسان أكل من شجرة المعرفة، الشجرة المحرّمة، فصوّر موقفاً داخليّاً نابعاً من أعماق ضمير الإنسان بطريقة يفهمها الإنسان.
ويتساءَل الكاتب: لو لم يكن الشيطان هنا ليدفع الإنسان إلى الخطيئة، هل كان الإنسان رفض انته هذا الرفض القاطع؟ فيتصوّر حوار الإنسان بينه وبين نفسه، بينه وبين قوى الشرّ بشكل دراماتيكيّ جعل فيه الحيّة تكلّم حوّاء. فالخطيئة الأولى التي هي أصل كان الخطايا هي واقع وحقيقة وهي خطيئة كبرياء واكتفاء ذاتيّ وعدم إيمان بالله وعصيان لأوامره، ولهذا نسمّيها الخطيئة الأصليّة لأنّ كلّ الخطايا الباقية تنبع من هذا الموقف الأساسيّ: هل سنختار الله أم سنختار إرادتنا الخاصّة، وهذا هو أساس كلّ خطيئة؟
ثالثاً: يذكر الكاتب الحوار بين الله والإنسان بعد الخطيئة، فيبيّن الندم الذي يفعل فعله في قلب الإنسان، ويعبّر بهذه الطريقة عن تصرّفات ضمير الإنسان الخاطئ الذي يهرّب من مسؤولية الخطيئة ليحمّلها غيرَه ويبرهن على براءَته. إتّهم آدم حوّاء، واتّهم من خلالها الله الذي أعطاه عوناً بإزائه فصار هذا العون "عدوّاً" يدفعه إلى فعل الشرّ. واتّهمت حوّاء الحيّة: الحيّة أغوتني فأكلت، وكأنّي بها تقول للربّ: أنت أرسلت الحيّة تجرِّبني. أمَا نعتبر نحن اليوم أنّ الله يتحمّل وجود الشرّ في العالم لأنّه لا يفعل المستحيل ويظهر قدرته الفائقة، وننسى أنّه خلقنا أحراراً، وأنّنا بتصرفنا الحرّ نملأ الأرض حرباً وقتلاً ودماراً؟
تم يصوّر الكاتب الحكم على آدم وحوّاء، وعلى الحيّة والأرض، بطريقة تعبيريّة: بعرق جبينك تأكل خبزك، بالآلام تحبلين، على صدرك تسلكين، ملعونة هي الأرض. ونتساءَل: هل كان الرجل يعمل بلا تعب قبل الخطيئة الأصليّة، وهل كانت المرأة تحبل دون أن تحسّ بألم الحبل والولادة؟ هل صارت الأرض ملعونة بعد أن كانت مباركة وهل كان للحيّة قوائم قطعت بسبب الخطيئة فصارت تسير على بطنها وتأكل من تراب الأرض من أعشابها؟ إلى هذه الأسئلة أجاب الكاتب الملهم بطريقة رمزيّة تعبيريّة، وكما لجأ إلى صورة الواحة في الصحراء والجنّة في البرّية فعبّر عن سعادة أبوَينا الأوّلَين، كذلك لجأ إلى هذه الرموز ليعبّر عن حالة الدمار والخراب التي لحقت بالإنسان من جرّاء الخطيئة. لا شكّ في أنّ الإنسان يتعب وهو يحرث حقله، كما أنّ المرأة تتألّم عندما تحمل وتلد، غير أنّ الكاتب أراد أن يبيّن لنا أنّ العالم الذي نراه لا يشبه العالم الذي خلقه الله. أراد الإنسان أن يبني سعادة خاصّة به، فتخلّى عن السعادة التي أعدّها الله له، فكانت نتيجة محاولته عالماً بعيداً عن الله تملأه الفوضى والآلام والكوارث. أجل يقول الكاتب، لقد صار الإنسان بعمله سبب شقائه وشقاء الكون كلّه.
رابعاً: وطرد الله الإنسان من الفردوس، فوجد نفسه في عزلة يائسة ولَّدها غياب الله. إذا كانت الحياة في الجنّة تدلّ على سعادة الإنسان العائش في حضرة الله، فالطرد من الجنّة يدلّ على شقاء الإنسان البعيد عن الله. إنّ الله موجود في كلّ مكان، في الجنّة حيث الوفر والغنى، وخارج الجنّة حيث تنبت الأرض شوكاً وقطرباً. وهكذا لا يستطيع أحد أن يكون خارجاً عن الحضور الإلهي. ولكن هذا الحضور يملأ قلب الصالحين سعادة ويكون للخاطئين مصدر قلق وألم. كم يودّ الخاطئ أن يتهرّب من حضور الله في حياته، ولكن عبثاً يحاول. هذا ما يقوله المزمور (139: 7- 8).
إلى أين أذهب من روحك
وأين أهرب من أمام وجهك؟
إن صعدت إلى السماء، فأنت هناك.
وإن رقدت في الجحيم، فأنت حاضر.
إذاً الله حاضر في حياة الإنسان قبل السقطة وبعدها، الله حاضر في الفردوس وخارجه؟ الله حاضر في العالم كلّه. ولكن حضوره على الخاطئ يذكّره دوماً بحالة العداوة القائمة بينه وبين ربّه، فيودّ أن يتهرّب من هذا الحضور، أن يختبئ، أن يخرج من الفردوس، رمز حضور الله في الكون.
خامساً: تطلعّ الكاتب إلى تاريخ البشرّية فرأى الجرائم والحروب والأمراض والآلام. وتساءَل: أين هو الإله الصالح المحبّ، ولماذا لا يتدخّل في مسيرة الكون؟ إذا كان الله حاضراً في الكون، لماذا لا يشعر الناس بحضوره؟ ويأتي جواب الله عبر الوحي: الله حاضر في الكون، ولكنّ الإنسان غائب، يتهرّب من اللقاء بالله ويختبئ عنه. وإذا كان الإنسان شقيّاً فسبب شقائه هو بعده عن الله. غير أنّه رغم عصيان الإنسان له وتمرّده عليه، لا يترك الله الإنسان في حالته الشقيّة التعيسة، ولا يسمح بأن يتخبّط إلى الأبد في ما هيّا لنفسه من قصاص وعذاب. هناك بصيص أمل يشعّ من خلال كلمات الله: أجعل عداوة بينك وبين المرأة...
إن هذه الكلمات تبقى غامضة، ولكنّ العهد القديم انطلق من هذه الكلمات فتطلعّ إلى المخلّص المنتظر (49: 11) وقرأت الكرازة المسيحيّة الأولى في هذا الإعلان أُولى البشارات السارّة عن الخلاص الذي تتطلعّ إليه شعوب الأرض

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM