الفصل الثاني: رواية الخلق بحسب التقليد اليهوهيّ

الفصل الثاني
رواية الخلق بحسب التقليد اليهوهيّ
(2: 4- 25)

أ- المقدّمة:
1- رواية يرويها الكاهن في إحدى أروقة الهيكل على المؤمنين بعد أن تناقلتها أجيال وأجيال، وها هو الكاتب الملهم ينقلها كما وصلت إليه بطريقتها القديمة التي تعود بنا إلى عالم الشرق، وبأسلوبها الخياليّ الذي يحمل أفكارنا وقلوبنا إلى فردوس يقع في مكانٍ ما من الأرض، وبصوَرِها الحلوة التي ترسم أمامنا لوحة عن أوّل عيلة على الأرض مكوّنة من آدم المأخوذ من الأرض، ومن حوّاء، أمّ الأحياء، المأخوذة من ضلع رجُلِها لأنّها قطعة من قلبه وفلذة من فؤاده.
2- بعد أن قرأنا أناشيد الخلق بحسب الرواية الكهنوتيّة وفيها خلق الله كلّ شيء قبل أن يخلق الإنسان مهيّئاً الكون كلّه لاستقبال من سيكون ملكه وسيّده باسم الله، ها نحن نقرأ في هذا الفصل رواية الخلق بحسب التقليد اليهوَهيّ. يخلق الله أوّل ما يخلق الرجل ويطلب منه أن يساعده في فلاحة الأرض وزراعتها وريِّها. دميم الرجل في الفردوس ومعه كلّ نبات وكلّ حيوان ولكنّه يحسّ بالعزلة. فيخلق له الربّ المرأة لتكون بإزائه وشريكة حياته.
3- ويقدّم لنا الكاتب احتفالاً ليتورجيّاً اعتاد الكهنة أن يقوموا به في الهيكل عندما يتقدّم شابّ بطلب يد فتاة فيلتمس بركة الربّ قبل أن يبدأ حياة جديدة. فيذكّره الكهنة في محيط عرف الطلاق وتعدّد الزوجات، بأنّ الله خلق العيلة، خلق الرجل والمرأة واحداً قبل أن يكونا اثنَين، وأنّ الرجل يضحّي بكل شيء من أجل امرأته: يترك أباه وأمّه ليتّحد بامرأته وهو لا ينفصل عن تلك التي رافقته في شبابه والتي ستدفن معه في قبر واحد. كان الكاهن شاهداً يوم تزوّج الرجل والمرأة ولكنّ الربّ بنفسه كان شاهداً وهو يطلب من الرجل أن لا يغدر بقرينته وامرأة عهده (ملا 2: 14).
4- إنّ بعض الشرّاح الذين حاولوا تحليل النصّ بطريقة أدبيّة وجدوا بعض التكرار في هذه الرواية فاعتبروا الخبر خبرَين قديمَين دمجا في ما بعد. فالنصّ يقول إنّ الله غرس جنّة ووضع فيها آدم (2: 8) ثم يقول مرة ثانية (2: 5) إنّ الرب أخذ آدم ووضعه في جنّة. ونقرأ مرة أولى أنّ لباس الإنسان كان ورق تين خاطه الإنسان لنفسه (3: 7) ومرة ثانية أنّ لباسه كان من جلدٍ ألبسه الله إيّاه (3: 17) أمّا الشجرة فهي تارة الشجرة إطلاقاً (3: 3، 6) وتارة شجرة الحياة (2: 9، 3: 22) وتارة أخرى شجرة معرفة الخير والشرّ، (2: 9، 17). لا شكّ في أنّ الكاتب الملهم استقى العناصر التصويريّة من مصادر متعدّدة، ولكنّ فكرته الواحدة النابعة من إيمانه تدفعنا إلى قراءة النصّ كوحدة تامّة لنجد فيه تعليماً عن الإنسان الباحث عن الخلود وإن كان من التراب وإلى التراب يعود.
5- تبدأ هذه الرواية بمقدّمة (2: 4- 6) ترسم لنا حالة الكون. ويخلق الله الرجل ويجعله في الفردوس في جنّة عدن (آ 7- 17)، ويخلق المرأة التي هي مع الرجل أسمى مخلوقات الله والتي تتميّز عن مقتنيات الرجل لأنّها لحمه وعظمه (آ 18- 22)، وتنتهي الرواية بخاتمة (آ 25) تهيّئ القارئ لِمَا سيحدث في الفصل الثالث حين ينحطّ الرجل والمرأة بالخطيئة فيصيران عريانين ويعرفان الخجل الذي يعرفه أسرى الحرب المُقادين إلى المنفى بعيداً عن أرض الله وهيكله.
ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- المقدّمة: يوم عمل الربّ الأرض (2: 4- 6)
(آ 4): القسم الثاني من آ 4 يرتبط برواية الخلق بحسب التقليد اليهوهيّ بينما القسم الأوّل يختتم رواية الخلق بحسب التقليد الكهنوتيّ.
المزج بين كلمة "يهوه" و"ألوهيم" لا نجده إلاَّ في تك 2- 3 وكأنّي بالكاتب أراد أن يوفّق بين تقليدَين منفصلَين في بوتقة واحدة.
في هذه الآية يكتفي الكاتب بذكر السماء دون أيّ تفصيل عن الفلك والكواكب، وكأنّه لم يتساءَل ما هي العناصر التي دخلت في تركيب الكون كما في قصّة الخلق الأولى. هو يعرف أنّ الله خلق السماء والأرض، وهذا كافٍ للقصّة التي سيرويها والتي محورها الإنسان والأرض التي يسكنها، لهذا فهو يوجّه كلّ انتباهه إلى الأرض وخاصةً إلى العالم القريب منه والذي هو على صورة فلسطين التي يعيش فيها.
(آ 5) في البداية تظهر الأرض مهجورة يابسة، لا نبات فيها ولا أشجار، لأنّ المطر الخصب لم ينزل بعد، ومياه الريّ لم تصل إليها. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن الله قد خلق الإنسان لكي يفلحها ويزرعها ويرويها. تلك كانت حالة أرض كنعان في أواخر الصيف تنتظر المطر الذي هو عطيّة الله للبشر، أو الريّ حيث كان الريّ ممكناً.
(آ 6) تخرج المياه فتسقي الأرض
كلمة مياه تفسير للعبريّة "اد" التي تعني الغيم أو البخار (اي 36: 27) وتتّصل بكلمة "ادو" الأشوريّة التي تدلّ على الموج والسيل. ترجمت السبعينيّة اليونانيّة والسريانيّة البسيطة كلمة "اد" بالعين والينبوع فتحدّثتا عن سيل يخرج من الأرض ويسقيها كما سيخرج نهر من عدن ليسقي الجنّة. يبدو أنّ الكاتب عرف تقليدَين اثنَين، التقليد الأوّل يتحدّث عن الأرض التي تنتظر المطر لينبت عليها الزرع. والتقليد الثاني يتحدّث عن الخَضار الذي ينبت قرب الوديان وينابيع المياه.
2- خلقَ الله الرجل وجعله في الفردوس (2: 7- 17)
(آ 7) إنّ كلمة "جبل " (يصر بالعبرانيّة) يستعملها الني إرميا (18: 2) ليصوّر عمل الفخّاريّ الذي يكوِّن وعاء من الطين. الله يعمل كالفخّاريّ فيستعمل الطين المبلَّل ليصوّر الإنسان ويجعل له شكلاً. وآدم هو ذلك المستخرَج من الأرض. اسم آدم الذي يدلّ على الجمع يدلّ أيضاً على المفرد ويصبح اسم علم لأوّل رجل عاش على الأرض (4: 25؛ 5: 1، 2).
النسمة التي ينفخها الله في أنف الإنسان هي علامة الحياة، الإنسان يتنشّق الهواء بواسطة أنفه (اش 2: 22) وإن توقّف عن التنفّس توقّفت فيه الحياة. هذه النسمة هي الينبوع الإلهيّ الذي يعطي الحياة للإنسان ويجعله "نفساً حيّة".
فإن أخذ الله من الإنسان هذه النسمة، مات. وإن كان للحيوانات نفس حيّة مرتبطة بالله (7: 22؛ اي 34: 14 ي؛ مز 104: 29 ي). فليس لها مشاركة مع الله، وإنّ هي شاركت الإنسان الحياة الطبيعيّة فالإنسان يمتاز عنها ويفوقها بالحياة الروحيّة. (آ 8) هنا نبدأ الحديث عن جنّة عدن.
- ما معنى "جنّة" (في العبرانيّة "جن")؟ في العربيّة جنت الأرض: أخرجت زهرها وطال نبتها والتفّ، وهذا ما يدلّ على خصب الجنّة. ترجمتها السبعينيّة اليونانيّة بكلمة فردوس (والكلمة مأخوذة عن الفارسيّة) أي تلك الأرض المحاطة بجدار والبستان المسوّر لحماية الأشجار المثمرة فيه.
- أصل كلمة "عدن" يرجع إلى كلمة "أدين" التي نقرأها في اللغة المسماريّة وهي تعني واحة وسط الصحراء. أمّا في اللغة السريانيّة فالكلمة تعني التنعّم والرفاهية والسعادة وفي اللغة العربيّة تدلّ (عدن) على الاخضرار من غزارة الريّ ممّا يسبّب التمتعّ والتنعّم ورغد العيش. وهكذا تكون كلمة عدن رمزاً إلى السعادة التي يتوق إليها ابن الصحراء عندما يجد الماء والاخضرار والأزهار والأثمار.
غير أنّ هناك تيّاراً يجعل من عدن مكاناً معيّناً (2: 8- 10؛ 3: 23- 24؛ 4: 16؛ اش 51: 3؛ حز 38: 13؛ 31: 9). فتحدّثت الترجمة السبعينيّة عن فردوس في عدن، وقال بعضهم إنّ موقع الجنّة هو "شرقاً" (قدم في العبرّية)، أي شرقيّ منطقة كنعان وهو يعني بذلك الأرض الوّاقعة بين دجلة والفرات (كلمة "مقدم" التي نترجمها "شرقاً" تعني أيضاً منذ القديم).
وراح المفسّرون يبحثون عن موقع عدن، فتذكّروا بيت عدني الواقعة جنوب الرها والتي وردت في الكتابات الأشوريّة، وساروا على. خطى حزقيال (27: 23) ليروا أين تقع هذه "العدن" التي تاجرت معها صور، أو على خطى أشعيا (14: 12- 15) الذي جعل جنّة عدن على جبل الله في أقصى الشمال، أو فوق النجوم. إنّما يبدو أنّ تحديدات موقع عدن هي إلى الخيال أقرب منها إلى الواقع، ولهذا جعلت رؤيا باروك الفردوس في السماء ترب الله. وقال سفر عزرا الرابع إنّ الجنّة مخلوقة قبل العالم وهي مسكن المختارين. أمّا ترجوم أورشليم وتلمود بابل فقالا في تك 2: 7: "إنّ الجنّة خلقت قبل الأرض وبالتالي ليست على الأرض".
(آ 9) وأنبت الربّ أشجاراً حسنة المنظر وطيّبة المأكل. هذه هي صورة الواحة الخضراء التي تحدّثنا عنها، وقد ذكر الني حزقيال (31: 8) بعضاً من أشجارها كالأرز والسرو والدلب. يذكر النصّ شجرتَين، شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشرّ. الشجرة الأولى تعطي الإنسان الخلود إن أطاع أوامر الله. ولكنّ الإنسان لم يستفد منها بسبب عصيانه أوامر الله، فحكم عليه بالموت. هذه الشجرة تذكرها الكتابات الأشوريّة، فتتحدّث أسطورة جلجامش عن شجرة الحياة التي يبحث عنها البطل. من امتلكها، وإن كان شيخاً، عاد إلى عهد الصبا.
أمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فقد تعدّدت الشروح بصددها ونتوقّف نحن على شرحَين اثنَين: الأوّل يرى في هذه الشجرة رمزاً إلى المعرفة التي تساعد الإنسان على التمييز بين الخير والشرّ، وتدخله عالم الوعي العقلي. والثاني يرى فيها معرفة إلهيّة شاملة. ويستند الرأي الثاني إلى كلام الحيّة (3: 5) وكأن الحيّة صارت مفسّرة للكتاب المقدّس. أمّا كلام الله (3: 22؛ رج 2 مل 14: 17- 20) عن آدم فكان نوعاً من السخريّة، وهذا ما يجعلنا نرى بعض الضعف في الشرح الثاني.
ويقول بعض الشرّاح أيضاً إنّ آدم وحوّاء خُلقا كالأطفال علماً، ثم بلغا سنّ الرشد بفضل شجرة معرفة الخير والشرّ. غيرِ أنّ ابن سيراخ (17: 5- 6) يقول: "خلق من آدم عوناً بإزائه وأعطاهم اختياراً ولسانين وعينَين وأذنيَن وقلباً يفكّر، وملأهم من معرفة الحكمة، وأراهم الخير والشرّ". إذا كان الله خلق كلّ ما خلق، فإذا هو حسن وكامل، فلا داعي إلى أن تكون الشجرة سبب معرفة للإنسان. إذاً، شجرة معرفة الخير والشرّ هي رمز للخطيئة وعبارة "الخير والشرّ" لا تعني الخير والشرّ، بل الخير مع الشرّ، كما أن عبارة "السماء والأرض" لا تعني السماء أو الأرض، بل السماء والأرض وكلّ ما تحتويان.
وهكذا فعبارة "الخير والشرّ" تدفعنا إلى الجمع بين الخير والشرّ مع التشديد على الشرّ. فحين أراد الإنسان أن يعرف الخير والشرّ أراد أن يقرّر ما هو خير وما هو شرّ، فتصرّف ضارباً عرض الحائط بوصايا الله ورسومه. ونسي أنّ سلطة تقرير الخير والشرّ هي خاصة بالله، ولا يقدر الإنسان على المسّ بها. نصَّبَ آدم وحوّاء نفسَيهمَا المقياس للخير والشرّ، وتهجّمَا على سلطان الله المطلق فوقعا في خطيئة المغالاة والإفراط والتكبّر.
إذاً، ليست القضيّة قضيّة معرفة شاملة أو ناقصة يريد أن يمتلكها الإنسان بعد أن حرمه الله منها. وليست قضيّة تطلعّ إلى تمييز أخلاقي منعه الله عن الإنسان، تلك الخليقة العاقلة. القضيّة هي أنّ الإنسان يريد أن يصير الله بالذات، فيقرّر ما يشاء ويفعل ما يشاء دون الرجوع إلى الله أو الخضوع له. (رج اش 5: 20- 21) وهكذا تكون الخطيئة الأولى خطيئة تهجّم على الله ورفض لسلطانه على الكون والإنسان، تكون خطيئة كبرياء. وهذه الثورة على الله، عبّر عنها الكاتب بشكل عصيان على شريعة موضوعة أمامِ البشر، وصوّرها بصورة ثمرة محرّمة طلب إلى الإنسان ألاّ يمسّها. ونودّ أن نقدّم شرحاً ينبع من مضمون كلمة "عرف" في الكتاب المقدّس. فالإنسان الذي يعرف الخير يحبّه ويعمل به، وفي هذا تنمية لشخصيّته المخلوقة على صورة الله ينبوع كلّ خير. أمّا إذا أراد الإنسان أن يعرف الشرّ، أي أن يتعلّق به تاركاً الخير جانباً ومتخلّياً بالتالي عن الله بالذات، فهذا يعني أنّه يريد أن يبتعد عن الله وينقطع عن الينبوع الذي يغذّي حياته. وهذا ما حدث للإنسان بعد الخطيئة، يوم أبعده الله عن الفردوس، أو بالأحرى أبعَدَ نفسه عن الله، احتجب عن الله لئلاّ تقع عليه عينه فكانت النتيجة ما سوف نقرأه في الفصل الثالث من سفر التكوين.
(آ 10- 14) تبدو هذه الآيات وكأنها مأخوذة من تقليد آخر غير الذي تحدّثنا عنه في الآيات السابقة. يعود النصّ فيحدّد موقع الفردوس بين أرمينيا وكنعان، ثم يعدّد الأنهر التي تمرّ فيه فتجعله جنّة مرويّة إرواءً كاملاً مقابل البيداء القاحلة المتعطّشة إلى المياه. يذكر الكاتب نهر دجلة والفرات وبينهما بلاد أرمينيا، ثم نهر فيشون وأرض الحويلة وهي منطقة مصر العليا، وأرض كوش أي الحبشة، ونهر جيحون الذي قد يكون مكاناً قرب أورشليم (1 مل 1: 33-38). ومهمَا يكن من أمر هذه الشروح، يجب أن نعرف أنّ الفردوس يمتدّ امتداد الأرض المعروفة آنذاك والمحدّدة بالنيل والفرات ودجلة، والتي تصل الحبشة ببلاد القفقاس، وبلاد العرب بكنعان وغيرهما من البلدان المتاخمة للبحر الأبيض المتوسّط. إنّ الأرض تصبح فردوساً عندما يكون الله فيها، وقاحلة لا تنبت إلاَّ الشوك والقطرب عندما يكون الله غائباً عنها. وهكذا نرجع إلى ما ألمحنا إليه سابقاً: فنقول: ليست عدن مكاناً محدّداً على أحد جبالا كنعان، بل حالة من الراحة والسعادة يتمتعّ بها الإنسان بفضل حضور الله.
(آ 15) نقرأ في هذه الآية إعادة لِمَا قلناه في آ 8 ونزيد. لم يخلق الإنسان من أجل الجنّة، بل الجنّة من أجل الإنسان. وهذا يعني أنّ العالم الماديّ هو في خدمة الإنسان يتصرّف به في سبيل خيره وخير إخوته. الإنسان هو الهدف والغاية، والعالم هو الوسيلة، فلا نجعل الغاية وسيلة والوسيلة غاية.
جعل الله الإنسان في الجنّة ليحرسها ويفلحها ويأكل من ثمارها، تم جعله بعد الخطيئة على الأرض ليعمل فيها، رغم ما تنبت له من شوك وقطرب. فشريعة العمل هي هي ، سواء في الجنّة أم في الأرض. ولكنّ العمل في الجنّة يتمّ في جوّ من الفرح والسعادة بسبب حضور الله. أمّا العمل خارج الجنّة فيبدو متعباً مؤلماً بسبب غياب الله. في الجنّة متعة ولذّة وفي الأرض قصاص فرضه الله على الإنسان، بعد أن فرضه الإنسان على نفسه في عالم أصبح ملعوناً بسبب الخطيئة.
(آ 16- 17) وضع الله بتصرّف الإنسان جميع شجر الجنّة، ما عدا شجرة معرفة الخير والشرّ (لا يذكر الكتاب شجرة الحياة في هذه الآية). فإن أطاع الإنسان أمر الله حافظ على السعادة التي وهبه إيّاها، وإن عصاه، كان قصاصه الموت. ومع أنّ تهديد الله كان جديًّا فعندما خطى الإنسان، لم ينفّذ الله تهديده حالاً بعد الخطيئة، بل ترك ذلك إلى اليوم المحدّد. أجل، كان على الإنسان أن يموت موت الجسد، لأنّه تراب وإلى التراب يعود. إلاَّ أنّه بالخطيئة سيموت موت النفس، بل سيهلك جسده ونفسه معاً في جهنّم (مت 10: 38). ولكنّ المسيح بموته سيلاشي سلطان الموت والخطيئة من العالم الذي رزح تحت هذا السلطان بسبب آدم الأوّل (روم 5: 18- 21).
3- وخلق الله المرأة شريكة الرجل (2: 18- 25)
ونتوقّف هنا على حقيقتين. الأولى: خلق الله المرأة كما خلق الرجل، واهتم اهتماماً خاصّاً بها عندما بناها من جسم الرجل مضفياً على عمله سريّة تامّة. والثانية، هناك علاقة حميمة بين الرجل والمرأة لا نجدها بين الرجل وسائر المخلوقات. يبدأ الكاتب فيصوّر لنا كيف عرض الله على الرجل أعواناً فلم يرضَ بهم الرجل. أجاز أمامه الحيوانات فلم يجد فيها العون المنتظر، ولما قدّم له المرأة وجد فيها العون الكامل، فارتضى بها تمام الرضى، وقال: هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي. وهكذا نفهم عهد الصوَر والتشابيه عظمة المرأة التي أعطاها الله الرجلَ، وقداسة الزواج ووحدته وعدم انحلاله.
(آ 18) نقرأ في هذه الآية القصد الإلهيّ: "لا يحسن بالإنسان أن يعيش وحيداً، فاصنع له عوناً بإزائه".
كلمة "عون" تفسّر العبريّة "عزر" ("وإلعازر" هو المعين والنصير) كما إنّ كلمة "بإزائه" تفسّر العبريّة "نجدو" التي تدلّ على المعين إن أرجعناها إلى فعل "نجد" في اللغة العربيّة أو "الند" (إن حذفنا الجيم المتوسّطة) أي المثل والنظير.
يحتاج الإنسان إلى زوجة تلد له البنين وتشاركه في تربيتهم، وإلى رفيقة يتقاسم وإيّاها الأفكار والعواطف، وإلى قرينة تساعده في صعوبات الحياة اليوميّة. تلك هي أهميّة الحياة المشتركة. لم يخلق الله الإنسان ليعيش وحده، بل في حياة جماعيّة مع بني جنسه.
(آ 19) أخذ الله يكوّن حيوانات الأرض وطيور السماء لكي تملأ الفراغ الذي يحسّ به الرجل. لم يذكر الأسماك، لأنّ البحر بعيد ولأنّ منطقة كنعان لا تعرف المياه الغزيرة التي تتيح للأسماك أن تعيش فيها.
خلق الله المخلوقات لتساعد الرجل على الحياة، وقدّم إليه الحيوانات والطيور التي جبلها وطلب إليه أن يعطيها اسماً. فالاسم يعبّر عن طبيعة الناس والأشياء، ومعرفة الأداء تعني معرفة الكائن معرفة تساعده على التأثير فيه. والإنسان يعرف أسماء المخلوقات، وبالتالي يعرف طبيعتها ويؤثّر فيها، وهو يفرض عليها الأسماء التي يراها مناسبة، وهذا دليل على علوّ منزلته: لقد صار الإنسان شبيهاً بالله ومشاركاً له في عمل الخلق، لأنّ إعطاء الاسم نوع من الخلق. عرف آدم أسماء المخلوقات فكان له حقّ التسلّط عليها وصار سيّدها وملكها بعد الخالق وباسم الخالق.
(آ 20) جُبلت الحيوانات مثل الإنسان من الأرض، وأعطيت نفساً حيّة مثله، غير أنّ الإنسان لم يجد فيها العون المنتظر. قال القدّيس أفرام في هذا الموضوع: "ليست الحيوانات كالإنسان وإن جُبلت مثله من تراب الأرض إذ تنقصها القدرة على الكلام والعقل والذاكرة والإرادة". فالاختلاف إذاً واضح بين الإنسان والحيوان على مستوى الروح والجسد.
نتبيّن من خلال هذا الكلام سموّ الإنسان على الحيوان وعظمة المرأة في محيطٍ لم يكن فيه للمرأة كبير اعتبار، وهي من يحسبها المجتمع سلعة تُباع وأداة بيد سيّدها وبعلها يحافظ عليها كما يحافظ على سائر مقتنياته.
(آ 21) أراد الله أن يخلق المرأة لتكون العون المناسب، فأغرق آدم في نوم عميق... بهذه العبارة يحافظ الكاتب على سريّة عمل الله في خلق المرأة. فكا أنّه لم يكن أحد موجوداً حين خلق الرجل، كذلك لم يكن أحد موجوداً حين خُلقت المرأة... وخلق الله المرأة لا من الأرض، بل من ضلع من أضلاع آدم. أخذ الضلع وبنى بها المرأة كما يبني البنّاء البيت.
(آ 22) وبنى الربّ... يستعمل الكاتب فعل "بنه" (في العبرّية بنا) ليدلّ على عمل الله في خلق المرأة، كما استعمل فعل "جبل" ليدلّ على عمل الله في خلق الرجل. فكما عمل الله بيدَيه ليكوِّن الرجل، هكذا عمل بيدَيه ليكوِّن المرأة. وإذا كان الحجر هو المادّة التي بها يُبنى البيت، فالمرأة هي اللحمة التي تجعل حجارة البيت متراصّة، لأن بناء البيت يتمّ بالرجل والمرأة. وهنا نتبيّن أيضاً طبيعة علاقة الرجل بالمرأة حيث يكمّل الواحد الآخر، كما نفهم أنّ المرأة مساوّية للرجل، وهذه الحقيقة كانت مجهولة لدى الشعوب القديمة، ومكنهم العبرانيّون.
المهمّ في النصّ، لا أن نبحث كيف خُلقت المرأة، بل أن نتوقّف على التعليم العقائدي الذي نستخلصه من الصوَر الرمزيّة. ولقد أعطى التلمود تحليلاً لهذه الرموز منطلقاً من وجود الضلع قرب القلب فقال: "لم تخلَق المرأة من رأس الرجل مثلاً لئلاّ تكون سيّدة عليه، ولم تخلَق من رجله لئلاّ تكون عبدة له، إنّمَا خُلقَت من ضلعه لتكون قريبة من قلبه".
ويلمّح القدّيس بولس (1 كور 11: 8) إلى هذا النصّ فيقول: "ليس الرجل من المرأة، بل المرأة من الرجل". آمّا التقليد المسيحيّ فيرى في خلق حوّاء من ضلع آدم صورة مسبقة عن الكنيسة المولودة من جنب المسيح على الصليب. فيقول ترتليانوس في كتابه "عن النفس": إذا كان آدم صورة عن المسيح، فرقاد آدم صورة عن موت المسيح الذي رقد رقاد الموت لكي تصوّر الكنيسة أمّ الأحياء الحقيقية". وقال القدّيس أغوسطينوس: "من ضلع آدم النائم كوّنت حوّاء، ومن جنب المسيح المائت تفجّرت الأسرار التي تهب الكنيسة الحياة".
(آ 23) أمام هذه الخليقة الجديدة، أي المرأة، يعبِّر آدم عن دهشته وإعجابه بنشيد يردّد فيه ثلاث مرات كلمة "هذه" (زوت في العبرانيّة)، لأنّ التي يراها تختلف كلّ الاختلاف عن جميع الكائنات التي بحث فيها عن عون بإزائه فلم يجد. "هذه عظم من عظمي.." هذه الكلمات هي أفضل طريقة للتعبير عن القرابة الحميمة بين شخصَين (29: 4) وعن التشابه حتى الصميم بين كائنَين (أي 2: 5).
كلمة "اشة" (امرأة) ترجع إلى "انش" (أنثى في العربيّة) وتدلّ على الكائن الضعيف (أنث في العربيّة: لاَنَ وتساهَل وتراخى). وكلمة "ايش" (الرجل) ترجع إلى "انش" (أنس في العربيّة) وتدلّ على الكائن القوي. ولكنّ الكاتب الملهم لا يتوقّف على الاشتقاق العلميّ الذي تعرفه اللغات القديمة، بل على التقارب في الألفاظ ليستنتج منه تقارباً في المعاني. أخذت "اشه" (الأنثى) من "ايش" (الإنسان) كما أخذت الامرأة من الامرئ. أخذ الكاتب اسم الرجل وزاد عليه تاء التأنيث فكان اسم المرأة. وهكذا كانت القرابة حتى في الأمراء والألفاظ.
(آ 24) ولذلك يترك الرجل أباه... تبدو هذه الكلمات وكأنها خاتمة إرشاد يتلوه الكاهن على المؤمنين في حفلة زواج: "يترك الرجل أباه وأُمّه ويلزم امرأته فيصيران جسداً واحداً". هذا ما نقرأه في النص العبريّ. أمّا السبعينيّة اليونانيّة والسريانيّة البسيطة والتراجم الآراميّة ونصوص الإنجيل (مت 19: 6، مر 10: 8) فتورد الآية على هذه الصورة: "يصير الاِثنان جسداً واحداً". ونتساءَل: هل حذفت كلمة "اثنَين" من النصّ الأساسيّ لتخفّف من حدّة فكرة الزواج الواحد الذي لم يحترم شرائعه الآباء ولا الملوك في العهد القديم، أم إنّها زيدت في السبعينيّة لتشدّد على فكرة الزواج الواحد؟ يبدو أنّها حذفت من النصّ العبرانيّ، والدليل على ذلك وجودها في الآرامية والسريانيّة. ومهمَا يكن من أمر، فإنّنا نجد في هذه الآية تحديداً للشريعة الجوهريّة التي وضعها الله للعيلة: الوحدة وعدم الانفصال.
رباط الزواج أقوى من رباط الدم وهو يفرض على الرجل أن يترك والدَيه ليلتصق بامرأته. وهذه الوحدة ليست وحدة أجساد فحسب، إنّمَا هي خاصة وحدة القلوب والنفوس بالمشاركة في الأفكار وعواطف المحبّة العميقة. هذا هو معنى الزواج كما دوَّنه لنا الكتاب في بداية الكون، وشرحَه لنا المسيح في إنجيله، وشدّدت عليه الكنيسة في مجامعها وتعاليمها.
4. الخاتمة:
(آ 25) يصوّر الكاتب حالة البرارة التي كانت تزيّن آدم وحوّاء لمّا خُلقا: لم يخجلا من العري لأنّهمَا لا يميلان إلى الشرّ. الحشمة والحياء هما ردّة فعل الإنسان ضدّ الميل إلى الشرّ، ولكن مع الخطيئة زالت الحشمة وتشوّهت الخليقة وتشوّهت معها نظرة الرجل إلى المرأة ونظرة المرأة إلى الرجل. أخذ الكاتب الملهم صورة أسير الحرب الذي يسير في طريق منفاه حافياً عرياناً ليدلّ على أنّ الخاطئ هو أسير الخطيئة وعبدها، وحالته تشبه إلى حدٍّ بعيد حالة العريان. فالإنسان العائش بحسب وصايا الله تجلببه النعمة كما بوشاح، أمّا إذا رفض السير في طريق الله فيصبح تائهاً شريداً على مثال قايين.
ج- ملاحظات:
1- ماذا يقول الكتاب المقدّس عن الإنسان؟
أولاً- في النشيد الكهنوتي كان الإنسان آخر خليقة كوّنها الله، فجاء تكوينه تتويجاً للخليقة التي جاءت قبله تستقبله وتضع ذاتها في خدمته.
- الإنسان مسلَّط على الحيوان وهو يختلف عنه نفساً وجسداً. لا شكّ في أنّ الإنسان يشبه الحيوان وكلاهما مخلوق من الأرض إلاَّ أنّ الإنسان يشبه الله وقد صنعه على صورته كمثاله ودعاه إلى التسلّط على سمك البحر وطير السماء وكلّ ما يدبّ على الأرض.
- إنّ في الإنسان شيئاً من الله. ولقد عبّر البابليّون عن هذه الحقيقة فقالوا: إنّ دم إله مقتول يسري في جسم الإنسان. أمّا الكتاب المقدّس فيكتفي بالقول: إنّ الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله.
ثانياً- وفي الرواية اليهوهيّة كان الإنسان أوّل خليقة كوّنها الله فبانت عظمته وسموّه على جميع الخلائق. جاء الإنسان على الأرض قبل كلّ الخلائق ليكون بقرب الله ويعمل معه في الكون: يزرع الأرض ويسقيها، يسيِّر الحيوانات ويعطيها اسماً وعملاً يطابقان طبيعة كلِّ منها.
- في الإنسان عنصر مادّيّ وعنصر روحيّ. يظهر العنصر المادّيّ في أنّ الإنسان مجبول من التراب، من هن اسمه آدم أي المأخوذ من "ادمة". ويظهر العنصر الروحيّ في أنّ الله نفخ فيه نسمة حياة من عنده.
2- وخلق الله العيلة
- خلق الله الإنسان رجلاً وامرأة، ذكَراً وأنثى، فخلق الحياة الجنسيّة التي ليست بشرّ، وكل ما خلقه الله حسن هو.
- تتراوح نظرة القدماء إلى الجنس في اتِّجاهَين متناقضَين. فالاتّجاه الأوّل يحتقر الجنس ويعتبره مرضاً وشرّاً، والاتّجاه الثاني يعتبر الجسد إلهاً فيتعبّد له. أمّا الكتاب المقدّس فيرفض أن يكون الجسد شرّاً والله خلقه حسناً وباركه، كما يرفض القول بأنّه إله يُعبد وهو خلق كعطية من الله تبرز من خلالها عظمة الله. مجد الله في الإنسان الحيّ.
- إيلاد البنين وإكثار النسل أمر يدخل في مخطّط الله وعنايته بالبشر، وهو الذي بارك آدم وحوّاء وقال لهما، بل قال لجميع الوالدين: "أنموا واكثروا واملأوا الأرض".
- كوّن الله الرجل من طين، وبنى المرأة من ضلع من أضلاع الرجل. لهذا فالمرأة ليست غريبة عن الرجل بل مساوية له، أمّا خضوعها له الآن فراجع إلى الخطيئة.
- يشدِّد الكتاب المقدّس على كرامة الزواج المؤسسَّ على أمر الله في بداية البشريّة، وعلى شرف المرأة وعلوّ مكانتها في محيط كان يجعلها ملكاً من أملاك الرجل فيحافظ عليه كما يحافظ على عبده وأمَته وثوره وحماره (رج خر 20: 17).
- بالزواج يشارك الإنسان الله في عمل الخلق، فيكون الحبّ الجامع بين الرجل والمرأة خصباً على مثال حبّ الله الخلاق. فالرب يبارك الرجل والمرأة في الزواج ويجعلهمَا يتابعان عمله الخّلاق فتنتقل بهما الحياة البشريّة فيكثر الناس وتمتلئ بهم الأرض.
- عظمة المرأة أنّ الله صنعها كما صنع الرجل. كان الرجل الطين وكانت المرأة اللحمة والبناء. أمّا كيف صنعها الله، فأمر يبقى سرّاً على الرجل. لم يكن أحد حاضراً لمّا خلق الله الرجل. وكان الرجل نائماً حين "بنى" الله المرأة فلم يشهد تكوينها. ولهذا تبقى المرأة بالنسبة إلى الرجل لغزاً وسرّاً مع أنّها رفيقة حياته وشريكته في أعماله.
3- الفردوس الأرضيّ
أين تقع الجنّة؟ قالوا: في شرقيّ كنعان، وقالوا ليست الجنّة على هذه الأرض. حاول آباء الكنيسة أن يجدوا جواباً لهذا السؤال فقال إيريناوس في كتابه "ضدّ الهراطقة": طرد آدم من الفردوس (الذي هو خارج العالم) إلى هذا العالم. وتحدّث أمبروسيوس في شرحه للمزمور 40 عن سقوط آدم من الفردوس إلى الأرض. وقال القدّيس أثناسيوس في كتاب "عرض الإيمان" إنّ الفردوس الذي ابعد عنه أبوانا الأوّلان هو ذلك الذي وعد به اللصّ والذي منه سمع القدّيس بولس (2 كور 12: 2- 4) كلمات سامية عندما اختطف إلى السماء الثالثة.
تلك كانت طريقة مدرسة الإسكندريّة التي تتوسّل الرموز لشرح الكتاب المقدّس. أمّا مدرسة أنطاكية، ويمثّلها في هذا المجال القدّيس أبيفانيوس ويوحنّا فم الذهب ، فهي تعارض القائلين بأنّ الفردوس الأرضيّ يقع وراء هذا العالم، وتؤكّد أنّ الفردوس يقع حقّاً على الأرض كما يثبته نصّ الكتاب الحرفيّ.
أمّا القدّيس أفرام الذي عاش في بيئة شرقيّة قريبة من منبع الكتاب المقدّس فقد كتب "منظومة الفردوس" المؤلّفة من 15 نشيداً، وفيها يذكر الفردوس الأوّل مع سقطة آدم وطرده من الجنّة، والفردوس الآخر الذي سيتعرّف إليه الناس في نهاية العالم، كما يبحث عن الصوَر والرموز التي تدلّ على الفردوس المفقود والفردوس العتيد. وهكذا لم يعد الفردوس بالنسبة إليه ذلك المكان السرّيّ الذي نجعله في الماضي أو في المستقبل فحسب، بل أيضاً قمّة الكون ومحوره وواقع من تاريخ الخلاص يظهر في عهد نوح وموسى ويتمثَّل في بناء الهيكل وسرّ الصليب وتنظيم الكنيسة.
- نتمثّل عدن بصورة واحة في وسط صحراء تجعلها المياه جنّة غنّاء. كان هؤلاء العبرانيّون البدو لا يهمّهم إلاَّ المياه والكلأ، ولذا صوّر الكاتب الفردوس بصورة جنّة تكثر فيها المياه والخضرة، وهذا منتهى السعادة لهم.
- هذه الجنّة العجيبة هي عطيّة الله للإنسان، أمّا شجرة المعرفة، معرفة الخير والشرّ، فقد قال التقليد اليهوديّ عنها إنّها الكرمة والزيتونة، وفسّرها اليونان بأنّها التينة، والرومان بأنّها التفّاحة. ومن هنا كانت العبارة الشعبيّة "تفّاحة آدم". إنّمَا الواقع هو أنّ هذه الشجرة رمز من الرموز حمّلها الكاتب الملهم معنًى دينيّاً.
- الجنّة علامة كرم الربّ وسخائه إلى البشر، وهي الإطار الذي يعيش فيه الإنسان ليقوم بالرسالة الموكولة إليه. ولكن الجنّة لن تبقى على روعتها إن لم يهتمّ بها الإنسان، لأنّ جمالها وخصبها هما ثمرة المشاركة بين الله المعطي والإنسان العامل. الجنّة تبقى جنّة إن أرادها الإنسان كذلك، فإن لم يهتمّ بها ليجعلها تثمر بحسب إرادة الله، فستنقلب عاجلاً إلى صحراء قاحلة موحشة.
- لماذا قدّم إلينا الكاتب الملهم صورة الجنّة؟ لأنّه أراد أن يجيب إلى سؤالَين متكاملَين. السؤال الأوّل: هذا العالم الذي يسوده الألم والشقاء والمرض والموت، هل يُعقل أن يكون عمل إله صالح؟ والسؤال الثاني: هل يمكن إلهاً رحيماً وقديراً أن يخلق عالماً ناقصاً؟ واستنتج فقال: لا يمكن أن يكون تناقض بين ذلك الإله الذي خلّص شعبه من عبوديّة المصريّين، وذلك الإله الذي خلق السماء والأرض.
- إنطلق الكاتب من هذا القلق في قلب الإنسان ليعلّمنا أنّ الكون لم يكن هكذا في البداية، بل كان يشعّ كمالاً وجمالاً وروعة، والبشرّية تنم بملء السعادة والسلام الروحي. ولكي يصل بسامعيه إلى هذه الفكرة استعان بالصوَر والرموز القريبة من أذهانهم، فصوّر الكون واحة أو جنّة تفيض فيها المياه، ويسرو فيها الأمان والراحة والسعادة والاطمئنان والوفر والغنى.
د- مواضيع عامة:
1- المقابلة بين روايتَي الحلق
بعد أن قرأنا الفصلَين الأوّلَين من سفر التكوين يمكننا أن نقابل بين رواية الخلق الأولى كما يرويها التقليد الكهنوتيّ (1: 1 ي) ورواية الخلق الثانية كما يرويها التقليد اليهوهيّ (2: 4 ي). كلّ رواية كافية في حدّ ذاتها، ولا تحتاج الرواية الأولى إلى عناصر من الرواية الثانية، كما أنّ الرواية الثانية ليست تكملة للرواية الأولى. فعبارة "يوم خلق الله السماء والأرض" (2: 4) تقابل عبارة الرواية الأولى "في البدء خلق الله السماوات والأرض" (1: 1)، وهي تعني أنّه عندما بدأ الربّ الخلق لم يكن بعد جاء إلى الوجود لا الأرض ولا الناس، لا البهائم ولا النبات.
النصّ الأوّل أكثر شمولاً، وفيه تتّسع آفاق الكاتب، فيصوّر الكون كما كان يعرفه أهل ذلك الزمان: بفلكه وكواكبه، بأرضه ونباته وحيوانه. في الرواية الثانية، يتوقّف فكر الكاتب على عالم محدود، فلا يذكر الكواكب في السماء ولا يسمّي من النبات إلاَّ الأشجار، كما يغفل ذكر الأسماك عندما يتحدّث عن الحيوانات. في النصّ الأوّل نرى ترتيباً علميّاً للمخلوقات: ينظّم الله العالم الطبيعيّ تنظيماً كاملاً، فيبني بيتاً قبل أن يضع فيه سكّانه، يهيّئ العالم المادّيّ لقبول النبات ثم الحيوان والإنسان. في النصّ الثاني يخلق الله الإنسان أوّلاً ثمّ الأشجار والحيوانات وينتهي نخلق المرأة، كأنّنا أمام جيش يقف قوّاده في المقدّمة والمؤخّرة، أو أمام قطيع يسير الرجل في الطليعة والمرأة في الآخر ليصلا به إلى الملجأ الأمين.
طريقة عرض عمل الله تتباين في الروايتَين. في الرواية الأولى يتكلّم الله فتخلق الأشياء، يأمر الله فتنفّذ أوامره بحسب إرادته. في الرواية الثانية لا يقول الله شيئاً، بل يعمل فتأتي المخلوقات إلى الوجود: يأخذ تراباً من الأرض فيجبل جسم الإنسان وينفخ فيه نسمة الحياة. يزرع الأرض أشجاراً ويكوِّن الحيوانات ويأتي بها إلى آدم، يبني جسم المرأة ويأتي بها إلى الرجل.
ونجد اختلافاً في الأسلوب بين الروايتَين. في الرواية الكهنوتيّة نقرأ أبياتاً شعريّة تنتهي كلّها بعبارة واحدة: وكان مساء وكان صباح، بينما نقرأ نصّاً نثريّاً في الرواية اليهوهيّة. تذكر الرواية الأولى ستّة أيّام عمل الله فيها ويوماً سابعاً استراح فيه، أمّا الرواية الثانية فلا تحسب حساب الأيّام، بل تروي قصّة الخلق خارج الزمان. وهذا ما يدلّنا على أنّ الأيّام التي تذكرها الرواية الكهنوتيّة هي إطار مصطنع وجده الكاتب فلجأ إليه ليدلّنا على أن الله استراح في اليوم السابع ، وعلى أنّ الإنسان ملزم بالراحة في اليوم السابع تكريساً لأيّام الأسبوع والسنة وتقديساً لعمل الله والإنسان في الكون.
2- رواية الخلق ومعطيات العلم
أولاً: عودة إلى الوراء:
مضى زمن طويل ولم يكن في حوزتنا إلاَّ العلوم التي عرفها الأقدمون، ولهذا لم يكن هناك أيّ صراع بين العلم والكتاب المقدّس. كان الناس يعرفون أنّ الكتاب المقدّس، بسبب طابَعه الحاضرّ وصفة الإلهام الملازمة له، لا يعطي تعليماً خاطئاً، فاعتقد قرّاؤه أنّ المعلومات التي يوردها هي صادقة وصحيحة، واعتبروا أنّ الله أوحى إلى الإنسان بالمعلومات الدينيّة والعلميّة في آن واحد.
ولكن، من القرن 15 حتى القرن 17 حصلت اكتشافات عديدة تتعلّق بشكل الأرض ودورانها حول الشمس، فترك العلماء النظريّة القائلة بأنّ الأرض هي محور الكون، والشمس والكواكب تدور حولها، وأخذ غاليلي بنظريّة كوبرنيك القائلة بأنّ كلّ الكواكب، وفيها الأرض، تدور حول الشمس، فعارض بذلك نظريّة أرسطو، فأحسن اللاهوتيّون المستندون إلى الكتاب المقدّس أنّ نظام الكون تزعزع، وأن الإنسان لم يعد محور الكون الذي لأجله خلق الله ما خلق، وقلق الفلاسفة، وحسبوا أنّ قيمة المعرفة والإدراك صارت في خطر. وتبلبل المفكّرون إذ ظهرت لهم الأرض صغيرة والإنسان حقيراً، فخافوا على التعليم المتعلّق بسرّ التجسّد والفداء. ودار صراع بين رجال العلم ورجال الفكر والدين، دام قرابة مِئتَي سنة، وانتقل إلى الشرق عبر ما ترجم من كتب ومقالات وتذرّع على أثرها بعض الكتّاب بالنظريّات العلميّة ليزعزعوا ثقة الناس بالكتاب المقدّس.
بادئ ذي بدء جابهت الكنيسة هذا الخطر فحكت على العلم بالخطإ ودانت الآخذين به وشجبت نظريّاتهم، فارتاحت النفوس. ولكنّ هذه الفائدة المؤقّتة جرّت وراءها نتائج مؤسفة جدّاً، وبدأ الانفصال بين الكنيسة والفكر الحديث، فوجد فلاسفة القرن 18 في العلم أقوى سلاح يحاربون به الكنيسة والدين.
وجاء وقت، اقتنع مفسّرو الكتاب المقدّس واللاهوتيّون بنظريّة كوبرنيك وغاليلي، فانتقلوا من نقيض إلى نقيض. بعد أن أرادوا تفسير العلوم مستعينين بالكتاب المقدّس، حاولوا شرح الكتاب المقدّس على ضوء العلوم، فوقعوا في النظريّة التوافقيّة وقالوا مثلاً إنّ ما نقرأه في تك 1 لا يعارض الاكتشافات الجيولوجيّة. وهكذا يكون موسى في نظرهم عالماً من العلماء، وتكون أيّام الخلق الستّة صورة مصغّرة عن مراحل تكوين الكون الستّ (كما يقول العلماء). ولكنّ هؤلاء الشرّاح تركوا خطأً ليقعوا في خطإٍ آخر. نسوا أنّ الأيّام التي يعدّدها سفر التكوين هي أيّام كالتي نعرفها، وهي مؤلّفة من 24 ساعة ولها صباحها ومساؤها، وأنّ المراحل الجيولوجيّة التي يتحدّث عنها العلماء هي وليدة طريقة مصطنعة تساعد على ترتيب الوقائع، وليست أمراً علميّاً لا رجوع عنه. فإن قال بعض العلماء بوجود ستّ مراحل فقد قال البعض الآخر بوجود أربع مراحل، فكيف نقدر بعد ذلك أن نوفّق بين ستّة أيّام الخلق وأربع مراحل الكون؟ ونتساءَل: هل أوحى الله إلى العبرانيّين العائشين في البرّيّة أو على الجبال بمعطيات علميّة عن مراحل نشوء الكون؟ هل يمكن أن نربط كلام الله ووحيه بمعلومات واقتراحات تتغيّر أو تتطوّر؟ يكني أن نقرأ نصوص الكتاب المقدّس لنتبيّن أنّها لا تحوي نظرة علميّة عن عمر الأرض، بل وحياً دينيّاً عن خلق الأرض. وفضلاً عن ذلك نجد بعض الصوَر التي لا تتوافق وأيّة علوم واختبارات. كيف يكون الجلد جسماً جامداً، وكيف نقول بوجود قنوات مياه في السماء؟ كيف نقول بخلق النور قبل أن تكوّن الشمس والقمر والكواكب، وكيف نقول إنّ النبات وجد قبل أن تخلق الشمس الضروريّة لحياة النبات؟ في الرواية الأولى يخلق الله كلّ شيء تم يخلق الإنسان، وفي الرواية الثانية يخلق الله الإنسان تمّ يخلق النبات والحيوان. كلّ هذه الملاحظات وغيرها تبيّن لنا أنّ الكتاب المقدّس ما أراد أن يعلّمنا كيف خلق الكون، بل مَن خلق الكون. أراد أن يكون كلامه فعل إيمان بالله الذي خلق العالم. ونحن لسنا في حاجة إلى نظريّات علميّة فجّد الله الخالق، ويكني جماعة المصلّين في الهيكل أن يتأمّلوا في أعمال الله ليسبِّحوه على رحمته وقدرته.
كلّ هذه الآراء أحدثت بلبلة عند المؤمنين، بل عند اللاهوتيّين والمعلّمين فقدّمت الكنيسة في شأنها اقتراحات تساعد الباحثين على متابعة البحث وتقيهم معاثر الشطط.
ثانياً: تعليم الكنيسة
سنة 1893 كتب قداسة البابا لاون الثالث عشر رسالة في أهميّة درس الكتاب المقدّس قال فيها: "ما أراد الكاتب الملهم أن يزوّد الناس بمعلومات عن أشياء لا تنفع للخلاص. ولهذا لم يقم بأبحاث علميّة، بل صوّر الأمور بالصوَر والتشابيه التي عرفها أبناء عصره". وردّدت اللجنة الكتابيّة كلام قداسة البابا وطبّقته على الفصل الأوّل من سفر التكوين فقالت: "ما كان هدف الكاتب الملهم أن يعلمنا عن طبيعة الأشياء ونظام الكون، بل أن يعطينا كلام الله مستعيناً بما كان يعرفه الناس ويتداولون في ذلك الزمان". كان الشعب يعتبر أنّ السماء قبّة للأرض تشبه قبّة المعابد، وأنّ المياه النازلة شتاءً تأتي من خزّانات تقع فوق القبّة الزرقاء. فأخذ الكاتب الملهم بهذه الأقوال مشدّداً على الفكرة الدينيّة القائلة بأنّ الهيكل صورة مصغّرة عن الكون، والله حالّ في كلَيهمَا، وأنّ المطر عطيّة من الله يرسلها بركة على البشر ساعةَ يشاء.
وخلاصة القول: إنّ الكاتب الملهم روى لنا قصة الخلق وتنظيم العالم مستعيناً بمعارف أهل زمانه. لم يكن رجل بحث علميّ بل ناقلاً لكلام الله. ولهذا يجب علينا أن نقرأ الكتاب فنميّز بين الحقائق الدينيّة التي فوّض إليه أن ينقلها والكلمات والصوَر والتعابير التي لجأ إليها ليوصل إلينا هذه الحقائق. فلو أراد علماء القرن التاسع عشر والعشرين أن يكتبوا عن الخلق، لاستعانوا بصورة علميّة مأخوذة من عالم الفيزياء الحديث لينقلوا إلينا حقيقة دينيّة واحدة نعبّر عنها بطرق متعدّدة. إذاً، هو الله يوصل كلمته إلى الناس عبر حياتهم الاجتماعيّة والثقافيّة والأدبيّة، فلماذا نريده أن يجترح العجائب ليجعل أُناساً عاشوا منذ آلاف السنين يتكلّمون اللغة العلميّة التي نتكلّمها اليوم؟
فلا نبحث إذاً في الفصلَين الأوّلَين من سفر التكوين عن تعليم يتعلّق بكيفيّة خلق الكون وعن الزمن الذي استغرق هذا الخلق. يكفينا أن نعرف أنّ الله خلق كلّ موجود، وأنّه خلق بصورة خاصة الرجل والمرأة على صورته ومثاله ليعيشا بصداقته، فسلّطهمَا على المادّة والنبات والحيوان وأعطاهما العقل والإرادة. تلك هي الحقائق التي أراد الكاتب أن ينقلها إلينا، ولقد استعان بلغة العصر ليعبّر بكلماته عن وحي الله إليه. ولا عجب في ذلك لأنّ كلمة الله تتجسّد في الزمان والمكان. كُتبت رواية الخلق بحسب التقليد اليهوهيّ في عهد الملك سليمان، ورواية الخلق بحسب التقليد الكهنوتيّ بعد الجلاء، فاستعانت كلّ من الروايتَين بلغة العصر الذي كُتبت فيه. ولو كتبنا رواية الخلق اليوم لاستعنّا بلغة أبناء اليوم (الذرَّة وما إليها) لنقول للناس حقيقة الله الأزليّة ونجسّد كلمته في عصرنا.
3- نظرّية التطوّر في تكوين الإنسان
أولاً: ماذا يقول العلماء ؟
ونطرح السؤال: هل الإنسان حيوان متطوّر أو قرد صار إنساناً؟ إذا كان النبات تطوّر مع الزمن فارتفع إلى مستوى العالم الحيوانيّ أمَا نستطيع القول إنّ الحيوان تطوّر فارتفع إلى مستوى الإنسان؟
منذ فتح شارل دروين الطريق أمام نظريّة التطوّر، حسب المفكّرون أنّهم أمام أمرَين لا ثالث لهمَا: أو إنّ الله خلق الإنسان من تراب الأرض ووضع فيه نسمة حياة، أو إنّ الأجسام الحيوانيّة تطوّرت فتحوّلت إلى الأجسام الإنسانيّة التي نعرفها؟ وانطلق علماء البيولوجيا من هذه النظريّة ليهاجموا النصوص الكتابيّة المتعلّقة بتكوين الإنسان، وفقَدَ المثقّفون ثقتهم بكلام الله.
ووجد المنقّبون في الحفريّات جماجم بشريّة جعلوها البرهان القاطع على صحّة نظريّة دروين فهاجموا النصوص الكتابيّة المتعلّقة بتكوين الإنسان، وأعلنوا أنّ الكاتب الملهم أخطأ في ما نقله إلينا من كلام. ما الذي يمكننا أن نقوله في هذا المجال؟
قبل أن نختار بين موسى ودروين ننطلق من مبادئ ثلاثة: الأوّل، نتوقّف على ما يقول الكتاب المقدّس دون تأويل أو تحريف. والثاني، نتحاشى أيّ تفسير لا ينطلق من النصوص الكتابيّة. والثالث، نرفض أن نجعل العلوم الطبيعيّة أساساً لبراهين دينيّة.
ثانياً: ماذا يقول الكتاب المقدّس؟
يقول المرجع اليهوهيّ أنَّ الله جبل الإنسان من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، ويقول المرجع الكهنوتيّ إنّ الله صنع الإنسان على صورته ومثاله. النظرة روحيّة في النصّ الكهنوتيّ، تشدّد على كلمة الله الفاعلة، وأنتروبوموفيّة تشبيهيّة في النصّ اليهوهيّ تنغرز جذورها في مدنيّات الشرق القديم. أمّا اكتشف العلماء في هيكل الأقصر صورة الإله العصريّ واقفاً وراء دولابه ليكوِّن جسم الإنسان من الأرض كالفخّاري الذي يصنع جرّته؟.
ونقول أيضاً إنّ العبرانيّ تعرّف أولاً إلى الله المخلّص قبل أن يتعرّف إلى الله الخالق. وهذا يعني أنّ فكرة الإله الخالق جاءت متأخّرة في شعب إسرائيل الذي اختبر خلاص الله في حياته الفرديّة كما في حياته الجماعيّة، خاصةً في الخلاص من عبوديّة مصر. ولهذا عندما تحدّث الكتاب عن خلق الإنسان، رجع إلى التقاليد الشرقيّة القديمة واستفاد من الصوَر والتشابيه ليعلن على المؤمنين حقيقة مهمّة، وهي أنّ الله هو الذي خلق الإنسان بعنصرَيه الروحي والمادي.
ثالثاً: تعليم الكنيسة
وفي هذا السبيل قال قداسة البابا بيّوس الثاني عشر في رسالته "الجنس البشريّ" (سنة 1950): "لقد أخذ الكاتب بعض المعطيات من القصص الشعبيّ ونقّاها على ضوء الإلهام الإلهيّ الذي حفظه من كل خطإ. إنّ الكنيسة لا تمنع العلماء من البحث في نظريّة التطوّر، أي من التساؤل إذا كان جسم الإنسان أخذ من مادّة حيّة قد وجدت سابقاً، بل تفرض عليهم ألاّ ينسوا أنّ الله يخلق النفس البشريّة بطريقة مباشرة. يمكن العلماء أن يتابعوا بحثهم في هذا المجال ويمكن شارحَ الكتاب المقدّس أن يتابع بحثه ليفهم ماء نواه الله عندما خلق الإنسان. لا يخسر العالم إن عرف عظمَة الإنسان وما يميّزه عن الحيوان، ولا يخسر اللاهوتيّ إن عرف ارتباط الإنسان بالكون وتطوّر جسمه وشخصيّته إلى أن يصير ذلك الإنسان الكامل".
لن نبحث إذاً في الكتاب المقدّس عن نظريّة علميّة في تطوّر جسم الإنسان، بل نتعلّم أن نقرأ إرادة الله في الإنسان من خلال رواية شعبيّة كتبها بطريقة بدائيّة الكاتب الملهم المستنير بنور الإيمان، ونقول: يكون قد تمَّ نموّ جسم الإنسان انطلاقاً من مادّة حيّة وُجدت سابقاً، كما يقول العلماء، أي انطلاقاً من الحيوان (أقرداً كان أم غيره)، غير أنّ النفس البشريّة لا تدخل في سنّة التطوّر، بل هي مخلوقة خلقاً مباشراً، وكلّ كلام غير هذا الكلام يتعارض والإيمان الكاثوليكي.
وهكذا، عندما نقرأ الكتاب المقدّس، لا نطرح السؤال: "كيف خُلق الإنسان، بل مَن هو الإنسان، ولماذا خلقه الله"؟ إنّ الكتاب يشدّد على اهتمام الله بالإنسان حين خلقه. بعد أن فكّر مليّاً بالأمر، دعاه إلى الوجود وأحاطه بعنايته. أخذه من الكون وجعله سيّد الكون ليرع الكون إلى الله في صلاة إعجاب ونشيد شكر وسجود.
إنّ الكتاب المقدّس هو كلام الله وهو لا يبحث في الأمور التاريخيّة أو يبرهن على النظريّات العلميّة. إن استند إلى علم ذلك الزمان وذكر أحداث تلك الأيّام لكي يعطي تعليماً عن الله، فهو لا يضمن صحّة هذه المعلومات ولا يعتبرها مناسبة لكلّ عصر وزمان. وحده كلام الله هو فوق الزمان والمكان، وهو أمسِ واليوم وإلى الأبد، وما عداه من كلام يزول ويبلى.
ولكن، يبقى السؤال مطروحاً علينا: ما هي علاقة الكتاب المقدّس بعلم الأحياء أو البيولوجيا؟
4- الكتاب المقدّس وعلم الأحياء (البيولوجيا)
أوّلاً: ماذا يقول علم الأحياء؟
ماذا يقول العلم في أصل الإنسان؟ هو لا يستطيع أن يقول شيئاً عن وجود النفس البشريّة مهمَا اكتشف من البقايا المتحجّرة، بل يضعنا أمام مجموعة من الوقائع البيولوجيّة توجّه أنظارنا إلى التطوّر أو تسلسل الأنواع.
ما نلاحظه بادئ ذي بدء هو وحدة بنية الكائنات في الكون العظيم، ووحدة العمل والنشاط حتى على مستوى الخلايا الصغيرة. وهذه الوحدة في البنية لا تفسّر إن لم نرجعها إلى أصل واحد. والأبحاث عن الأجنّة تدلّ على تقارب في النموّ وعن وحدة في التنظيم بين الكائنات. كما أنّ درس الأحفورات والأجسام المتحجّرة أظهر أنّ هناك حيوانات مختلفة انقرضت وحلّت محلّها حيوانات أخرى أكثر تطوّراً. ثمّ إنّ اكتشافات عديدة لبقايا الإنسيان في الصين وأوستراليا وجنوبيّ أفريقيا وغيرها من البلدان فتحت المجال أمام البحث العلميّ في إطار البيولوجيا.
كلّ هذا تمَّ بسرعة مذهلة فتطوّرت أفكار العلماء الذين درسوا عدداً من الجماجمِ فلاحظوا أنّ هناك تطوّراً من الحيوان إلى الإنسان. فأخذ بعضهم يعتبرون التطوّر أمراً واقعاً، ولكن رأى البعض الآخر أنّ التطوّر أمر معقول جدّاً لا نستطيع أن نتحقّق كليّاً من صحّته، كما لا نستطيع أن نرفضه بسهولة قبل أن نحلّ محلّه افتراضاً أكثر معقوليّة.
وهكذا يبقى التطوّر، بالنسبة إلى علماء الجيولوجيا افتراضاً لا بدّ منه في الوقت الحاضر، ولكنّهم يختلفون عندما يحاولون تفسير التطوّر. غير أنّ معظمهم يجمع على أنّ العامل الأساسيّ للتطوّر هو التبدّل الفجائيّ في الإرث الوراثيّ، لا عند فرد واحد، بل عند مجموعة من الأفراد، فتظهر ميزات وراثيّة هنا وهناك لا نلبث أن نجدها عند كلّ الأفراد بعد عدد من الأجيال. ويمكن أن تكون هذه الميزات قد ظهرت عند شخص واحد، تم امتدّت إلى المجموعة كلّها بواسطة الوراثة.
ثانياً: ماذا يقول الكتاب المقدّس؟
هذا ما يقوله العلم، ولكن ماذا يقول الكتاب المقدّس؟
يربط سفر التكوين آدم بالأرض لأنّه مجبول بتراب الأرض، ويعلن أيضاً أنّ عظمَة الإنسان تنبع من قربه إلى الله. فهل يعارض هذا الكلام نظريّة التطوّر؟ إذا انطلقنا من فهم عميق للفنّ الأدبي الذي يتميّز به المرجع اليهوهيّ نقول بأن لا تعارض بين كتاب مقدّس نفسّره تفسيراً صحيحاً، وعلم بيولوجيّ واعٍ لحدوده. فكلاهما يتطرّق إلى الموضوع نفسه وإن اختلفت وجهات النظر. البيولوجيا تأخذ الأمور بطريقة علميّة وعن طريق الملاحظة والمراقبة، أمّا الكتاب المقدّس فيعالج الأمور بلغة رمزيّة، لا بلغة علميّة. منطق الوحي يترك الطريق مفتوحاً أمام العلم وآستنتاجاته، ونظريّة التطوّر تبقى مفتوحة أمام كلّ تفسير دينيّ عن حياة الإنسان. لا يرفض الوحي نظرة إرجاع أصل الإنسان إلى الحيوان كما لا يقدر على إثباتها، بل فيما يترك للعلماء مجال البحث والتنقيب، يطلب إليهم ألاّ يغلقوا استنتاجاتهم على عالم الروح.
ويسأل سائل: إذاً، هل يتحدّر الإنسان من القرد؟ لم يعد يطرح هذا السؤال على هذه الصورة لأنّه يحطّ من قدر الإنسان كرامته، والذين تعوّدوا أن يدافعوا عن هذه النظريّة خفّت حدّة كلامهم، لا لأنّ العلم تخلّى عن الافتراض القائل بأنّ الإنسان وريث القرد، بل لأنّ علم البيولوجيا أخذ يقرّ يوماً بعد يوم بمكانة الإنسان الفريدة وسط العالم الطبيعي. لا شكّ في أنّ العلماء وجدوا بعض المشابهات في التنظيم الفيزيولوجيّ كما اكتشفوا بعض التقارب على مستوى علم النفس البسيط بين الإنسان والقرود الكبار، إلاَّ أنّهم أخذوا يفهمون أنّ الإنسان وحده يكتب التاريخ، وأن الفكر والعقل يختصّان بالإنسان وحده دون باقي الخلائق. وعلى هذا قال أحد العلماء: إذا أردنا أن نعرف عظمة الجنس البشريّ، فلا نجعل الإنسان مع الحيوان، بل ننظر إلى المسافة التي تفصل الإنسان عن الحيوان. فالإنسان عظيم في ما يميّزه عن الحيوان، وهو أعظم في ما يقرّبه إلى الله لأنّه مصنوع على صورته ومثاله.
يبحث العلماء عن نقطة العبور من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان، ويرون في هذه النقطة أعظم حدث في حياة الكون. فكا أنّ المادّة الجامدة التي خلقها الله ستؤمّن الظروف الملائمة لبروز الحياة، كذلك يكون العالم الحيّ الإناء الذي أراده الله لظهور الروح. وهكذا يصير التطوّر، الذي ما زال البعض يتخوّف منه، لِمَا حمل من بذور الإلحاد، المبدأ الأساسيّ والعظيم لخطّط الله الذي يوجّه الكون منذ البدء وما زال. وخلاصة القول: لا تعارض بين كلمات الكتاب المقدّس ونظريّة التطوّر؟ لأنّ الكاتب الملهم لم يتعرّف إلى نظريّة التطوّر، فما كان عليه أن يأخذ بها أو يرفضها. ونحن المؤمنين نستطيع أن نوافق على افتراض التطوّر بشرط أن نقول بتدخّل مباشر من الله ليخلق النفس البشريّة.
ثالثاً: تعليم الكنيسة
لا يعطينا الكتاب المقدّس معلومات عن زمن وجود الإنسان على الأرض، أمّا البيولوجيا فتقول إنّه ظهر منذ خمس مِئة ألف سنة تقريباً، وهي لا تزال تواصل أبحاثها عن أصل الإنسان وعمره على ضوء ما يتمّ من اكتشافات جديدة. أمّا المبدأ المعمول به فهو ما يقوله البابا بيّوس الثاني عشر في رسالته "الجنس البشريّ" الذي نظر إلى الوجهة البيولوجيّة لهذه الاكتشافات وإلى المشاكل التي تطرحها على المؤمن: عندما يظهر تعارض بين الافتراضات العلميّة وتعليم الكنيسة التقليديّ، يجب أن نتحلَّى بالتروّي والفطنة، فنترك الأبحاث والمناقشات تدور بين أناس اختصاصيّين أكفاء يتفحّصون معطيات العلم بالجدّيّة والرزانة والاعتدال وننتظر الاستنتاجات دون أن نستبق الأمور، لئلاّ نزيد درجة اليقين في نظريّة علميّة ما زالت في عالم الافتراض. كما يليق بنا ألاّ نقلِّل من قيمة الأنوار التي تلقيها مناج الوحي على مسألة تطرّق إليها العلم.
وهناك نتيجتان لهذا التعليم. الأولى تتعلّق بأصل الإنسان فتقول بأنّ الله خلق النفوس بطريقة مباشرة، والثانية تتعلّق بتعليم الكنيسة الذي لا يمنع من البحث في أن يكون الحسم البشريّ قد أخذ من مادّة حيّة وُجدت سابقاً.
الله وحده يخلق النفس لأنّها عنصر روحيّ، وهذه الروحانيّة شرط خلودها ودعوتها إلى سعادة السماء. وعندما نقول إنّ النفوس روحيّة فنحن نعني استقلالها عن عالم المادّة مع أنّها تتّحد بالمبدإ الماديّ ليتكوّن الإنسان.
ويقدّم المفكّرون تشبيهاً لا يُستهان به فيقولون: كما أنّ الوالدَين يمارسان الزواج فيشاركان الله في تكوين نفس الولد، هكذا يهيّئ التطوّر المادة الحيّة لتقبّل النفس. ولكن إن أخذنا بهذا التشبيه يجب ألاّ ننسى أنّنا لسنا أمام أسباب تنتج كائناً جديداً يأتي إلى الوجود، بل أمام استعدادات موّاتية لهذا الوجود الجديد. وهكذا نستطيع أن نتكلّم عن نموّ بطيء لقوىً وضعها الله في الطبيعة فأنتجت جسماً وصل إلى حدٍّ من الكمال جعله يتشوّق إلى أن ينفحه الله بأوّل نفس بشريّة.
أمّا بالنسبة إلى الجسم فالعلوم اللاهوتيّة لا تمنع عالم الطبيعة من البحث في أمره بالفطنة اللازمة، والتفتيش عن أدلّة تسند برهانه. ولكنّ تفسير فصول سفر التكوين الأولى يجب أن يتمّ بطريقة لا تمسّ أسس الإيمان المسيحيّ، وأحد هذه الأسس هو خلق الإنسان بطريقة خاصّة وتدخّل الله تدخّلاً خاصّاً.
5- المونوجيّية والبوليجينيّة
أولاً: عرض المسألة
المونوجينيّة، أو وحدة السلالة والأصل، تعني أنّ كلّ الناس الذين يعيشون الآن على الأرض يتحدّرون من رجل واحد وامرأة واحدة، هما آدم وحوّاء، والبوليجينيّة، أو تعدّديّة السلالة والأصل، تعني أنّ أصل البشرّية الحاليّة يرجع إلى أجداد عديدين، لا إلى جدٍّ واحد وعيلة واحدة.
أوّل ما يتبادر إلى ذهننا هو أن نحسب أنّ العلم يتّجه إلى البوليجينيّة والتعدّديّة في السلالات البشريّة بينما تفضّل الكنيسة المونوجينيّة ووحدة السلالة البشريّة، لأنّها تنظر إلى الوحدة في آدم على صورة الوحدة المنتظرة في المسيح. ونتساءَل: هل نحن أمام صراع آخر بين العلم والإيمان يكون امتداداً للصراع حول نظريّة النشوء والتطوّر؟
ثانياً: تعليم الكنيسة
يبدو تعليم الكنيسة وكأنه يعارض البوليجينيّة، لأنّه لا يرى كيف يوفّق بين وجود أجداد عديدين يتحدّر منهم الجنس البشريّ، وفكرة الخطيئة التي اقترفها آدم فانتقلت إلى جميع أبنائه. فإن وجد أجداد بشريّون غير آدم نتج من ذلك وجود أُناس لم تصل إليهم الخطيئة الأصليّة، فلم يحتاجوا بالتالي إلى الخلاص الذي حمله المسيح إلى جميع الناس. ويقابل قداسة البابا بين آدم الأوّل، أي أوّل إنسان على الأرض، وآدم الثاني، أي المسيح، منطلقاً من رسالة القدّيس بولس إلى الرومانيّين (5: 12- 21) فيقول: بآدم الأوّل جاءنا الموت، وبآدم الثاني الخلاص. فإن كان آدم الثاني شخصاً فرداً، فهل يمكن ألاَّ يكون آدم الأوّل شخصاً فرداً تتحدّر منه البشريّة جمعاء؟ هذه الفكرة هي التي جعلت الكنيسة، على ما يبدو، تفضّل المونوجينيّة على البوليجينيّة لأنّها تعتبر المونوجينيّة مرتبطة بحقائق دينيّة كالخطيئة الأصليّة والخلاص في يسوع المسيح. فقد جاء في قرارات مجمع قرطاجة وفي مجمع أورانج أنّ خطيئة آدم انتقلت إلى كلّ النسل البشريّ. وهذا التعليم ردّدته قرارات الجلسة الخامسة (17 حزيران 1546) للمجمع التريدنتي في إيطاليا.
ثالثاً: ماذا يقول العلم؟
هذا بعض تعليم الكنيسة، ولكن ماذا يقول العلم؟ تتضارب الآراء عند العلماء. فأصحاب المونوجينيّة لا يقرّون إلاّ بفوارق جانبيّة وسطحيّة داخل الأصل الواحد والسلالة الواحدة، بينما أصحاب البوليجينيّة يؤكّدون وجود سلالات عديدة تتميّز بفوارق أساسيّة. ويبدو أنّ الأبحاث العلميّة الحاضرة تتّجه إلى المونوجينيّة كما تشهد بذلك صورة "شجرة" البشريّة: إنّ أصل البشرّية واحد رغم وجود عناصر مادّيّة مشتركة مع فصائل القردة، ورغم الفوارق البسيطة التي تميّز العرق الأبيض مثلاً عن العرق الأصفر والأسود. غير أنّ المسألة ما تزال مطروحة لدى الكثيرين فأحببنا أن نضعها في إطارها الصحيح مستندين إلى مبدإٍ عامّ يقول: لا نسند الإيمان إلى نظريّة علميّة يمكنها أن تزول أو تتطوّر، بل نسنده إلى كلام الله الذي لا يزول منه حرف وإن زالت السماء والأرض.
رابعاً: ونرجع إلى الكتاب المقدّس
ماذا نقرأ في سفر التكوين؟ وقال الله: لنصنع الإنسان (آدم) على صورتنا ومثالنا... وخلق الله الإنسان (أل- آدم) على صورته، على صورة الله خلقهم، ذكراً وأنثى خلقهم.
نقرأ في النصّ الكهنوتيّ صورة الجمع. "لنصنع الناس"، لا الإنسان المحدّد بشخص اسمه آدم. ولهذا نترجم كلمة آدم بالإنسان والبشر، كأني بالله يقول: لنخلق البشر والناس على صورتنا ومثالنا.
أمّا في النصّ اليهوهيّ فنرى أنّ كلمة آدم تعي فرداً من الأفراد: يحرس الجنّة ويفلح الأرض أو يتزوّج حوّاء ويولد له منها قايين. وهكذا يدفعنا الكتاب إلى القول بأنّ كلمة آدم تعني اسم علم واسم جنس مثل كلمة حوّاء التي تدلّ على امرأة الرجل الأوّل، على كلّ أُمٍّ تعطي الحياة، على كل امرأة من النساء. ولكن يتبادر السؤال إلى أذهاننا: كيف تمَّ الانتقال من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع أو بالعكس؟ إن هذا الانتقال أمر مألوف في الكتاب المقدّس. فرئيس القبيلة يحوي في شخصه أفراد قبيلته في حياته وبعد موته. فيعقوب مثلاً، لا يدلّ فقط على ابن اسحق ووالد يوسف ويهوذا وبنيامين... بل يمثّل الشعب العبرانيّ كلّه الذين تحدّروا منه عبر أولاده. وفي هذا السبيل يقول المزمور 14: 7: "إذ يردّ الرب سبي شعبه، يبتهج يعقوب ويفرح إسرائيل". فيعقوب يمثّل شعب إسرائيل كلّه. وهكذا يمكننا القول عن آدم.
ونستنتج من كل هذا أنّ الكتاب المقدّس لا يدين بالمونوجينيّة بل يترك الباب مفتوحاً أمام النظريَّتَين، رغم أنّ الكثير من شرّاح الكتاب المقدّس أرادوا أن يفرضوا المونوجينيّة باسم الكتاب المقدّس، متناسين أنّ مسألة وحدة السلالة البشريّة أو تعدّدها مسألة بيولوجيّة وهي لا تهمّ اللاهوت إلاَّ بقدر ما تمسّ التعليم عن الخطيئة الأصليّة وسرّ الفداء. ومن هذه الزاوية فقط نطرحها.
ونتساءَل: هل يمكن أن يكون اللاهوت أساساً لافتراض لا يملك العلم عنه أيّ يقين؟ هل يحقّ لنا القول إنّ اللاهوت يفترض المونوجينيّة بدل البوليجينيّة؟ في الوقت الحاضر، كما قلنا، لا نرى كيف تتوافق البوليجينيّة وعقيدة الخطيئة الأصليّة، ولكن نترك للعلماء متابعة البحث في هذه القضيّة فقد نصل يوماً إلى القول بأنّ المونوجينيّة والبوليجينيّة لا تناقضان العقيدة والإيمان.
ولقد قال في هذا الشأن أحد مفسّري الكتاب المقدّس الكاثوليك: إنّ الكنيسة هي وحدها خبيرة بما يخصّ الإيمان. نحن لا نقول إنّ البوليجينيّة هرطقة، بينما المونوجينيّة عقيدة موحاة، أقلّه ضمناً، لأنّ النصوص الموحاة لا تفصل الأمر. وإذا رجعنا إلى طريقة التعبير في الكتاب المقدّس رأينا أنّ الجماعة تبدو وكأنّها امتداد لشخص فرد، وأنّ الشخص يمثّل الجماعة. وبما أنّ المجموعة تؤلّف وحدة مع الفرد، فهو يعبّر عن شخصيّته عبر هذه الجماعات التي تمتدّ أجيالاً عديدة. فالفرد والجماعة يؤلّفان سويّة واقعاً واحداً. هذا الواقع هو ما يسمّيه مفسّرو الكتاب المقدّس "الشخصيّة المتضمّنة" بمعنى أنّ الفرد يتّحد بالجماعة بحيث إنّنا ننتقل بطريقة لاشعوريّة من الواحد إلى الآخر فيكون الفرد، وهو واحد من الجماعة، مماثلاً للجماعة لأنّه يمثِّل الجماعة بطريقة سامية.
ونشدّد على أنّ كلمة آدم تدلّ على الوجهة الفرديّة والوجهة الجماعيّة إذ تعني شخصاً فرداً، كما تعني مجموعة الناس. إنّ استعمال كلمة آدم بصيغة المفرد قليل، أمّا استعمال الجمع فهو كثير جدّاً. وكلمة آدم مع أل التعريف تعني البشر، الجنسي البشريّ، بعض الناس (1: 26) تعني كلّ إنسان وتعني كلّ الناس (اش 6: 12؛ سي 15: 17). إذا تصوّرنا آدم كشخصيّة تتضمّن البشر كلّهم، نفهم بطريقة أسهل كيف أنّ البشرّية وضعت قي حالة الخطيئة عندما ثار الإنسان الأوّل على الله. وهكذا لا يكون آدم فقط شخصاً فرداً عاش في الأزمنة الأولى فانتقلت خطيئته بطريقة سرّيّة إلى أبنائه الأبعدين. بل هو أيضاً كلّ الجنس البشريّ الذي يعيش مسبقاً في الإنسان الأوّل.
إنطلاقاً من كلّ هذا يمكننا أن نستخلص ثلاث ملاحظات في ما يتعلّق بالمونوجينيّة والبوليجينيّة:
أوّلاً: إنّ تعليم الكنيسة المتعلّق بأصل البشرّية الواحد لا يستند إلى نصف سفر التكوين بل إلى رسالة القدّيس بولس إلى أهل روما (5: 12- 19)
ثانياً: إنّ الأبحاث العلميّة الحاضرة أخذت تتّجه إلى المونوجينيّة ملتقية بتعليم الكنيسة.
ثالثاً: يجب أن نتفهّم نصوص الكتب المقدّسة دون أن نربطها أساساً بنظرّية فكرّية أو افتراض علميّ

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM