الفصل الأول: نشيد الخلق بحسب التقليد الكهنوتي

الفصل الأول
نشيد الخلق بحسب التقليد الكهنوتي
(1: 1- 2: 4)

أ- المقدّمة:
1- هذا الفصل هو نشيد يرفعه المؤمن العائش في جوّ الصلاة فيشكر الربّ الذي خلق كلّ ما خلق وسلّمه إلى الإنسان، ملك الخليقة وممثله على الأرض، وفيه يقدّم لله فعل العبادة والسجود لأنه وحده الإله الحيّ تجاه الآلهة المتعدّدة التي لا حياة فيها ولا كيان لها (1 كور 8: 4) والتي يعبدها سائر الشعوب.
2- نشيد يُتلى في الهيكل، وفي إحدى ليتورجيّات أورشليم الاحتفالية. يبدأ المرتل فيذكر عظمة الله المتجلّية في أعماله، في النور والمياه، في الأرض والنبات، في الحيوان والإنسان فتردّد الجماعة في جوقة أولى: ورأى الله ذلك أنّه حسن، وفي جوقة ثانية: وكان مساء وكان صباح. وعندما تعلن الجماعة أن ما خلقه الله كان حسناً جداً تستمطر بركة الله على اليوم السابع، يوم الراحة، وتدعو جميع الكائنات إلى تسبيح الله لأن اسمه عالٍ وجلاله فوق الأرض والسماء (مز 148: 12- 14).
3- صيغة هذا النشيد صيغة شعريّة وهو يقسم ستّة أبيات، توافق ستّة أيّام الأسبوع. الثلاثة الأولى تروي عمليّة الفصل والتمييز بين المخلوقات، والثلاثة الأخرى تروي عمليّة التزيين والتجميل. خلق الله الفلك ثم زيّنه بالشمس فأضفت على الجوّ والبحر جمالاً، وصنع الحيوان والإنسان وطلب إليهم أن ينموا ويتكاثروا و يملأوا الأرض. فما أعظم اسم الربّ (مز 104: 1)!
4- رأى بعض المفسّرين في هذا النشيد درساً في علم الطبيعة، لأنه أتى على ذكر النبات والحيوان والإنسان، ورأى فيه آخرون صورة مصغرة عن مراحل تطوّر الكون فاعتبروا كل يوم من الأيّام الستّة مرحلة من هذه المراحل التي تتحدّث عنها العلوم الحديثة. سنجيب هؤلاء وأولئك في ما بعد ولكنّنا نسارع إلى القول بأن هذه النظريّات لم تكن من اهتمامات الكاتب الملهم العائش في جوّ الهيكل والصلاة.
5- هذا النشيد يرجع إلى التقليد الكهنوتيّ المطعّم بالمعلومات البابليّة عن ولادة الكون. وهو يعلن أن أوامر الله حكيمة وصالحة وأن كلمته تفعل في السماء والأرض: قال فكان كل شيء. قال فكان هذا الكون المنّظم الذي على رأسه الإنسان، قال فامتلأت الأرض بالحياة وما زال العشب يبزر بزره والشجر يحمل ثمره والحيوان يتكاثر ويدبّ على الأرض أو يطير في الفلك أو يعوم في المياه.
6- في هذا النشيد، نجد بعد المقدّمة (1: 1- 2) قسمَين رئيسَين وخاتمة. يروي القسم الأوّل (آ 3- 10) عمليّة الفصل بين عناصر الكون، والقسم الثاني (آ 11- 31) عمليّة تزيين الكون وتجميله. أمّا الخاتمة (2: 1- 4) فهي تعطي معنى الأسبوع المؤلف من سبعة أيّام، ستّة أيّام من العمل يتوّجها اليوم السابع الذي هو يوم الراحة للربّ وللإنسان.
ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- مقدّمة: يوم خلق الله (1: 1- 2)
(آ 1) يتحدّث الكاتب عن الخلق بوجه عامّ.
البدء يعني بداية الزمان. قبل ذلك الوقت لم يكن شيء ما عدا الله. فالله هو قبل العالم ولا يخضع للعالم، اسم الله ترجمة للكلمة العبريّة "ألوهيم". (إيل في اللغات الساميّة) ويعني هذا الاسم ملء السلطان والقوة. ألوهيم اسم جمع ولكنّه يرتبط بفعل في صيغة المفرد، نفياً لأيّ تفكير في آلهة متعدّدة. فالله واحد هو عند بني إسرائيل.
- فعل "خلق" ترجمة للكلمة العبريّة "برأ"، ("برأ" في العربيّة)، وهي تدلّ على عمل الله الذي أنتج شيئاً جديداً بقوته السامية. وهذا الفعل لا يستعمل إلا لعمل الله وحده. أما فكرة الخلق من العدم فلن ترد إلا في 2 مك 7: 27. قالت الأمّ لولدها قبل أن يُساق إلى الموت حفاظاً على إيمانه: "أنظر يا ولدي إلى السماء والأرض. فإذا رأيت كل ما فيهما فاعلم أن الله صنع الجميع من العدم وكذلك أوجد جنس البشر".
- كلمة السماء والأرض تعني كل شيء موجود، أي الكون كفه في تنظيمه الرائع. وهكذا لخص الكاتب عمل الله كفه بعبارة واحدة.
(آ 2) يصوّر الكاتب حالة الفوضى التي سبقت تنظيم العالم وترتيبه. ويعبّر عنها بكلمة "تهو وبهو" وتعني الفوضى والفراغ. وهذه العبارة تدلّ على حالة الصحراء القاحلة الخربة (تث 32: 10؛ مز 106: 40) أو المكان الخالي الخاوي (إر 4: 23؛ أش 24: 11).
- "الغمر" يعني المياه الكثيرة. والغمر ترجمة لكلمة "تهوم" العبريّة ويقابلها في الأشوريّة كلمة "تيامات"، وهي تشخيص وتأليه للبحر، ومعناها لجّة المياه والأوقيانوس الكونيّ الذي يغطي الأرض ويغمرها. أمّا في التوراة فالغمر هو المياه وقد خلقه الله كما خلق السماء والأرض.
- يتكلّم الكاتب عن روح الله أو نسمته. وهذا الروح يرفّ ويتحرك ويرتعش (ار 23: 9) ويشبه في عمله حركة النسر عندما يرفّ بجناحيه أو يحوم فوق صغاره ليعلّمها الطيران (تث 32: 11). هذا هو عمل روح الله، تلك القوّة الخلاّقة المحيية. يقول الكاتب: "بكلمة الربّ صنعت السماوات وبروح فيه كل جنودها" (مز 33: 6). هذا في التقليد اليهودي، أمّا التقليد المسيحيّ فيرى في روح الربّ ونسمته تلميحاً إلى الروح القدس.
2- الفصل بين عناصر الكون (1: 3- 10)
في هذه الآيات نقرأ كيف خلق الله النور والفلك والنبات، وكيف فصل بين الليل والنهار، بين المياه الفوقيّة والمياه التحتيّة، بين البحر والأرض.
(آ 3) هنا تبدأ عمليّة الفصل بين النور والظلمة. وهكذا يبدأ أوّل أيّام الخلق، والنور هو أوّل المخلوقات. في العبريّة تعني كلمة "أور" نور الشمس والقمر والكواكب.
(آ 4) وعبّر الله عن رضاه واستحسانه لما صنع. قال الكتاب: "ورأى الله أن النور حسن". تتكرر كلمة "حسن" (طوب في العبرانيّة) سبع مرات (والعدد 7 هو رمز الكمال) في النص للتأكيد على أن الخليقة تحقّق كلّها إرادة الله ومشيئته. يأمر الله فينفذ أمره بسرعة: قال فكان كل شيء وأمر فكان كلّ موجوداً ( مز 33: 9).
(آ 5) الله يعطي اسماً للنور والظلمة. من يعطي إنساناً اسمه يكون سيِّداً عليه، ومن يعطي الأشياء اسمها يكون مالكاً لها ويتصرف بها كما يشاء. هكذا فعل الملوك الظافرون بالذين قهروهم (2 مل 24: 17). وكذلك فعل الله عندما أعطى المختارين لخدمته اسماً جديداً. (17: 19، 35: 10).
- في الحساب الليتورجيّ يبدأ العيد ليلة العيد ويبدأ النهار عند المساء. فإذا تذكرنا أن هذه الرواية عن الخلق هي نشيد ليتورجيّ يعدّد أعمال الله نفهم أن يورد الكاتب المساء قبل الصباح.
(آ 6- 7) أدته يخلق الفلك ليفصل بين المياه الفوقيّة والمياه التحتيّة. كان الأقدمون يعتبرون الفلك مساحة جامدة يفرشها الله كما يفرش الغطاء أو ينصبها كما تنصب الخيمة (1 ش 40: 22).
- الفلك هو القبّة التي نراها فوقنا والتي تحتجز خلفها مستودعات المياه الفوقيّة (7: 11 ي؛ صم 7: 12- 19). أمّا المياه التحتيّة فهي تلك الموجودة تحت الأرض. لم يكن العبرانيّون ليجهلوا تكوين الغيوم من البخار المتصاعد من الأرض (ار 10: 13؛ اي 36: 27- 28؛ مز 135: 17) لكنّهم اعتبروا المياه الفوقيّة الآتية من عند الله علامة بركة عكس المياه التحتيّة التي تمثل قوى الشّر وتعمل على ردّ العالم إلى العدم، لكن الله هو الأقوى وهو يسيطر عليها، وهي تخضع له وتأتمر بأوامره.
(آ 8- 10) الله يسمّي الفلك سماء. السماء في العبرانيّة اسم جمع (شميم) ويقابلها في الأشوريّة كلمة "شامو" وهي إله عبده الأقدمون. أمّا في نظر الكاتب، فالسماء خليقة مثل سائر الخلائق، برأها الله من العدم فخضعت له خضوعاً تامّا.
- في اليوم الثالث يتمّم الله نوعَين من الأعمال: يفصل المياه التحتيّة عن اليابسة ويستصلح الأرض ليزرعها. كانت المياه تؤلف في نظر الأقدمين مجموعة واحدة، وكانت موضوع عبادة البعض مدنهم. تم حدث تطوّر في مفهوم الكلمات، فاطلقت كلمة "يمّ" على البحر (اي 38: 8- 11)، وكلمة "تهوم" (أي الغمر) أطلقت على المياه التحتيّة (7: 11؛ 8: 2؛ 49: 25؛ تث 33: 13) التي ترتكز عليها الأرض (مز 24: 2؛ 136: 6) كما على قاعدة ثابتة.
3- تزيين الكون بالنبات والحيوان والإنسان (1: 11- 31)
في الآيات السابقة (آ 3- 10) تحدّثنا عن عمليّة التفريق والتمييز، ونتحدّث في الفقرات التالية عن عمليّة التجميل والتزيين. بعد أن كوّن الربّ الشمس والقمر خلق الأسماك في البحار والعصافير في الفضاء، ثم بهائم الأرض وأخيراً الإنسان.
(آ 11- 13) نجد هنا ثلاثة أنواع من المخلوقات أخرجتها الأرض.
- نوع من الخضير ينبت في الأرض تلقائيّاً (أي 38: 27).
- النبات العشبيّ أو البريّ (1 ش 42: 15) يقتات منه الحيوان (إر 14: 6؛ مز 106: 20) أو الإنسان.
- وأخيراً الأشجار المثمرة كالنخل والزيتون. هذه الأنواع الثلاثة تعطي ثمراً بحسب أصنافها. وإذ يحدّثنا الكاتب عن كل من هذه الأصناف فهو يشير إلى أن الله أقام في الكون نظاماً لا يتبدّل، لقد تمّ ما أمر به الله فأبدى رضىً واستحساناً.
(آ 14) في اليوم الرابع يخلق الله النيِّرات أو المنارات (مآرات في العبرانيّة). في هذه التسمية ردّ الكاتب الملهم على الأقدمين الذين اعتبروا الكواكب آلهة فعبدوها. وما سماه البابليّون آلهة يعتبره شعب الله خلائق وضعها الله لخدمة الإنسان وأعطاها اسماً دلالة على خضوعها له. وعيّن الربّ للنيّرات ثلاث وظائف:
- أن تفصل بين الليل والنهار.
- أن تكون علامة تساعد الإنسان في أسفاره (النجمة القطبيّة)
- أن تنير الأرض فيسير الإنسان والحيوان عليها.
نذكّر هنا أنّ استطلاع النجوم وأسرار الغيب كان محرماً لدى العبرانيّين ولقد قال لهم إرميا: "لا تتعلّموا طريقة الأم الوثنيّة ولا تضطربوا من آيات السماء التي تفزع منها، هذه الأمم" (إر 10: 2؛ رج اش 48: 13؛ أي 31: 26).
(آ 15) النور شرط أساسيّ للحياة. والأجرام السماويّة خلقت لخدمة الأرض وساكنيها من بشر وحيوان (أي 38: 33؛ مز 104 : 20).
(آ 16- 19) النيّران (الشمس والقمر) ينفّذان المُهمّة الموكولة إليهمَا. أغفلَ الكاتب عمداً ذكر اسم الشمس والقمر، مع أن اسمَيهمَا كانا معروفين منذ القديم عند البابليّين (شاماش، سين) وعند المصريّين (رع، تهوت). وإغفال الاسم تعبير عن رفض الكاتب لنظرة الأقدمين إلى مخلوقات عبدوها، لكنّها في نظره قناديل بيد الله تضيء على العالم ساعة يشاء الله وكما يشاء.
(آ 20) وفي اليوم الخامس خلق الله الأسماك والطيور والحيتان الكبيرة. نلاحظ أنّ الكاتب جمع الأسماك والطيور في يوم واحد كيلا تزيد أيّام الخلق على الستّة، مستنداً في ذلك إلى تقليد قديم يقول بأن العصافير تولد من المياه.
تحدّث الكاتب عن النفس فدلّ على أوّل ظهور للحياة. وزاد كلمة "حيّة" على كلمة "نفس" ليميّز النفوس "الحيّة" من النفوس "الميتة" ( لا 19: 28؛ 21: 1؛ 22: 4). فلون الدم عند الكائن الحيّ لا يشبه لون الدم عند الميت. وهكذا يكون مبدأ الحياة في الدم (4: 10؛ 9: 4- 6).
(آ 21) نُفّذ أمر الله فخلقت الحيتان العظام (مز 144: 7؛ اي 7: 12؛ اش 27: 1).
(آ 22- 23) الأسماك والعصافير بركة من الله وكذلك الحيتان العظام التي يخاف منها العبرانيّون. إن كل الخلائق حسنة لأن الله صنعها وهي تأتمر بأمره.
(آ 24) أخرجت الأرض كائنات حيّة ولكن الله هو الذي خلقها. وميّز الكاتب ثلاثة أنواع من الحيوان كما ميّز ثلاثة أنواع من النبات:
- البهائم وتعني تارة الحيوانات إجمالاً (خر 9: 19؛ ام 20: 30) وطوراً وحوش البريّة (تث 32: 24).
- الدبّابات التي تدبّ على الأرض.
- وحوش الأرض.
(آ 25) بعد أن تمَّ تنفيذ أمر الله، أخذ الكاتب يعدّد وحوش الأرض ثمَّ البهائم والدبّابات. لكن الله لم يباركها كما بارك الأسماك والطيور من قبلها، لأن بركتها تأتي مع بركة الإنسان.
وجاء دور الإنسان ذروة الخلق كلّه. فصوّر الكاتب الله وكأنه يتهيّأ لعمل احتفاليّ رسمي. لم يعطِ أمراً تنفّذه الطبيعة كما صنع مع سائر المخلوقات، بل عرض قصداً اتخذه، بعد استشارات قام بها ليخلق الإنسان على هذه الصورة وبهذا الشكل، مميّزاً إيّاه عن بقيّة الخلائق وخاصة الحيوان. إن الله خلق الإنسان على صورته ليجعله سيّد الكون وما فيه من مخلوقات.
(آ 26- 29) "لنصنع الإنسان" (نعثه آدم في العبرانيّة): ماذا تعني صيغة الجمع هذه؟ لقد رأى فيها كثير هن الآباء تلميحاً إلى سر الثالوث الأقدس. غير أنّ المعنى الحرفي للنص لا يسمح بهذا التفسير. كما أن فكرة التوحيد عند العبرانيّين لم تكن تسمح لهم بأن يتصوّروا سرّاً لم يكشف الله لهم عنه إلاًّ في العهد الجديد.
- وذهب المفسّرون إلى القول بأن الله استشار الملائكة "حاشيته" في البلاط الإلهيّ كما يفعل الملوك على الأرض. وقال آخرون إن هناك تلميحاً إلى وجود آلهة متعدّدة. وكلا التفسيرين مرفوض. إذاً قد تكون صيغة الجمع هذه صورة للتعبير عن كمال الله، كما أن صيغة الجمع في كلمة "ألوهيم" تعبّر هي أيضاً عن جلالة الله وعظمته.
- إنّ كلمة آدم تعني الجنس البشري، وهي اسم جمع وستصبح اسماً مفرداً في ما بعد. وآدم يعني الأمر لأنّه آخذ من أرض حمراء اللون. وترتبط كلمة آدم بكلمة "آدمة" أي الأرض لأنّه منها أُخذ، وعليها يعيش، وإليها يعود (3: 19- 20؛ 7: 1؛ اي 10: 9).
- "على صورة الله ومثاله": هل للكلمتين معنى واحد؟ الصورة (صلم في العبريّة) تعني الصورة المنحوتة وتدلّ على صورة الوثن (رج كلمة صنم في العربيّة، عا 5: 26؛ عد33: 35؛ 2مل 11: 18). وتقابلها كلمة "صالمو" الأشوريّة التي تدلّ على تمثال الإله.
ولكنّ الإنسان ليس صورة الله بل هو مخلوق بحسب صورة الله. وأيّة صورة ترسم الكائن في الكائنات فتنجح نجاحاً كاملاً؟ لذلك أراد بعض الآباء أن يفصلوا بين معنى الصورة ومعنى المثال (دموت).
بمَ يقوم شبَه الإنسان بالله؟ ليس الشبَه بالجسم كما كان شيت يشبه أباه (5: 1- 3)، لأن العبرانيّ لا يقبل بأنّة صورة ماديّة لله. أيكون الشبَه روحيّاً؟ الإنسان يشبه الله بفكره وإرادته وتسلّطه على الخلائق. فالله كشف في خلقه عن إرادته وفكره، وعن سيادته المطلقة: كان يأمر فتطيعه الخلائق. غير أن سلطان الإنسان على الخلائق ليس جوهر الشبَه بينه وبين الله (مز 8: 6؛ سي 1: 2- 4) بل هو نتيجة لهذا الشبَه. فالإنسان يسود على الحيوانات بقوّة الروح لا بقوّة الجسد، وهي تخضع له وتخافه وتعبده.
ولكن، هل من حاجة إلى الفصل بين الروح والجسد؟ يكفي أن نقول: الإنسان كلّه على صورة الله لأن الجسد والمادّة سيتروحنان في المسيح الذي يجدّد الخليقة كلّها على مثال جسده الممجّد.
جاء في النص العبرانيّ: "طير السماء والبهائم وجميع الأرض"، إنّما يجب أن نقرأ: "طير السماء والبهائم وحيوانات البر على جميع الأرض"، وذلك استناداً إلى النص السريانيّ وإلى تحليل النصّ نفسه.
(آ 30) الله يعطي الإنسان طعاماً هو النبات الذي يحمل بذره في داخله، والحبوب وثمار الأشجار. أمّا الحيوانات فلها البقول والأعشاب. وهنا يطرح السؤال: هل أن الإنسان نباتيّاً في البداية؟ هذا ما اعتقده الأقدمون فقالوا: إن عصر البشريّة الذهبيّ لم يعرف من الطعام إلاَّ النبات. وورد في الكتاب المقدّس أن الله لم يسمح للإنسان بأكل اللحوم إلاَّ بعد الطوفان (9: 3) وهذا ما قاله آباء الكنيسة مشدّدين على السلام القائم بين الله والإنسان من جهة، وبين الإنسان والخلائق من جهة ثانية، معتبرين أن المصالحة بين الله والإنسان هي مصالحة أيضاً بين جميع الخلائق ومنها الإنسان (هو 2: 20؛ اش 11: 5- 9).
(آ 31) إنتهى عمل الخلق فنال استحسان الله ورضاه إذ قال ما لم يقله من قبل: "فإذا هو حسن جدّا". وهذه العبارة تنطبق على الأرض كلّها أو على أعمال الله في اليوم السادس وخاصة على الإنسان.
4- الله يكرّس اليوم السابع للراحة (2: 1- 4)
(آ 1) نقرأ هنا تلخيصاً للنشيد الذي سمعناه: أكملت السماوات والأرض وكلّ جيشها. إنّ كلمة جيش (صبا) تعني الكواكب (1 ش 34: 12؛ مز 33: 6؛ تث 4: 19)، لا الملائكة (1 مل 22: 19؛ مز 149: 2).
(آ 2- 3) في اليوم السابع لم يخلق الله شيئاً، بل ارتاح بعد أن بارك ذلك اليوم وقدّسه، أي فصله كيلا يكون مثل بقيّة الأيّام.




أجل، بارك الربّ اليوم السابع وجعله ينبوع بركة. قدّسه واحتفظ به لنفسه لأنّه يوم مكرس. في ذلك اليوم، استراح (سبت) الربّ، ولهذا صار ذلك اليوم يوم سبت وراحة. والمؤمن يرتاح في ذلك اليوم (خر 20: 11) ويتنفّس الصعداء (خر 31: 17) لأن الله استراح. لفا كان بنو إسرائيل في أرض العبوديّة لم يكن لهم ليرتاحوا يوماً في الأسبوع. ولمّا تحرّروا من العبوديّة سمحوا لنفوسهم بالراحة وأعطوا لعبيدهم وإمائهم أن يتوقّفوا عن العمل ويرتاحوا يوماً في الأسبوع (تث 5: 14- 15؛ رج خر 23: 12).
(آ 4) القسم الأوّل من آ 4 ختام لنشيد الخلق الأوّل بحسب التقليد الكهنوتيّ والقسم الثاني بداية الرواية الثانية بحسب التقليد اليهوهي. ونحن نترجم كلماته: "تلك كانت قصّة خلق السماوات والأرض".
ج- ملاحظات حول رواية الخلق بحسب التقليد الكهنوتي:
1- إذا كنّا نجهل مَن كتب نصّ هذه الرواية، فهذا لا يعني أنّها مجرد خرافة أو أسطورة كما يحلو للبعض أن يقولوا. فالنص تعليم مقدّس قديم العهد تناقلته أجيال من الكهنة فحافظت عليه وأغنته بتأمّلها. والنص وإن نقّح مراراً ليستقرّ في شكله النهائيّ في زمن الجلاء، فجذوره تنغرس في جماعة شعب الله الأولى التي أعطتنا هذه الآيات القليلة نتيجة لصلاتها النابعة من إيمانها.
2- هناك تقليدان عن الخلق: الخلق بواسطة الفعل الإلهيّ والخلق بكلمة الله. الكاتب الكهنوتي يشدّد على الخلق بالكلمة، وهذه علامة نضج لاهوتي. أمّا التفكير القديم فهو يورد الخلق بالفعل (آ 7 صنع الله الجلَد، آ 16) ليشدّد على العلاقة المباشرة بين الله والخليقة. وكلا التقليدّين ضروريّ للحصول على صورة كاملة عن عمل الخلق الإله.
3- لم يقل لنا الكاتب كيف تمّت عمليّة الخلق، إنّمَا اكتفى بذكرها، راجعاً إلى بعض الأفكار من محيط الشرق القديم، فصفاها ونقّاها قبل أن يدخلها في إطار الكتاب المقدّس، واستبعد منها كل ما يتعارض وإيمان شعب الله. ونعطي مثالاً على ذلك: ماذا بقي من صورة "تهوم" (الغمر) التي يقابلها في أساطير البابليّين "تيامات"، ذلك التنّين العظيم؟ بقيت كميّة من الماء خلقها الله وأخضعها لأوامره. في الأساطير القديمة كان هناك مبدأ شرّير يعارض مبدأ الله الخالق. أمّا في الكتاب المقدّس فلا أثر لأيّ معارضة، لأنّ "تهوم" ليس قوّة في حدّ ذاته، بل خليقة من خلائق الله، ولم يوجد بقوّته الذاتيّة، بل وجوده مرتبط بإرادة الله التي تنظّم الكون.
4- نقرأ في الآية الأولى من هذا النص ملخصاً للفصل كلّه: الله هو خالق كل شيء وما من قوّة خلاقة سواه. فالمسافة بين الله وأيّة خليقة سواه هي هي، لأنّها مسافة لا متناهية، إنّما هناك تفاوت ودرجات بين الخلائق نفسها. أبعد شيء عن الله هو "الشواش" أو السديم والليل الذي يدخل في نظام الكون. ثمّ النبات الذي يرتبط مباشرة بالأرض الخصبة، وبطريقة غير مباشرة بالأرض التي يخصبها الله بكلمته.
تم تأتي الحيوانات وقد باركها الله لتنمو وتملأ الأرض. وفي قصّة الهرم يقف الإنسان وجهاً لوجه أمام الله. وهكذا يكون الإنسان محور الكون والواسطة التي بها يتّصل الله بالكون.
5- لقد اهتمّ الله اهتماماً خاصَّا بالإنسان. عندما خلق المخلوقات دعاها إلى الوجود بكلمة سريعة، ولكن عندما خلق الإنسان ركّز عليه كل علمه وقدرته وحبّه، فتوّج به أعماله في الكون المنظور. وهذا المخلوق الجديدّ طبعه بطابعه الشخصيّ وجعله على صورته ومثاله. وعندما يفكر الإنسان أن الله أحبّه حبّاً لا يسبر غوره، عليه أن يمتلئ قلبه إعجاباً. وعن هذه العاطفة عبّر المزمور الثامن بقوله:
ما الإنسان حتى تذكره
وابن البشر حتى تهتّم به
نقّصته عن الإله قليلاً
وكلّلته بالمجد والكرامة.
6- ليس الإنسان غريباً عن هذا الكون الذي خلقه الله، إنّه من نتاج الكون، لذا نرى تجانساً بين الاثنَين. غير أنّه يتميّز تمييزاً تامّا عن بقيّة الخلائق لأنّه على شبه الله، وهذا ما يجعله في شخصه الفريد، سيّد الكون وتاج الخليقة. إنّه، في ذاته، تعبير عن معنى الخليقة ووجهتها؟ فيه تتّجه الخليقة إلى خالقها في نشوة الفرح، وهو الذي يترجم رغبة الكون وانطلاقته في صلاة يرفعها إلى الله ولكن بسبب الإنسان أيضاً يستطيع الكون أن ينحدر فيصبح موضوع لعنة من قِبَل الله.
7- غير أنّ المعنى الكامل لهذا النصّ عن خلق الإنسان لا يتّضح تمام الوضوح إلاَّ عندما نقابله بنصوص العهد الجديد التي تتحدّث عن تجسّد ابن الله. فالطريقة الاحتفاليّة المهيبة التي بها خلق الله الإنسان الأزل ترتبط بتجسّد الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وهو الحدث الذي سيتحقّق في الزمن مع أنّه حاضر منذ الأزل في معرفة الله. إنّنا لا نفهم خلق الإنسان في مخطط الله إلاّ على ضوء تجسّد الإنسان الإله، وما خلق الإنسان الأوّل إلاّ رمز مستق لتجسّد الإنسان الثاني. إنّه صورة لن تتبلور إلاّ في يسوع المسيح، آدم الحقيقيّ والصورة الجليّة الكاملة للإنسان الخلوق على صورة الله ومثاله، لأنّه هو صورة الله المنظور (كو 1: 15).
8- إن الشبَه بالله عطيّة ورسالة. وهذه الرسالة تحدّد سلطان الإنسان على العالم ومسؤوليّته عن كل الخلائق. والعلاقة بين صورة الله وسلطة الإنسان نفهمها إذا انطلقنا ممّا كان يقوم به الملوك في القديم، إذ يرفعون لهم أنصاب تمثلهم وتشهد لعظمتهم في أماكن بعيدة لم يذهبوا إليها. فالله أقام الإنسان على الأرض صورة له وممثلاً وعلامة تدلّ على عظمته. وكلَّفه بأن يكون وكيله.
9- صورة الله تظهر في الرجل والمرأة معاً. وهذا ما يدلّ عليه النص إذ ينتقل من صيغة المفرد (خلقه) إلى صيغة الجمع (خلقهم) فالإنسان لم يخلق رجلاً منفرداً، بل خلق رجلاً وامرأة. إن الله ذاته خلق تنوّع الجنس، خلق الذكر والأُنثى ودعا الإنسان إلى أن يعيش مع غيره، لا منعزلاً، وعندما يلتقي الجنسان في علاقة محبّة ومشاركة يكوّنان صورة كاملة للإنسانيّة التي هي ذكر وأنثى.
10- ونظر الله فإذا كل شيء حسن جدّاً. تلك كانت صرخة الإيمان بعد أن عمت الفوضى العالم. إن يد الله ليست هي التي أدخلت الشر إلى العالم، كما أن قوّته لا تحدّها قوة معادية. وعندما يتكلّم المؤمن عن الخلق فإنّه متأكد أن الله خلق العالم كاملاً. غير أن الواقع المرير يجابهه بالعكس، وهذا يعني أن العالم لم يبق نقيّاً كما خرج من يد الله. وسيبحث الفصلان الثاني والثالث عن سبب الاضطراب والخلل في العالم، وإن هو إلاَّ الخطيئة التي انفجرت في قلب الإنسان فملأت الكون شراً وخراباً

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM