تفسير الكتاب المقدس

تفسير الكتاب المقدس

خلال قيامي بتدريس الكتاب المقدّس في عهده القديم لطلاب اللاهوت في كرم سدّه وفي الكسليك وحريصا، شعرت بالحاجة الملحّة إلى تفسير للكتاب المقدّس ينطلق من المعطيات العلميّة الحديثة دون أن يغرق القارئ متاهات لا خروج له منها، وينطلق من معرفة باللغة العبرانيّة والسريانيّة واليونانيّة دون أن يصبح الكتاب قاموساً من قواميس اللغة القديمة، وينطلق من تاريخ العبرانيّين وآدابهم دون أن ينسى الإطار الشرقي الواسع الذي ولدت فيه أيضاً آداب مصر وبابل وفينيقيا.
وخلال عملي في ترجمة الكتاب المقدّس اكتشفت غنى عظيماً لم أتوصّل إليه خلال تدريسي للكتاب وأبحاثي الشخصية. وهذا الغنى أردت أن أنقله إلى قراء اللغة العربيّة ليكتشفوا بعض ما اكتشفت ويعرفوا أن كلام الله مصباح لخطانا ونور لسبيلنا. وها أنا اقدّم تفسيراً للكتاب المقدّس في عهده القديم ضمن سلسلة اسمها: المجموعة الكتابيّة، وهي تتوجّه إلى الراعي في رعيّته، وطالب اللاهوت ومعلّم التعليّم المسيحيّ، وكل إنسان مثقّف يبغي فتح آفاق واسعة على محيطه الشرقيّ القديم، وكل مؤمن يريد التعمّق في إيمانه.
أسلوب الدرس
1- مقدّمة طويلة تعرفنا بالسفر المدروس من الناحية الأدبيّة والجغرافيّة والتاريخيّة والروحيّة
2- تقسيم السفر أقساماً وفصولاً، وإيضاح الروابط بين هذه الأقسام والفصول.
3- عرض كل فصل على الشكل التالي: مقدّمة تبيّن علاقة الفصل بسابقه أو نوعه الأدبيّ أو معناه العام.
تفسير الآيات الكتابيّة تفسيراً بدخلنا إلى معانيها.
إستخلاص المعاني وطرح المسائل التي تهمّ القارئ من الوجهة الأدبيّة والعلميّة واللاهوتية.
إيراد النصوص الكتابية
ترد النصوص الكتابيّة بحسب النسخة العبرانيّة في ما يتعلّق بالأسفار القانونيّة الأولى أي تلك المدوّنة أصلاً في اللغة العبرانيّة (أو الآراميّة).
أمّا نصوص الأسفار القانونيّة الثانية أي تلك التي نقلنها إلينا الكنيسة في اللغة اليونانيّة، فهي ترد بحسب الترجمة السبعينيّة.
عمليّا نتَّبع الترتيب المعمول به في الترجمة الكتابيّة المسكونيّة في اللغة الفرنسيّة.
ينتج من ذلك أن أرقام المزامير تختلف عمّا نجده في ترجمة الآباء اليسوعيّين والدومينيكان (بالعموم هناك فرق في رقم واحد. مز 11 في النسخة اليسوعيّة هو مز 12 في النسخة العبرانيّة) وإن أرقام الآيات في المزامير تختلف عمّا نجده في ترجمة جمعيّة الكتاب المقدّس، التي لا تعطي رقماً لمقدّمة المزمور (مرّات عديدة هناك فرق في رقم واحد. مثلاً في 83: 4 في العبرانيّة هو 83: 3 في نسخة جمعيّة الكتاب المقدّس).
وينتج أيضاً بعض الفروقات في ترقيم فصول وآيات تختلف فيها اليونانيّة و(اللاتينيّة) عن العبرانيّة مثلاً: زك 1: 1 ي يحتوي 17 آية في النص العبراني و21 آية في النصّ اليونانيّ (الذي يتّبعه كل من نص الآباء اليسوعيّين والجمعيّة). وهذا ما يجعل زك 2: 1 بحسب النص العبرانيّ يقابل 1: 18 في النص اليونانيّ. وزك 2: 1 بحسب النصّ اليونان يقابل 2: 5 في النصّ العبرانيّ.
وتفصيلاً عندما نقول تك 2: 4 فنحن نعني سفر التكوين الفصل الثاني الآية الرابعة.
وعندما نقول خر 3: 4- 6 فنحن نعني سفر الخروج الفصل 3 من الآية 4 إلى الآية 6 ضمناً.
وعندما نقول لا 4: 5، 9 فنحن نعني سفر اللاويين (أو الأحبار) الفصل 4 الآية 5 والآية 9.
وعندما نقول عد 4- 6 فنحن نعني سفر العدد من الفصل الرابع إلى الفصل السادس ضمناً.
وعندما نقول تث 1: 2؛ 3: 4 فنحن نعني سفر التثنية الفصل الأول آية 2ثمَّ الفصل 3 آية 4.
تسمية الأسفار المقدّسة
هناك أسماء اتفق عيها المترجمون العرب (سفر التكوين مثلاً) وأسماء اختلفوا عليها. فسفر الجامعة الذي يسمّيه الشّراح الغربيّون "قوهلت" (كما في العبرانيّة) سمّاه الشدياق "الواعظ". وسفر اللاويّين الذي هو السفر الثالث من أسفار موسى قد سمَّته الترجمة السريانيّة البسيطة سفر الكهنة (كهني) والترجمة اليسوعيّة سفر الأحبار مقتفية بذلك ترجمة الشدياق. ثم إن الترجمة اليسوعيّة ذكرت أسفار الملوك الأول والثاني والثالث والرابع على خطى اليونانية واللاتينيّة، أمّا نحن فسنذكر سفر صموئيل الأول وسفر صموئيل الثاني، ثم سفر الملوك الأول وسفر الملوك الثاني. ونسمّي السفر الرابع من أسفار موسى سفر العدد (عِوَض سفر الأعداد كما في الشدياق)، والسفر الخامس سفر التثنية عِوَض تثنية الاشتراع كما في الشدياق واليسوعيّة.

مقدمة عامة
التاريخ هو معرفة ماضي البشريّة وتطوّرها منذ البدايات إلى أيّامنا. يكتبه المؤرخ فيروي الأحداث السابقة ويذكر الوقائع كما وضلت إليه. وهمُّه في ذلك تفسير الحاضر على ضوء الماضي.
كتب الفينيقيّون تاريخهم وبقي لنا منه ما بقي في مكتبة أوغاريت (رأس شمرا)، وكتب البابليّون والأشوريّون في بلاد الرافدّين تاريخهم فاكتشفناه في بابل، أشور ونوزي وماري وإبله. ودوّنت مصر تاريخ الفراعنة، فاحتفظت لنا بمراسلات مع ملوك سوريا ولبنان وفلسطين وجدناها تحت أرض تل العمارنة. وكتب اليونان واللاتين تاريخ بلادهم فكان لنا مؤلّفات هيرودوت وكسينوفون وتيت ليف وغيرهم.
وكتب شعب إسرائيل تاريخه أو بالأحرى تاريخ الله في الكون الذي خلقه، تاريخ الله مع الإنسان الذي أراد له السعادة، تاريخ الله مع شعب أقام معه عهداً وطلب إليه أن يسير في طرقه ويحفظ وصاياه ويعمل بها. يبدأ تاريخ الله في شعبه مع الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، فيبيّن لنا أن من نسمّيهم آباءنا في الإيمان كانوا أناساً ضعفاء خطأة، ولكنّهم وضعوا يدهم في يد الله فكانت لهم البركات الوفيرة جزاء اتكالهم على الله وثقتهم به.
هذا هو موضوع الكتاب الذي نقدّم. عنوانه تاريخ الكون والإنسان، ومضمونه تفسير لسفر التكوين، ننطلق فيه من الدراسة الأدبيّة والتاريخيّة والعلميّة للنصّ الكتابيّ علَّنا نبلغ بالقارئ إلى اكتشاف كلمة الله من خلال كلمات البشر. ليست النصوص التي بين أيدينا كلاماً مكتوباً فحسب، بل هي حياتنا لأنّها تساعدنا على العيش برضى الله. وليست فقط حكمة بشريّة تشبع رغبتنا في الاطلاع والمعرفة، بل آيات دوّنت لنؤمن بالله، وإذا آمنّا نلنا باسمه الحياة الأبديّة.
بهذه الروح المؤمنة سنقرأ سفر التكوين. نقرأ عن الإنسان الأوّل، الإنسان الأصل الذي نكتشفه في كل واحد منّا كموضوع بركة الله. هذا الإنسان يجذبه الشر فيقطع كلّ علاقة له بالله. ويبغض أخاه وقريبه و يملأ الكون جوراً وفساداً. ونقرأ أيضاً عن إبراهيم وإسحق ويعقوب، عن إبراهيم الذي هو بداية مشروع عظيم سيجد كماله في يسوع المسيح، عن إسحق الذي كانت ذبيحته رمزاً إلى ذبيحة المسيح، عن يعقوب الذي كان أباً لشعب سيخرج من صلبه المسيح.
1- سفر التكوين
سفر التكوين هو أوّل أسفار موسى أو البنتاتوكس وهو يحدّثنا عن تكوين العالم وبداية عمل الله في البشر. هو جزء من شريعة موسى، ولكنّه يتضمّن في الأساس أخباراّ تتعلّق بآباء شعب الله، فيدشّن تاريخاً يهمّ الشعب اليهودي وكنيسة المسيح والبشريّة جمعاء.
يورد سفر التكوين أخباراً من حياة الآباء جُمِعَت بطريقة تبيِّن أن الله يتدخل لخير إبراهيم ونسله. وقد سبقت هذه الأخبار مقدّمة تحدّد موقع إبراهيم بالنسبة إلى شعوب الأرض وتشتمل على ملخص عن مصير البشريّة ومحاولاتها وفشلها عبر قصص شهيرة هي قصّة الخلق، وآدم وحوّاء، والطوفان وبرج بابل.
لن نجد في هذا الكتاب قصصاً مستقلّة قي حدِّ ذاتها، بل بداية مجموعة من الأخبار تروي كيف كوّن الله شعباً يكون له شاهداً بين الشعوب. ولم يكتب سفر التكوين دفعة واحدة، بل جاء نتيجة تأمّل أجيال وأجيال فجمع في طيّاته اختبار الحاضر والتاريخ السابق وآفاق المستقبل. قصّة إبراهيم وإسحق ويعقوب هي تباشير وأوائل قصّة شعب سيطلب إليه أن يمشي بالكمال مع الله (17: 1) فيُعطى أرض الربّ ويقيم فيها لا كغريب ونزيل، بل كابن في ملك الرب وميراثه.
2- اسم الكتاب
اسمه في العبرانيّة "براشيت" (رأس في العربيّة أي في البداية) وهي الكلمة الأولى من السفر الذي هو بداية الأسفار المقدّسة. يروي بداية أعمال الله في الكون وفي شعبه. اسمه في اليونانيّة "جناسيس" أي ولادة وأصل وتكوين. أمّا في السريانيّة فاحمه كما في العبرانيّة "بريشيت" أي في الابتداء والرأس والباكورة، أو كما في اليونانيّة "بريتو" أي الخلق والخليقة. وسمّاه التقليد اليهوديّ السفر الأوّل سن أسفار موسى الخمسة فدلّ على ارتباطه بمجموعة البنتاتوكس التي ألَّف وإياها كتاباً واحداً.
3- كاتب سفر التكوين
إعتبرت التقاليد القديمة أنّ موسى هو الذي دوّن البنتاتوكس أو الأسفار الخمسة، كما دوّن داود المزامير، وسليمان الأسفار الحكميّة، ولكنّ دراسة النصوص على ضوء الوسائل العلمية الحديثة بيّنت لنا وجود تقاليد دينيّة كتبت في أوقات متباينة وأماكن مختلفة.
هذه التقاليد ثلاثة: التقليد اليهوَهيّ، التقليد الإلوهيميّ، التقليد الكهنوتيّ، وسنكتشفها من خلال قراءتنا للنصوص. وما نقوله منذ الآن هو أن أحد الحكماء الذين عاشوا في زمن الملك سليمان فشهدوا لسلالة داود والبركة التي باركها بها الربّ ، قدّم لنا نسخة أولى لسفر التكوين نسمّيها التقليد اليهوهي. وإن أحد الأنبياء العائشين بمخافة الله والعاملين بوصاياه قدّم لنا من وجهته نسخة ثانية لسفر التكوين نسمّيها التقليد الألوهيمي. إندمجت هاتان النسختان في القرن 8 بعد خراب السامرة، عاصمة الشمال، سنة 722. وخلال القرن 6، انطلق أحد الكهنة من هذا النصّ الذي وصل إليه فأغناه بالتقليد الكهنوتي وأعطانا سفر التكوين بالشكل الذي بين أيدينا، فجاء تعبيراً عن إيمان وإقراراً بخطيئة وإعلاناً لما وعد الله به أحبّاءه: أكون لكم إلها فتكونون لي شعباً.
4- أقسام سفر التكوين
سفر التكوين كتابان. كتاب أوّل (ف 1- 11) يروي بداية الكون والإنسان، وكتاب ثاني (ف 12- 50) يتحدّث عن آباء شعب إسرائيل، إبراهيم وإسحق ويعقوب.
في الكتاب الأوّل نقرأ خبر الخلق في كل من التقليد الكهنوتي (1: 1- 24) واليهوهيّ (2: 4: 25)، تمّ خبر التجربة والخطيئة (3: 1- 24) وسلسلة أنساب آدم بحسب التقليد اليهوهيّ (4: 1- 26) والكهنوتي (5: 1- 32). ويأتي خبر الطوفان حيث يمتزج التقليد اليهوهيّ بالتقليد الكهنوتي، فنَعْلَم أنّ ما حدث ليس وليد صراع بين الآلهة كما تقول الأساطير، بل عقاباً للإنسان الذي ملأ بخطيئته الكون شرّاً وفساداً. ثم يحدّثنا الكاتب عن نسل نوح (ف 10) الذي سيتشتّت في ما بعد بسبب بناء برج بابل (11: 1- 9)، والذي سيجتمع من جديد في شخص إبراهيم بن تارح بن ناحور حامل بركة الله إلى شعبه، ثم إلى كل الشعوب.
في الكتاب الثاني نقرأ خبر إبراهيم (12: 1- 25: 18) فنتعرف إلى دعوته وعهده مع الربّ وولادة إسماعيل ابنه من هاجر الأقة، وممارسته للختان. ونقرأ ظهور الربّ له عند بلّوطة ممرا حيث يعلن له عن دمار سدوم وعمورة وينبئه بمولد إسحق. ويولَد إسحق، حامل العهد، فيطلب الله من إبراهيم أن يضحّي له بإسحق، فيطيع إبراهيم ولكن الله يعلن له أنّه لا يريد الذبائح البشريّة.
وتذكر لنا الفصول اللاحقة موت سارة، امرأة إبراهيم، وزواج إسحق من رفقة، ثم زواج إبراهيم من قطورة. تم نقرأ خبر إسحق وولدّيه عيسو ويعقوب، وإقامته في جرار حيث يقطع عهداّ مع أبيملك ملكها، ونرافق يعقوب (27: 1- 36: 43) الذي سرق. البركة الوالديّة قبل أن يهرب إلى خاله لابان ويقيم عنده. وهناك يتزوّج ليئة ثمّ اختها راحيل، ويرجع إلى أرضه وقد كثُر نسله ونما غنمه وزاد مقتناه. وينتهي سفر التكوين بقصّة يوسف بن يعقوب (37: 1- 50: 26): باعه إخوته فأقام في مصر عبداً قبل أن يصبح وزير الفرعون. حين تحل المجاعة بالبلاد يأتي إخوته فيستقبلهم مرة أولى بجفاء، ومرة ثانية ببعض الحفاوة، قبل أن يأتي بهم مع والده ليقيموا في أرض جاسان، في دِلتا النيل. وهكذا تمتدّ فصول سفر التكوين زارعة الأمل في قلوب أبناء إبراهيم وإسحق ويعقوب الذين تركوا الأرض الموعود بها وأقاموا في مصر بانتظار أن يقيموا في بابل عبيداً للكلدانيّين. قال يوسف لاخوته: "سيذكركم الله بالخير ويخرجكم من مصر إلى الأرض التي أقسم عليها ووعد بها إبراهيم وإسحق ويعقوب، فحين يذكركم الله بالخير أخرجوا عظامي معكم من هنا" (50: 24- 25). ومات يوسف على أمل أن يعود جثمانه إلى أرض الموعد. وانتظر نسل يعقوب وشعب إسرائيل وتنهدوا وصرخوا إلى الربّ فسمع الله أنينهم ونظر إليهم فعرف فيهم أبناء إبراهيم (خر 2: 23: 27) فعزم على إخراجهم من أرض العبوديّة. وتألّم الشعب المنفي في بلاد الرافدّين بعد دمار أورشليم سنة 587 ق. م. وترجّى أن يخلّصه الرب ويرافقه كما رافق آباءه ويسكنه أرض الميعاد.
5- مصادر سفر التكوين
روى الكاتب الملهم بداية الكون والبشريّة فاستقى معلوماته بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من عالم الشرق القديم، ولا سيما من مصر وبلاد الرافدّين ومنطقة الفينيقيّين والكنعانيّين. والاكتشافات الأثريّة التي تم العثور عليها منذ القرن الماضي تدلّ على القرابة بين صفحات سفر التكوين الأولى وأناشيد عالم الشرق. ويبدو الأمر طبيعيّاً عندما نعرف أن الأرض التي أقام فيها بنو إسرائيل انفتحت على التأثير الخارجي. وإن شعب الله اتّصل عبر تاريخه بشعوب الشرق. ولكنّ هذه الاكتشافات بيّنت لنا أيضاً أن الكاتب الملهم لم يتبع المصادر التي أخذ منها بطريقة حرفيّة، بل أعاد صياغة معلوماته بحسب تقاليد شعبه مشدّداً على إيمانه بالله الواحد. فيمكننا مثلاً أن نقابل بين خلق العالم على يد الإله مردوك (في ملحمة أنوما أليش) والخلق بيد يهوه. وبين قصّة الطوفان كما نقرأها في ملحمة جلجامش والقصّة التي نقرأها في سفر التكوين. وبين أبراج بابل الشاهقة (المسماة زيغورات) وبرج بابل الذي يرمز إلى تمرد الإنسان على الله وتحدّيه لأوامره ووصاياه.
وإذا طالعنا مليّاً الأخبار التي دوّنت بعد أن حدثت بمئات السنين، فهي تبرز تجذّراً حقيقيّا في المحيط الذي عاش فيه هؤلاء الآباء. فالحفريّات الأثريّة في كل من أوغاريت (شماليّ اللاذقية في سوريا) وماري (على الفرات) تساعدنا على التعرف إلى تقاليد الآباء الذين اندمجوا في الجماعات التي عاشت في الألف الثاني ق. م. فآداب إبراهيم ونسله وعاداتهم تذكرنا بعادات قبائل البدو المالكة لقطعان الغنم وآدابهم، تلك القبائل المتنقّلة على حدود ما يسمّى بالهلال الخصيب. والعلاقات التي تقوم بين هؤلاء البدو وسكان المدن، هي تارة علاقات سلام وحسن جوار وتارة علاقات خصومة وحرب. أمّا الانتقال من حياة البداوة إلى حياة الزراعة فنشاهدها عند أبناء إبراهيم: يزرع إسحق الأرض فيصيب غلّة كبيرة (26: 12) وكذلك يفعل يعقوب الذي سيشتري حقلاً فيدفع ثمنه مئة من الفضة (33: 19).
لا شك في أنّنا لا نستطيع أن نتعرف إلى قصّة الآباء بطريقة دقيقة، لأن المسافة بعيدة بينهم وبين الذين دوّنوا أخبارهم، ولأنّهم عاشوا على هامش التاريخ السياسيّ لبلدان الشرق الأوسط. ولكنّنا نكتشف من خلال قراءة سفر التكوين صدّى لاهتماماتهم اليوميّة من تأمين عيش لأولادهم ومراعي لمواشيهم. ونعرف أن الكاتب اكتفى ببعض الأحداث مهملاً أموراً أخرى لا تزيد شيئاً على التعليم الديني الذي يريد أن يوصله إلى أبناء هؤلاء "الآباء النجباء الأبرار الذين ولدنا منهم" (سي 44: 1، 10).
6- المواضيع التعليميّة في سفر التكوين
إنّ سفر التكوين غنيّ بالمواضيع التي لا ينسى كل من التقليدَين اليهوديّ والمسيحيّ أن يطالعها ويتأمّلها. فموضوع الخلق الذي يفتتح هذا السفر ينشده سفر المزامير (8: 1 ي) فيقول: "أيها الربّ ربّنا، ما أعظم اسمك في كل الأرضي... أرى سماواتك وعمل أصابعك، القمر والكواكب التي كوّنتها..." ويقول أيضاً: "بسطت يا ربّ السماء كستار، جعلت المياه سقف علاليك وسحاب السماء مركبة لك... أسّست الأرض على قواعدها، فلا تتزعزع إلى الأبد... صنعت القمر لتوقيت الشهور والشمس تعرف مدارها... ما أعظم أعمالك يا ربّ. بالحكمة صنعتها جميعاً فامتلأت الأرض من مقتناك" (مز 104: 2 ي). وينشد أيوب (38: 1 ي) الخلق فيدعو المؤمن إلى الخشوع أمام عظمة الله، وكذلك يفعل سفر أشعيا (40: 1 ي) ليدلّ على الخالق الذي كوّن العالم من لا شيء، والذي يستطيع أن يعيد بناء شعبه مهما بلغت به الحالة. وقصّة الطوفان يستوحي فصولها القدّيس متى (25: 1 ي) في إنجيله فينبئ بنهاية العالم، والقدّيس بطرس (1 بط 3: 18 ي) ليحدّثنا عن المعموديّة...
تبدأ مسيرة إبراهيم بوعدٍ يعد به الله ويكرره على نسله القريب والبعيد. فأبناء إبراهيم في عهد يشوع وداود انتظروا أن يحقق الله وعده لهم فيقيمون في أرض كنعان (يش 24: 1 ي) بقيادة ملك يثبت إلى الأبد (2 صم 7: 1 ي). وأبناء العهد الجديد رأوا أن وعد الله لإبراهيم قد تحقق في المسيح: "فأنتم كلّكم أبناء الله بالإيمان بيسوع المسيح، لأنّكم تعمّدتم جميعاً في المسيح فلبستم المسيح... فإذا كنتم للمسيح فأنتم نسل إبراهيم ولكم الميراث بحسب الوعد" (غل 3: 26- 29). وتسترعي ذبيحة إسحق انتباه المعلّمين اليهود الذين يرون في شخص إسحق المربوط على الحطب ينبوع استحقاق لأبنائه مدى الدهور، أمّا الآباء الأوائل للكنيسة فيرون في هذه الذبيحة صورة مسبقة لمّا حدث ليسوع المسيح يوم الجمعة العظيمة.
وتستوقفنا أيضاً وجوه في سفر التكوين: وجه آدم أبي أوّل عيلة على الأرض يتضامن أفرادها في الخير والشرّ، ووجه نوح الذي نال حظوة عند الربّ حين صنع ما أمره الربّ به. ووجه يعقوب المحتال والكذاب والذي التقى الرب يوماً في مجاز يبوق فخلّصه من ذاته وبذل له اسمه وحياته. ووجه يوسف الولد البريء والشابّ الذي يحمل حكمة الرب في أرض مصر فيدلّ على أن الرب يوجّه كل شيء لخير الذين يحبّونه.
وجوه رجال ووجوه نساء: حوّاء التي أغوتها الحيّة ولكنّها أمّ كل حيٍّ من نسلها يخرج واحد يسحق رأس الشرّ في العالم، وسارة التي تسرّ عندما تعرف أنّها ستكون أُمّاً لإسحق ابن الوعد، ورَفقة التي تعمل في الخفاء لإنجاح ابنها المفضل، وليئة وراحيل الأختان المتخاصمتان للسيطرة على قلب يعقوب، وامرأة فوطيفار ودينة وتامار.
كلّ هذه الوجوه دخلت في مخطط الله ولا يزال المؤمنون ينظرون إليها ويعجبون من أعمال الله العظيمة فيها. هو الذي فعل في الماضي وهو يستطيع أن يفعل المعجزات اليوم فينا نحن المؤمنين، لأن اسمه قدّوس ورحمته تمتدّ إلى أجيال وأجيال لخائفيه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM