تقديم

تقديم

في تأمّلاتنا لنبوءة أشعيا، ننتقل من عالم إلى عالم. من مدينة أورشليم وجبال يهوذا، إلى أقاصي الأرض. عاش أشعيا خلال القرن الثامن أكثر من أزمة هو وشعبه، فتحدّث إليهم بشكل مباشر وكأن لا بشر خارج فلسطين. مملكة الشمال بعاصمتها السامرة سقطت. ومملكة يهوذا بعاصمتها أورشليم مهدّدة. فلا بدّ من تنبيه هذين الجناحين في مجموعة اعتبرت أنّها تحمل كلام الله، وتدعو لعبادته على أنّه الاله القدوس الذي يملأ بأذياله الهيكل، كما يملأ السماوات والأرض بمجده.

ذاك كان موضوع الجزء الأول حيث استمعنا إلى كلام أشعيا وتأمّلنا فيه. أمّا الآن، فمضى شعب أورشليم ويهوذا إلى المنفى. عرفوا بلاد الرافدين بغناها، بشعبها القوي، بآلهتها ولا سيّما مردوك الذي تغلّب على تيامات، إلاهة المياه المالحة، قبل أنّ يرتّب الكون ويجعل كلّ خليقة في موضعها. فهمَ هؤلاء اليهوذاويّون أنهم ليسوا وحدهم في العالم. فهناك شعوب أخرى عديدة يغار عليها الربّ ويتمنّى خلاصها. وكانت «نبوءة» يونان بشكل خبر يدلّ على أهميّة توبة نينوى وسائر المدن الكبيرة. فالله هو إلهها كما هو إله أورشليم. وكما مسح لمدينته المقدسة داود ونسله، مسح لبابل كورش ليعيد كلّ منفيّ إلى أرضه، سواء كان من مملكة يهوذا، أو من سائر الممالك الصغيرة الواقعة في سورية ولبنان وفلسطين.

توسّع الأفق في هذا الجزء الثاني. والله لم يعد فقط إله الخلاص بالنسبة إلى شعب كوّنه من لا شيء، من بعض الرعاع. بل هو إله الخلق. لا إله تجاهه. لا إله سواه. لم يعد هو إله الآلهة، وكأن هناك آلهة يمكن أنّ يعترف بها الكتاب. بل هو الاله. ولم يعد هو ربّ الأرباب، وكأن المؤمن يعتبر أنّ لكلّ شعب رباً كما أنّ لكلّ شعبٍ ملكاً. فالله الذي يعبده النبي هو الربّ، هو يهوه. الاله الذي هو. وما عداه ممّا يُحسَبون آلهة، هم لا شيء. لهم عيون ولا يرون، لهم آذان ولا يسمعون، لهم أيد ولا يفعلون. بل هم لا يستطيعون أنّ يتحرّكوا. فيجب أنّ يُحمَلوا على الأكتاف لينتقلوا من موضع إلى آخر. أمّا الإله الواحد القائم في مدينته أورشليم، وفي هيكله المقدس، فما هو ملتصق بموضع من المواضع. في البرية، كان يسير مع شعبه. وحين مضى النخبة من أورشليم إلى المنفى، انتظرهم الربّ في جبل الزيتون، شرقيّ المدينة، ثمّ انطلق معهم. ولما عادوا إلى ديارهم عاد معهم. بل هو فتح الطريق لهم، فصارت الصحراء جنّة غنّاء، والطريق تمهّدت من أجل هؤلاء الناجين.

وكما فعلنا في الجزء الأول، فعلنا في هذا الجزء الثاني. قدّمنا النصّ النبويّ في سياقه التاريخيّ وفي اتصاله بالأحداث التي عرفها سفر أشعيا. في أساسه نبيّ كان قريباً من ملوك يهوذا. ولكنّ النصوص التي تركها أعيدت قراءتها، لا على أنّها كلمات ماضية تحرّك الحنين إلى مثل هذه الشخصيّة الكبيرة، بل على أنّها موجّهة الآن لأشخاص عرفوا قساوة المنفى والتهجير، قبل أنّ يعرفوا قساوة أخرى حين عادوا إلى بيوتهم فوجدوها خربة، وإلى حقولهم، فوجدوها يابسة إن لم يكن الغرباء استولوا عليها.

وأوردنا النصوص، وما اكتفينا بالإشارة إلى المراجع، وهمّنا أنّ تدخل نصوصُ العهد القديم، ولا سيّما نصوص الأنبياء، في قراءتنا اليوميّة للكتاب المقدس، وفي صلاتنا وتأمّلاتنا. فيبقى علينا أنّ ندخلها في حياتنا، فلا نكتفي أن نردّدها غيباً، بل نصل إلى عمق معناها الذي لا يمكن إلاّ أن يقود إلى المسيح، ولا سيّما في الكلام عن عبد الربّ وعابده: هو وحده يبرّر الكثيرين ويشفع فيهم بعد أن حمل خطاياهم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM