سبّحوه بالعود والكنّارة، صلاة من المزامير : يا ربّ من جيل إلى جيل
 

 

يا ربّ من جيل إلى جيل-90

يطرح المرتّل سؤالاً يؤلم قلبه: كيف نوفّق بين الواقع المرير وأمانة الله لمواعيده؟ ولكن الرب لا يحسب حساب الزمن، حساب الوقت. ألف سنة في عينيه كيوم أمس الذي عبر. هو سيحقّق مشاريعه الخلاصيّة ويعرف متى يحقّقها. أما الإنسان فزمنه محدود، وهو لا يعيش إلا سبعين أو ثمانين سنة. حينئذٍ تتفجّر الصلاة: لا تتأخّر يا ربّ، ولا تجعلنا ننتظر طويلاً ساعة الرحمة.
إن أمانة الله لشعبه تتجاوز العصور. إنها كحكمته تعود إلى الأزل. ويحدّد الربّ موقع عمله خارج حدود الوجود البشريّ. وهو يميت ويحيي كما يشاء، بمعنى أن الحياة سرّ والموت سرّ. والزمان هو كلا شيء أمامه، هو كالثوب الذي يبلى. أما الله فيدوم إلى الأبد ومعه يدوم الوجود البشريّ.
وعندما تحلّ "الضربة"، يظنّ الإنسان أن الله غاضب. وغضبه هو ما يحطّم وجود الإنسان. عند ذلك تبدأ صلاة تنبع من التعارض بين أزليّة الله حيث يتجذّر حبّه لأخصّائه، ومأساويّة مصير الإنسان الخاضع لغضبه. فلا نحكم على عمل الله في فترة قليلة من الزمن، بل يجب أن نتحلّى بالحكمة.
ولكن لا تتوقّف تمنّيات المرتّل هنا. وإلاّ شعرَ أنه عائش في الخوف تحت غضب الله. فالمؤمن ينتظر الفرح، وأيام نعمة الله "المشمّسة". هو متأكّد أن الله سيعود، و"يندم" عن موقفه تجاه عباده. وعباده لا يكتفون بلحظة من السعادة، بل يريدون أن "يشبعوا"، فيغمرهم فرح يوازي، بل يتعدّى الألم الذي عانوه في الماضي.

يا ربّ من جيل إلى جيل كنت معيناً لنا
من قبل أن تولد الجبال وتنشأ الأرض وساكنوها
من الأزل إلى الأبد أنت الله.

أنت دوماً تجعلنا في أمان، أنت دوماً حاضر معنا
أنت هو الإله الأمين الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر
أنت ثابت كالجبال، بل أنت الذي صنعت الجبال
أنت دائم دوام المسكونة، بل أنت الذي أنشأت المسكونة وجئت بها من العدم
منذ الأزل أنت إلهنا يا الله، وإلى الأبد تبقى لنا الملجأ الذي فيه نحتمي.

تعيد الإنسان إلى التراب وتقول: عودوا إلى التراب يا بني آدم
ألف سنة في عينيك كيوم أمس الذي عبر أو كهنيهة من الليل.

نحن لا نزال نتذكّر كلامك لآدم، ولكل واحد منا
نتذكّر ما تقول: أنت من التراب وإلى التراب تعود
فنعرف أننا لسنا خالدين ولو وصلت سنونا إلى ألف سنة
أجسامنا بيوت من خزف، أساسها في التراب، وستُسحق كالتراب
حياتنا وإن طالت ألف سنة هي بالنسبة إليك كلا شيء: كيوم أو كهنيهة.
حياتنا، وإن كانت ثابتة كالجبال، تزول كما تزول الجبال
أما أزليتك أيها الخالق فلا بداية لها ولا نهاية.

تجرفهم فيكونون كالغفوة وكعشب سرعان ما يزول
في الصباح ينبت ويزهر، وعند المساء يذبل وييبس.

أنت تنظر إلى الأرض فترتعد، تمسّ الجبال فتصير دخاناً
تحجب وجهك فيموت كلّ حيّ، وإلى التراب يعود
عملك يشبه العاصفة، وهي تزيل الناس كالعشب الذي يموت
أفهمنا أننا بشر كالعشب الذي ينبت وما يعتّم أن يذبل وييبس
كل عظمتنا تسير إلى الفناء، وكل مجدنا يدوم ما دام الزهر في الصحراء
وأنت وحدك تدوم من الأزل، وستدوم إلى الأبد يا الله.

نحن نفنى بغضبك ونرتعب بحدّة غيظك
تظهر آثامنا أمامك، وخفايانا في نور وجهك.

نحن خطئنا فاستحققنا العقاب، وآثامنا جلبتْ علينا غضبك
خطىء آدم في الفردوس، فخاف من نور وجهك، وارتعب من وقع خطاك
وخطئنا نحن، فخفنا لمّا دخل نورك إلى أعماقنا الخفيّة، وأظهرَ آثامنا على بشاعتها
كنا في الظلمة وما كنا ندري، وحاولنا أن نستر خطايانا عنك
ولكنك الإله الذي لا يخفى علبك شيء، وآثامنا أمامك في كل حين
فارجع يا ربّ عن حدّة غضبك واغفر لنا.
تزول أيامنا بغيظك وتفنى سنونا كالسراب
سنون حياتنا سبعون سنة، أو ثمانون إذا كنّا أقوياء
زهوتها تعب وعناء وتمرّ سريعاً مرور الطير.

أراد الإنسان الأول أن يكون خالداً، ولكنه عاد إلى التراب لأنه من التراب
ونريد نحن أن تدوم حياتنا، ولكنها لا تدوم طويلاً
سبعون سنة وثمانون سنة وتنتهي، ويأتي الموت سريعاً كالطير
وماذا نقطف من هذه السنين التي عشناها؟
تعب وعناء، ألم وشقاء
ومع ذلك لا نريد أن نترك هذه الحياة.
فعلّمنا يا ربّ أن أيامنا معدودة،
وأعطنا الحكمة الحقّة فنستند إليك وحدك
ونفهم أن لا خلود لنا إلا فيك ومعك
أعطنا قلباً فهيماً فندرك معاني كلماتك: إن آمنا ستكون لنا فيك الحياة الأبديّة..

من يعرف شدّة غضبك، بل أي خوف يجلبه غيظك
علّمنا أن أيامنا محدودة فتدخل إلى قلوبنا الحكمة.

نحن بحاجة إلى المعرفة، لا معرفة العقل والعاطفة وحسب، بل معرفة القلب
معرفة العقل لا تصل إلى الحياة، أما معرفة القلب فتدخلنا في عالم الإيمان
نحن نعرفك عندما نلازمك ونتّحد بك ولا نرضى الابتعاد عنك
نحن نعرفك يوم نسمع وصاياك ونعمل إرادتك ولا نرضى عنها بديلاً
نحن نعرفك فتعرفنا، نحن نؤمن بك فتثبِّتنا في الايمان
تحن نسمع لك فتُدخل إلى قلوبنا كلمتك.

نحن بحاجة إلى المخافة، والمخافة أول الطريق إلى المحبة
مخافتك يا ربّ هي رأس الحكمة، مخافتك يا ربّ قمّة الفهم والفطنة
الجهّال لا يريدون مخافتك، بل أنكروا في قلوبهم أنك موجود
الجهّال جعلوك أصمّ لا تسمع وأعمى لا ترى، جعلوك بعيداً فلا تنظر إلى البشر.

أعطنا الحكمة الحقة فنعرفك حاضراً في أعمالنا، في حياتنا، في الكون أجمع
أعطنا الحكمة الحقة فنستفيد من الزمان ما زال يدعى زمان
أعطنا الحكمة الحقة فنعرف أن أيامنا معدودة ولسنا بخالدين،
امنحنا الحكمة فنجعل الوزنات التي أعطيتنا تثمر أفضل الثمار
لا تسمح أن نكون كالعبد الشرّير الذي ينسى أنك آت،
بدأ يضرب رفاقه ويجلس مع السكّيرين ونسي عودتك
وامنحنا اليقظة أنت يا سيداً تأتي خلال الليل أو في ساعات النهار
وامنحنا أن نكون مستعدّين فلا يطالنا غضبك ونذهب بغيظك إلى الظلمة البرانيّة.

إرجع يا ربّ، إلى متى؟ وكن عزاء لعبيدك
أشبعنا باكراً من رحمتك، فنزنّم ونفرح في كل أيامنا
فرّحنا عن أيام عنائنا، عن سنين رأينا فيها الشرّ
دع فضلك يظهر لعبيدك وجلالك يتجلّى لبنيهم
أنعم يا رب علينا وصُن لنا عمل أيدينا. عملَ أيدينا صنْهُ لنا يا ربّ.

تركتَ تلاميذك بعد القيامة، فانتظروك آتياً من جديد،
صعدت إلى السماء، فظلّت عيونهم مرتفعة إلى السماء.
وتركتنا نحن في غربة هذه الحياة وشقائها، لهذا رفعنا إليك أنظارنا
تركتنا في ضياعنا، فبتنا ننتظر منك كل عون
ذهبت وتركتنا، إرجع إلينا وخلّصنا، وأعد إلى قلوبنا الشجاعة والقوّة والعزاء
نحسّ وكأننا وحدنا، أرسل إلينا نورك فيضيء علينا في ظلمة العالم
نحسّ بالعزلة، كن رفيق عزلتنا،
وأعطنا علامة من لدنك أنت يا من لا تخذل المتّكلين عليك.

أيامنا الماضية أيام تعب وعناء، فمتى تجعلها أيام فرح يا ربّ؟
أيامنا الماضية أيام نوح وبكاء، فمتى تجعلها أيام بهجة وترنيم؟
أيامنا الماضية غمرها الشرّ، فمتى نرى الخير الذي هيّأته لمختاريك؟
أيامنا الماضية عرفتْ الذل، فدع جلالتك تتجلّى علينا وبهاءك ينيرنا.
أيامنا الماضية كانت في الضيق، فدع فضلك يظهر لعبيدك.

عملنا الكثير وما بقي من عملنا شيء، فأنت صُنْ عمل أيدينا
أرسل إلينا نعمتك ولترافقنا كلّ أيام حياتنا
أفض علينا رحمتك فهي حياتنا إلى الأبد.

نحن عبيدك يا ربّ، وهذا فخر لا يضاهيه فخر
نحن خاصتك، ولا نريد أن نتعبّد لأحد سواك يا ربنا وإلهنا
في الشدّة نحن عبيدك، وفي السهولة عبيدك
في الحزن نحن لك، وفي الفرح نحن لك
إن جعنا لا ننساك، وإن شبعنا لا ننساك
إن كنا وضعاء، فأنت تنزل إلينا وترفعنا من الحضيض والمزبلة
وأن ارتفعنا فبيدك نرتفع ويمينك تعظّمنا.

نحن عبيدك يا ربّ، ولكنك تريدنا أبناء لك
نحن كالابن الضال. ابتعدنا عنك ورجعنا، ولا نجسر أن نرفع عيوننا إليك
نحن كالابن الضال نرضى أن نكون عبيداً عند مائدتك
نرضى أن نأكل من الفتات المتساقط على الأرض
ولكنك تدعونا أبناء، والأبناء ينعمون بكل ما للآب من خيرات.
الإبن الضال كان له الحذاء والثوب والخاتم والعجل المسمّن
ونحن سيكون لنا أكثر من كل هذا
نحن الوارثون لملكوتك، نحن الأبناء مع يسوع المسيح الابن الوحيد.

نحن عبيدك، ولكننا قبلْنا نعمتك فجعلتنا أبناءك
روحك يعمل فينا أعمال الله، فتصير كل أعمالنا تمجيداً لاسمك
روحك ينفح فينا نسمة الله، فتصير كل أقوالنا نشيداً وترنيماً لعظمتك
روحك الذي يقدّس قرابيننا، يعلّمنا كيف نصلي فنهتف لك كالأطفال: أبَّا، أيها الآب
روحك يحلّ فينا فيقدّسنا ويجمعنا عبر الابن الوحيد
روحك يقدّسنا ويدخلنا معك في شركة الثالوث الأقدس.
بعد هذا لن نطلب شيئاً، لن نقول شيئاً
بل نسكت سكوت الفرح ونترك قلبنا ينشد وكل ما فينا يمجّدك
أيها الآب والابن والروح القدس من الآن وإلى الأبد. آمين.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM