مع جماعة رومة :القسم الخامس عشر: سبيل الجسد وسبيل الروح

سبيل الجسد وسبيل الروح
8: 8- 11

يجد الفصل الثامن من الرسالة إلى رومة وحدته في اعتبارٍ حول حبّ الله الذي تجلّى في إرسال ابنه. وعلى مرّ حياة المسيحيين، يُترجم هذا الحبُّ بعمل الروح القدس. هنا يبرز الصراع بين الجسد والروح كقوّتين متناقضتين. أما المسيحيّ الذي وُلد من عمل المسيح، فيعيش في مناخ الروح. هذا ما نقرأه في آ 8- 11:
(8) والذين يسلكون سبيل الجسد لا يمكنهم أن يُرضوا الله. (9) أما أنتم فلا تسلكون سبيل الجسد، بل سبيل الروح، لأن روح الله يسكن فيكم، ومن لا يكون له روح المسيح، فما هو من المسيح. (10) وإذا كان المسيح فيكم، وأجسادكم ستموت بسبب الخطيئة، فالروح حياة لكم لأن الله برّركم. (11) وإذا كان روح الله الذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات يسكن فيكم، فالذي أقام يسوع من بين الأموات يبعث الحياة في أجسادكم الفانية بروحه الذي يسكن فيكم.

1- السياق العام
في نهاية الرحلة الرسوليّة الثالثة، أقام بولس بعض الوقت في كورنتوس. وكانت مشاريعه واضحة: يبدأ فيعود إلى أورشليم، ويمرّ في أنطاكية ليتّصل من جديد بالجماعة التي انطلق منها. ثم ينطلق إلى رومة ليهيّئ فيها رحلة رسوليّة جديدة في المنطقة الغربيّة من المتوسط (اسبانيا). وتكون نقطة انطلاقة وسنده الجماعة المسيحيّة في رومة. هذه الجماعة لم يعرفها بولس ولا هو أسّسها ولا هو أنماها. وإذ نوى أن يزورها، أرسل إليها رسالة يقدّم نفسه فيها، هذا مع العلم أنه كان معروفاً لدى الكثيرين.
في هذه الرسالة، عالج الرسول مسألةً حرَّكت الكنيسةَ كلها في ذلك الوقت: العلاقة بين التبرير والإيمان. بين الشريعة اليهوديّة والشريعة الانجيلية. بين مسيحيين جاءوا من العالم اليهوديّ وآخرين جاءوا من العالم الوثني. سبق لبولس وعالج الموضوع بحدّة في الرسالة إلى غلاطية. جاء بعض المبلبلين فهاجموا رسالته وإنجيله، فوجب عليه أن يدافع عن نفسه. أما في الرسالة إلى رومة، فعرضَ المسألةَ بهدوء وبطريقة منهجيّة. وهكذا كانت الرسالة إلى رومة أول مقال من اللاهوت المسيحيّ، عرف النجاح الكبير في تقليد الكنيسة.
إذن تشكّل هذه الرسالة مقالاً لاهوتياً حقيقياً. أما القسم العقائديّ في حصر المعنى فيتضمّن الفصول الثمانية الأولى، وفيها يظهر بولس مؤوّلاً للكتاب على طريقة المعلّمين. أسند طرحه إلى النصوص البيبليّة، وعبّر عن فكره بلغة الكتاب المقدّس، وهكذا جاء في خطّ تقليد كريم، فمن يعارضه؟
بدأ الرسول فأعلن طرحه (1: 16- 17): الله يخلّص جميع البشر، يهوداً ووثنيّين، في يسوع المسيح. والانسان يتقبّل هذا الخلاص بالإيمان. وتتوسّع الفصول التالية في هذا الطرح وتُبرز متضمّناته.
صوّر بولس أوّلاً الحالة الخاطئة التي يعيشها جميع البشر من وثنيّين ويهود (ف 1- 3). كلهم خطئوا فاستحقّوا غضب الله وعقابه. إذن، كلهم يحتاجون إلى الخلاص. وفي يسوع المسيح، كشف الله للانسان وضعه الميأوس ودلّه على المخرج. والله نفسه هو من يبرّر. ورسم بولس مختلف وجهات هذا التبرير.
أولاً، ينال الانسان التبرير بالايمان، لا بالأعمال (ف 4). وأورد بولسُ مثلَ ابراهيم الذي خلّصه إيمانُه بكلمة الله، لا طاعته لفرائض الشريعة التي أُعلنت بعده بمئات السنين.
ثانياً، ينال الانسان التبرير في المسيح وبالمسيح (ف 5) الذي هو المخلّص الوحيد لجميع البشر، لليهود وللوثنيّين. وهو رأس البشريّة الجديدة، كما كان آدم رأس البشريّة القديمة. ويتحقّق عملُ الخلاص في شكل أسراريّ (6 6)، إذ يشارك فيه الانسان بواسطة المعموديّة التي تجعله يموت ويقوم مع الربّ يسوع.
ثالثاً، إن هذا التبرير يحرّر المسيحيّ من الشريعة (ف 7) التي قامت بمهمّتها ولعبتْ دورها. أما الآن، فقد ألغيت، وتجاوزها الواقعُ الجديد. جعلها الانسان وسيلة لتبرير ذاته، ولم يحسبها مجرّد نداء إلهي، وفي هذا أخطأ.
ولكن ما هو هذا التبرير في حدّ ذاته؟ يجيب بولس على هذا السؤال في نهاية عرضه العقائديّ (ف 8). التبرير هو هبة الروح، هو حياة جديدة. الله يعطي الانسان روحه القدوس، فيجعله ابنه بالتبنّي، ووارثه في المسيح يسوع. الله يُلزم نفسه تجاهنا، فيجعل منّا خليقة جديدة. فإن كان الله معنا، فمن علينا؟ إن كان الله برّرنا، فمن يتّهمنا؟ فيبقى علينا أن نتقبّل عطيّة الله في الايمان. وأنهى بولس عرضه بشكل احتفاليّ كما بدأه: «وأنا على يقين أن لا الموت ولا الحياة... ولا شيء في الخليقة كلها يقدر أن يفصلنا عن محبة الله في المسيح يسوع ربنا» (8: 38- 39).

2- تحليل النصّ
في 8: 8- 11، نكتشف جوهر الخلاص. فالانسان يخلُص بموهبة الروح التي يمنحه الله إياها. هنا يعارض الجسدُ (أو بالأحرى البدن، اللحم والدم وما فيهما من ضعف وميل إلى الخطيئة) الروح، والروح الجسد. الجسد هو العالم البشريّ المطبوع بالخطيئة. هو العالم الأرضيّ الذي يخضع لنير الموت. والروح هو العالم الالهيّ الذي تجد فيه البشريّةُ الجديدة نفسها. هو العالم الروحيّ الذي ولده الله بقيامة يسوع. الانسان اللحميّ يطلب نفسه فيجد الموت. والانسان الروحي يحمله الروح فيقوده إلى الحياة والسلام. الأول يعيش العداوة مع الله، ولا يستطيع أن يخضع لشريعة، فلا يقدر أن يرضي الربّ. أما الثاني فيحيا من حياة الله بالذات، وينفتح على مشيئته فينال حنانه ورحمته (8: 5- 8).
حين نُترك ونفوسنا، نبقى في خطيئتنا فنكون أناساً لحميّين. غير أن الله يترأّف بنا، فيخلّصنا بابنه يسوع. نقلنا من عالم الجسد (اللحم والدم) إلى عالم الروح. منحنا روحه الذي يحيا منذ الآن حقاً فينا. وها نحن صرنا عيلة الله بالذات (8: 9).
يُذكر السرُّ الخلاصيّ مراراً في العهد الجديد، ولا سيّما عند القدّيس بولس، على أنه هبة الروح. وهذا الروح يُعطى للبشر ويجعلهم مشاركين في قدرة الله وحكمته. هذا الروح نزل على الرسل وأكمل عمل المسيح الفدائيّ (أع 2: 1- 11). وهكذا حرّك الروحُ عملَ يسوع (مت 12: 28؛ لو 4: 18)، فلا تستطيع الكنيسة أن تحيا إلاّ إذا حملها الروح. فهي تصوَّر في عطية الروح التي تنالها في النهاية (أع 2: 17- 18؛ 8: 15- 17؛ 19: 2- 6؛ 1 كور 12: 13؛ روم 5: 5).
والمسيحيّ يخلص بالروح الذي يقدّسه ويجعل منه هيكلاً له (2 تس 2: 13؛ 1 كور 3: 16؛ 6: 19). إن موهبة الروح تجعل من الانسان إبنَ الله الذي يقتدي بالربّ (8: 16؛ غل 4: 6؛ 1 تس 1: 6). والروح هو ينبوع مختلف الخدم وتجلّيات الحياة المسيحيّة (1 كور 12- 14). كما يُدعى المسيحيّ لأن يقوم بقوّة الروح الذي جعل يسوع ينتصر على الخطيئة والموت.

3- تطبيق النص
نحن مسيحيّون، أو بالأحرى نحن في الطريق لكي نصير. ونعيش حالياً سرّ فدائنا (آ 10). لقد تماثلنا مع المسيح الذي يمتلكنا شيئاً فشيئاً. وحين يتكلّم بولس عن جسدنا وروحنا، فهو يدلّ على حالتنا اللحميّة وما فيها من ضعف، وحالتنا الروحيّة التي يُنعشها الروح القدس.
ما زلنا نعيش حياتنا الأرضيّة، فنحن مطبوعون بالخطيئة، وهكذا يُحكم علينا بالموت. لهذا يجب أن يفنى كلُّ ما فينا من خطيئة. يجب أن يغرق الانسان العتيق في الموت لكي يستطيع الانسان الجديد أن يحيا.
وفي الواقع، دخل إلينا الروح، إجتاحنا. فشاركناه منذ الآن في حياته، ونعمنا منذ الآن بثمرة البرّ التي نلناها مجاناً. نحن حقاً مبرّرون فيه منذ حياتنا الحاضرة.
وعاد بولس مرة أخرى إلى فكرته (آ 11). إن الله أقام يسوع من بين الأموات بقوّة روحه. وقد أعطانا هذا الروحَ عينه الذي يقيم الآن فينا. بعد ذلك، لا شكّ في أن الله يخلّصنا من وضعنا المائت، ويقيمنا كما أقام المسيح، ويمنحنا الحياة الروحيّة، المتحرّرة من قبضة الشرّ، اللافاسدة واللامائتة.
والبرهان واضح. هو يرتبط بالكرازة المسيحيّة الأولى: تُنسب قيامةُ المسيح إلى الله، قبل أن تُعتبر تجلياً لقدرة يسوع ذاته. كما يبيّن أن سرّ خلاصنا هو موهبة الروح. كل هذا يبيّن الطابع المسيحيّ لما ستقوله الخاتمة: المسيحيّ انسان جديد يحيا من الروح، منذ الآن في محدوديّته، وغداً في ملء عطاء الله، يتجلّى موته كما تجلّى موتُ المسيح: بدا هذا الموت في الظاهر نهاية ودماراً، غير أنه في الواقع قيامة وحياة جديدة.

خاتمة
حدّد هذا المقطعُ البولسيّ الذي قرأناه موقعَ الوجود المسيحيّ تحديداً عجيباً. وبرزت وجهتان بشكل خاص تدلاّن على الطابع الجديد والديناميكي فيه. في يسوع المسيح تجلّت الحياة المسيحيّة تجلّياً. وكشف الله كلَّ مخطّطه على خليقته التي يقودها في النهاية إلى كمالها.
لا نستطيع أن نعبّر عن هذا السرّ إلاّ بتمتمة تشبه تمتمة الطفل حين يريد أن يتكلّم عن أمور تتعدّاه: ان الانسان يقاسم الله حياته، يحيا من روح الله، يصير ابن الله بالتبنّي. حقاً، «نحن أبناء الله، ورثة الله وشركاء المسيح في الميراث، نتألّم معه لكي نتمجّد أيضاً معه» (آ 16- 17).
وما نحن عليه الآن، يجب أن نصيره بعد. فنحن الآن نعيش سرّ خلاصنا. ووجودُنا البشريّ هبة ورسالة، وكذلك دعوتنا المسيحيّة. أنا انسان، ولكني لا أصبح كذلك إلاّ بقدر ما أمسك بيدي، في كل لحظة، وضعي كإنسان. وأنا مسيحيّ، ولكني لا أصبح كذلك إلاّ بقدر ما أموت، كل لحظة، وأقوم مع المسيح. وروح الربّ أعطيَ لنا. ولكن يجب أن نتقبّله، وأن نتيح له أن يجدّدنا يوماً بعد يوم.
وهكذا حاول بولس أن يبيّن لنا جوهر المسيحيّة. ولم يكتف بالنظريّات، بل ذكر كائننا المسيحيّ وحدّد عملنا، وبعد ذلك سوف يكشف ما يطلبه إيماننا من تصرّفاتنا. ونحن نتبعه إذا شئنا أن يكون تعليمُه تعليمَنا. ها قد رُسمت الطريق. يبقى علينا أن نسير فيها، لا بحسب الجسد، بل بحسب الروح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM