مع جماعة رومة :القسم الرابع عشر: صراع الانسان بينه وبين نفسه

صراع الانسان بينه وبين نفسه
7: 14- 25

قال بولسُ الرسول: جاءت الشريعةُ فكثُرت الخطايا (5: 20). وقال في غل 31: 9: أضيفت الشريعة من أجل معاصٍ جديدة. أما يجب أن ننظر إليها على أنها المسؤولة عن الموت الذي يصيب البشر؟ الجواب هو كلا. فالمسؤوليّة هي مسؤوليّة الخطيئة التي استعملت الشريعة. وفي النهاية، أنا هو المسؤول. أنا البشريّ، اللحميّ، والخاضع للخطيئة. ما استطعتُ أن أتحرّر من قبضة الخطيئة لأخضع للشريعة. فأنا أضعف من ذلك. فمثلُ هذا التحرّر لا يمكن أن يتحقّق إلاّ في المسيح. ونقرأ 7: 14- 25:
(14) ونحن نعرف أن الشريعة روحيّة، ولكني بشر بيع عبداً للخطيئة: (15) لا أفهم ما أعمل، لأن ما أريده لا أعمله، وما أكرهه أعمله. (16) وحين أعمل ما لا أريده، أوافق الشريعة على أنها حقّ. (17) فلا أكون أنا الذي يعمل ما لا يريده، بل الخطيئة التي تسكن فيّ، (18) لأني أعلم أن الصلاح لا يسكن فيّ، أي في جسدي. فإرادة الخير هي بإمكاني، وأما عملُ الخير فلا. (19) فالخير الذي أريده لا أعمله، والشرّ الذي لا أريده أعمله. (20) وإذا كنتُ أعمل ما لا أريده، فما أنا الذي يعمله، بل الخطيئة التي تسكن فيّ. (21) وهكذا أجد أني في حكم هذه الشريعة، وهي أني أريد أن أعمل الخير ولكن الشرّ هو الذي بإمكاني. (22) وأنا في أعماق كياني ابتهج بشريعة الله، (23) ولكني أشعر بشريعة ثانية في أعضائي تقاوم الشريعة التي يُقرّها عقلي وتجعلني أسيراً لشريعة الخطيئة التي في أعضائي. (24) ما أتعسني أنا الانسان! فمن ينجّيني من جسد الموت هذا؟ (25) الحمد لله بربّنا يسوع المسيح. فأنا بالعقل أخضع لشريعة الله، وبالجسد لشريعة الخطيئة.

1- بنية النصّ
بدأ ف 7 كلاماً عن التحرّر من الشريعة، فجاء في ثلاثة أقسام: تحرّرٌ من الشريعة بموت المسيح (آ 1- 6). دورُ الشريعة في حياة الانسان (آ 7- 13). أما عنوان القسم الثالث: صرخة الانسان الذي استعبدته الشريعة (آ 14- 25). شرع الرسول في القسمين الأولين، يقدّم برهانه وها هو يواصله ويعمّقه. اكتشف أن المشكلة ليست في الشريعة، بل في الانسان نفسه. فهو لحميّ، بشريّ، ضعيف، وعرضة للسقوط أمام هجمات الخطيئة التي تسكن فيه. وبسبب سكَن الخطيئة هذا في الانسان، لم يستطع أن يُتمّ رغبة الله فيه. غير أن الخطيئة ليست في الانسان كله. فهناك عقله الذي يعرف شريعة الله وما تطلبه من البشر. غير أن «العقل» نفسه لا يستطيع أن يقاوم سحر الخطيئة وحده. فالدواء يمرّ بيسوع المسيح ربّنا (آ 25) عبر نعمة الله وقوّة الروح (8: 2- 3).
كانت آ 7- 13 اعترافاً أقرَّ به الأنا أن الخطيئة خدعته، فاستعملت الشريعةَ، وقادته إلى الموت. أما آ 14- 25، فجاءت دفاعاً عن الشريعة. لهذا، جاءت الأفعال في صيغة الحاضر، وهي صيغة يستعملها بولس ليدلّ على أننا لا نصل إلى البرّ، خارجاً عن نعمة الله. فالمسألة ليست مع الشريعة، بل مع وضع الانسان وما فيه من ضعف وميل إلى الخطيئة.
ويصوّرُ بولسُ خبرته مع الخطيئة كصراع بين أنا والشريعة. كقتال بين أنا البشري (من لحم ودم. خبرة الضعف) الذي تسيطر عليه الخطيئة وشريعة الله الروحيّة. هو قتال لا يقدر الأنا أن يتهرّب منه فيبقى بعيداً يتفرّج إليه. هذا القتال هو في عمق الانسان. والأنا هو هنا وهناك. لهذا يصرخ الأنا في آ 24: ما أتعسني أنا الانسان! ولكن في آ 25، هو هتاف الحمد لخلاصٍ نلناه بربّنا يسوع المسيح.
وهكذا يشدّد بولس على أن المسيحيّ حرّ بالنسبة إلى الشريعة، ولكنه لم يتحرّر بعد من ذاته، من الخطيئة، من الموت. فحين يمارس الشخص الشريعة يصبح مرضياً لدى الله. فالشريعة تسعى لتأتي بالبشريّة إلى الله، وتُريها الخطيئة الحاضرة في نشاطها، وتبيّن لها ما في الخطيئة من تجاوز لإرادة الله. هكذا تستطيع الشريعة أن تجعل الانسان يفهم وضعه أمام الله. ولكن الله هو الذي يبرّره ويمنحه الحياة بواسطة يسوع المسيح. إذاً، يتبرّر الانسان بمعزل عن الشريعة. والمسيحي نفسه يقع تحت غضب الله إن حكمت عليه الشريعة أنه خاطئ. غير أن البرّ الذي للمسيحيّ ليس نتيجة الشريعة، بل الحياة في المسيح يسوع. من أجل هذا يحمد بولسُ الله.
في هذا المقطع، لا يتكلّم بولس عن تجاوز للشريعة، ولا عن عصيان (ق 5: 19)، ولا عن سقوط (ق روم 5: 20 أ)، ولا عن رفض: بل نحن ننتقل بشكل مباشر من الرغبة إلى موت الأنا. هنا نفهم أن الشريعة لا تحرّك تجاوز الوصيّة، بل الرغبة والمعرفة، وتلقي الضوء على طبيعة الخطيئة وما فيها من خداع. فساعة تستعمل الخطيئةُ الشريعة لتخدع الانسان، تكشف الشريعة وجه الخداع والكذب. إذن، الشريعة لا تخدع، بل تُلقي الضوء على الخطيئة والموت.

2- ما أريده لا أعمله (7: 14- 20)
تميّزت الشريعة عن الخطيئة، فما قادت إلى الموت أولئك الذين قبلوها. فهي روحيّة، وآتية من عند الله. هذا ما يُقرُّ به بولس وعددٌ من قرّائه. لهذا قال في صيغة الجمع: «نحن نعرف». هو تلميح إلى ما قاله العالم اليهوديّ المعاصر عن الشريعة التي تتماهى مع الحكمة «الخارجة من فم العليّ» (سي 24: 3، 23).
ولكن تجاه هذه الشريعة الروحيّة، يقف «أنا». وهكذا يعود الرسول إلى صيغة المفرد، فيعلن أنه بشر، أنه من لحم ودم. ومع ضعفه، يرفض أن يخضع لله. وهذا الرفض صار حقيقياً في الانسان الذي «بيع تحت الخطيئة»، الذي خضع للخطيئة فصار لها عبداً (آ 23؛ 6: 20- 21). كان اليهود يعتبرون الوثنيين خطأة وبالتالي عبيداً للخطيئة. ولكن بولس ذكّرهم أنهم هم أيضاً خطأة (3: 9- 19). غير أن التعارض بين «أنا» والشريعة ليس تاماً. فحتّى الانسان الخاطئ يُقرّ أن الشريعة صالحة ويرغب في الخضوع لها. ولكنه يفشل. لهذا تتكرّر العبارة أن الشرّ الذي نعمله هو عمل الخطيئة (آ 17، 20). ولكن سوف يتوضّح هذا الكلام حين يشير الرسول إلى وجود قوّتين متعارضتين في الأنا، وواحد منهما تدفعه إلى الخضوع للخطيئة (آ 23).
المؤمن «بشريّ وخاضع للخطيئة». فالذي تسلّم الشريعة يحزن لأنه لا يقدر أن يحفظها. فما يفعله لا يرغب أن يفعله. بل هو يكرهه. إذن، يحرّك عملَه هذا شيءٌ فيه وليس منه. وهذا التعارض بين ما نريد وما نعمل، يجعلنا نستخلص نتيجتين. الأولى، بما أن ما نفعله يتعارض مع ما نريده، فما نريده لا يُعتبر معارضاً للشريعة. فالارادة تتوافق مع الشريعة، وتعبّر عن هوية الانسان في «الأنا» العميق، حين لا يكون خاضعاً للخطيئة (آ 14). هذا الأنا هو الذي يقرّ أن الشريعة صالحة، حسنة.
الشريعة روحيّة ولا يمكن إلاّ أن تكون روحيّة، لأنها عطيّة الله. فإن كانت تقودني إلى الموت، فالسبب لا يعود إلى الشريعة، بل إليّ أنا. فما يشرح واقعاً يعلن أن الشريعة تقود إلى الموت، هو الأنا، لا الشريعة. ويأتي البرهان بسيطاً: أنا عكس الشريعة: هي روحيّة وأنا بشريّ. هي تعبّر عن سلطة الله عليّ وتعطيني المجال من أجل الطاعة. أما أنا فعبد للخطيئة، مُباع. ذاك هو وضع الانسان الخاطئ الذي تضيء عليه الشريعة فيكتشف تعاسته وعبوديّته. إنه خاضع لسلطة لا ترحم، لسيّد شرّير له عليه من الحقوق ما للسيّد على عبده.
ولكن كيف تسجنني هذه العبوديّةُ في هذا الوضع الميؤوس الذي صوّره بولس؟ فلو كانت خارجة، لابتعدتُ عنه، وجعلتُ مسافة بيني وبينها بحيث لا تعود تؤثّر فيّ. ولكنها تصيبني في ذاتي العميقة، وتدمّر وحدتي الداخليّة. وتَظهر هذه العبوديّةُ حين ينقسم كياني العميق شقّين. لا تستطيع الخطيئة أن تلغيني من عداد الأحياء. فهذا أمرٌ خاص بالله. ولكنها تدمّرني من الداخل. فأنا أوافق على الشريعة، وأقرّ بسلطتها، وأعرف سموَّ فرائضها. وأودّ أن أخضع لها. ولكن حين أنظر إلى ما أفعل، لا أعرف نفسي ساعة كنتُ أبحث عن إرادة الله. لا أستطيع إلاّ أن أكره ما أفعل، وبالتالي أكره نفسي وأنا أفعل ما أفعل. وهكذا تكون الشريعة على حقّ بالنسبة إلى إرادتي العميقة، ولكنها تجعلني «أبغض» نفسي.
وانطلاقاً من اكتشاف مؤلم لانفصام داخليّ، أفهمُ وضعي كخاطئ. فالخطيئة ليست خارجة عني، بل تظهر في هذا الانقسام الذي يفصل الارادة عن العمل. الخطيئة هي فيّ لأنها في لحمي ودمي. يتحدّث بولس عن أعضائي، عن جسدي الذي هو أنا المنظور والملموس. ونحن نفهم التمييز بين الارادة والعمل على ضوء ما قيل عن موافقة لشريعة الله تجاه تصرّف ملموس لا يوافق هذه الشريعة. من جهة، حين أسمع الشريعة، حين يكلّمني الله، أكتشف مشيئة الله. ولكن حين أعمل، لا تكون الشريعة قاعدة عملي. على مستوى الارادة أُقرّ بعظمة الشريعة. ولكن ساعة العمل، تتغلّب الكبرياء والأنانيّة. أوافق على الشريعة من جهة واستهين بها من جهة أخرى، أريد ولا أعمل. فالتعارض لا يقف عند ضعف الارادة، بل هو أكثر جذريّة. هو يقف بين «ضميري» (عقلي) الذي يريد الخير و«إرادتي» التي تريد العمل.

3- شريعة الله وشريعة أعضائي (7: 21- 25)
هنا نعود إلى المواضيع عينها مع كلام عن «الشريعة» أو «الشرائع التي تتعارض: «شريعة الله» (آ 22) التي تقبل بها» «شريعة عقلي» (آ 23). وتعارضها «شريعةُ الخطيئة التي في أعضائي» التي تمتلك شريعة خاصة. في كل هذه الحالات، تبدو الشريعة مبدأ عمل قد يكون فقط قاعدة خارجيّة، كما يكون قوّة تفعل في الداخل وتفرض نفسها. في آ 21، تدلّ الشريعة على وضع يؤثّر على حياة الانسان الخاضع للخطيئة: هو يريد الخير، ولكن الشرّ هو هنا، بقُربه، فيه، وهو يُكرهه على الخضوع له. كل هذا تتوسّع فيه آ 22 (أريد الخير) وآ 23 (شريعة الخطيئة).
من يتكلّم يرضى في أعماقه، حسب الانسان الباطني، بشريعة الله. أجل، هي تعود إلى الله. وقد سُمّيت في آ 12، 16: مقدّسة، عادلة، صالحة. فالشريعة الموسويّة هي في نظر العالم اليهوديّ انعكاس لشريعة الله. ولكن بما أنها ناقصة وموقتة، يجب أن تحلّ محلّها «شريعة روح الحياة في المسيح يسوع» (8: 2). والانسان الباطني هو الانسان الملتفت إلى الله والراغب بقيادته والخاضع لشريعة العقل (آ 23).
وهذا التعلّق الداخليّ بشريعة الله، لا يمنع الانسان أن يعارضها. من يعارضها؟ الخطيئة، أنا. ولكن يُضاف الآن: شريعة أخرى في أعضائي... تُخضعني «لشريعة الخطيئة التي في أعضائي». نحن هنا أمام شريعتين (فيّ، في أعضائي... مَيلان في الانسان) تسيران في خطّ الخطئية وتُتيحان للخطيئة أن تفرض نفسها عليّ. فالخاطئ لا يحتمل كما من الخارج انجذاب الخطيئة وثقلها. وإن هو رفض الوصيّة أو شريعة الله، فهذا عائد إلى رغبته في الاستقلاليّة، في أن يقف في وجه كل ما ليس هو ولو كان الله نفسه. الخطيئة تخدعه. ولكنه يقبل «خداعها» ويستسلم لها. هذا ما حدث بالنسبة إلى الانسان الأول، وإلى الشعب اليهودي. وهذا ما يهدّد الحياة المسيحيّة حيث تظهر «رغبةُ الجسد». وفي هذه الحالة، يكون الصراع بين «البشريّ» والروح. وينتهي حين «نسلك بحسب الروح» (غل 5: 16- 17). ولكن هذا لم يكن ممكناً بالنسبة إلى بولس قبل اهتدائه، ولا للشعب اليهوديّ قبل أن يعرفوا المسيح الذي وحده يقدر أن يخلّصهم (آ 25).
هذه الاعتبارات حول عجز العقل، حين يكون وحده أمام الشريعة، ليخضع لها، يدلّ على الضيق العميق الذي يشعر به الانسان. لهذا كانت صرخة تصل إلى اليأس، ونداء يهتف: «من ينجّيني من جسد الموت هذا»؟ فهذا الجسد ليس مائتاً فقط (6: 12)، بل يضربه الموت حين يخطأ (آ 11). غير أنه يستطيع أن يُفلت من الموت حين يتحمّل موتاً آخر، هو موت المسيح الذي يشارك فيه، في المعموديّة.
لهذا جاء الجواب على صرخة «اليأس» بصرخة شكر توجّهت إلى الله لأجل ما عمل وما زال يعمل بيسوع المسيح من أجل خلاص الانسان الخاطئ. وهذا ما يتجلّى في النهاية، ساعة القيامة. فيحلّ محلّ «الجسد البشريّ، الجسدُ الروحانيّ» (1 كور 15: 44- 46) الذي وُعد بالحياة الأبديّة.

خاتمة
صراع مرير يعيشه الانسان. وهذا الصراع يمكن أن يقود إلى اليأس أمام العجز، تجاه الخطيئة التي تعمل فيّ، وجسد الموت الذي يعمل بالخطيئة من أجل الموت. من يقدر أن يردّ إلى الانسان الذي استُعبد للخطيئة حريّةَ التصرّف بحسب العقل، بحسب الروح؟ الله وحده قادر. والرسول يحمده مسبقاً لأنه الاله الذي يقول ويفعل، ولا يطلب منّا سوى الانفتاح على عمله فينا. ويبقى الجواب النهائي في 8: 2: «شريعة الروح حرّرتك من شريعة الخطيئة والموت».

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM