الفصل الثلاثون :أصل فكر بولس ومكوّناته

 

الفصل الثلاثون
أصل فكر بولس ومكوّناته

1- بولس المفكّر واللاهوتيّ
كان بولس مفكّرًا كبيرا. فهل كان لاهوتيًا؟ شكّ بعضُ الشّراح في ذلك. هنا يجب أن نعرف ماذا نقول حين نتحدّث عن "اللاهوتيّ". إذا كان لا بدّ من صياغة نهج تعليميّ مبنيّ بناء محكمًا، وعرضه بشكل منظّم، لكي يكون الواحد لاهوتيًا، فبولس ليس بلاهوتيّ. إنه راع يكتب حسب المناسبات للمؤمنين في كنائسه، لكي ينير إيمانهم، ويثبّتهم في العيش المسيحي، ويردّ على تساؤلاتهم، ويحلّ مشاكلهم، ويفنّد الضلالات التي تهدّدهم.
أمّا إذا كان اللاهوتيّ ذاك الانسان الذي يعرف أن يتكلّم عن الله بمعرفة معمّقة لوحيه وسرّه، فبولس هو لاهوتيّ، بل لاهوتيّ عظيم. ففكره العبقريّ أعان إيمانه الحارّ وحبّه القوي فأدرك غنى المخطّط الالهي بأصالة وعمق نادرين. وضعته العنايةُ في بداية الكنيسة، فتقبّل من المسيح وروحه معرفة وحكمة هما أحد المنابع الأساسيّة للاهوت المسيحيّ. ما قدّم فكرَه بشكل عرض شامل، ولكن الشميلة وُجدت فيه، فلاقت تعبيرًا عنها في لمعات مختلفة ومنيرة، هنا وهناك على مدّ رسائله وبحسب الظروف في لغة لا تُستنفد بسبب كثافتها التي تحيّر الفكر.
وقد نتساءل: متى جاءه الوقت اللازم لكي يُنضج هذه الشميلة؟ أمسك به المسيح (غل 3: 12) حوالي سنة 36، فأقام عشر سنوات تقريبا في عرابية (غل 1: 17) ثم في سورية وكيليكية (غل 1: 21؛ أع 9: 30)، قبل أن يبدأ رحلته الرسوليّة الأولى (أع 13-14). خلال ذلك الوقت تأمّل، فكّر بهذا اللقاء مع المسيح القائم من الموت، الذي حرّك حياته على طريق دمشق. وتسلّم أيضًا من إخوته المسيحيين، وهذا ما لا نستطيع أن نكتشفه خلال دفاعاته وهجوماته (غل : 11-12، 17-19)، تعليمَ تقليد تكوّن، ثم سلّمه إلى الكنائس التي أسّسها (1 كور 11: 23 15: 3؛ رج 7: 10، 12، 25).
أرسلت رسالته الأولى من كورنتوس إلى الاخوة في تسالونيكي، وقد تكون دوّنت خلال شتاء 50- 51. وكان عمره حينذاك أربعين سنة تقريبًا. وحين أش سل من رومة رسالته إلى كولسي وأفسس حوالي سنة 63-64، كان عمره 53 سنة. فهذه السنوات الثلاث عشرة في نشاطه الأدبي الرئيسي (قد ترتبط به الرسائل الرعائيّة، حوالي 64-66، وقد تكون دونتهما يد أخرى) تمثّل حقبة قصيرة في ملء نضوجه. سوف نرى نموًا وتطورًا. ولكنه نموّ متماسك لفكر ثابت في أصله، وتطوّر متواصل يحمل أفضل الثمار.
إذن، يحقّ لنا أن نرسم بشكل منهجيّ (أكثر ممّا حاول هو) الخطوط الكبرى لفكره، منطلقين من مركّباته الجوهرية، ومحلّلين نموّه المتناسق على ضوء الظروف التي جعلتها العناية في طريقه. مثلُ هذا التحليل قد يحجّر انطلاقة فكر حيّ. غير أنه يعيننا على فهم اللوحة المتحرّكة بعد أن نُبرز الخطوط البارزة التي عملت في بنائها.

2- قبل ارتداد بولس
المسألة الاساسيّة لبولس قبل ارتداده، ولكل يهوديّ، بل لكل إنسان متديّن، هي مسألة الخلاص.
* خلاص أدبي
هناك خلاص أدبي أولاً. العبور من الشرّ إلى الخير، من العداوة والبعد عن الله إلى الصداقة مع الله. يُحسّ الانسان أنه في الخطيئة، وأن عليه أن يستعيد النقاوة والقداسة ومعرفة الله وحبّه.
* خلاص على المستوى القانوني
غير أن بولس هو يهوديّ. لهذا ترتدي مسألة الخلاص عنده وجهة قانونيّة. فهي ترتبط بالنظام الوضعيّ للشريعة. فمعرفة الله الحقيقيّة وحبّه، يكمنان في عمل مشيئته. لقد أعطى الله شعب اسرائيل شريعة تعبّر عن هذه المشيئة الالهية. وحين يحفظها الانسان ويعمل بها، يكون أمينًا لإله العهد ويصبح بارًا. ولكنه بعصيانه صار لابارًا. فعليه إذن أن ينتقل من اللابرّ إلى البرّ بممارسة الشريعة.
* خلاص طبيعيّ وكونيّ
ويجب أن يكون هذا الخلاص أيضًا طبيعيًا وكونيًا. فبحسب الفكر البيبليّ الذي يشدّد على الوحدة الأساسيّة في الانسان، فالجسد يتضامن مع النفس. والانسان كله يتضامن مع الكون الذي هو إطار حياته. غير أن الخطيئة بلبلت كل هذا وأدخلت إليه الفوضى حين أدخلت الألم والموت والشرّ إلى العالم. ولن يكون الخلاص تامًا إلاّ إذا عاد الجسد (أو الانسان) إلى الحياة، وإذا تجدّد الكون في نظام يخدم الانسان وبالتالي يخدم الله. كان بولس فريسيًا. لهذا انتظر قيامة الموتى وخلاص الخليقة من الفساد على ما قاله في روم 8: 19-23: "تتوقّع الخليقة تجلّي أبناء الله... هي ستُعتق من عبوديّة الفساد إلى حريّة أبناء الله".
* خلاص تاريخيّ وجماعيّ
ويتمّ هذا الخلاصة بشكل تاريخيّ وجماعيّ. فعبر الشعب الذي اختاره الله لكي يخلّص أعضاءه، يخلّص جميع الشعوب بواسطة هؤلاء الأعضاء. وهذا يتمّ في الأزمنة الأخيرة، في الاسكاتولوجيا. ويتمّ حول شخص يقود هذه المسيرة في إطار المسيحانية أو انتظار المسيح الآتي. سيكون هذا القائد شخصًا فردًا يمثّل الجماعة: هو الملك المسيح، عبدالله المتألّم، وابن الانسان، والمسيح الكاهن... ارتدى هذا الانتظار أشكالاً متنوّعة حسب مختلف التيّارات في العالم اليهوديّ. لم تتصالح هذه التيّارات في ما بينها، ولم تجد دومًا الصياغة التامة. أما بالنسبة إلى بولس الفريسي، فوجه المسيح هو مركزيّ في نظارته.

3- ارتداد بولس
كان لبولس في ارتداده وبعد ذلك اختبارات ثلاثة:
* اختبار المسيح الحيّ
التقى بولس بالمسيح الحيّ على طريق دمشق: يسوع الذي ظنه انسانًا، "كافرًا"، وقد حكم عليه بحقّ، قد تجلّى له الآن ممجدًا، حيًا، بعد أن أقامه الله وأعاد إليه كل اعتبار وبرّره في وجه شعبه الذي رذله. هو مرسل الله الحقيقيّ، ولا يمكن أن يكون إلاّ المسيح. هذا ما أعلنه هو عن نفسه. وهذا ما يؤمن به تابعوه. ثم هو يشمل في شخصه أولئك الذين يؤمنون به. فحين اضطهدهم بولس اضطهد يسوع نفسه. هذا ما سمعه على طريق دمشق: "شاول، شاول، لمَ تضطهدني؟ أنا يسوع الذي تضطهده" (أع 9: 4- 5). ولكن بولس (أو: شاول) لم يضطهد إلاّ المسيحيين. وكانت خبرة جذريّة فرضت نفسها عليه، لا أزمة سيكولوجيّة وحسب، كما قال بعض النقّاد. وكان تدخّل من قبل الله سيشرف على فكره كله ويجدّده. قال عن نفسه في غل 1: 15-16: "فلما ارتضى الله الذي فرزني من جوف أمّي ويعاني بنعمته، أن يعلن ابنه فيَّ لأبشّر بين الأمم، للوقت لم أصغ إلى اللحم والدم".
* نداء الأمم الوثنيّة
إن نداء الأمم الوثنيّة إلى الخلاص، هو خبرة ثانية فرضت نفسها على بولس منذ ارتداده ودعوته، لأنه أرسل إليهم. هنا نقرأ أع 9: 15: "هذا (بولس) لي (= أنا الربّ) أداة مختارة ليحمل اسمي أمام الأمم"؛ 22: 15- 21: "ستكون (يا بولس) شاهدًا له (= للمسيح) عند جميع الناس.. أمض (قال له يسوع). فإني أرسلك بعيدًا إلى الأمم" (رج 26: 17- 20).
ويتثبّت هذا النداء على مدّ حياة بولس الرسوليّة باستقبال الوثنيّين لكلمته، ساعة رفضها إخوته بنو اسرائيل بأكثريّتهم. نقرأ في 14: 1: "في أيقونية دخلا (بولس وبرنابا) كذلك مجمع اليهود، وتكلّما بحيث آمن جمهور كبير من اليهود واليونانيّين" وفي 15: 12: "فسكت الجمهور كله (في مجمع أورشليم) لبرنابا وبولس يخبران بجميع ما أجرى الله على أيديهما من الآيات والعجائب، في الأمم" (رج 13: 45-48؛ 17: 4، 12...).
لهذا عبّر بولس عن يقينه مرارًا في رسائله بأنه رسول الأمم. كتب في روم 1: 14: "إني ملتزم باليونانيين والبرابرة، بالحكماء والجهّال". وفي غل 1: 16: ارتضى الله "أن يعلن ابنه فيَّ لابشّر به بين الأمم". والتبشير للأمم هو ما يسمّيه السرّ الذي سلّم إليه. وكتب في كو 1: 27: "لأبشّر بالسرّ الذي كان مكتومًا منذ الدهور والأجيال". وفي أف 3: 8-9: "أجل، لي أنا أصغر القدّيسين جميعًا، أعطيتُ هذه النعمة أن أبشّر في الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى وأوضح للجميع ما تدبير هذا السرّ، المكتوم منذ الدهور".
* تأخّر عودة الرب
والخبرة الثالثة التي اختبرها بولس في ارتداده ودعوته، هي تأخّر عودة (باروسيا) الربّ. هذه الخبرة فرضت نفسها عليه، فأجبرته على ضبط نظرته إلى مخطّط الخلاص.

4- شخص المسيح
هذه الخبرات الثلاث التي تحدّثنا عنها في المقطع السابق، ولاسيّما لقاء الله في طريق دمشق، ارتبطت بالاشكاليّة الدينيّة لدى بولس اليهوديّ، فبلورت حياته وأعادت تنظيمها على ضوء شخص المسيح.
أ- يسوع هو المسيح
يسوع هو المسيح الذي انتظره بولس. وهو كذلك لا بشكل مسيحيّ وأرضيّ، كما تجنّب يسوع أن يكونه (مت 16: 20 وز)، بل في معنى متسام طالب به يسوع، وهيّأه العهد القديم (مت 22: 41-45 وز؛ 63:26-64 وز). أعلن بولس منذ ارتداده أن يسوع هو "كرستوس" (المسيح، أع 9: 22: مبرهنًا أن يسوع هو المسيح). وأوضح هذا اللقب بلقب إبن الله (أع 9: 20: أخذ بولس يكرز في المجامع أن يسوع هو ابن الله) الذي سيستعمله في رسائله، والذي فهمَه لا في معنى غامض وعام كما فعل العهد القديم (أي 1: 6؛ خر 22:4؛ تث 14: 1؛ مز 6:82). بل في معنى محدّد، معنى البنوّة المتسامية المؤسسة على وجود منذ الأزل (غل 4: 4؛ 1 كور 8: 6؛ كو 1: 15-16)، والمتوَّج بالقيامة (روم 1: 4). فرئيس جنسنا البشري في شخصه الذي يتضمّن جميع البشر، كما أعلنه العهد القديم، يسوع المسيح، يأخذ على عاتقه مصير المؤمنين، ويتيح لنا في ذاته العبور إلى الخلاص، هذا الخلاص الذي سيعيشونه بدورهم.
ونستعيد الوجهات التي عدّدناها فيما قبل.
* الخلاص الادبي
تمّ الخلاص الادبيّ (لا الجسدي وحسب) في يسوع بواسطة الصليب والقيامة. وقد عبّر بولس عن كل هذا بمواضيع مختلفة أخذها من العهد القديم، أو وجدها في اللاهوت المسيحيّ الأولاني، أو كانت خاصّة به. نذكر منها أربعة:
- موضوع عبادي هو موضوع التكفير. فالدم يمحو النجاسة وينقّي الانسان. ويسوع كان الكفّارة، كان "أداة تكفير بالايمان بدمه" (روم 3: 25). كانوا يرشون دم الذبائح. أما هو فسفك دمه الخاص.
- موضوع عبادي هو موضوع الذبيحة. فالتقدمة تعوّض عن رفض الحبّ، وتعيد الانتماء إلى الله (بعد أن ابتعد الانسان، انقطع، تمرّد ومضى). في الواقع هذا الموضوع نادر عند بولس وإن كنا نقرأه في أف 5: 2: "واسلكوا في المحبّة على مثال المسيح الذي أحبّنا وبذل نفسه لأجلنا مقدّمًا نفسه لله ذبيحة، رائحة طيّبة". رج أيضًا الرسالة إلى العبرانيين.
- موضوع اجتماعي هو موضوع الفداء أو الخلاص والنجاة. هو عبورٌ من العبوديّة إلى الحرية. تحرّرٌ من نير الخطيئة والشرّ. توسّعَ أشعيا الثاني في هذا الموضوع بشكل تحرّر يقوم به الاله الفادي من أجل شعبه. وهذا التحرّر هو من السموّ بحيث صار مجانيًا. غير أن بولس لا يتخلّى عن فكرة الفدية التي يعبّر عنها بموضوع يجده في العالم اليونانيّ وهو افتداء العبيد. نقرأ في 1 كور 6: 20: "اشتريتم بثمن كريم". وفي 23:7: "لقد اشتريتم بثمن كريم! فلا تصيروا عبيدًا للناس".
- موضوع سياسيّ هو موضوع المصالحة. هو موضوع خاص ببولس. فالذي أغاظ الله أصبح عدوّ الله. وهو الآن يستعيد الصداقة مع الله. والدهشة العظمى هو أن الله الذي أغظناه، يتّخذ المبادرة، لا نحن الذين أغظناه كما يفعل البشر. نقرأ في 2 كور 5: 18- 21: "والكلّ من الله الذي صالحنا مع نفسه بالمسيح... لأن الله هو الذي صالح، في المسيح، العالم مع نفسه، ولم يحسب عليهم زلاّتهم... فأناشدكم بالمسيح أن تصالحوا الله". وفي روم 5: 10- 11: "فإن كنا، ونحن أعداء صولحنا مع الله بموت ابنه، فكم بالأحرى، ونحن مصالحون نخلص بحياته... المسيح الذي به نلنا المصالحة".
في هذه الأمثلة المختلفة تمّ العبور (والعودة) إلى الله للبشرية الخاطئة، في شخص يسوع الذي صُلب وقام من بين الأموات.
* موضوع التبرير
إن الخلاص القانونيّ (أو: بحسب الشريعة والناموس والقانون) يحرّك موضوعًا آخر هو موضوع التبرير. ساعة كانت المواضيع السابقة بأكثريّتها مشتركة في اللاهوت المسيحيّ الأولاني، كان موضوع التبرير توسيعًا خاصًا ببولس، ولاسيّما في روم 1-8 وغل 2: 15- 4: 7. وقد توسّع فيه الرسول بجدليّة أبرزت وجهتين في برّ الله.
- البرّ الضيّق (أو الملزم)، أو العدالة التوزيعيّة.
يُمارَس هذا البرّ بواسطة المجازاة، الثواب أو العقاب. ففي نظام الشريعة الموسويّة، استحقاقٌ للانسان إن أتمّ فرائض العهد، وحكم إن هو تجاوزها. في الواقع، ما كانت الشريعة تستطيع إلاّ أن تعطينا معلومات وتعاقب. وما كان باستطاعتها أن تعطي الانسان القوى الداخليّة الضروريّة لكي يتمّها. وهكذا آلت إلى الحكم على الخاطئ بالموت (روم 7: 7-13؛ 8: 2). صارت "خدمة موت" و"شجب" (2 كور 3: 7، 9). أمّا يسوع فارتدى وضع الخاطئ (2 كور 3: 21: الذي لم يعرف الخطيئة، جعله خطيئة لأجلنا. روم 3:8: أرسله في شبه جسد الخطيئة) واحتمل هذا الحكم (روم 8: 3)، وتقبّل لعنة الشريعة (غل 3: 13: صار لعنة لأجلنا)، ودفع صكّ ديننا (كو 2: 14). وهكذا أتمّ الشريعة بحذافيرها وأقصى متطلّباتها، ووضع حدًا لنظامها (روم 10: 4: غاية الناموس هي المسيح). المسيح هو وحده البارّ الحقيقيّ. وقد استحقّ البرّ الذي يمنحه بنعمة مجانية لكل من يؤمن به (روم 3: 25).
- البرّ "الخلاصيّ"
ولكن إذ أراد الله أن يتمّ هذا العملَ المجّاني، عملَ الخلاص، أظهر وجهة أخرى من برّه (من عدالته) هو البرّ "الخلاصيّ". فهذا البرّ يشكل وجهة سامية للبرّ، وهي خاصة بالله. وبها يدلّ الله على أمانته بالنسبة إلى الخلاص. هو بارّ بالنسبة إلى نفسه، ورغم لابرّ البشر. وهذا البرّ السامي يوازي على المستوى العمليّ، أمانته (ح س د في العبرية) ورحمته. وتوسّع هذا المعنى الخاصّ ببرّ الله في الوحي البيبلي بجانب موضوع العدالة التوزيعيّة. ونحن نجده بشكل خاص في نصوص مثل تث 4:32؛ هو 2: 21-22؛ مي 9:7؛ أش 41: 10؛ 46: 12-13؛ 51: 5؛ 59: 17؛ مز 6:65؛ 15:71؛ 2:98-3؛ 103: 12. كما توسّع بشكل خاص بعد المنفى إلى بابلونيّة في أوساط "مساكين الربّ"، هؤلاء اليهود الاتقياء (الورعين) والمتواضعين الذين لا ينتظرون خلاصهم إلاّ من برّ الله المتسامي هذا.
ونحن نجد هذا في نصوص قمران. فمعلّم البرّ لا يعرف بعد كيف يحقّق الله عمل القدرة هذا، كيف يحقّق انتصار الحبّ الامين على البرّ (أو العدالة) المتطلّب. أما بولس فيعرف: إن الله يقدّم الذبيحة بنفسه فيرضي "العدالة التوزيعيّة" (هي لغة بشريّة ناقصة). فالله في برّه الخلاصيّ منح المذنب "أن يدفع" دينه في شخص يسوع. فالمسيح دفع بموته ومحا دين الشريعة. فيه تمّ العبور من نظام الخلاص بالشريعة إلى نظام الخلاص بالنعمة. منذ الآن، ينال الانسان الخاطئ بالايمان، عطيّةَ البرّ المجانيّة التي نالها له المسيح.
* خلاص شامل
والخلاص الذي حمله المسيح هو خلاص شامل. بما أن الشريعة الموسويّة ليست ضروريّة للبشر أجمعين، فالارتباط بالله يتمّ بالايمان. وهذا ما يستطيعه كل انسان. اليهوديّ يذهب إلى الله بالايمان. وكذلك الوثنيّ. وشموليّة الخلاص هذه التي استشفّها بعضُ الأنبياء، وجدت هنا تفسيرَها المنطقي وبرهانها. وقد ثبّتتها خبرة بولس الرسوليّة في العالم اليونانيّ والروماني.
* خلاص طبيعي
وقد تمّ الخلاص الطبيعي (أي على مستوى الطبيعة البشريّة كلها، نفسًا وجسدًا) في يسوع وقيامته. وهذه القيامة ليست في نظر بولس معجزة تبرهن عن الايمان، ولا مكافأة شخصيّة، بل الحدث الحاسم الذي نقل البشريّة الخاطئة من الموت إلى الحياة. نقلها حقًا. نقلها كلها. لسنا فقط على مستوى خلود النفس كما في العالم اليونانيّ، بل على مستوى قيامة الانسان كلّه.
تلك هي الكرازة الاساسيّة التي يتوسّع فيها بولس مرارًا في رسائله. الله أقام يسوع من بين الأموات (1 تس 1: 10؛ 1 كور 15: 15؛ 2 كور 4: 14؛ غل 1: 1؛ روم 4: 24؛ 10: 9)، بقدرته (فل 3: 10؛ 1 كور 6: 14؛ 2 كور 13: 4). فالمسيح أقيم من بين الأموات بمجد الآب (روم 6: 4). وقال بولس لأهل كولسي: "آمنتم بقدرة الله الذي أقامه (= يسوع) من بين الأموات" (2: 12؛ رج أف 1: 19-20). وقال في روم 8: 11: "إن كان روح الله الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم".
ارتدى يسوعُ جسدنا اللحمي (أي بشريّتنا بما فيها من لحم ودم) (كو 1: 22)، وأخذ وضعنا البشريّ الخاطئ (روم 8: 3؛ رج 2 كور 5: 21). أحلّ بقيامته الروح محلّ البدن (أي الجسد والدم، عنصر الضعف في الانسان)، وجعل الجسد "روحانيًا" (1 كور 15: 45 ي). هو آدم الأخير، "والروح الذي يعطي الحياة" (1 كور 15: 45). فـ "البدن" (ساركس في اليونانيّة) يعبّر عن تسلّط الخطيئة على الانسان كله، حتى على مستوى الجسد، مستوى اللحم والدم. غير أن هذا المبدأ، مبدأ الفساد والموت، قد حلّ محلّه الآن مبدأ الحياة الذي هو الروح.
وهذه "الخليقة الجديدة" (غل 6: 15؛ 2 كور 5: 17) تهمّ أولاً البشريّة، ولكنّها تهمّ أيضًا بشكل غير مباشر الكون المخلوق كله، الذي يسمّيه الكتاب إطارَ البشريّة. لهذا، فالخلاص الذي حمله المسيح ينال بُعدًا كونيًا يتحقّق أولاً في شخصه: فهو بموته وقيامته انتصر على القوى التي كانت تسود على العالم القديم (1 كور 2: 6-8؛ 15: 24؛ روم 8: 38-39؛ كو 2: 10، 15؛ أف 1: 21)، وجمع تحت سلطته الكون كله، ما في السماء وما على الأرض (أف 1: 10؛ رج كو 1: 20؛ فل 10:2).
* زمن مسيحاني وخلاص اسكاتولوجي
صار يسوع بقيامته "ابن الله في القدرة"، "المسيح"، "الربّ" (روم 1: 4)، فدشّن الزمن المسيحاني والخلاص الاسكاتولوجيّ. جاء في "ملء الزمن" (غل 4: 4؛ رج أف 1: 10)، بعد مهلة "أناة الله"، فبدأ "الزمن الحاضر"، زمن البرّ بالايمان (روم 3: 26)، هذا "الآن" الاسكاتولوجيّ (روم 5: 9، 11؛ 8: 1؛ كو 1: 26)، هو "الزمن المؤاتي (زمن الرضى) ويوم الخلاص" (2 كور 6: 2).

5- في كل مسيحي
هذا الخلاص الذي أتّمه يسوع في شخصه، سيتمّ أيضًا في كل مسيحي.
أ- اتحاد بالمسيح
وهذا يحصل في اتّحادنا بالمسيح. فالمسيح عملَ كرئيس البشريّة الجديدة وممثّل جماعة المختارين. وعلى المسيحيين أن يحقّقوا هذه الوحدة فيه بالايمان وأسرار الايمان.
أولاً: بالايمان
الانسان روح، وهو بالروح يرتبط بالمسيح. لا يكفي تعلّقٌ عقليّ ببعض الحقائق، بل تعلّق الكيان كلّه بشكل عميق، بل طاعة (روم 1: 5؛ 26:16) والتزام وتجنّد: نعطي ذاتنا. نثق به (المعنى الأول للفظة بستيس اليونانية). نستند إليه (هو أمين). وقد أشار بولس منذ رسائله الأولى (1 تس 1: 3، 8) إلى هذا الفعل الاساسيّ، فعل التعلّق بالمسيح وبإنجيله (2 تس 13:2-14؛ روم 1: 16-17؛ 17:10؛ كو 6:2-7؛ أف 1: 13)، الذي جعل من المرتدّين "أمناء" و"مؤمنين" (ثابتين). ولكنه في الرسالة إلى غلاطية (2: 16، 20؛ 3: 19، 26؛ 5: 5-6) وإلى رومة (3: 21-23؛ 9: 30- 10: 13)، قابل الايمان بالشريعة كمبدأ تبرير (رج غل 3: 9؛ أف 2: 8-9) عارضًا ابراهيم كمثال، وهو الذي آمن بالوعد قبل أن تُعطى الشريعة (غل 6:3-9، 14- 18، 29؛ روم 4).
ثانيًا: بالمعمودية
ويرتبط المؤمن بالمسيح بالمعمودية وسائر أسرار الايمان. فالانسان روح وجسد. إذن، عليه أن يرتبط كله، نفسًا وجسدًا، بالمسيح لكي يكون خلاصه كاملاً. وبالمعمودية يحقّق، حتى في جسده، عبورَ المسيح من الموت إلى الحياة. نقرأ في غل 26:3-27: "لأنكم جميعًا أبناء الله بالايمان بالمسيح يسوع. لأنكم أنتم جميع الذين اعتمدوا بالمسيح قد لبستم المسيح". وفي روم 6: 10- 11: "فإنه (= يسوع) بموته قد مات للخطيئة إلى الأبد. وبحياته يحيا لله. فكذلك أنتم أيضًا، إحسبوا أنفسكم أمواتًا للخطيئة، أحياء لله في المسيح يسوع".
ب- الخلاص الادبي
حين يرتبط المسيحيّ هكذا بالمسيح، فهو ينال الخلاص. وأولاً الخلاص الادبي الذي نستطيع أن نصوّره حسب المواضيع التي أوردناها أعلاه.
* حين يتقبّل المسيحيّ ثمار تكفير المسيح، فهو يجد نفسه قد "اغتسل" (1 كور 6: 1). صار نقيًا طاهرًا، بلا عيب ولا لوم (1 تس 13:3؛ 23:5؛ 1 كور 8:1؛ فل 1: 10؛ 2: 15؛ كو 1: 22؛ أف 1: 4؛ 27:5) أمام البشر (غل 2: 15) وأمام الله بشكل خاص. وبحسب موضوع يحبّه بولس ويطبّقه بأشكال مختلفة، يستعيد المسيحي إمكانيّة القرب من الآب (روم 5: 2؛ أف 18:2؛ 3: 12). ويستطيع أن يأتي أمامه (1 كو 1: 22) ليحيا في حضرته (أف 1: 4) في هذه الحياة النقيّة كعذراء لا عيب فيها (2 كور 11: 2؛ أف 27:5)، منذ الآن (روم 12: 1) وخصوصًا في يوم مجيء المسيح (1 تس 13:3؛ 5: 23؛ 1 كور 1: 8؛ 2 كور 4: 14) وذلك حين يمثل أمام عرش الله الديّان (2 كور 5: 10؛ روم 14: 10).
* وعلى مثال المسيح الذي "قدّم ذاته لله ذبيحة ذكيّة الرائحة" (أف 5: 2)، يجب على المسيحيّ أن يقدّم ذاته ذبيحة حيّة مقدّسة ترضي الله، وعبادة روحيّة يعرف بولس ليتورجيتها (روم 15: 16؛ رج فل 2: 17).
* بعد أن افتُدي المسيحي بدم المسيح (اف 1: 7)، صار منذ الآن "حرًا". تحرّر من عبوديّة الخطيئة (روم 6: 12-22) ونير الشريعة (غل 4: 5، 8- 10) التي صارت متواطئة مع الخطيئة (روم 8: 2). لقد حرّره المسيح من أجل الحريّة الحقيقيّة (غل 5: 1؛ رج 4: 21- 31). وهذه الحريّة الآتية من روح الربّ (2 كور 17:3) هي في الواقع خدمة، خدمة البرّ من أجل التقديس في نظام النعمة (روم 6: 16-22). وهكذا صار بولس (فل 1: 1؛ روم 1: 1...) "خادم (عبد) المسيح" (روم 12: 11؛ 14: 18؛ كو 3: 24).
* تصالح المسيحي مع الله فوجد أنه عاد إلى السلام والحبّ. سلام مع الله (روم 5: 1؛ فل 7:4) ومع إخوته في الله (1 تس 13:5؛ روم 18:12؛ 14: 19؛ كو 3: 15؛ أف 4: 3). وهناك الحب، لأنّ "إله الحب والسلام" هو معه (2 كور 13: 11). وحبّ الله هذا قد أفيض في قلبه بالروح القدس الذي أعطي له (روم 5: 5). وفي هذا الحبّ نجد "رباط الكمال" (1 كو 3: 14؛ رج كور 13: 1-13).
ج- الخلاص القانونيّ
وحسب جدليّة الشريعة التي يفرضها على بولس فكرُه اليهوديّ، حدّد الرسول هذا الخلاص الأدبي بالوجهة التي سمّيناها قانونيّة. ففي شخص نال المسيح، أرضى المسيحي العدالة الالهيّة، ونال خيرات البرّ الخلاصيّ. هذا الغفران الذي يجعل فيه برّ المسيح كواقع يمتلكه منذ الآن. لقد "صار برَّ الله" (2 كور 5: 21؛ رج فل 1: 11). لقد "برِّر" (1 كور 6: 11؛ روم 3: 24؛ 5: 1، 9). دخل في نظام النعمة، فنال مبدأ الحياة الجديد. نال الروح (روم 8: 4 ي) الذي يعطيه أن يعمل بجوهر الشريعة، بالحبّ (غل 5: 14؛ روم 13: 8- 10). تحرّر من نير الشريعة التي كانت "المربي" الذي صار الآن بلا فائدة، فنال روح الابن الذي يجعل منه ابنًا بالتبنّي ووارثًا لله (غل 3: 2-4؛ 7؛ روم 8: 14-17).
* وبما أن الشريعة الموسويّة لم تعد الوسيلة الضروريّة لجميع البشر، يهودًا وغير يهود، صار الخلاصُ شاملاً، وشارك فيه الوثنيّون. كان الوثنيون تحت الخطيئة، شأنهم شأن اليهود (روم 1: 18؛ 3: 20)، فدُعوا إلى ذات الخلاص في المسيح كـ "انسان جديد خُلق بحسب الله في البرّ وقداسة الحقّ" (أف 4: 34)، الذي فيه زالت كل الاختلافات السابقة (1 كور 12: 13؛ غل 3: 28؛ كو 3: 11). صار المسيح الآن حاضرًا لدى الوثنيّين، كما كان في الماضي في شعب اسرائيل (كو 1: 23). وهكذا تقارب اليهود والوثنيّون بدم الصليب، فكان لهم الدخول الواحد إلى الآب (أف 2: 11-22)، وشاركوا في الميراث الواحد (أف 3: 6).
* وكما بالنسبة إلى المسيح، كان خلاص المسيحيّ طبيعيًا، أي أدركه في جسده وفي نفسه. أدركه في كل كيانه. فهو بالمعمودية في الايمان، يموت مع المسيح لكي يقوم معه. وهكذا يصبح "عضوًا" في جسده. ففي هذه الموضوع العزيز على قلب الرسول، نحن أمام أكثر من استعارة. لاشكّ في أن بولس عرف مثَل "الجسد الاجتماعيّ" الذي يكوّن الأفرادُ أعضاءه، واستعمله في 1 كور 12: 12 ي ليدلّ على تضامن المسيحيّين في المسيح. غير أن المبدأ الذي يُشرف على هذا الاستعمال وينيره، يرتبط بيقين عميق في لاهوته: إن المعمودية تربط جسد المسيحيّ بجسد المسيح القائم من الموت برباط أنطولوجيّ، كيانيّ. وتبدو واقعيّة هذا الاتحاد منذ النصّ الأول الذي نجد فيه هذا الموضوع: ففي 1 كور 6: 12-20، يقابل بولس، بل يعارض بين اتحاد المسيحيّ مع المسيح، واتحاده مع زانية. لاشكّ في أن الاتحاد بالمسيح اتحاد روحيّ، ولكنه يدرك جسد المسيحيّ الذي اشتراه دم المسيح فصار "هيكل الروح القدس". إن الواقعيّة الاسراريّة لهذا الموضوع سوف تتواصل في 1 كور 10: 16-17؛ أف 3: 25-32، وتتوَّج في القيامة التي وُعدت بها الأجساد (1 كور 6: 14؛ 15: 20، 22؛ 2 كور 4: 14؛ روم 6: 5؛ 8: 11).

6- تأخّر المجيء
إن تأخّر المجيء قد طرح سؤالاً على فكر بولس كما على فكر المسيحيّة الأولى. فقيامة المسيح تليها حالاً القيامةُ العامّة كما انتظرتها الاسكاتولوجيا اليهوديّة. وهذا الواقع فرض نفسه على وجدان المسيحيّين الأولين: لقد بدأ الزمن الجديد في المسيح. غير أن الزمن القديم ما أُلغي بعدُ بشكل نهائيّ. فالله يسمح له بأن يتواصل بعض الوقت أيضًا، وبموازاة الزمن الجديد الذي بدأ مسيرتَه. فهناك تداخل بين الزمنين. وهكذا نكون في حالة من المفارقة بين ما تمّ وبين الشيء الذي لم يتمّ بعد. فالمسيحيّ يعيش في عالمين معًا، عالم قديم وعالم جديد. ففي المسيح تحقّق له كل شيء، ولكنه ما زال خاضعًا للقوى المعادية التي تهدّد وضعه. وهكذا نعيش انشدادًا وتوترًا نستطيع أن نحلّله كما يلي:
أ- الاتحاد بالمسيح
قد تمّ هذا الاتحاد. ولكنه لم يصبح بعدُ نهائيًا. فيجب أن نقوم به مرّة بعد مرّة، وأن نجعله كل يوم أمتن من أي وقت مضى.
* فعلى الايمان أن ينمو. قد نخسره. قد يضلّ (1 تس 3: 2، 10؛ 2 تس 1: 3؛ 2 كور 10: 15؛ 13: 5). قد يبقى في ذاته غامضًا، يبقى رؤية في مرآة (1 كور 13: 12؛ رج 2؛ ور 5: 7). ويبقى الصليب شكًا وعثارًا. وتحارب الحكمةُ البشريّة الحكمةَ الالهيّة (1 كور 1: 17؛ 16:2) التي "تفهمنا" سرّ الصليب.
* لا يُقبل سرّ المعمودية مرّة ثانية. فنحن قد ارتبطنا بشكل نهائيّ بالمسيح. ولكن قد ننكره (رج عب 6: 4-6). أما سائر الأسرار، ولاسيّما الافخارستيا، فهي تتجدِّد دومًا.
ب- الخلاص الادبي
لم يتمّ بعد هذا الخلاص، لأن الخطيئة ما زالت فاعلة، وهي تجرّنا إلى نجاسة لا بدّ من أن نغتسل منها. والاغاظات الجديدة تدعو إلى مصالحات جديدة. فالبدن (أي اللحم والدم) ما زال ناشطًا ضد الروح (غل 5: 16-23؛ روم 8: 5-13). والروح نفسه لم يُعطَ بعد إلاّ كـ "عربون" (1 كور 1: 22؛ 5: 5) و"باكورة" (روم 8: 23).
ج- البرّ
نحن نمتلك البرّ حقًا منذ الآن، لا في المستقبل فحسب. فالحقبة الاسكاتولوجيّة قد بدأت فعلاً، غير أننا لا نمتلكها بشكل نهائيّ، ونحن نستطيع أن نخسرها عندما نخون النعمة، عندما نعود إلى نير الشريعة (غل 2: 4؛ 3: 1-3؛ 8:4- 11؛ 5: 1-4). والحريّة التي نلناها من المسيح هي حقيقيّة ولكنها ما زالت محدودة. ويجب أن لا تنحطّ فتصبح تفلّتًا من كل شريعة (غل 5: 13 أ). ويجب أن لا تعارض المحبة (غل 5: 13 ب). ما دام العالم هنا مع عاداته وأفكاره المسبقة، تبقى الشرائعُ المكرهة ضروريّة. والضمائر ما استنارت بعد كما يجب. وعلى المسيحيّ أن يضحّي بحريّته لئلاّ يشكّك أخاه الضعيف (1 كور 8: 9-13؛ 9: 19؛ 10: 23-33؛ روم 14: 1- 15: 2).
وشارك الوثنيون المسيح في الخلاص الذي شارك فيه اليهود. هذا أمر صار لنا على مستوى المبدأ. ولكننا ما زلنا ننتظر التحقيق الملموس.: فهناك عدد كبير من اليهود يعارض هذا المبدأ، ويحافظ على "امتيازات". ويتساءل بولس نفسه بقلق عن شرح لهذه المأساة وعن حلّها النهائي.
تأمّن الخلاص النهائي للمسيحي، ولكنه ما كمُلَ بعد. ومع أن موت المسيحي وقيامته هما من الواقع، إلاّ أنهما ما زالا على المستوى الاسراريّ، مستوى العماد. أما التحقيق التامّ فسوف يأتي. فالمسيحيّ ينتظر ويئنّ مشتاقًا إلى افتداء جسده (روم 8: 23). وبولس يشارك في آلام المسيح وموته لكي يهيّئ قيامته الخاصّة (فل 3: 10- 11) التي تحصل حين يعود المسيح من السماء فيتحوّل جسد الشقاء إلى جسد المجد (فل 3: 20- 21). وإذ فهم بولس أنه سيموت قبل مجيء الرب، تساءل عن الطريقة التي فيها يستطيع خلال ذلك الوقت أن يعيش "مع المسيح" (2 كور 5: 1- 10؛ رج فل 1: 20-24).
والكون الذي هو إطار البشريّة، ينتظر بعدُ لكي "يتحرّر من عبوديّة الفساد" (روم 8: 21). فالوجهة الكونيّة للخلاص لم تتمّ بعد. وقوّات هذا العالم التي قُهرت من حيث المبدأ بصليب المسيح، لن تخضع له بشكل نهائيّ إلاّ في مجيئه الأخير (1 كور 15: 24).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM