الفصل التاسع والعشرون :كان عرس في قانا الجليل

الفصل التاسع والعشرون
كان عرس في قانا الجليل

يروي القديس يوحنا، في الفصل الثاني من إنجيله، معجزة جرت في قانا الجليل. ويشدّد في روايته على المعنى الروحيّ لهذا العمل الذي قام به يسوع من أجل عروسين نقص عندهما الخمر خلال احتفال دعوا إليه الأقارب والأصحاب. فمريم أمّ يسوع صارت تلك المرأة الحاضرة في بداية جديدة، كما كانت حواء، المرأة الأولى، حاضرة في البداية عند الخلق. وطلبُ مريم هذا، سبق فأشار إلى تلك الساعة، ساعة الآلام والموت، ساعة يعطي يسوع الخمرة الحقّة وتصبح مريم أم جميع المؤمنين في شخص التلميذ الحبيب. والعريس الحقيقي صار يسوع المسيح الذي يدعو كنيسته المتمثّلة بالتلاميذ إلى أعراسه الجديدة، بعد أن صارت الأجران التي كان يستعملها اليهود للتطهير بغير قيمة أمام التطهير الحقيقي الذي يحمله يسوع.
لن نتوسّع هنا في المعنى الروحي لهذا النصّ، بل نطرح سؤالاً ونحاول الإجابة عليه: أين تقع قانا الجليل هذه التي شاهدت أولى معجزات يسوع، كما شاهدت معجزة ثانية شفى بها الرب ابن رجل من حاشية الملك (يو 4: 46- 50).
نعود أولاً إلى نصوص الكتاب المقدّس، قبل أن نقرأ الوثائق اللاحقة منذ زمن الآباء حتى الرحّالة الغربيّين في القرن الماضي.

1- في الكتاب المقدّس
نجد كلمة "قانا" أربع مرّات في العهد الجديد بالشكل اليوناني "كانا" وثلاث مرّات في العهد القديم بالشكل العبري "قنه" (قانة في العربية).
ونبدأ بنصوص العهد القديم التي تدلّ مرّة على واد أو نهر، ومرّة أخرى على مدينة.
أ- قانة في العهد القديم
أولاً: نهر قانة
نقرأ في سفر يشوع (16: 8): "وتمتد الحدود من تفوّح غربًا إلى وادي قانة فتصل إلى البحر". ونقرأ أيضًا في سفر يشوع (17: 9): "وتهبط الحدود إلى وادي قانة، إلى جنوب الوادي".
يتحدّث النص عن واد أو نهر (بالأحرى: ساقية وجدول) يفصل بين قبيلة افرائيم في الجنوب، وقبيلة منسّى في الشمال، ويصبّ في البحر، أي البحر المتوسط. إن كلمة "قنه" تعني القصبة أو العصا (في السريانيّة: قنيا، في العربية: "القنا والقناة"). لهذا السبب ترجمت اللاتينية الشعبية: "وادي القصب". أما اليونانيّة السبعينيّة فدمجت قانا مع المقطع الصوتي الأخير للكلمة العبرية "نحل" (وادي، نهر)، فقالت: خلقانا. أما الكودكس الاسكندراني فقال: "خايماروس كانا" (chaimarrhos Kana) أي سيل قانا. في السريانية جاء في يش 8:16 سيل الحوض. وفي 17: 9: "وتنزلق تخومهم إلى سيل البحر".
أين تقع "نحل قنه" أو "وادي قانة"؟ يعتبر روبنسون أنه وجد قانة في "نهر" ينبع في جبال افرائيم، قرب عقربة، على بعد 10 كلم تقريبًا إلى الجنوب الشرقي من نابلس. اسمه وادي قانة، وهو يتّصل بوادي زكّور الذي يصبّ في نهر العوجة الذي يصبّ بدوره في البحر الأبيض المتوسط، شمالي يافا. أما تومسون فرأى أن "نحل قانه" هو نهر أبو زبّورة أو نهر اسكندرونة الحالي الذي ينبع قرب دوتائين ويتّجه إلى الغرب قبل أن يصبّ في البحر جنوبي قيصريّة.
ويروي فيغورو أنه عبر النهر مرتين في نيسان سنة 1894، كما عبر نهر العوجة. ولكن العوجة هذا يقع في الجنوب أكثر مما ينبغي، ونهر أبو زبّورة في الشمال أكثر ممّا ينبغي.
وهناك محاولة ثالثة لتحديد موقع "نهر قانه". سُمّي في اللاتينيّة "وادي القصب" (Vallis arundineti)، فلاقَ هذا الاسم بالمستنقعات التي إلى جانب نهر الفلق. ولكن مؤرخّ صلاح الدين الأيوبي، بهاء الدين المعروف بابن شدّاد (1145-1232) تحدّث عن "نهر القصب". وهكذا يبدو أن نهر الفلق يقع بين نهر العوجة ونهر أبو زبّورة. وقد يكون الحدودَ بين قبيلتي افرائيم ومنسّى. وهو يصبّ في المتوسط شمالي أرصوف وشمالي غربي التيرح.
إن ما يمنعنا من أن نتأكد كل التأكيد من موقع هذا النهر البيبلي، هو أن العلماء لم يستطيعوا بعد أن يتعرّفوا إلى موقع تفوح الذي يجري النهر بقربه. هذا ما يقوله فيغورو. أما جون غراي فيعتبر أن تفوح هي خربة الشيخ أبو زرد، و"نحل قانه" هو وادي قانة الذي يحتفظ اليوم باسمه، وهو يمرّ بقرب نهر العوجه (يركون) على تسعة أميال إلى الشمال الشرقي من يافا.
ثانيًا: قانة في أشير
ونقرأ في يش 19: 28: "إلى عيرون ورحوب وحمّون وقانة إلى صيدون الكبرى". يتحدّث الكاتب عن ميراث سبط أشير (يش 19: 24- 31) الذي يحدّه منسّى في الجنوب، وزبولون ونفتالي في الشرق. ويذكر أمكنة حدّدنا بعضها وبقي القسم الآخر دون تحديد. وورد في مدوّنات تحوتمس الثالث في الكرنك أسماء حلقت (رقم 25) وأكاذيب (الذيب)، على 9 كلم إلى الشمال من عكّا، وشيحور لبنات الذي يجري من الكرمل (قد يكون نهر الزرقاء) ويصبّ في المتوسط على 5 كلم تقريبًا إلى الشمال من قيصرية.
وتُذكر قانة التي هي قينوو في لائحة تحوتمس الثالث (رقم 26).
أين يقع ميراث أشير؟ إنه على حدود لبنان الجنوبي. لاشكّ في أننا لا نستطيع أن نتعرّف إلى كل المواقع بسبب أعمال الري. ولكن موقع عكّا معروف، وكذلك أفيق، إلى الشمال الشرقي من تل أبيب، وكابول التي أعطاها سليمان لحيرام (1 مل 9: 13) ملك صور.
وماذا نقول عن قانة؟ ترد في العبرية "قنه"، وفي السبعينيّة "كنثان" (Kanthan)، وفي الكودكس "كانا" التي هي بحسب القاموس البيبلي قرية كبيرة تقع إلى الجنوب الشرقي من صور، والتي هي في نظرنا قانا اللبنانيّة. فالمدن المذكورة في ميراث أشير وصلت إلى نهر القاسميّة.
شكّلت قانة مع رحوب وحمّون (يش 28:19) الحدود الشماليّة لقبيلة أشير. وذكر النصُّ أيضًا "صيدون الكبرى". ولا يعتبر لاجندر أن أرض أشير امتدت كثيرًا في جنوب لبنان، فيلعب على كلمة "عد" العبرية التي تعني "إلى حدود أرض صيدون وصور". ولكنه يقول إن هناك اتفاقًا حول اعتبار قانة أشير قرية تحمل الاسم عينه وتبعد حوالي 12 كلم إلى الجنوب الشرقي من صور. فالاسم العربي قانا (مع حرف القاف) يوافق الاسم العبري "قنه". ويلاحظ دوسو، أننا لا نستطيع أن نماثل بين قانة هذه وخربة قانا الواقعة بالقرب من الناصرة، في سهل البطّوف.
ويستفيض هذا الكاتب بالحديث عن أهميّة قانا التاريخيّة، وهي الواقعة على ملتقى طرق. يقول: "اتصلت صور بصفد عبر طريقين إلى قانا. تنطلق الطريق الأولى من قانا عبر صدّيقين، دبل، وادي رميش، رميش، كفربرعم، وصفصاف. وتنطلق الطريق الثانية من قانا إلى تبنين وكونين، بنت جبيل، يارون، الجش. وقد يكون أنطيوخس الكبير قد اتخذ إحدى هاتين الطريقين اللتين تمرّان في قانا، ليصل إلى صفد وبحيرة طبريا.
أما لاجندر الذي زار قانا في نهاية القرن الماضي فيقول إنها قريّة تعدّ ألف نسمة، وهي مقسومة إلى ثلاثة أحياء: الحيّ الأعلى وهو الأقدم، بُني على التلة، إنما لم يبقَ منه إلاّ بعض البيوت. والحيّ الشرقي يسكنه المتاولة وهم يعدّون 600 شخص تقريبًا، وفيه جامعان، أحدهما عبثت به يد الخراب. وفي أسفل القرية يقع الحيّ الذي يضمّ 400 شخص من الروم الكاثوليك. كنيستهم المكرّسة للقدّيس يوسف، أعيد بناؤها منذ زمن قريب، وبجوارها كابلة بروتستانية. تنزل منحدر الجبل المغروس بالتين والزيتون والدخان، فتصل إلى بئر سُميت "عين القسيس". فتقرأ على حجر بقربها: "زيّن" (Ekcemhêen). أما ما تبقى من المدوّنة فقط سقط في البئر. قد نكون أمام نص يتحدّث عن شخص زيّن هذا المكان.
ولا نجد آثارًا كثيرة في داخل قانا. أما في جوارها، فيلفت النظر عدد كبير منها. ففي الشمال الغربي، وعلى منحدر وادي العقاب حُفرت في الصخر أفران ومعاصر أو ربما مقابر. وقال رينان في ذلك: "من قبر حيرام إلى قانا تجد في كل خطوة مقابر محفورة في الصخر... وهناك معاصر، وبقايا جدران... إنك تجد في جوار قانا أجمل المدافن الصوريّة".
وأغرب الآثار القديمة هي محفورات تقع على بعد 1500 متر إلى الشمال الغربي من القرية. وتتّسع الوادي شيئًا فشيئًا، وعلى الجدران تماثيل صغيرة ومسلاّت منقوشة في الكلس. تماثيل طولها بين 80 سنتم ومتر واحد. رآها لورتيه ونسبها إلى الفينيقيين الأولين. ووُجدت أيضًا آلاف القطع الصوانيّة التي قد تعود إلى العصر الحجري القديم.
وإذا عدنا إلى العهد القديم، فنكاد لا نجد شيئًا عن قانا، إنما يذكرها يشوع كإحدى المدن الكنعانية فيدلّ على أنها قديمة. وهذا ما تؤكّده لائحة تحوتمس الثالث. ثم إن بقايا "الصناعة" الموجودة هناك تدلّ على موقعها الفريد. فالبقايا من العصر الحجري، والنقوش والصور القديمة والمدافن والمعاصر، كل هذا يدلّ على سلسة من الشعوب أقاموا في هذه الأرض منذ أقدم حقبات التاريخ. وإن النصب والأضرحة تدلّ على إشعاع صور وحضارتها حتى في هذه الأماكن الريفيّة.
ب- قانا في العهد الجديد
يذكر يوحنا قانا الجليل حيث يتحدّث عن عرس شارك فيه يسوع وأمه وتلاميذه: "كان في قانا الجليل عرس، وكانت أم يسوع هناك. فدُعي يسوع وتلاميذه إلى العرس" (يو 2: 1-2). وينهي الانجيلي روايته للمعجزة: "هذه أولى آيات يسوع، صنعها في قانا الجليل" (يو 2: 1). ويروي لنا الانجيل الرابع في معرض حديثه عن شفاء ولد مريض: "وجاء أيضًا إلى قانا الجليل، حيث جعل الماء خمرًا" (يو 46:4). وفي نهاية الانجيل يذكر أن "نتنائيل هو من قانا الجليل" (يو 21: 2). لا يرد اسم قانا أبدًا في الأناجيل الإزائيّة (أي متى ومرقس ولوقا). غير أن بعض العلماء تحدّثوا عن الرسول سمعان القانوي بأنه من قانا.
يقول الشرّاح الغربيون إن هذه البلدة سمّيت قانا الجليل تمييزًا لها عن قانة التي في أشير، ويرفضون رفضًا باتا أن تكون قانا الجليل هي قانا الواقعة شرقي صور. ولكن لماذا هذا الاستبعاد الأولي، والاسمان اللذان يقدّمهما هؤلاء الشرّاح لا يتوافقان توافقًا كليًا مع الاسم القديم؟ فهم يجعلون قانا في خربة قانا أو في قرية كفركنا. وكلّنا يعلم أن أسماء الأماكن في سورية ولبنان وفلسطين لم تتغيّر إلاّ قليا، رغم ما مرّ على هذه البلدان من تأثيرات يونانيّة ولاتينيّة أو غيرها.
أولاً: كفركنّا
إن المقاطع التي يرد فيها اسم قانا الجليل لا تحدّد موقع هذه البلدة التي شهدت أولى عجائب يسوع بحسب يوحنا. ما نستخلصه من المقطع الانجيليّ هو أن قانا تقع أقلّه على هضبة، لأن الانجيل يقول إن يسوع نزل (يو 2: 12) إلى كفرناحوم، وهي الواقعة قرب بحيرة طبرية. ولكننا نعرف أن هضاب الجليل هي أعلى من بحيرة طبرية. وافترض الشرّاح أن قانا تقع في القسم الجنوبي من الجليل، لا في القسم الشمالي، حيث تقع قانا القريبة من صور.
فاقترح البعض اسم قرية كفركنّا التي تقع على الطريق التي تنطلق من الناصرة، فتصل إلى بحيرة طبرية. ما الذي دفعهم إلى هذا الاقتراح؟ أولاً، موقع كفركنّا على الطريق بين الناصرة وطبرية. ثانيًا، وجود أخربة كنائس عديدة فيها. ثالثًا، وجود عين مياه تكفي شعبًا كبيرًا.
ويقول لوكامو إن هناك ثلاثة معابد مسيحيّة على سفح تلّة كفركنّا، منها كنيسة للروم نجد بقربها جرتين يقول الأهالي إنهما من أيام المسيح وفيهما حصل تحويل الماء إلى خمر. ولكن هاتين الجرتين لا تشبهان ما وُجد في الحفريات الأركيولوجيّة.
ثانيًا: خربة قانا
واقترح البعض الآخر خربة قانا الواقعة على أولى المرتفعات بجانب جفاة أو جوباتا القديمة: وهي قريبة من الناصرة وكفرناحوم، ونجد فيها خرائب على قمّة التلّة التي تشكّل مركزًا متقدّمًا بالنسبة إلى جفاة. غير أننا لا نجد في هذا المكان لا عين ماء ولا أثرًا لمعبد دينيّ قديم.
لهذا السبب، ولأسباب سنعود إليها، فضّل البعض كفركنّا على خربة قانا كموقع معجزة تحويل الماء إلى خمر. وعلى هذا الأساس كانت كنيسة للروم الكاثوليك، وأخرى للروم الأرثوذكس تعود إلى القرن السادس عشر، وثالثة للآباء الفرنسيسكان تقوم على بناء قديم مبلّط بالفسيفساء مع مدوّنة أرامية عن "يوسف" أحد اليهود الذين ارتدّوا إلى المسيحيّة، فبنى كنائس في طبرية وكفرناحوم وصفورية والناصرة. وفي القرن السابع عشر اشترى الآباء الفرنسيسكان بقايا هذه الكنيسة التي حملت ذكرى قانا واجتذبت إليها الحجّاج منذ القرن الرابع. كما نجد شمالي كفركنّا كنيسة حديثة على اسم تنائيل (واسمه الثاني برتلماوس) وهو من قانا.
ولكن الأب براون الأميركي يقول إن الحجّاج اعتادوا منذ القرون الوسطى أن يحجّوا إلى كفركنّا التي تبعد ثلاثة أميال ونصف ميل إلى الشمال الشرقي من الناصرة. ويعود هذا الاسم اشتقاقيّا إلى اليونانيّة، بينما ننتظر الاسم السامي أي قانا. فخربة قانا التي تبعد 9 أميال إلى الشمال من الناصرة، تصلح كموقع لقانا المذكورة في الانجيل الرابع.
وهكذا لم نصل إلى أي جواب شاف على مستوى الكتاب المقدّس، فيما يخصّ الموقع الجغرافيّ لقانا الجليل. وإن بعض الشرّاح رأوا في كلمة الجليل معنى روحيًا ورمزيًا أكثر منه جغرافيًا، فلم يعد التمييز بين قانا الجليل وقانا أشير بذي بال. ويرى أرستيد سيرا، أن يوحنا ذكر اسم قانا الجليل، وقد يكون السبب جغرافيًا. ولكن هناك أيضًا سببًا لاهوتيًا. فحين تكلّم نيقوديمس، قال له الفريسيون: "هل أنت من الجليل؟ استقص تجد أنه ما دام نبي من الجليل" (يو 7: 52). ومن المعروف أنه لا يقوم نبي من الجليل. أما عند يوحنا، ففي قانا الجليل التي احتقرها اليهود كأرض للأمم الوثنيّة، ظهر النبي العظيم، يسوع الناصريّ، الذي تكلّم عنه موسى والأنبياء (يو 1: 45).

2- في كتب الآباء والأدباء
أن أقدم نص نعرفه حتى الآن، هو نص المؤرخ فلافيوس يوسيفوس، الذي تكلّم عن "قرية في الجليل تسمّى قانا". ويضيف أن هذه القرية تبعد مسيرة ليلة عن طبرية. ويقول باريت إن هناك ثلاث قرى: كفركنّا، قانا الجليل وعين قانا. ويضيف، ما أراده يوحنا هو أن يشير إلى أن المعجزة الأولى لم تتمّ في اليهوديّة، بل في الجليل.
بعد هذا نجد كتاب "الاسمائيات" (Omomasticon). إنه قاموس المواقع البيبليّة. هو يعطي لائحة أبجديّة بأسماء الأماكن في الكتاب المقدّس مع لمحة جغرافيّة وتاريخيّة عنها. وهو يشكّل الجزء الرابع من مؤلف ضخم على الجغرافيا البيبليّة، وضعه أوسابيوس القيصري (265-339) بناء على طلب صديقه بولينوس أسقف صور. وقد اهتم العلماء في الشرق والغرب بهذا الكتاب، وزادوا عليه ونقّحوه. دوَّنه أوسابيوس في اليونانيّة، ونقله القديس إيرونيموس (347- 420) إلى اللاتينيّة.
يقول أوسابيوس: "قانا حتى صيدون الكبرى كانت في ميراث أشير، فهناك ربنا والهنا يسوع المسيح حوّل الماء إلى خمر، ومن هناك كان نتنائيل. كانت مدينة ملجأ في الجليل". ويعتبر شرّاح الكتاب المقدّس أن لكتاب أوسابيوس هذا قيمة كبيرة، لأنه عرف المواقع بعد أن زارها وقرأ عنها في المكتبات.
ويضيف ايرونيموس متتبّعًا نص أوسابيوس: "هذه قانا اليوم قرية صغيرة في جليل الأمم".
ويورد القاموس البيبليّ نصًا آخر للقديس ايرونيموس عن معاصرته القديسة باولا، النبيلة الرومانيّة (347- 404)، جاء فيه: "زارت الناصرة حيث نشأ الرب، وقانا وكفرناحوم". ثم إنه في سنة 530، جاء الامبراطور تيودوسيوس إلى المنطقة، فكتب: "من صفورية إلى قانا الجليل أو إلى الناصرة، المسافة ذاتها وهي خمسة أميال". وفي سنة 826، كتب القديس ويليبرود أنه انتقل من الناصرة إلى قانا حيث زار كنيسة كبيرة شاهد فيها إناء قيل له أنه أحد الأجاجين الستة التي فيها حوّل الرب الماء خمرًا.

3- قانا في القرن العشرين
ماذا نعرف اليوم عن قانا؟ سنة 1926، أثناء رياضة روحيّة ألقاها في كنيسة الروم الكاثوليك، الذين كانوا يشكّلون يومها ثلث سكان البلدة، دوّن الأب ابراهيم حرفوش في ماجرياته الخطيّة، عن هذه القرية اللبنانيّة، أن الفرنسيّين أجروا حفريات عديدة بالقرب منها، فعثروا على بقايا كنيسة بيزنطيّة من القرن الخامس ونقلوا فسيفساءها الجميلة الصنع إلى باريس. وأنه رأى على ضفة وادي العقاب صخورًا كبيرة منقوشة ونواميس مكسّرة، ولعلها قلعة تخوم صور الجبليّة التي وردت في العهد القديم في كلامه على حدود سبط أشير، كما عثر على آبار وقبور. وعلى بُعد ساعة من قانا للشمال الشرقيّ، في آخر مرج صفرا وأمام باب وادي عاشور (ولعلّها أشور)، شاهد صخرًا كبيرًا يسمّيه السكان شباك المغارة، ومنقورة فيه رسوم محاها الزمن، وحطّم الجهلة منها آثار شخصين محفورين، ولم يبقَ غير رأسيهما وأمامهما شخص جالس على كرسي ووراءه شخصان آخران. ويرجّح الأب حرفوش بأنها عائدة لعصر الغزاة الأشوريين، وبالقرب من هناك توجد عين ماء تدعى عين الحجة.

خاتمة
أما نحن فنعتقد بالاستناد إلى معظم النصوص التي أوردناها، وحلّلناها، أننا في قانا اللبنانيّة الجنوبيّة، أمام قرية تحمل آثارًا مسيحيّة أكيدة. لاسيّما في المغارة التي قد يكون احتمى فيها المسيحيون إبان اضطهادات الامبراطوريّة الرومانيّة، وربما بعدها، والنقوش هناك قد تدلّ على السيد المسيح والرسل. وعلى كل حال، يبقى على التنقبيات العلميّة أن تقوم بعملها، لعلها تكشف لنا المزيد من الآثار القديمة، كما ننتظر دراسات أعمق. فقد تكون هذه القرية هي نفسها قانا أشير التي تحدث عنها سفر يشوع، وحدّد موقعها أوسابيوس والامبراطور تيودوسيوس، قد تكون قانا الجليل التي عرفت أولى معجزات يسوع "فأظهر مجده، فآمن به تلاميذه" (يو 2: 11).
لا لم تنحصر تجولات يسوع في فلسطين، لقد جاء إلى لبنان، جاء إلى نواحي صور وصيدا، وهناك شفى ابنة المرأة الكنعانيّة، ولا بد من أن تكون قانا الصوريّة قد نعمت بحضوره وتباركت بأولى معجزاته.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM