الفصل الثامن والعشرون :الكنيسة في الانجيل الرابع

الفصل الثامن والعشرون
الكنيسة في الانجيل الرابع

لا يقدّم الانجيل الرابع تفاصيل حوله التنظيم القانونيّ للكنيسة، ولا حول وظائفها، ولا حول البنية التراتبيّة فيها من أساقفة وكهنة وشمامسة. كما أنه لا يقدّم تحديدًا عن الكنيسة يشكّل برهانًا كتابيًا يدخل في مقال اكليزيولوجيّ. ولا نجد أبدًا لفظة "أكلاسيا"، كما لا نجد عبارات معادلة مثل شعب الله، القديسين، قدّيسي جماعة الربّ، جماعة القدّيسين، أبناء الملكوت المختارين. اسرائيل الحقيقيّ أي بحسب الروح، اسرائيل الله، وارثي الموعد الذي أعطي لابراهيم، أورشليم العليا، جسد المسيح. لاشكّ في أن التعابير الاكليزيولوجيّة التي تتجذّر في العهد القديم ويتوسّع فيها العهد الجديد، ليست غائبة كليًا عن الانجيل الرابع، غير أنها لا تلفت النظر وإن استعملت بشكل سلبيّ.

1- نظرة عامّة
في هذا الوضع نفهم أن لا تكون الدراسات في هذا الموضوع كثيرة، وقد بدأت في الستينات. فلا لغة خاصة، ولا اهتمام خاصًا في إنجيل يوحنا حول الكنيسة. ثم إن الدراسات انصبّت على المسائل التاريخيّة والادبيّة في الانجيل الرابع. بعد ذلك عادت إلى اللاهوت اليوحناويّ تبحث عن أصوله في العالم اليونانيّ كما في العالم اليهوديّ ولاسيّما لدى جماعات قمران. ونضيف على ذلك أن اللاهوت اليوحناويّ بدا في الأصل كرستولوجيًا. أي توقّف عند شخص يسوع المسيح، قبل أن يكون اكليزيولوجيًا، أي تدارس وجه الكنيسة.
فهل نستبعد الاكليزيولوجيا من انجيل يوحنا، أو نعطيها مكانة صغيرة؟ كلا. لأننا نعتبر أن الاكليزيولوجيا اليوحناويّة، ولاسيّما في الانجيل الرابع، هي كتيفة، عميقة وموحية. ولكن يجب أن لا نقرأها داخل نهج مسبق نفرضه على يوحنا، بل في منظار الكاتب. هنا نودّ أن نشير إلى التضاربات في الدراسة اليوحناويّة، بين طرح وطرح مناقض. لن نقدّم هنا مختلف الآراء، بل نحصر كلامنا في المواقف المتطرّفة لكي نصل إلى نظرة شاملة وإيجابيّة.
من جهة، شدّد التأويل اليوحناويّ على الأصل الجماعيّ والكنسيّ للانجيل الرابع، على محيطه الحياتيّ المتشرّب بشعائر العبادة، على الاهتمام بالعادات اليهوديّة والأسرار المسيحيّة، على الشكل الليتورجيّ في تراتبيّة الخدم لمجمل هذا الانجيل أو لأقسام كثيرة منه. تأخّر المجيء، وبدت الاسكاتولوجيا (أي: نهاية الزمن) وكأنها قد تحقّقت في الكلمة المتجسّد (هو لاهوت التجسّد الذي نجده بشكل خاصّ في يوحنا)، ثم في الكنيسة التي توجّهها فقط شريعة المحبّة الأخويّة، والتي تهتمّ بالرسالة في العالم اليهوديّ كما في العالم الهلنستيّ. ومن جهة ثانية، يرى الشرّاح أن هذه الاسكاتولوجيا التي تحقّقت، ترتبط بشكل خاص بالمؤمن في فرديّته (لا بالجماعة)، الذي يرتبط بعلاقة شخصيّة مع المسيح الممجّد بواسطة الايمان بيسوع حامل الوحي. فالايمان هو الضروريّ الوحيد. وقالوا إن هذا الايمان هو معرفة فرديّة وصوفيّة تقودنا على مستوى المشاهدة وتستلهم العالم الهلنستيّ. لاشكّ في أن "التمجيد" (الذي يناله يسوع) أو ساعة الموت والتمجيد تشرف على الانجيل كله. أما الكلام عن الدينونة الأخيرة وقيامة الموتى، فهو وليد لمسات أخيرة في النصّ الانجيليّ.
وبمختصر الكلام، إن كان الشرّاح قد اتّفقوا على اسكاتولوجيا قد تحقّقت وتمّت، فالغموض يسيطر حتى الآن على نقاط أساسيّة مثل: تقدير النصوص التي تعبّر عن انتظار اسكاتولوجيا، عن اهتمامات الانجيلي على مستوى الجماعة (وكنيسته) والفرد (المؤمن)، عن المحيط الذي استلهمه الكاتب، سواء كان المحيط يهوديًا أم هلنستيًا. وهنا نسوق بضع ملاحظات.
الملاحظة الأولى. لا نستطيع أن نستخلص مفهوم الكنيسة من أوصاف قد تدلّ على مجموعة من الأفراد أو على جماعة منظّمة. لاشكّ في أن لهذه الأوصاف رنّة قويّة حين نستطيع أن نبرهن أن الوعي الكنسيّ هو أساسيّ في الانجيل الرابع. في هذه الحالة، تُغني هذه الأوصاف مفهوم الكنيسة. ولكن يجب قبل كل شيء أن نثبت أن الكنيسة واقع له مكانته في وعي الانجيليّ. فهناك ألفاظ وعبارات تقودنا إلى أبعد من مجموعة أفراد لا يربط بينها رابط، إلى أشخاص يعتقدون المعتقد عينه أو يعيشون الوضع الواحد. وإليك بعضها:
"المؤمنون". "وُلد من الله". "وُلد من علُ" (1: 12-13؛ 3:3-8؛ 1 يو 2: 29؛ 3: 9؛ 5: 1- 4). "أولاد (أبناء) الله" (يو 1: 12؛ 1 يو 3: 1، 10). صيغة الجمع حين يتحدّث يوحنا عن الذين كانوا منّا (يو 2: 19-20). كلام عن حضور الآب والابن والروح القدس (يو 15: 16-26). "الشركة الأخوية". "شركة" مع الآب والابن (1 يو 1: 3، 6). التعارض مع العالم. اسم "الإخوة" الذي يُعطى للمؤمنين (20: 17). شريعة المحبّة الاخويّة.
قد لا نستطيع أن ننطلق من الكنيسة في تحديدها المعروف. ولكنّنا نستطيع أن ننطلق من نصوص تتجاوز مجرّد مجموعة من المؤمنين. إذا كان المؤمنون لا يشكّلون الكنيسة، فإن الله يجمع المؤمنين بحيث يشكّلون كنيسة. كيف يتمّ هذا، وبأيّة شروط ونتائج؟ هذا ما سيقوله الانجيليّ.
والملاحظة الثانية. نميّز أولاً في الأدب اليوحناويّ بين الانجيل من جهة والرسائل والرؤيا من جهة ثانية. في الانجيل، يتوقّف المؤمن عند الواقع الروحيّ للإيمان. أما في الرؤيا والرسائل، فنكتشف سلطة الرسول تجاه كنيسة، سلطة شاهد للإيمان، سلطة رجل يحمل كلمة التعزية والتشجيع أو يقوم بالتنظيم اللازم داخل جماعات تدور في فلك أفسس.
ولا نمزج ثانيًا بين ما قاله يوحنا من جهة، وما قالته الرسائل البولسيّة والأناجيل الإزائيّة من جهة ثانية. فالموقف متشعّب أكثر ممّا نظنّ. ولا نعلن بسرعة أن الكنيسة اليوحناويّة تتابع ما سبقها من تطوّر. فهناك "مقاطع" من إنجيل يوحنا تبدو أقدم ممّا نجده في أول الأناجيل، في انجيل مرقس.
الملاحظة الثالثة. قد ننطلق من تحديد للكنيسة، ثم نتفحّص المحاولات الاكليزيولوجيّة عند يوحنا. ولكن ليس من الضروريّ أن يذكر صاحب الانجيل الرابع كل العناصر التي يراها الناقد جوهريّة، لكي نتكلّم عن اكليزيولوجيا يوحناويّة. فانجيل يوحنا ليس مقالاً عن الكنيسة. فإن شدّد على عنصر واحد لا يُفهم خارج الاطار الكنسيّ، فهذا يكفي. كما أنه يلمّح إلى عناصر أخرى.
ولهذا فاهتمام يوحنا لا يعني أنه توقّف عند الخدمة واعتراف الايمان ووظائف الرسل والشمامسة، ولا حول شعائر العبادة والليتورجيا في الكنيسة الأولى.
والملاحظة الأخيرة. إن كان الانجيليّ تطرّق إلى بعض معطيات الليتورجيا اليهوديّة، فهذا ما يتيح لنا الانتقال إلى شعائر العبادة المسيحيّة. لا شكّ في أن الانجيليّ تذكّر العالم اليهوديّ في إطار نقيضة قد يكون العنصر المقابل فيها هو الكنيسة. بل ما يميّز يوحنا هو أن مقياس كل شيء هو يسوع الذي هو حاضر في كنيسته.
بعد كل هذا، نرى أن المعطيات الاكليزيولوجيّة في الانجيل الرابع تتوزّع على ثلاث محطات، أو هي تسير في ثلاثة إتجاهات. أولاً، هي تتجذّر في ذكرى الماضي تجذّرًا عميقًا: الكنيسة تحلّ محلّ اسرائيل. ثانيًا، الكنيسة هي حضور يسوع. ثالثًا وأخيرًا، تبقى الكنيسة مشدودة نحو المستقبل الاسكاتولوجيّ. إن كنيسة المسيح تحيا دومًا في انتظار مجيء الربّ.

2- الكنيسة واسرائيل
اعتبر بعض الشرّاح أنه إن لم نجد صياغة تامة للاكليزيولوجيا في الانجيل الرابع، فالسبب يعود إلى أن الكنيسة كانت في نظر الانجيليّ وفي نظر المؤمنين في أيامه، واقعًا لا نزاع فيه ولا يطرح أيّ سؤال. لاشكّ في أن واقع الكنيسة لم يكن يطرح سؤالاً. ولاشكّ في أن التأكيد الايمانيّ الذي يقول بأن الكنيسة التي ينتمي إليها الكاتب (أي الكنيسة المسيحيّة) هي الكنيسة الحقيقيّة الوحيدة التي أسّسها الله. ولكن من خلال هذا التأكيد لإيمان لا يعرف الشكّ، تختفي غمرات مسألة ثقيلة، قدّم لها الكاتب الحلّ الكامل بالايمان، ولكن آثارها النفسيّة لم تُشفَ فدفعت الكاتب إلى تعميق فكره اللاهوتيّ.
هذه المسألة لم تُطرح فقط على كاتب الانجيل الرابع، بل طُرحت على كل الكنيسة الأولى الآتية من العالم اليهوديّ. هناك شكّ وحجر عثار (سكندلون كما في اليونانيّة). كيف نفسّر عدم دخول إسرائيل، أي الجماعة الدينيّة الوطنيّة اليهوديّة بأكثريتها، إلى كنيسة المسيح؟ لاشكّ في أن الكنيسة تخلف اسرائيل وهي تحقّق دعوة الشعب الأول. ولكنها حقّقتها بعد أن أتمتها، بعد أن تجاوزتها بحسب قصد الله ودينونته. إن شدّدنا على هذا "التحقيق" أو هذا "التجاوز"، فتحوّل اسرائيل إلى الكنيسة المسيحيّة ينظر إليه العهدُ الجديد من زاويتين.
في الأولى، يكون التحقيق موقعًا أفضل بالنسبة إلى نظام اسرائيل الموقت. يُشدّد على التواصل بين النظامين، ولا يتخلّى المؤمن كل التخلّي عن الأمل بارتداد اسرائيل. وفي الثانية، يتمّ التحقيق عبر قطيعة جذريّة مع الماضي، وخلق نظام جديد كل الجدّة يتجاوز السابق كما الواقع يتجاوز الأمل أو الظلّ.
ونحن نجد هاتين الزاويتين في العهد الجديد: الواحدة بقرب الأخرى. أو الواحدة امازج بالأخرى، بحيث لا تتميّزان إلا بالتشديد على التواصل أو على القطيعة. غير أننا نلاحط أن القطيعة هي أيضًا شكل من أشكال التواصل والرباط. فالنظامان يعودان إلى قصد الله الواحد الذي يظلّ هو هو. أو بالأحرى يتحقّق في المرحلة الثانية بطريقة اسكاتولوجيّة، بطريقة تصل بنا إلى ملء الزمان.
إن دينونة (كريسيس) الله تميّز تمييزًا جذريًا بين فئتين (9: 39، كريما). الفئة الأولى هي اسرائيل بحسب الجسد، اسرائيل الإثنيّ. أراد أن يبقى اسرائيل بحسب اللحم والدمّ فانحطّ إلى مستوى يهوديّة منغلقة على النداء الذي وُجّه إليها. إن اسرائيل هذا اسم يبلغ إلى دعوته. فاته النداء. فصنع الله خليقة جديدة، وأسّس شعبه الجديد وسط الوثنيّين.
شدّد يوحنا على القطيعة مع العالم اليهوديّ، وعلى تحقيق مخطّط الله بشكل جديد ونهائيّ واسكاتولوجيّ. ما عاد من رجاء للذين سمّاهم "اليهود"، وهو اسم يتضمّن على المستوى العمليّ إنكارًا في داخلهم لقيمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يمثّله اسم "اسرائيل". ما اعتبر يوحنا اسرائيل يومًا كالشعب المختار في المعنى الحقيقيّ للكلمة، في المعنى الاسكاتولوجيّ والنهائيّ. ولكنه رأى فيه أول المرّشحين لهذه الكرامة. رأى فيه باكورة الكنيسة. ولكن في ساعة الاختيار الاسكاتولوجيّ، تقدّم عدد قليل من المرّشحين. وفي نهاية يو 6، أفهمنا الانجيل بوضوح أن عدد المرشّحين المختارين انحصر عمليًا بالاثني عشر (يو 67:6- 71). وهكذا أضاع شعب "اليهود" كرامته كشعب هُيّئ لمهمّة، حين أنكر ذاته منكرًا مسيحه.
وجاءت دينونة الله حائط مبكى وقف بقربه الانجيليّ ليعبّر عن خيبة أمله ضدّ الجاحدين، ضدّ الرافضين. وفي الوقت عينه كان هذا الجدار سورًا يحيط بشكل نهائيّ بمنطقة اللاإيمان والظلمة، بحجر الهلاك الذي لا خروج منه. إن كنيسة يوحنا هي وحدها الكنيسة الحقّة، لا لأنها تُفضّل على كنائس أخرى (هي لا تستحقّ في نظر يوحنا أن تسمّى كنائس)، بل لأنها تحلّ محل ما حُسب شعب الله وظهر في النهاية أنه "أبناء ابليس" (يو 8: 37-38، 44-47)، وتتجاوز كل ما سبق بطابعها الاسكاتولوجيّ. والهجوم الذي يقوم به يوحنا ضدّ اسرائيل هذا الكاذب، ضدّ "اليهود"، يدلّ على أنه ما زال يفكّر في إطار مقولة "الشعب المختار". وإن كانت النقيضة تجعل بشكل مباشر اسرائيلَ تجاه يسوع، فهي تتضمّن من وقت إلى آخر نقيضة اسرائيل الكنيسة، لأن يسوع لا يمكن أن يكون الراعي إن لم تكن له خراف تسير وراءه.
ولنعُد بشكل منهجيّ إلى النصوص. فنتنائيل الذي هو اسرائيليّ لا غشّ فيه، قد أُعدّ في الواقع لتقبّل يسوع. ولهذا ما إن بدأ اللقاء، حتى سلّم ذاته بكليّتها إلى يسوع. كان مرشّحًا فصار عضوًا في شعب الله الاسكاتولوجيّ: فسيأتي يوم يرى أحداثًا أعظم من هذه، يرى أحداث نهاية الأزمنة (يو 1: 47- 51؛ رج 5: 20؛ 14: 12). فكل قيمة حياتيّة افتخر بها اسرائيل في الماضي، كانت في الواقع استعدادًا لهذا الكلّ الاسكاتولوجيّ الذي يحقّقه الله في يسوع.
فإن كان الحديث عن كلمة الله، أو نوره، أو الحياة التي يهبها، فيسوع هو في مجيئه الكلمة والنور والحياة، بل هو وحده ملء الكلمة والنور والحياة (يو 1: 1-18). حين تمّ الانتقال من الظلّ إلى الحقيقة، كان يوحنا (المعمدان) هنا ليدلّ اسرائيل على ما يحصل (1: 31). إذًا، كان اسرائيل المرشّح الأول. مرّ نيقوديمس (ف 3) قبل السامرية والموظّف الملكيّ (الذي كان وثنيًا). فلو ظلّ ذلك اليهودي "اسرائيليًا حقيقيًا"، لكان عرف الله أكثر من أي وثنيّ صار مسيحيًا. ولاستطاع في الوقت عينه أن يؤدّي عبادة أسمى، عبادة في الروح والحقّ، لأنّ الخلاص يأتي من اليهود (يو 4: 22). غير أن هذا المعلّم في اسرائيل (هو نموذج اليهوديّ، كما أن الموظّف الملكيّ هو نموذج الوثني) رفض ولادة من علُ، دافع عن نفسه ضدّ مجيء ملكوت الله في تاريخ الخلاص. إن هو ارتبط بالله بواسطة يسوع، انقطع عن عالمه. لهذا جاء في الليل ومضى في الليل.
وهكذا لم يعد اليهوديّ مرشّحًا للملكوت في شخص يسوع، لأنه التصق في وضعه كمرشّح، وظنّ أنه وصل فما عاد له أن ينطلق في الطريق كما فعل ابن طيما الأعمى. وينتهي الفصل الذي يتحدّث عن نيقوديمس في حكم قاطع: "يحلّ غضب الله عليه" (63:3). نحن هنا أمام استباق لدينونة نقرأ عنها في نهاية ف 9: "خطيئتكم باقية".
إن فعل "ماناين" (حلّ، بقي) يشير في الوقت عينه إلى الماضي والمستقبل. فاليهود يجذبون على نفوسهم الحكمَ النهائيّ. غير أن هذا الحكم يتضمّن، في ساعة الرفض عينها، حكمًا على كل ماضي اسرائيل. فإن كان شعب اسرائيل الذي دُعي ليكون الشعب المختار، قد انحطّ إلى مستوى اليهوديّة الجسديّة، فهذا يعني أن دعوة اسرائيل هذه لم يكن لها من تأثير عميق على عقيدة اسرائيل الإثنيّ وحياته. كان منذ زمن بعيد المدعوّ الأول ليحمل النور، وقد هُيّئ لذلك كما لم يُهيّأ أحد. وكانت فرصتُه الأولى لأن يسير إلى النور فرصتَه الأخيرة.
لهذا كانت مرحلة الوحي التي سمّيت في إنجيل يوحنا مرحلة نور يسوع ونهاره (إقامته في وسط اليهود)، محمّلة بمدلول اسكاتولوجيّ لليهود: فالنور بالنسبة إليهم يدلّ على الحياة الأبديّة أو الشجب الابديّ. فحين يشعّ النورُ، ويدوم نهار يسوع، يستطيع اسرائيل أن يحافظ على كرامته، أن يكون الشعب المختار من أجل نهاية الأزمنة. غير أن الانجيليّ اعتبر أن اليهود مد خسروا الفرصة الأخيرة التي قدّمت لهم مرارًا. وصار هذا الذي سمّي الشعب المختار معارضًا لله، مغموسًا في "العالم". ما إن زال النور، حتى غرق "العالم" في الظلمة. أما المؤمنون فاستطاعوا أن يشاهدوا المجد. لا نظنّ أننا أمام صدفة حين تتحدّث النصوص فقط عن النور خلال حياة يسوع العلنيّة. ولكن منذ ساعة الموت ينكشف المجدُ للعالم كلّه.
إذا كان اسرائيل صار "العالم" (أي ما يعارض الله)، فالعالم كله صار وارثًا لدعوة خسرها اسرائيل. وكما يهوى الانجيليّ أن يستبق أحداث موت يسوع وقيامته، التي تشكّل دينونة لليهود الذين لايؤمنون ونداء إلى الأمم الوثنيّة، كذلك فهو يستفيد من كل ظرف ليفهمنا منذ البداية أن المدعوّين الذين سينالون الخلاص ليسوا اليهود بل الوثنيين. فالذي أعانه اليهود لكي يحقّق صورة حمل الله وعابده، يحمل خطيئة العالم. فالله قد أحبّ العالم فأرسل ابنه الوحيد لكي تكون الحياة الابديّة لكل من يؤمن به. فالذين يخلصون ليسوا أولئك الذين يرفعون يسوع على الصليب بل أولئك الذين ينظرون إليه (3: 14-16؛ رج 19: 37).
إندهش التلاميذ حين رأوا يسوع يحاور السامريّة. وظنوا أنهم سينتظرون أربعة أشهر قبل أن يأتي الحصاد. ولكن الحصاد الاسكاتولوجيّ قد بدأ (4: 36). هذا الحصاد مخيّب للأمال في العالم اليهوديّ، ولكنه يُعطي أفضلَ الغلال في السامرة. وفي العالم كلّه (4: 42) حين سلّم يسوع نفسه للموت (4: 38). وإن كان اللايهود قد اعترفوا به على أنه "مخلّص العالم" (4: 42)، فاليهود، وإن استقبلوه في البداية، سيجعلونه يقول: "لا يكرّم نبيّ في وطنه" (44:4).
في ف 5- 10، بدأ يسوع، ابن الانسان، محاكمتَه الاسكاتولوجيّة لليهود. أرسله الآب ليكون نورًا لليهود ما زال النهار حاضرًا، إلاّ أنه أبرز وظيفته كابن الانسان وبدأ يدين مستبقًا الدينونة الأخيرة (5: 29-30). كل دعوى تحتاج إلى شهود. والشهود الذين دعوا إلى المحكمة ليكونوا مع يسوع، صاروا شهودًا ضدّ اليهود. هم يوحنا المعمدان (33:5-35). والله الذي يعمل أعمالاً عظيمة بواسطة يسوع (5: 32-36). وأخيرًا إله العهد القديم الذي ظهر على جبل سيناء فجاءت شهادته واضحة لمن يعرف أن يقرأ الكتب (37:5-47).
غير أن كل هذه التربية الالهيّة عبر التاريخ، من سيناء حتى الآن، لم تنجح مع اليهود. لهذا، فشهود يسوع شهدوا ضدّ اليهود. والمحامي الموكّل للدفاع عن اليهود، هو الذي يتّهمهم في الدينونة الأخيرة (5: 45- 47). وآية الخبز تعيدنا إلى البريّة والمناخ كله يجعلنا نفهم أن مرحلة خروج جديد قد بدأت. غير أن جوّ الجماعة المسيحانيّة في البريّة، سوف يشدّد بالأحرى على القطيعة الجذريّة بين الجماعة اليهوديّة والجماعة الاسكاتولوجيّة التي يخلّصها يسوع حين يدخل في وظيفته كابن الانسان.
لقد انتهى زمن الأحلام والعودة إلى الآيات الماضية: فهم يعيشون في حقبة أعمال يسوع، ونشاط ابن الانسان للدينونة. فيسوع هذا قد ختمه الآب بختمه (28:6) من أجل وظيفته. لهذا يجب أن لا نعمل من أجل طعام يفنى ويُفني آكليه. بل يجب أن نستعدّ للزمان الذي فيه يعطي ابن الانسان طعامًا يدوم إلى الأبد ويديم آكليه إلى الأبد (6: 26-27). لقد انتهى سراب خبز سماويّ، لأن لا سماويّ إلاّ ذاك الذي نزل من السماء على السحب كابن الانسان، والذي يستطيع وحده أن يعطي الحياة الابديّة (6: 33).
كل هذا ليس ببعيد، لأننا نقترب من موت المسيح الذي يدخل بموته في وظيفته كابن الانسان (6: 51). عند ذاك تتحدّد المواقع بشكل نهائي: فاليهود الذين لا يريدون أن يؤمنوا (6: 36)، يُحكم عليهم. أما الذين آمنوا فلا يُرمون خارجًا (6: 37). مهما كان المعنى (الواسع أو الضيّق) الذي نعطيه لعبارة "كل ما يهب الآب" (37:6) و"سلطان على كل جسد" (17: 2 أ) أو "موهبة" الذين يريدون أن يؤمنوا (17: 2 ب-6؛ 10: 28؛ 6: 5)، فالذين يؤمنون قد نالوا إيمانهم موهبة حصلوا عليها من الآب الذي يجتذب كالشبكة (44:6، "إلكاين"، شدّ الشبكة) بواسطة ابن الانسان.
وهذا الاختيار (وهذه التهيئة المسبقة) من أجل النعمة أو المجد ليس اعتباطيًا. فاختيار الله يتأسّس على ماضي اسرائيل وعلى تاريخ الخلاص. فإذا كان اليهود ما استطاعوا أن يؤمنوا، فلأنهم في الماضي لم يأخذوا على محمل الجدّ وحيَ العهد القديم. فمن أراد أن يستمع إلى الآب ويتعلّم، يأتي إلى يسوع الذي يحمل التعليم الاسكاتولوجيّ الذي أنبأ به الأنبياء: "سيعلّمهم الله كلهم بشكل مباشر" (6: 45؛ رج تس 9:4). والتراجع التام في نهاية الفصل، يساعدنا على الملاحظة أن اليهود الحاضرين لم ينفتحوا على الايمان، وبالتالي لم يستطيعوا أن يقفوا بجانب كلمات يسوع (6: 64-65). وهكذا أوضح يوحنا وضع اليهود: كان المختارون اثني عشر. بل سيكونون أحد عشر، بعد أن استُبعد يهوذا الذي كان من الاثني عشر دون أن ينتمي إليهم وهو الذي اختاره الربّ كما اختارهم.
تشتّتت قبائل اسرائيل الاثنتا عشرة. وفي إطار عيد المظال وعيد التدشين، هذا الزمن الليتورجيّ الذي يذكّرنا بتكوين شعب الله في البرّية، أنكر يسوعُ امتيازات شعبه الرئيسيّة الواحد بعد الآخر. فما عادت كتبهم تستحقّ اسم التعليم الالهي. بل يسوع نفسه هو التعليم الالهيّ (7: 14-18). والمياه التي تفجّرت من الصخر في البرية، وسائر الامواه التي تحتلّ مكانة هامّة في عيد المظال، والتي ترمز إلى حماية الله، لا تُقابَل بأنهار الماء الحيّ الذي يجري من جسد يسوع المائت على الصليب (7: 37-39؛ رج 19: 33-37). وكل نور منذ عمود النار في البريّة حتى نور عيد المظال، يصبح باهتًا حين يأتي نور الحياة الذي يقدّمه يسوع لليهود والذي هو نور العالم (8: 12؛ رج 9: 5). ولقبُهم الكريم "نسل ابراهيم" لا يتيح لهم أن يعتبروا نفوسهم أبناء ابراهيم، أبناء الله. إنهم بالأحرى أبناء إبليس (8: 35-39).
رفضوا أن يحيّوا بالفرح يوم يسوع الذي انتظره ابراهيم فابتهج له مسبقًا (8: 28-29، 58). رفضوا النور، بحيث إن الربّ "الذي هو" (يهوه) مخلّص اسرائيل، وأساس وجوده، والحاضر الآن في شخص يسوع، مرّ أمامهم فلم يعرفوه، فتابع طريقه وما عاد. وهكذا ما كان يجعل من اسرائيل شعبًا مميّزًا هو حضور الرب في شعبه وحمايته له، والتعليم والنور، ومياه الحياة. كل هذا تجسّد في ملء الزمن في شخص يسوع الذي قُدّم لهم كأسمى التقدمات وآخرها. ولكنهم رفضوها، وبالتالي رفضوا يسوع، فخسروا كل شيء.
ويبيّن الكاتب من وقت إلى آخر أن هذه الامتيازات الاسكاتولوجيّة قد انتقلت من اليهود إلى الأمم (7: 35) بفضل موت يسوع الاراديّ (8: 21-22، 28-29، 36). ففي الانجيل الرابع، كل رسالة خارج اسرائيل تستقي حيويّتها من موت يسوع. هكذا يكون يسوع نور العالم (8: 12؛ 9: 5). والذين يقرّون بحاجتهم إلى النور يتقبّلونه (9: 41).
وفي نهاية هذا الكلام القاسي ضد اليهود، نجد الشرعة الأساسيّة لشعب الله الجديد. مثل الرعيّة والباب والراعي الصالح والحقيقيّ (يو 10). فنحن لا ننتمي إلى رعيّة الله إلاّ إذا دخلنا من الباب الوحيد الذي هو يسوع، إلاّ إذا رأينا في يسوع الراعي الحقيقيّ الذي يعرف خرافه، الذي اختار خرافه وبذل نفسه عنها (13:15-16). إن يسوع قد أسّس بموته رعية الآب الجديدة وسلَّم إليها رسالة، وأعطاها القوّة لكي تجمع الناس من كل عرق وشعب (10: 7-16).
رعيّة وراع: ما يكفل وحدة الرعيّة هو حضور الراعي الحقيقيّ الوحيد. هو حضور حقيقيّ. حضور قريب. حضور أعمق ممّا كان عليه حضور يهوه وسط شعبه. كان قد قال الربّ في النبوءات إنه سيأخذ من جديد على عاتقه حراسة رعيته. والآن، صار يهوه حاضرًا حضورًا بشريًا في شخص يسوع. هو حضور يعيش منه المؤمنون، على مثال يسوع الذي يعيش دومًا من حضور الآب. حضور فاعل يؤمّن للرعيّة الطمأنينة والحياة (10: 9-10). وحضور ديناميكيّ. فالراعي يعطي حياته لكي تصل إلى حظيرة الآب خراف لا تنتمي إلى اسرائيل (10: 15-16). فالذين أرادوا قبل يسوع أن يلعبوا "لعبة" الراعي، أن يقوموا بوظيفة "المدبّر"، كانوا في الحقيقة لصوصًا وسارقين. أما يسوع فلا يأتي إلاّ لكي يعطي الحياة، ويعطيها بوفرة، ليعطي الحياة الأبديّة (10: 10- 28). فالراعي وأبوه هما واحد (10: 30)، وهما يعملان كل شيء لئلاّ يُنتزع أحد من أيديهما (27:10-29).
بعد أن مضى يسوع في طريقه إلى الموت، تلفّظ اليهود بعبارتين تجعلاننا ندرك البُعد الاكليزيولوجيّ لهذا الموت. فالاولى نبوءة قالها قيافا ولم يعِ كل أبعادها. أما الانجيليّ فأوضحها: سيكون موت يسوع موتًا من أجل الأمّة. ويتوخّى أن يجمع في الوحدة أبناء الله المشتّتين. أي الوثنيين (11: 49-52). والثانية نقرأها حين اجتمع الفريسيون ولاحظوا أن جميع الناس يذهبون إلى يسوع (48:11) ويؤمنون به. إن بُعد هذه العبارة يجد تفسيرًا في خبر وصول "اليونانيّين" الذين هم باكورة كنيسة الأمم. إنهم ثمر كثير لحبّة القمح التي سقطت في الأرض، ثمر يسوع. طلبوا أن يروا يسوع، ولكنهم ما عادوا يحتاجون أن يروا النور. فبعد قليل سيشاهدون مجده (12: 19-24). وهكذا لامس يومُ يسوع النهاية. فالآن في موته تتم الدينونة بشكل نهائيّ على عالم لا يؤمن، على عالم يقيم فيه اليهود وأبوهم إبليس. ظنّوا أنهم يستطيعون أن يُطفئوا النور، ولكن هذا النور سطع مجدًا فاجتذب بقوّته الاسكاتولوجيّة جميع البشر إليه (12: 31-32). فالنبيّ أشعيا سبق له منذ زمان بعيد فلاحظ أن استباق المجد سيجعل اليهود عميانًا.
وبمختصر الكلام، كان اسرائيل المرشّحَ الأول للنور الاسكاتولوجيّ، نور يسوع في مجيئه. ولقد أُعدّوا لذلك منذ زمن بعيد. ولكن رفْضَهم دلّ على أن تربية الله لهم منذ أجيال بدت بدون جدوى. وسيظهر الحكم عليهم حين يحكمون على يسوع. أما الوثنيّون، فسيرون النور الاسكاتولوجيّ، سيرون مجد يسوع. وسيُعطي موتُ يسوع حيويّة رسوليّة للشعب الجديد الذي جاء يكوّنه.

2- الكنيسة وحضور يسوع
في ليلة الفصح، قُلبت صفحة جديدة. توجّه يسوع "إلى أخصّائه" (13: 1). هذا ما يعود بنا إلى 1: 11 ولكن بشكل سلبيّ (ما قبله أهل بيته). بل يعود بنا إلى ف 6. الأشخاص في تكثير الأرغفة وفي العشاء السريّ هم هم. والوضع هو هو من تراجع وخيانة. والمناخ في الخطبة الافخارستيّة يجعلنا في قلب العشاء السريّ. وحين كلّم يسوع الاثني عشر الذين هم نواة شعب الله الجديد، وجّه كلامه إلى الكنيسة. فليس من اختلاف بين وضعهم كمؤمنين ووظيفة أي مسيحيّ. فالحلقة ليست مغلقة. بل هي منفتحة على الزمان والمكان. منذ تلك الساعة حتى انقضاء الدهر. ومن عليّة صهيون حتى أقاصي العالم.
أخصّاء يسوع ليسوا فقط حلقة من الأصدقاء. لاشكّ في أنه قد أحبّهم منذ البداية (13: 1). ولكنهم لم يكونوا موضوع اختيار، ولم يصيروا أصدقاء إلاّ بعمل بدا مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بموت يسوع. قال لهم يسوع بعد خطبة الخبز: "أنا اخترتكم أنتم الاثني عشر"... وتحدث عن الذي يسلمه (6: 70- 71). ونقرأ في 13: 1: "قبل عيد الفصح، كان يسوع يعلم بأن أتت ساعة انتقاله من هذا العالم إلى أبيه، وكان قد أحبّ خاصته الذين في العالم، فبلغ به الحبّ لهم إلى أقاصي حدوده" (رج 13: 13؛ 15: 13). كل هذا يثبته ما قلناه عن موت يسوع كحكم على العالم اليهوديّ، كتأسيس للكنيسة، كتجنيد العالم الوثنيّ. وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن خطبة الوداع بعد العشاء السري هي خطبة كنسيّة.
قبل أن نتوقّف عند هذه الخطبة، أو بالأحرى عند هذه الخطب الثلاث (الاولى، 13-14. الثانية، 15-16. الثالثة، 17)، نعود بعض الشيء إلى الوراء. فإذا ربطنا أخصّاء يسوع في 13: 1 بتلاميذ يسوع في نهاية ف 6، فإنكار امتيازات اليهود (ف 7-10) قد يدّلنا على امتيازات المسيحي في الكنيسة. يجب أن نعلم قبل كل شيء أن كل امتياز مسيحيّ يعني حضورًا للمسيح، بعد أن قابل يسوع بشخصه كل امتياز يهوديّ. فما كان يكوّن شعبَ اسرائيل هو حضورُ الرب المحامي. لهذا، فحضور يسوع هو ما يكوّن الكنيسة. والامتيازات الواردة تعود كلها إلى شكل من أشكال الحضور الالهيّ الذي يكوّن الجماعة. عاد تعليم اليهود (7: 16) إلى ظهور الربّ وأقوال الأنبياء. وتعليم يسوع الذي لا يأتي منه، بل من أبيه، يأتي بدون وساطة (6: 45). ففي يسوع يتكلّم الله بشكل مباشر لمن يريد أن يؤمن. لقد حلّ محل رمزيّة الماء الذي يدلّ على حضور الرب المحامي في شعبه، وحلّ محلّ الهيكل الذي منه تجري المياه في النبوءة التوراتيّة. وفي الليتورجيا اليهوديّة، حلّ يسوع (7: 37- 39) الذي هو الهيكل الجديد الذي تجري من جسده المائت على الصليب مياه الحياة.
هنا نتذكّر أن يوحنا ماهى بين يسوع وهيكل الحضور الالهي (1: 14؛ 2: 21-22؛ 4: 20-26). ونتذكّر أيضًا أن هذا الحضور الالهيّ الجديد يتحقّق في موت يسوع وتمجيده (39:7؛ رج 17:2-22؛ 4: 21-23). لقد حلّ محل نور العهد القديم، يسوعُ الذي هو نور العالم (8: 22). والذي سيصبح في موته ربّ المجد. وإن عبارة "أنا هو" (أي: يهوه) في العهد القديم عبّرت عن ثقة اسرائيل بالرب المخلّص. ويسوع نقل هذه العبارة إلى شخصه فقال: "أنا هو". ونحن لا نفهم هذا التماهي إلاّ في ارتفاعه على الصليب وفي المجد. "حين ترفعون ابن الانسان تعرفون أني هو".
وهكذا نفهم أن ما يهمّ يوحنا هو يسوع ويسوع في شخصه. فيسوع يجعل امتيازات اسرائيل بلا طائل. يسوع هو الذي يُخرج إلى الوجود شعبَ الله الجديد. فكنيسة أبناء الله (1: 12-13) تُولد بقدر ما يكشف الله عن نفسه عبر حضور حقيقيّ وسط البشر. بقدر ما يسكن بينهم، يظهر مجده وملء تنازله بشكل ملموس وكامل.
لا يتوقّف هذا الحضور عند سرّ التجسّد. فإن 1: 14 يكشف منظارًا أوسع. هو يدّلنا على كل مجيء يسوع. فهناك "جاء" و"جاء". لقد جاءت الساعة وهي ستأتي (23:4). جاءت ساعة يسوع بقدر ما يسوع جاء. وهي ستأتي لأنّ حضور يسوع ظلّ مخفيًا طوال حياته العلنيّة. فالمجيء الحقيقيّ والمجيء التامّ يحصل ساعة عودته إلى الآب، ساعة يتجلّى مجد الله. لقد ظلّ الروح عليه خلال حياته العلنيّة (1: 32-33). ومع ذلك، لم يكن الروح بعد "هنا" ليُعطى للمؤمنين. إنهم سينتظرون أن يتمجّد يسوع (7: 39). والهيكل القديم لحضور الله في اسرائيل اختفى في موت يسوع (2: 17). والهيكل الجديد سيكون جسد يسوع القائم من الموت (2: 21-23).
فالعبادة الحقّة تفترض وحي الله وحضوره كما ألهمها الروح، بحيث إن العابد يستطيع أن يُدرك الله كما هو، يدركه كأب (4: 23-24). وقد نقل يسوع تعليم الله (6: 45؛ 7: 16). ولكن هذا التعليم لا يدخل إلى القلوب (7: 28؛ 8: 19) قبل أن يفرض الحضورُ الالهي نفسَه ساعة ارتفاع ابن الانسان (8: 28). فإن بدا وحده في ذلك الوقت، ففي الواقع الآب هو معه أكثر من أي وقت مضى (29:8؛ 33:16). والطعام السماويّ هو يسوع نفسه، ولكنه لا يعطي ذاته طعامًا إلاّ حين يدخل ابن الانسان في "وظيفته" (27:6). حين يعطي جسده (أي ذاته) لحياة العالم في موته (6: 51). حين يؤكل جسد ابن الانسان ويُشرب دمه في الافخارستيا التي هي تذكّر مستمرّ للرب المائت (6: 53-58). فحضور الله المنير في يسوع يظلّ معنا ما دام النهار. ولكنه مخفيّ الآن ومحدود بشكل موقت. وحين يأتي الليل (11: 9؛ 12: 35-36؛ 13: 30)، يشعّ مجد الله فيه من أجل العالم كله (13: 31).
إن حضور يسوع هذا يخلق فسحة روحيّة. ليلة الفصح، الاثنا عشر، أولئك الذين تلقّوا التعليم الافخارستي كانوا هنا (6: 53-58، 67- 71). وقد وجّه إليهم يسوع خطب الوداع، ولكنه لم يوجّهها إليهم وحده. فليلة الفصح وساعة يسوع تتواصلان في زمن الكنيسة. وغسْل الأرجل هو علامةٌ تُدخلنا إلى هذا الاجتماع الكنسيّ: كان أولاً رمزًا إلى محبّة يسوع الذي يؤسّس كنيسته على الصليب. ثم صار شرعة أساسيّة يوجّه سلوك أعضاء الكنيسة. وإذا وضعنا جانبًا التشديد على شريعة المحبّة هذه، اهتمت الخطبة الاولى (ف 13-14) بأن تُفهم أولئك الذين ظلّوا في العالم (13: 1)، أن يسوع ينطلق ولكنه يبقى حاضرًا. قد يظنّ أخصّاؤه أن وضعهم لا يختلف عن وضع اليهود، أقلّه في الوقت الحاضر (33:13). غير أن اليهود لن يأتوا حيث يذهب يسوع (13: 36-37). وبانتظار أن يعود لكي يأخذهم، فلا يظنّوا نفوسهم يتامى (8:14): سيأتي بارقليط آخر مع أبيه (14: 22-25) فيقيمان في المؤمنين في هذا الوقت. كل ما يقدّمه لهم هو الوعد بأن سيلتقي بهم قريبًا (29:14؛ رج 16:16)، وعد بحضور يبدأ بقيامته ويضمّه إلى الآب والروح.
أما الخطبة الوداعيّة الثانية فتبدو أكثر كنسيّة من الأولى في لهجتها الايجابيّة. فهي لا تعالج لاغياب يسوع، بقدر ما تعالج شركة الحياة (5: 1- 10)، والمحبّة (15: 11-17) تجاه بغض العالم (18:15-16: 4)، والمهمّة التي تقوم بأن نحمل الثمار الكثيرة، بأن نشهد. تبدأ هذه الخطبة بمثل الكرمة والأغصان. وهذا المثل شأنه شأن مثل الراعي الصالح، يفصل هذه المجموعة عن الكرمة الفاشلة التي كانت اسرائيل. كل هذا نقرأه في مناخ الافخارستيا حيث الجماعة تجد نفسها بحضرة الربّ، تتّحد به، تحدّد علاقات المحبّة التي لم تكن نتيجة الصدف، بل نتيجة اختياره لهم وإقامته إياهم (15: 16). والتشديد المطوّل على بغض العالم الذي لن يستطيعوا أن يتجنَّبوه (15: 5 ي)، يُبرز فكرة الجماعة والشركة والاتحاد مع المسيح. فالجماعة تُضطهد لأنها تحمل اسم المسيح.
والخطبة الثالثة المسمّاة الصلاة الكهنوتيّة (ف 17)، هي نشيد كنسيّ حقيقيّ. صلّى يسوع لأجل الذين أعطاه الآب إياهم (17: 2)، فأخرجهم من العالم (17: 6). هم أخصّاء الله وقد صاروا أخصّاءه بفعل إلهيّ (17: 2، 6، 9-10). حملوا اسم الآب، شأنهم شأن يسوع (17: 11-12)، فارتبطوا بشخص الآب الذي يقيم في شخص يسوع. لم يعودوا من هذا العالم كما أن يسوع لم يكن يومًا من هذا العالم (16:17). وأخيرًا، صلّى الربّ لأجل الذين يتقبّلون كلمته الالهيّة عبر العصور. هذه الكلمة التي تدوّي في الكنيسة، بحيث تكون جميع الأجيال متّحدة اتحادًا مباشرًا مع يسوع والآب (آ 21، ليكونوا واحدًا كما أنا فيك وأنت فيّ)، متّحدة بعضها ببعض. وتنتهي الصلاة (آ 24- 26) بإعلان يبدو دينونةً أخيرة لكي يزول كلُّ شكّ حول تواصل الكنيسة حتى اليوم الأخير.
إن معطيات خطبة الوداع هذه تضعنا في مساحة روحيّة خلقها حضورُ يسوع الذي لا يعرف حدودًا في الزمان وفي المكان. ووعيُ هذا الحضور الحقيقيّ والناشط والذي يتعدّى الأزمنة، يستعيده يوحنا في ظهورات القائم من الموت. روى الإنجيل ثلاثة ظهورات لكي يدلّ على هذا الحضور، الذي ليس حضورًا خارجيًا، بل حضور نعيشه بتأثير الروح القدس (20: 1-9).
ظنّت مريم المجدليّة أنها تحلم وأن يسوع قد عاد كما كان قبل موته. ولكن يسوع لم يَعُد بهذه الصورة. إنه يأتي الآن في بُعده الحقيقيّ. فلا تحاولْ أن تسجنه في وضعه البشريّ الذي تجاوزه الآن. يجب أن يذهب إلى الآب الذي هو منذ الآن أبوهم. يجب أن يذهب إلى الله الذي هو منذ الآن إلههم حقًا. إن حلم العهد القديم "الله معنا" قد تحقّق الآن بشكل لا يتوقّعه إنسان. وهكذا فعودة يسوع إلى الآب هي مجيئه الحقيقيّ. لم يكن يومًا بقربهم كما هو الآن مع أنه بدا وكأنه يتركهم. الآن، هو مع الآب الذي هو أبوهم، ولهذا يسمّيهم إخوته. حضوره الالهيّ هو الآن حضور كامل (20: 17-18).
والظهور الثاني يدلّ على فاعليّة هذا الحضور. نفخ فيهم يسوع الروح، بحيث صاروا "روحيين"، مولودين من روح الله (3: 5-8) وحاملين هذا الروح من أجل تجديد العالم (14: 12). والظهور الثالث لا يعني توما وحسب، بل جميع الذين آمنوا دون أن يروا (20: 29). هذا ما يدلّ على تواصل حضور يسوع. فالمؤمن يتّصل اتصالاً مباشرًا بالربّ، إلى أي جيل انتمى، ولا يكون اتصاله أقلّ من الذين رأوه بعيونهم منذ الساعة الأولى. إن حضور يسوع يمتدّ إلى نهاية العالم ويظلّ حضورًا حقيقيًا وفاعلاً.
لا حدود في الزمان، لا حدود في المكان. فالمؤمن منذ الاثني عشر حتى المؤمن البسيط في جميع الأزمنة، يحمل ثمرًا كثيرًا إذا أراد أن يكون تلميذًا ليسوع (8:15). لا ثمر على مستوى الفرد وحسب، بل ثمر على مستوى الجماعة، على مستوى الكنيسة، على مستوى الرسالة. وإن يوحنا يربط دومًا الواجب الرسوليّ بموت يسوع الذي يُعطي عمل الكنيسة حيويّته ونجاحه. فحملُ الله هو الذي يرفع خطايا العالم (29:1). وما فعله يسوع حين مات، يجعل الحصاد الاسكاتولوجيّ ليقترب (4: 37-38).
لم يعرف اليهود حقيقة كلامهم حين قالوا ليسوع إنه سيذهب إلى الشتات لكي يعلّم الوثنيين (7: 35). ولكن ذاك كان الواقع. ولم يفهم قيافا عمق كلامه حين أعلن أنه يجب أن يموت إنسان عن الشعب ولا يموت الشعب كله. وقد فسّر يوحنا هذا الكلام: سيموت يسوع عن الأمّة، وليس فقط من أجل الأمَّة، بل ليجمع في الوحدة أبناء الله المشتّتين، أي الوثنيين (11: 49-52). والراعي الصالح يبذل حياته عن خرافه الذين يطلبهم في اسرائيل وخارج اسرائيل (10: 16) بحيث تكون الرعيّة واحدة والراع واحدًا.
ويموت يسوع، كما تموت حبّة الحنطة، ليحمل ثمرًا كثيرًا بدءًا باليونانيين (12: 19-24). وعلى التلاميذ بدورهم، شأنهم شأن الأغصان، أن يحملوا ثمرًا بعد أن أحبّهم يسوع وأرسلهم ليذهبوا ويحملوا ثمارًا وتدوم ثمارهم (15: 14- 16). وهكذا نستطيع أن نقابل بين الاثني عشر في العشاء السريّ، وبين المئة وأربعة وأربعين ألفًا من قبائل اسرائيل، والجماعة التي لا تعدّ ولا تُحصى الآتية من الأمم (رؤ 7). هكذا تكون الكنيسة.

3- الكنيسة وعودة يسوع
كان مجيء يسوع الأول خلال حياته العلنيّة، محصورًا في اليهود. لهذا اعتبروا هذا المجيء اسكاتولوجيًا بمعنى أنه اللحظة الأخيرة قبل الدينونة النهائيّة. هيّأهم الله منذ أجيال واهتمّ بهم، فبقي عليهم أن يتّخذوا قرارهم مع يسوع أو ضدّه. وبحسب خيارهم يُقبَلون في الشعب المختار أو يستَبعدون بشكل نهائيّ. والدينونة التي ترتبط بردّة فعلهم الحاضرة، تتضمّن حكمًا على كل ماضي اسرائيل. فالذي ظلّ "اسرائيليًا لا غشّ فيه"، سلّمه الآب إلى يسوع، فجاء إلى يسوع ونال الخلاص (6: 37؛ 10: 29؛ 17: 2- 19).
حين يعلن يوحنا حكمه فهو ينطلق من النتيجة. وضعُ اليهوديّ الذي لم يرتبط بالمسيح، يشبه وضعَ المسيحيّ الذي خان يسوع: هو يدلّ أنه لم يكن يومًا مسيحيًا حقيقيًا (1 يو 2: 19-20). فالدينونة الالهيّة تظهر في النهاية، في التاريخ. لم يأت يسوع لكي يدين، بل ليقدّم لجميع البشر يقين الخلاص. ولكن بما أن أكثريّة الذين توجّهت إليهم الدعوة أجابوا بالرفض، فهذا ما أعطى مجيء يسوع الخلاصيّ طابعَ الدينونة 31: 17- 21، 36). فكاتب الانجيل الرابع يعمل عمل النبيّ المسيحيّ، فيفسّر معنى التاريخ. والبرهان ليس بجديد في العهد الجديد (1 تس 8: 15؛ مت 5: 12؛ 23: 30-39)، ولكن يوحنا توسّع فيه هنا بشكل مستفيض.
تجاهل الشرّاح منظار الماضي في 6: 37- 40، ففسّروا النصّ فقط في منظار المستقبل. الله يعطي هذا الانسان ليسوع، فيأتي هذا الانسان إلى يسوع ويخلص. فالذين أعطاهم الآب هم اليهود. وقد اعتبرهم الله مهيّأين للملكوت. فإن جاؤوا إلى يسوع نالوا الخلاص. الله أمين وثابت في مواعيده. ولكن الانسان متقلّب ورافض.
انحصرت اسكاتولوجيّة مجيء يسوع الأول في اليهود ودعوتهم للدخول في شعب الله عند تمام الزمن ومشاركتهم في الملكوت (3: 3- 5). ولكنهم مرّوا في محنة: هل يرون في يسوع مرسل الله وابن الانسان؟ رفضوا. فجاء موت المسيح يُعلن أنه بعد الآن ليس من يهوديّ ولا وثنيّ، بل أناس يريدون أن يروا وآخرون لا يرغبون في أن يروا (39:9- 41). هناك المؤمنون من جهة، و"العالم" من جهة ثانية. رذل اليهود يسوع وحكموا عليه بالموت، فصاروا نواة عالم الظلمة. وفي النظام الجديد، نظام الكنيسة، كان موت يسوع المقياس الذي يفصل بين المؤمنين واللامؤمنين (16: 8- 11). فالذين فهموا موت يسوع على أنه عودة انتصار إلى الآب، على أنه تمجيد، نالوا الخلاص. والذين ساروا وراء يسوع واعتبروا أن يسوع فشل وأن غيره انتصر، غرقوا في ظلمة هذا العالم من أجل هلاكهم.
إذن، يتحدّد موقع مجيء يسوع الثاني في نهاية حياة يسوع، في الساعة التي تجمع جميع الأحداث، منذ موت يسوع حتى إفاضة الروح القدس. رُفع ابن الانسان على الصليب وفي المجد، فوضع حدًا لنظام اسرائيل وحكم على اليهود الذين لم يؤمنوا بأكثريتهم.
انتهى "يوم" (نهار) يسوع، ودشّنت "الساعةُ" نهايةَ الأزمنة. في هذا الوقت الرئيسيّ (الآن، 12: 31؛ 13: 31) انغلق المستقبل المسيحانيّ اليهودي على نفسه، وانفتحت أبواب الكنيسة. ووقف ابن الانسان ملكًا على صليبه فاجتذب البشريّة كلها. هنا نفهم إعلان يسوع ملكًا في خبر الالام. إن ملكوت الله الذي ترجّاه اليهود، قد تدشّن على الصليب بيد من حكموا عليه بالموت. هو ملكوت الله الآتي بقوّة وفاعليّة (مر 9: 1). ويسوع الحاضر لدى أبيه، هو حاضر لدى أخصّائه، لدى أحبّائه، لدى رعيّته. هو ينبوع ماويّة كالكرمة بالنسبة إلى الأغصان.
ومجيء المسيح الأخير تنتظره الكنيسة كما في إنجيل يوحنا. لاشكّ في أننا نخلص إن آمنا. وإن لم نؤمن لا نخلص. لاشكّ في أننا نخلص إن لبثنا في الكلمة. وإلاّ لا نخلص. ونخلص إن بقينا في الكرمة. ولكن يبقى أن علينا أن نثبت إلى اليوم الأخير. فالشبكة الاسكاتولوجيّة التي عملت وسط اليهود (6: 44) ما زالت تعمل منذ دينونة الصليب (12: 31) حتى تجمع البشريّة كلها. والصوت الذي رفض اليهود أن يسمعوه، سوف يسمعونه في القيامة الأخيرة. فالذين سمعوه يحيون. أما الآخرون فيكون لهلاكهم (5: 29-30). وأولئك الذين أعطاهم الآب ليسوع، يقيمهم يسوع في اليوم الأخير (39:6، 40، 44، 45) عملاً بمشيئة الآب.
ما أتى يسوع إلى العالم لكي يدين، ولكن كلمته تشرف على العالم وعلى الزمن لتدين في اليوم الأخير (48:12). والوعد بعودة يسوع ليأخذ أخصّاءه إليه (14: 3) لا يوضح زمن العودة. هل نحن أمام الموت الفرديّ أم أمام المجيء الثاني؟ لماذا لا يكون الاثنان معًا. من جهة، تحدّث يسوع إلى الاثني عشر والكنيسة، بحيث كانت خلفيّة فكرته دخول أخصّائه جميعًا إلى بيت الآب (14: 2؛ 17: 24). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، كتب يوحنا إنجيله في نهاية القرن الأول، ساعة بدأت الكنيسة تطرح مسألة الموت. ففي نظر يوحنا، موت المؤمنين الفرديّ يدخل في إطار أوسع هو الدينونة العامّة.
في خطبة يسوع الأولى بعد العشاء السريّ (3:14، 18-19، 22-28)، تتحدّد "عودة" يسوع في القريب العاجل، في يوم قيامته. فلو أراد الكاتب أن يشدّد فقط على المجيء (باروسيا) لكان عبّر عن فكرته بشكل آخر. ثم نحن أمام وعد واضح يقول فيه يسوع إنه جاء ليأخذهم دون أن يوضح الزمان الذي فيه يأتي. ولكن بما أن هذه الخطبة لا تتطلّع إلى مستقبل بعيد، نستطيع أن نتحدّث عن موت فرديّ سيدخل في تجمّع عام. فالذين آمنوا قد نالوا المجد (17: 22). ولكنهم ما زالوا ينتظرون أن يروا مجد ربّهم حين يُقبَلون لديه (17: 24). إن نهاية الصلاة الكهنوتيّة هي استباق لإعلان دينونة اليوم الأخير. فالمؤمنون ينعمون منذ الآن بالمجد، والممجّد هو منذ اليوم بقربهم. أما هم فليسوا بعد لديه، ولا يرون مجده إلاّ بالإيمان.
فبين ساعة خطبة الوداع واليوم الأخير، يكون زمنُ الكنيسة حيث يكون يسوع حاضرًا في كلمته التي تنتقل من جيل إلى جيل (17: 20). وإذا كان الانجيليّ غير مشدود نحو اليوم الأخير وغير مهتمّ باقترابه، فهو يعتقد كل الاعتقاد بأنه سيأتي وهو ينتظره بلا خوف.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM