الفصل العاشر:أنت كاهن إلى الأبد

الفصل العاشر
أنت كاهن إلى الأبد

يروي الكتاب المقدس الحفلة الليتورجية التي أقامها موسى قبل أن يصعد إلى جبل سيناء ويتسلّم الوصايا من الرب: "كتب موسى جميع كلام الرب، وبكّر في الصباح وبنى مذبحًا في أسفل الجبل ورفع اثني عشر عمودًا بعدد أسباط بني اسرائيل. ثم أخذ موسى نصف الدم وصبه في أجران ورشّ النصف الآخر على المذبح. وأخذ كتاب العهد وتلاه على مسامع الشعب، فقالوا: كل ما تكلم به الرب نعمله ونكون طائعين. فأخذ موسى الدم ورشّه على الشعب وقال: هذا هو دم العهد الذي عاهدكم به الرب على جميع الأقوال" (خر 4:24-8).
في هذا المشهد نرى وسيط العهد يتصرف كالآباء في الماضي وكالكهنة في المستقبل. على مثال الآباء يبني مذبحًا، وعلى مثال الكهنة اللاويين يجمع الدم ويرشّه، وعمله هذا رسم بعيد لما سيعمله الكهنوت المسيحي. فصدى صوته سيتردد عبر صوت الرب في العليّة ليلة العشاء السري: "هذا هو دمي، دم العهد، يراق من أجل جماعة كثيرة لغفران الخطايا" (مت 26: 28). ولا يزال يتردّد اليوم كل مرة نحتفل بسر القربان، سر الأفخارستيا التي هي قمّة حياة الكاهن.
هذه المقدّمة تلقي ضوءًا على كلامنا. بعد حديث عن الكاهن في العهد القديم، منذ الآباء إلى المسيح، نتأمّل بيسوع الكاهن الوحيد في العهد الجديد الذي اختار أناسًا من البشر ليشتركوا معه في كهنوته فيفعلون ما فعله لذكره حتى مجيئه (1 قور 11: 24- 25).

1- تاريخ الكهنوت في العهد القديم
يذكر الكتاب المقدس في عهده العتيق اسم الكاهن مئات المرات، وهو لقب لخدام المذبح أكانوا من شعب الله كأبناء هارون، أم من الشعوب المجاورة كالمصريين والفينيقيين وغيرهم. فالكاهن هو من ينحني أمام الاله فيقدّم له فروض السجود والعبادة، أو هو من يقف أمام الله ليخدمه ويبارك اسمه. وقد عرفت الشعوب القديمة بما فيها اسرائيل الكهنوت على أنه وظيفة أكثر منه دعوة من الرب كما كان الأمر بالنسبة إلى الملك أو النبي. ولكن الكهنوت سيكون أطول عمرًا من الملكية التي أطلّت على اسرائيل حوالي السنة 1020 ق. م. مع شاول، وانطفأت سنة 586 مع صدقيا وجلاء نخبة الشعب إلى بابل، كما سيكون للكهنوت استمرار لم تعرفه النبوءة. وسيأتي وقت يجمع الكهنة في يدهم الكهنوت والملكية والنبوءة، بعد أن يكونوا رافقوا الشعب طوال التاريخ، ونقلوا إليه شفهيًا التقاليد الدينية، قبل أن يجمعوها ويدوّنوها في ما نسميه التوراة بالمعنى الحصري.
أ- من ابراهيم إلى المسيح
يفترق شعب الله عن باقي الشعوب في أن الكهنوت ظلّ مؤسسة أساسها الله لا الملك. في الشعوب القديمة كانت السلطة الكهنوتية بيد الملك وهو يفوّض إلى من يشاء بعضًا من سلطاته. أما في الشعب العبراني فالله هو من اختار قبيلة لاوي لتقوم بخدمة المذبح. ولهذا يبقى للكهنة استقلالهم الذاتي رغم تدخل بعض الملوك في اختيار أو عزل رئيس الكهنة، ورغم تزلّف بعض رؤساء الكهنة وتقربهم من الحكام للحصول على فوائد مادية ولو على حساب كرامة الكهنوت. نتطلع إلى الكهنوت عند شعب الله، فنتوقف على مراحل ثلاث: في زمن الآباء، مع موسى، على عهد الملوك وحتى زمن المسيح.
أولاً: في زمن الآباء
تُجمع التقاليد القديمة في سفر التكوين على القول بأن الآباء كانوا كهنة الشعب وبيدهم سلطة العبادة والطقوس وإقامة الشعائر الدينية. فرب العيلة هو الكاهن. لم يكن الكهنوت منظمًا كما عند المصريين لأن التنظيم الاجتماعي كان بدائيًا كما أن الأعمال الليتورجية ما زالت بسيطة جدًا. فالله هو اله الأب للدلالة على وجود علاقة شخصية وقرابة حميمة بين الله والآباء. في ديانة عائلية، الأب هو الوسيط بين الله والناس، وأهل البيت هم جماعة عبادة، لهم معبد متنقل يقومون فيه بشعائر العبادة. دور الأب "الكاهن" في ذلك الوقت أن يوصل إرادة الله إلى أعضاء عشيرته وأن يجعل التقاليد الدينية تنتقل عبر الشفاه إلى الأجيال الآتية. هؤلاء الآباء الكهنة يبنون مذابح للرب الذي تجلى لهم ويقربون إليه التقدمات ويدعون باسمه ويلتسمون بركته وعطاياه.
ثانيًا: مع موسى
كان شعب الله عيلة فكان الأب كاهنها. ولما صار شعب الله مجموعة قبائل صار كاهنه موسى قائد هذه المجموعة ومنظمها. تربى تربية الموظفين المصريين في بلاد فرعون فعرف جماعة الكهنة ودورها في حياة المجتمع، وتعلم الكثير من الكاهن يترو الذي التقاه عند المديانيين حين هرب إلى الصحراء خوفًا من غضب فرعون. موسى هو محرّر اسرائيل وموحّد العشائر التي انتزعها من العبودية، ورئيس الشعب الذي بدأ يتكوّن في جماعة. وهو أيضًا ذلك الكاهن الذي يقوم بدور الوساطة بين الله وشعبه. فيقطع على سيناء عهدًا مع الله خلال ليتورجية ينهيها بإعلان الكلمة وتقدمة الذبيحة، كما كان يحدّث باسم الله الناس الذين يأتونه ليعرفوا أوامر الرب ووصاياه، فيقضي بين الرجل وقريبه ويعلم الجميع فريضة الله وشريعته. خلال حياته جمع موسى في يده كل السلطات من دينية وحربية ونبوية وسياسية. ولكن هذه السلطات ستتوزع فيما بعد فيخلفه يشوع بن نون في قيادة الشعب إلى حروب الله، وهو المعروف بشجاعته وثقته بالله (عد 14: 5-9). ولقوم بسلطاته الكهنوتية اليعازار بن هارون فيفسّر شريعة الله ويسهر على المسكن والاواني المقدسة. نقل موسى إليه سلطانه إذ وضع يده عليه وألبسه ثياب هارون علامة لانتقال الكهنوت إليه بعد موت هارون (عد 27: 21-23). أما موهبة النبوة (أو روح موسى) فقد انتقلت إلى السبعين شيخًا بفعل اختيار الله وإن كان لبعضهم وظائف كهنوتية وقضائية. وهكذا عندما يدخل شعب الله أرض الميعاد سيكون الفصل واضحًا بعض الوضوح بين القضايا الدينية والقضايا السياسية. بمعنى أن القضاة وإن مارسوا بعض المرّات وظائف كهنوتية، كما فعل الآباء وموسى قبلهم، إلاّ أنهم تركوا للكهنة أمر تنظيم العبادة قرب المعابد. وعندما بنى بعضهم مذبحًا أو أقام معبدًا جاء له بالكهنة يخدمونه كما فعل رئيس قبيلة دان وميخا أحد الزعماء في جبل افرائيم (قض 7:17- 13؛ 19:18).
ثالثًا: عهد الملوك
كان العبرانيون يعتبرون ملوكهم مرتبطين بالله يختارهم ويتبناهم يوم يمسحون بالزيت، فصار الملك بالنسبة إليهم حامل وساطة بين الله والبشر. فالملك يؤمّن العدالة والنصر والسلام، وبواسطته تأتي كل البركات السماوية بما فيها خصب الأرض وتكاثر الحيوان والبشر. فلا نتعجب حينذاك إن وجدنا الملوك يمارسون في اسرائيل وظائف كهنوتية على مثال ما يحصل في الشعوب المجاورة لاسرائيل. فالملك يقدّم الذبائح للرب ويبارك الشعب باسم الرب ويعطيه مز 110 لقب الحبر والكاهن على رتبة ملكيصادق. ولكن الملوك سيبدأون بتنظيم الكهنوت في عاصمتهم على غرار ما يجري في الأمم المجاورة. فكان لهيكل أورشليم كهنة مع رئيس عليهم. وبقي لكل معبد كهنته، إلى أن جاء إصلاح يوشيا سنة 622 ق م فحصر تقدمة الذبائح في الهيكل وجمع أبناء لاوي من كل أنحاء البلاد بانتظار أن يحدّد عملاً خاصًا بالكهنة المتفرّعين من صادوق تاركًا للباقين أمر الخدم الوضيعة في بيت الله وجواره. وهكذا يصبح هيكل أورشليم المعبد الرسمي الوحيد ليهود مملكة يهوذا في الجنوب وسيبقى كذلك إلى أيام المسيح.
ب- اللاويون كهنة الرب
عندما نتكلّم عن الكهنوت لا نستطيع إلاّ أن نذكر اللاويين، لأن الشرط الضروري لتسلم الوظائف الكهنوتية هو التحدُّر من سلالة لاوي. قصّتهم تبدأ مع موسى. وأصله من بني لاوي بن يعقوب. احتاج إلى مساعدة في عمله الكهنوتي فقرب إليه أبناء قبيلته واستعان بهم بعد أن رأى فيهم الغيرة على تابوت الرب، ورفْضَ أيّة مساومة في أمور الايمان. نفخ فيهم غيرته فامتلأوا حماسًا من أجل الرب. ولما أقاموا في قادش، تلك الواحة المقدسة في الجنوب، تجلّى موقفهم الروحي على أثر حياتهم القريبة من الرب، فصار همهم الدفاع عن الايمان، وصار اسم لاوي مرادفًا للرجل الغيور الذي يتكلّم باسم الرب (خر 4: 14).
بدأ موسى المؤسسة الكهنوتية لما كان حميُّه عنده. فاختار أناسًا أقوياء يخافون الله، أناسًا أمناء يكرهون الطمع. وجعلهم رؤساء ألوف ومئات وخمسين وعشرة. ولكنه سيستفيد من أمانتهم البطولية فيكرّس غيرتهم التي أظهروها عندما قسوا على عباد العجل الذهبي. عندما رأى موسى الشعب يجمح دون أن يتمكّن هارون من كبح جماحهم، وقف في باب المخيّم وقال: "من هو للرب فليجئ إليَّ. فانضمَّ جميع بني لاوي. فقال لهم: هذا ما يقوله الرب اله اسرائيل: ليحمل كل واحد منكم سيفه، وطوفوا المخيّم من باب خيمة إلى باب خيمة، وليقتل كل واحد أخاه وصديقه وجاره. ففعل بنو لاوي كما أمر موسى... وقال لهم موسى: اليوم كرّستم أنفسكم للرب، كل واحد على حساب ابنه وأخيه فمنحكم الرب بركته" (خر 32: 25-29).
وهكذا يبدو تعلّق بني لاوي بالرب وبكلمته وبعهده، فوق رباط العيلة والدم. بهذه الروح تصرّفوا في سيناء كما سيتصرّفون في بعل فاغور (عد 25: 7) وفي غيرها من المناسبات. انطلق موسى من تجمّع ديني فأعطاه دورًا مميزًا في جماعة بني اسرائيل. فصار الذين جاهدوا بالأمس من أجل قضية الله، كهنة الغد في شعبه. وسوف لا يميّز سفر التثنية بين الكهنة واللاويين. فالكهنة في شعب الله هم بنو لاوي.
ما معنى كلمة لاوي؟ إذا رجعنا إلى الأصل الشعبي نفسّر الفعل بمعنى رافق. ارتبط. لزم. وتقول التقاليد الدينية إن اللاوي هو من ارتبط بالله وكان الرفيق لكل أبناء يعقوب. ولكن بعد ترجمة نصوص اكتشفت جنوبي مديان، يُفهم أن كلمة لاوي تعني استعار، أعار، أعطى انسانًا مقابل دين أو نذر. فأم صموئيل أعارت ابنها للرب وكرّسته له طوال أيام حياته.
هؤلاء اللاويون تخصّصوا في أعمال العبادة، وعملوا ليحافظوا على نقاوة إيمان شعب الله عندما اتصل بالكنعانيين وأخذ الكثير من عاداتهم وتقاليدهم الدينية في عبادة البعل والعشتروت. فانتشروا في عهد القضاة من جنوبي فلسطين في بيت لحم وحبرون إلى شمالها في جبل افرائيم ودان وفي جميع المدن المخصصة وحملوا معهم بركة الله وكلامه فكانوا للمؤمنين الأب والرفيق والكاهن (قض 17: 10).
في عهد الملوك تنظّم الكهنة حول هيكل أورشليم، بينما بقي قسم كبير منهم في المعابد المتوزّعة في أرض فلسطين، إلى أن جاء الملك يوشيا فألغى المعابد المتعددة وأبقى على هيكل أورشليم مميّزًا بين الكهنة واللاويين. ولكننا نرى في زمن الملوك كيف أن الكهنة صاروا في خدمة الملوك يتوسلون رضاهم، كما أن الملوك أخذوا يتدخلون في حياة الكهنة وتنظيمهم فيعيّنون من يريدون ويقيلون من يريدون. ولا ننسى أن الكثير من الكهنة فضلوا العمل عند البعل والعشتروت على العمل في معبد الله. فطقوس الرب بسيطة ومتطلباتها الاخلاقية قاسية بينما طقوس البعل أعياد وأفراح، والمشتركون فيها كثيرون والربح فيها وفير. وكان هناك تمييز بين كهنة أورشليم وكهنة المناطق؛ فكان كهنة أورشليم متخمين بينما كان الباقون فقراء تشبه حالتهم حالة الارملة واليتيم والغريب (تث 14: 27-29). وأخيرًا كان بعض الكهنة يسرقون الله والناس مثل أبناء عالي (1 صم 2: 12-17). وهذا ما جعل الأنبياء يندّدون بتصرف الكهنة الخائنين لعهد الرب التاركين وصاياه، والمشاركين في نهب الضعيف واليتيم والارملة (إر 2: 8). وستتغيّر الحالة بعض الشيء بعد الجلاء بالنسبة إلى الوصايا الملكية، فيتحرّر الكهنة من تجربة السلطة السياسية وقد صارت بيد الأمم الوثنية، ويصبحون القواد الدينيين لشعب الله. ولكن تجربة السلطة لم تتبدّل كثيرًا، وظلَّ الكثير من الكهنة يسخّرون كهنوتهم لأمور بعيدة كل البعد عن أمور الدين.
ج- الدرجات الكهنوتية
في البداية ارتبط اللاويون بقبائل الجنوب، أي يهوذا وكالب وشمعون، وتميّزوا بالتعلّق بحياة الصحراء المثالية. وهكذا تأخّروا ليأخذوا بحياة الحضر، فبقوا في المدن المحاذية للصحراء. ولما سكن بعضهم في المدن قرب المعابد وعاشوا ممّا يأخذون من الذبائح واقتنوا البيوت والممتلكات (تث 18: 1)، بقي القسم الآخر في أماكنه. فعرفوا الفقر والعوز وهذا ما دفع المشترع إلى أن ينظّم أمورهم ويعالج أحوالهم فيطلب من المؤمنين أن يهتموا باللاويين لأن لا حصّة لهم ولا ميراث مع الشعب (تث 14: 27). عاشوا على حدود المملكة فدافعوا عن الشعب بوجه أعداء الرب. توزّعوا بين الشعب، فكانت رسالتهم تعليم الشريعة للشعب وطلب إرادة الله وسط شعبه. ثم تنظّموا في درجات كهنوتية ثلاث، بحسب حاجات الهيكل وتمشيًا مع تطوّر الجماعة الاسرائيلية.
الدرجة الأولى: رئيس الكهنة. إنه على مثال هارون الذي اختاره الله بطريقة عجيبة. وكرّسه موسى بطريقة خاصة وطهره ومسحه بالزيت وألبسه الملابس الخاصّة وقدّم عنه الذبائح. فعليه، والحالة هذه، أن يحافظ على طهارة مطلقة ويتجنّب كل ما يمكن أن ينجّسه. هذه الكرامة لم تعط إلاّ للعائلات التي برهنت بطريقة قاطعة عن غيرتها في سبيل الرب وعن تعلّقها بعهده ووصاياه.
الدرجة الثانية: أبناء هارون أو الكهنة القريبون من الله القدوس. تميَّز الكهنة عن اللاويين بعد الجلاء إلى بابل. تكرسوا بالمسحة بالزيت، فكانت لهم وظيفة حفظ الأواني المقدسة، وامتياز التلفّظ باسم الله في إعطاء البركة، وتقدمة ذبيحة التكفير عن الخطايا. ولهذا توجّب عليهم المحافظة على طهارة خاصة، وحقَّت لهم مداخيلُ مادية بسبب كرامتهم (عد 23:3)
الدرجة الثالثة: اللاويون. اختارهم موسى بسبب غيرتهم في قصّة العجل الذهبي فكوّنوا قبيلة خاصّة تميَّزت عن باقي القبائل. لم يُحصها موسى حين أحصى سائر القبائل، ولم يعطها ميراثًا في أرض كنعان لأن الرب ميراثها (عد 1: 47-49). واللاويون محفوظون لله ومخصّصون لخدمته كعلامة على أن الشعب كله هو خاصة الرب. فحضورهم وسط الشعب تذكير دائم بخلاص الله وعهده. ولهذا فإنهم يحلون محل أبكار اسرائيل، ويكرّسون في ذبيحة، ويقرَّبون إلى الله، ويعطَون للكهنة ليخدموا ويحرسوا المسكن ويتفقدوا جواره. إنهم يخصّون الله. وهذا ما يجعلهم قديسين ويسمح لهم بالاقتراب من المعبد دون أن يهدّدهم خطر الموت. يخيّمون حول المسكن المقدس، فيحافظون على تسامي الله الساكن وسط شعبه، ويمنعون الشعب من الاقتراب من تابوت العهد فلا يضربهم غضب الرب. هؤلاء الكهنة واللاويون عاشوا في خدمة الله وشعبه، فتنظمت حياتهم على يد موسى والمشترعين الذين جاؤوا بعده. وهكذا عدّد الكتاب المقدس المداخيل التي يعيشون منها، فذكر ما يؤخذ من التقدمات، والعشر من الغلال، وما يحمله المؤمنون من البكور وأول ثمار الأرض، فقال: "كل التقدمات المقدسة التي يقدّمها بنو اسرائيل للرب جعلتها لك ولبنيك وبناتك معك فريضة أبدية عهدًا لا ينقضي مدى الدهر أمام الرب ولنسلك معك. وقال الرب لهارون: في أرض بني اسرائيل لا ترث ولا يكن لك نصيب فيما بينهم، فأنا نصيبك وميراثك" (عد 18: 19- 20).
عاش الكاهن دومًا من المذبح، وقصة أبناء عالي خير دليل على ذلك. هم يهتمون بالطقوس والمعبد والمذبح، فيكون من الطبيعي أن تكون لهم المداخيل الكافية للقيام بأود حياتهم ولتأمين الخدمة المقدسة. وكانت مداخيل الكهنة ما يؤخذ من الذبائح المقدمة والزيت. وهذه العشور هي تقدمة روحية يشرك فيها المؤمن الفقراء واللاويين والغرباء واليتامى والأرامل.
إن الكهنة واللاويين قد أفرزوا من الشعب بسبب خدمة العبادة التي يقومون بها. فليس لهم إرث في الأرض مع سائر القبائل. الرب نصيبهم وحصتهم. وهذا يعني أن عبادة الرب تكون مصدر مداخيل لهم. ويعني أيضًا أن الكهنة واللاويين يضعون ثقتهم بالرب ولا يتّكلون إلاّ عليه في أمور حياتهم. وهكذا نستعد لسماع نداء يسوع إلى تلاميذه: أن يتكلوا على عناية الله، يبيعون أرزاقهم ويتعلقون بالرب وحده.
د- وظيفة الكاهن في شعب الله
بم تقوم وظيفة الكاهن؟ يلخّصها سفر التثنية في ثلاث كلمات: هو رجل المعبد، وخادم كلمة الله، وخادم المذبح. "وقال موسى: أعط يا رب التميم للاوي والاوريم لرجلك التقي الذي امتحنته في "مسّه" وخاصمته عند مياه "مربية". يقول عن أبيه وأمه: ما رأيتهما. لا يعرف إخوته ولا بنيه. أبناء لاوي حفظوا كلامك ورعوا عهدك. يعلِّمون يعقوب أحكامك وإسرائيل شريعتك. يجعلون بخورًا في أنفك ومحرقات على مذبحك. بارك يا الله قوته وتقبّل عمل يديه. أكسر ظهور مقاوميه ومبغضيه حتى لا ينهضوا".
أولاً: رجل المعبد
الكاهن اللاوي يخدم المعبد، بيت الله. والعيل اللاوية ترافق تابوت العهد وتحرسه. سلالة لاوي تستقبل الحجّاج في شيلو وأحيمالك وعيلته يمارسون وظيفتهم الكهنوتية في نوب. وأبياتر يمارس الكهنوت لداود في صهيون. ينتقل الكهنوت بالوراثة من الآباء إلى البنين. فأبياتر هو بن أحيمالك، وسيكرّس اليعازر بن أبيناداب الكاهن لخدمة تابوت العهد (1 صم 7: 1). كما سيتوزع الكهنة في المعابد القائمة في مدن متعددة من البلاد: دان، شكيم، جلجال، مصفاة بنيامين حيث مسح شاول ملكا، بيت إيل، حبرون، جبعون... وكل هذه المعابد حلّت محل المعابد الكنعانية وفرضت على الشعب تأمين خدّام لها. فحافظوا على الايمان بالرب، وأيقظوا عند الشعب الرغبة في معرفة إرادة الله، كما أنهم كانوا عنصر الوحدة السياسية والروحية بين بني اسرائيل المشتتين بين الكنعانيين.
ثانيًا: خادم كلمة الله
تطوّرت خدمة كلمة الله على مرّ العصور. كان المؤمنون يذهبون إلى المعابد ليسألوا الله فيعرفوا إرادته. فاللاويون يحفظون كلمة الرب ويتعلّقون بعهده، لذلك يقدرون أن يعلّموا اسرائيل فرائض الله ورسومه. إنهم مؤتمنون على علم الله يفسّرونه للناس ويُسمعون كل اسرائيل كلام الله ويحكمون له في قضاياه. وإن تأخّر الكهنة في القيام بواجبهم التعليمي هذا، سيذكّرُهم به الأنبياء. فيقول هوشع: "دمِّر شعبي لعدم المعرفة. أنت أيها الكاهن رذلت تعليمي فأنا أرذلك، نسيت شريعة أبيك فأنا أيضًا أنسى بنيك. كثر كهنتي فكثرت خطاياهم. لذلك سأبدّل مجدهم هوانا" (هو 4: 6-7). ويقول ملاخي: "إليكم هذه الوصية أيها الكهنة: إن لم تسمعوا... أرسل عليكم اللعنة... كان عهدي مع لاوي وآتيته التقوى... شريعة الحق كانت في فمه والاثم لم يوجد في شفتيه... لأن شفتي الكاهن تحفظان العلم ومن فمه يطلبون الشريعة... أما أنتم فعدلتم عن الطريق القويم وشككتم كثيرين في الشريعة" (ملا 2: 6-8). ولكن كلام الأنبياء يجب أن لا ينسينا العمل الطويل والشاق والضروري الذي قام به الكهنة. كانوا قريبين من واقع الناس يعلّمونهم يومًا بعد يوم مبادئ الايمان بالرب، ويستندون إلى كلامه فيرددونه ويفسّرونه ويطبّقونه على ظروف الحياة المتعددة على ضوء التقليد الديني والخبرة الحياتية.
وكان الكاهن يقوم بدوره التعليمي خاصة بمناسبة الاعياد الدينية، فيذكّر الشعب بأحداث الماضي الخلاصية ويردد على مسامعه كلمات العهد. وسينتقل هذا التقليد الديني إلى الأجيال المتعاقبة عبر الكهنة، إلى أن يأتي وقت يدوّن فيه هؤلاء الكهنة ما نسميه بالتقليد الكهنوتي الموجود في أسفار التكوين والخروج واللاويّين والعدد.
ثالثًا: خدمة المذبح
إن خدمة المذبح ستصبح بعد الجلاء ميزة خاصة بالكهنة. الكاهن وحده يصعد المذبح ويقترب إلى الله ويقدّم المحرقة ويجعل دمها يسيل على المذبح (تث 23: 10). هذا هو عملهم وهذه هي خدمتهم. وقد جعلت الكتب علاقة لازمة بين الكاهن والمذبح والذبيحة ففرضت القداسة على الكهنة.
ومن هنا ينبع دورهم في الحفاظ على القداسة داخل الشعب: يمارسون طقوس التكفير عن بني اسرائيل ويحملون خطيئته فيقدمون ذبيحة الخطيئة كلما دعت الحاجة إلى ذلك، كما كان رئيس الكهنة يقدّم ذبيحة خاصّة مرة في السنة، في عيد التكفير (عد 25: 13). وستتوسع واجبات العبادة والطقوس في أجيال اليهودية الاخيرة حتى تطغى على وظيفة التعليم. فالدستور الكهنوتي لا يكاد يذكر واجب الرعاية، بينما يفصّل بالتدقيق طريقة تقدمة الذبائح. وإلى المذبح يحمل الكاهن إلى الرب مديح الشعب وتوسله ويستنزل عليه بركاته: "يباركك الرب ويحفظك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يكشف الرب وجهه لك ويمنحك السلام" (عد 6: 24-26).
بفضل هؤلاء الكهنة حقّق الشعب رسالته كشاهد للرب وسط الأمم الوثنية. فالكهنة نظموا الشعب وعلموه وقدسوه، فجعلوا منه شعبًا من الكهنة: "إن سمعتم لكلامي وحفظتم عهدي تكونون لي شعبًا خاصًا بين جميع الشعوب لأن الأرض كلها أرضي. وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمّة مقدسة" (خر 19: 5-16).
وهكذا كان للكهنة الدور المهم في تهيئة شعب الله بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى سماع كلام الانجيل والدخول في جماعة العهد الجديد التي يكون كاهنها يسوع المسيح الوسيط الوحيد بين الله والبشر.

2- الكهنوت في العهد الجديد
من المحطّات المهمّة في حياة يسوع كان ذلك الصيد العجيب. يختار يسوع رسله الاولين ويرسلهم إلى صيد آخر بدأه هو بنفسه عندما أخذ يبشّر المدن بملكوت الله (لو 5: 1- 11). ويبدأون العمل بناء على أمره عندما يوليهم قدرة وسلطانًا على جميع الشياطين، وعلى الأمراض لشفاء الناس منها، وعندما يرسلهم ليعلنوا ملكوت الله ويبرئوا المرضى (لو 9: 1- 12). فكما أن الرب دعا قبيلة لاوي لتقوم بالخدمة الكهنوتية هكذا يدعو يسوع بعضًا من الناس، وإن لم يسمّهم كهنة، من يشتركون معه وبعده في رسالته التي هي عمل نشر كلمة الله ورعاية النفوس وتقديسها.
أ- يسوع والكهنة في زمانه
تعرّف يسوع خلال حياته إلى الكهنة كما تعرف إلى الكتبة والفريسيين، وتحدّث عن العبادة مشدّدًا على عبادة القلب كما فعل الأنبياء. فلا تصير الصلاة تمتمات، والصدقة تبجّحا. كما تكون الذبيحة تعبيرًا عن محبتنا لبعضنا البعض قبل أن تكون تعبيرًا عن محبتنا لله. وتحدث أيضًا عن الهيكل وأحبّه وأُعجب ببنائه. لكنه أراد أن يلفت الأنظار إلى هيكل آخر لم تصنعه الايدي، ألا وهو جسده، ذلك المركز الجديد للعبادة بالروح والحق الذي لا يرتبط بهذا المكان أو ذاك.
مع هذه النظرة الجديدة نرى يسوع يعتبر المؤسسة الكهنوتية أيّ اعتبار فهو يشارك في حفلات الليتورجيا ويعيّد الأعياد مع المؤمنين. كما أنه يُظهر تعلقه بالهيكل، بيت أبيه، فيعلن قداسته ويفرض احترامه خاصّة عندما طرد من تحوّلوا من معلّمين إلى باعة، وحوّلوا الهيكل من مكان مقدّس إلى مغارة لصوص. ولكن هذا الاعتبار لم يمنع يسوع من أن يتلفّظ بأحكام قاسية على كهنة عصره؛ فقد نسوا قداسة وظيفتهم وعظمتهم وعظمتها. فالسامري "الكافر" بنظرهم، هو أفضل منهم، وقد أظهر في طريقه محبّة حقيقيّة لجريح غريب مال عنه كل من الكاهن واللاوي ومضيا (لو 19: 31 ي). وأهملوا مهمّة التعليم وراح بعضهم ينكرون قيامة الموتى (مر 12: 18-22). ولما اجتمعوا عليه مع الكتبة والشيوخ، أعلن عن نهاية كهنوتهم في مَثل الكرامين، وعن خراب الهيكل كعلامة لنهاية العبادة بحسب العهد القديم (مر 12: 1-15). مع العهد الجديد يأتي كهنوت جديد في يسوع المسيح.
ب- يسوع كاهن الآب
لم ينسب يسوع لذاته يومًا لقب كاهن. فهذا اللقب يعني في محيطه وظيفة محدَّدة ومحفوظة لقبيلة معروفة هي قبيلة لاوي. فيسوع ليس من قبيلة لاوي، كما أن عمله غير عمل الكهنة، وكهنوته يسمو على كهنوت بني لاوي، ولهذا فضّل اسم "الابن" أو "ابن الانسان". ولكنه حدّد رسالته بكلمات ضمنية ورمزية مأخوذة من حياة الكهنة.
يتكلّم يسوع عن موته فيصوّره ذبيحة مثل ذبائح العهد القديم. ويقابله تارة بذبيحة التكفير التي قدمها عبد يهوه (مر 1: 45). وطورًا بذبيحة العهد التي قدّمها موسى عند جبل سيناء، رابطًا بين دم الفصح ودم يسوع حمل الفصح (مر 14: 24). يفرضون عليه الموت فيتقبّله، ويقدّم ذاته كما يقدّم الكاهن ذبيحته، وينتظر من هذه الذبيحة الخلاص والتكفير عن خطايا الشعب وإقامة العهد الجديد.
وإذا كانت وظيفة اللاويين في العهد القديم خدمة الشريعة، فيسوع جاء يعلّم الشريعة الجديدة مستندًا إلى القديمة وقد جاء يتمّمها دون أن يرتبط يحرفيّتها. يُدخلنا في أعماقها ويبيِّن لنا أنها تلخَّص في محبة الله ومحبة القريب. كانت رسالته التعليمية امتدادًا لرسالة الكهنة، لكنها سمت عليها كثيرًا، لأن كلمة يسوع هي الوحي بسموه، وإنجيل الخلاص هو تمام الشريعة.
هكذا نظر يسوع إلى نفسه وهكذا سينظر إليه الرسل. فيتحدّث القديس بولس عن موت يسوع فيراه في ملامح حمل الفصح وعبد يهوه، ويذكّرنا بدم المسيح الذي منه فداؤنا. أما القديس يوحنا فيُلبس المسيح ثوبًا كهنوتيًا في آلامه ويضع على لسانه الصلاة الكهنوتية التي تجعله يقدّم الذبيحة كالكاهن، فيكرّس نفسه للرب ويقوم بعمل الوسيط بين الله والناس، وهذا ما عجز عنه كهنوت العهد القديم.
ج- كهنوت يسوع في الرسالة إلى العبرانيين
موضوع الرسالة إلى العبرانيين كهنوت المسيح. تذكر الصليب كذبيحة تكفير، والعهد الجديد وعبد يهوه. ولكنها تركّز اهتمامنا على دور المسيح الشخصي في تقدمة هذه الذبيحة. فيسوع كاهن مثل هارون. دعاه الله ليتشفّع بالبشر فيقدّم الذبائح عن خطاياهم. وهو مثل ملكيصادق الذي قدّم له ابراهيم العشور، فأظهر أن كهنوت لاوي أدنى رتبة من كهنوت المسيح الذي يتجذّر كهنوته في كيانه فيجعله الوسيط بين الله والبشر. يجعله الكاهن الوحيد للآب.
أولاً: كهنوت يسوع بحد ذاته
يسوع هو الكاهن الأعظم والكامل. "بما أنه شابهنا في كل شيء، يمكننا أن نقترب منه بثقة تامّة. ليس لنا حبر لا يستطيع أن يرثي لضعفنا: لقد امتُحن في كل شيء مثلنا ما عدا الخطيئة. فلنتقدّم بثقة إلى عرش النعمة لننال رحمة ونلقى حظوة يأتينا بها الغوث في حينه" (عب 4: 15-16). أجل، إن يسوع شعاع مجد الله وصورة جوهره، هو في الوقت ذاته إنسان مثلنا عانى ما نعانيه من تعب ومحنة، واختبر ما نختبره من تجارب. ولهذا يمكنه أن يدرك ضعفنا ويعيننا. يمكنه أن يتقبّل الخطيئة، لأنه الحبر الرحيم الذي يكفّر خطايا الشعب.
يسوع هو الكاهن الوسيط الذي يقدر أن يصالحنا مع الله، لأنه مقبول من الله، وقد اختاره الله نفسه: "فإن كل حبر يؤخذ من بين الناس ويقام لدى الله من أجل الناس، ليقرّب قرابين وذبائح كفارة للخطايا". في هذه الآية نجد الملامح العامّة للكهان في شخص يسوع. "يؤخذ من بين الناس": يسوع كان إنسانًا بكل ما في الكلمة من معنى. "ويقام من أجل الناس": هذا يعني أنه يصالحهم مع الله، لأن الكاهن لا يهتم بأمور الدنيا وحسب، بل بأهم شيء في علاقاتهم مع الله، لأن الكاهن لا يهتم بأمور الدنيا وحسب، بل بأهم شيء في حياة الانسان ألا وهي آخرته. الكاهن وسيط بين الله والانسان. فهو الذي يؤمّن الاتصال بين الاثنين، يحمل كلام الله إلى الناس، ويتشفّع إلى الله عن الناس. وجهه مرفوع إلى الله، وشعبه يسير وراءه باتجاه الله. مهمته الاولى أن يقرّب الذبيحة وأن يرفع إلى الله مديح الخليقة.
هذا الكاهن وإن كان في خدمة الناس، إلاّ أن الرب هو من يختاره لأنه ما من أحد يتولى هذا المقام، إلاّ إذا دعاه الله كما دعا هارون. وكذلك المسيح لم ينتحل المجد فيجعل نفسه حبرًا، بل تلقّى هذا المجد من الذي قال له: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك" (عب 5: 4-6). ينبع كهنوت المسيح من بنوّته الالهية. وهذا ما يضمن لنا أنه مرضي لدى الله. وحاضر في الانسان، لأنه إله وإنسان.
سيظهر أيضًا وجه المسيح الكاهن في طاعته التي كانت سبب قبول ذبيحته. فالمسيح "في أيام حياته البشرية رفع الدعاء والابتهال بصلاة وصراخ شديد ودموع إلى الذي بوسعه أن يخلّصه من الموت فاستجيب طلبه لتقواه. وتعلم الطاعة، وهو الابن، بما لقي من الألم. ولما صار كاملاً جُعل لجميع الذين يطيعونه علِّة خلاص أبدي لأن الله دعاه حبرًا على رتبة ملكيصادق" (عب 5: 7- 10). في هذا النص يذكّرنا كاتب الرسالة بالحالة التي عاش فيها يسوع قبل موته الخلاصي، وهي حالة خضوع وهوان، بانتظار الحالة التي وصل إليها الآن بالمجد. ويتوقّف خاصة على مشهد النزاع والصراع بين إرادته وإرادة الله وعلى طلبه إلى الآب أن يخلّصه من الموت. يستجيب الآب طلبه لتقواه لأنه أتمَّ مشيئة الآب وقلبه مملوء بعواطف الخوف البنوي التي تمنع الابن من القيام بأي عمل لا يرضى أباه.
ثانيًا: كهنوت المسيح والكهنوت القديم
تقابل الرسالة إلى العبرانيين كهنوت المسيح بالكهنوت القديم الذي يمارسه الكهنة واللاويون أبناء هارون في هيكل أورشليم، فيبدو فضل كهنوت المسيح على الكهنوت القديم مع العناصر المرتبطة بكهنوته من عهد وعبادة ومقدس وذبائح.
فضل كهنوت المسيح على كهنوت اللاويين أنه كهنوت ملوكي أبدي شامل، نهائي مقدّس وسماوي. ملوكي على مثال "ملكيصادق، ملك شاليم وكاهن الله... الذي تفسير اسمه ملك البر، ثم ملك شاليم، أي ملك السلام، وليس له لا أب ولا أم ولا نسب، وليس لأيامه بداءة ولا لحياته نهاية، وهو على مثال ابن الله يبقى كاهنًا إلى الأبد" (عب 7: 1-2). لقد جعل الكاتب من ملكيصادق مرآة نتأمل فيها وجه المسيح الكاهن. وهو لا ينحصر في الكهنوت اللاوي. لأنه على رتبة ملكيصادق لا على رتبة هارون. لا تغيير فيه وهو قائم إلى الأبد: "فأولئك الكهنة كان يقام منهم عدد كثير لأن الموت يحول دون بقائهم، وأما هذا الذي يبقى للأبد فله كهنوت لا يزول. وهو قادر على أن يخلص الذين يتقربون به إلى الله خلاصًا تامًا لأنه حيّ باق ليشفع بهم" (عب 23:7-25). وهو كهنوت كامل ومقدس لأنه من السماء. "أجل هذا هو الحبر الذي يلائمنا، قدوس بريء لا عيب فيه ولا صلة له بالخاطئين، جُعل أعلى من السماوات، لا حاجة به إلى أن يقرّب كالأحبار كل يوم ذبائح كفارة لخطاياه أولاً، ثم لخطايا الشعب، لأنه فعل ذلك مرة واحدة، حيث قرَّب نفسه" (عب 26:7-27).
إن الكاهن الأعظم الذي نرى صورته في وجه ملكيصادق هو حامل كهنوت ملوكي أبدي وشامل لم يأت بالوراثة ككهنوت هارون ولم ينحصر عمله في شعب من الشعوب.
وهناك صفات تجعل كهنوت المسيح فوق كهنوت هارون. فيسوع هو الكاهن الكامل الوحيد الذي يحقّق في شخصه كل كمالات الكهنوت، والقدوس الطاهر الذي لا يحتاج إلى الذبائح لينقّي نفسه. وهكذا صار لنا في المسيح عهد جديد يُفضّل على العهد القديم، وشريعة جديدة تسمو على الشريعة القديمة، وعبادة جديدة أظهرت جدواها في غفران الخطايا، ومعبد جديد أقدس من القديم بناه الرب بواسطة ذلك الحبر الجالس عن يمين الجلال في السماوات.
في العهد القديم كان الكهنة وحدهم يدخلون القدس، ويُحفظ لرئيس الكهنة قدس الأقداس. ولكن يسوع يدعونا كلنا إلى أن ندخل المقدس الحقيقي لنلتقي الله بالذات. في العهد العتيق كان الناس يخافون التقرّب من الله، لأن دم الثيران والعجول لا يستطيع أن يزيل الخطايا. ولكن المسيحي يقدر على التقرّب من الله. والشروط هي: قلب صادق لا غش فيه ولا كذب، إيمان كامل يملأ القلب ثقة بالله، قلب مطهّر من سوء النيّة وقد تحوّل بالدم الثمين المرشوش علينا، فاستعدّ لعمل العبادة المطلوب، وتخلّص من الشهوات التي تقود إلى الموت. وجسد مغسول بماء طاهر بفعل المعمودية التي بها يخلّصنا الله بغسل الميلاد الثاني لحياة جديدة بالروح القدس (تي 3: 5).
د- كهنة العهد الجديد
في العهد الجديد، يسوع هو الوسيط الوحيد بين الله والبشر، وهو الكاهن الوحيد الذي يقدّم ذبيحة الخلاص. وهو حامل الوحي الوحيد لأنه كلمة الله المتجسّد. ولكننا نجد مع ذلك في الكنيسة التي أسّسها وظائف وخدمًا متنوعة في خدمة كلمته ونعمته. نجد كهنة على مثال المسيح الكاهن.
من بين التلاميذ الذين قصدوه اختار يسوع اثني عشر رسولاً يصحبونه فيرسلهم مبشّرين. دعا كل واحد باسمه: سمعان بطرس، ويعقوب، ويوحنا... أرادهم أن يكونوا معه وبقربه قبل أن يرسلهم إلى عمل التبشير... وسيرافقون يسوع ويسمعون كلامه، خلال حياته التبشيرية، إلى أن كان ذلك الخميس المقدس، خميس الأسرار. تعشّى مع الرسل كلهم، ولكن مع الرسل وحدهم، وقال لهم بعد عشاء الافخارستيّا: "اصنعوا هذا لذكري" (لو 19:22). كانوا قد تعلموا أن يوزعوا الخبز العجائبي على الجموع (مر 6: 41). وها هو يأمرهم بأن يعطوا جسده مأكلاً ودمه مشربًا.
أقامهم في بداية حياته البشريّة حين دعاهم، ثمَ كرّسهم في العشاء السرّي فصلّى من أجلهم ومن أجل من يؤمنون به: "أنا بلّغتهم كلامك... قدّسهم في الحق لأن كلامك حق. وكما أرسلتني إلى العالم فكذلك إلى العالم أرسلتُهم وأقدس نفسي من أجلهم ليكونوا هم أيضًا مقدّسين في الحق" (يو 17: 14- 19). وهكذا كما أن الآب قدّس يسوع وأرسله إلى العالم (يو 10: 36)، هكذا قدّس يسوع الاثني عشر وأرسلهم كرعاة على مثاله. نقول بلغتنا: جعلهم كهنة العهد الجديد. هكذا يفهم الرسل الرسالة التي أوكلهم بها يسوع. إنها رسالة الخدمة. والخدمة تعني الخدمة في الكنيسة.
فالرسل خدّام المسيح يرافقونه في شرف الخدمة كما في شرف المجد: "من أراد أن يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا يكون هناك خادمي" (يو 12: 26). فخدمة المسيح والمؤمنين أمر واحد. ونداء الله لبولس واختياره له من أجل عمل الرسالة هو نداء للخدمة. "أحمد ربنا يسوع المسيح الذي... دعاني لخدمته" (1 تم 1: 12). ويسعى بولس للقيام بهذه الرسالة بطريقة لائقة ليوصل إلى الوثنيّين كلمة الله عالمًا أنه خادم المسيح. فيعي عظمة هذه الخدمة التي تتفوّق على خدمة موسى ذاته، لأنها خدمة العهد الجديد، خدمة البر والروح والمصالحة، خدمة الانجيل والكنيسة (2 كور 3: 6-9).
فالخدم متنوعة والروح ينوّع المواهب بتنوعّ الخدم، واضعًا بالدرجة الأولى تلك المتعلّقة بإيصال كلمة الله إلى الناس. وتظهر هذه الخدمة الرعائية على مثال الخدمة التي يقوم بها الشيوخ في الجماعات اليهودية. فنحن نرى في اجتماع أورشليم الرسل الاثني عشر مع شيوخ الجماعة المحليّة وعلى رأسهم يعقوب أخو الرب. وسيعيّن القديس بولس وبرنابا شيوخًا يوجّهون كل كنيسة من الكنائس. وهكذا نجد في كل كنيسة جماعة من الشيوخ تنظّم العمل الرعائي. يختارهم الرسل ويقيمونهم في وظائفهم بوضع اليد. وسوف نرى هؤلاء الشيوخ يصلّون على المرضى ويمسحونهم بالزيت المقدس (يع 5: 14). ويرئسون الجماعة المسيحية، ويرعون المؤمنين، ويخاطبونهم بكلام الله.
يتحدّث العهد الجديد عن الاساقفة والشمامسة الذين يرعون شؤون الجماعة وعن معاونيهم. ويتوقّف أعمال الرسل بنوع خاص على أعماله الشمامسة في الكنيسة. هم الذين لا يقومون بالاعمال المادية فحسب بل يكرزون بالانجيل مثل اسطفانس وفيلبّس. أما الاساقفة فهم "المناظرون" والمراقبون. هم الذين ينظرون في الكنيسة التي يرئسونها، ووظيفتهم أن يرعوا كنيسة الله ويهتمّوا بالقطيع الذي أقامهم الروح القدس فيه أساقفة (أع 20: 28). على مثال المسيح راعي الرعاة، راعي نفوسنا وحاميها (1 بط 2: 25). هذا الاسقف يختاره الرسل أحسن اختيار لعمل الرعاية وتحمل المسؤوليات الرسولية، ويعطى سلطة على الشيوخ والشمامسة، ومسؤولية في خدمة الكلمة والليتورجية.
إننا وإن كنّا لا نجد لقب كهنة لخدّام العهد الجديد أو للرسل، فخدمتهم تجعلهم في خدمة كهنوت يسوع المسيح، كاهن الكهنة بين البشر. في هذا الخط سيتنظّم الكهنوت مع آباء الكنيسة في درجات ثلاث. الأسقف والكاهن والشماس. ستأخذ الكنيسة الكثير من العهد القديم وتنفحه بروح المسيح الجديدة، فتشدد على اختيار المسيح لكل كاهن وتذكّره بواجباته الثلاثة: رعاية النفوس على مثال الراعي الصالح، تقديسها بالاسرار، حمل كلمة الله إلى البشر. وفي كل هذا يعتبر الكهنة نفوسهم خدّامًا للمسيح ووكلاء أسرار الله. ويعتبرون أن جلّ ما يُطلب أن يكون كل منهم أمينًا لهذه الموهبة التي أعطيت له.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM