الفصل الثالث: مقدمة لدراسة شخصية بولس

 

الفصل الثالث

مقدمة لدراسة شخصية بولس

تركز الأبحاث الكتابية اللاهوتية والعلمية التي تختص بالرسول بولس على دراسات متعددة، منها:
- فكر بولس اللاهوتي والفلسفي
- مضمون رسائل بولس
- علاقة الرسائل مع كتابات أخرى
- المشاكل التقنية واللغوية المتعلقة بالرسائل
- تاريخ وأوضاع الكنائس التي شملتها رحلات ونشاطات وعلاقات بولس
- علاقة بولس مع اتباعه وتلاميذه
- سرد رحلات بولس الرسولية.
وأما الدراسات التي تختص بشخصية بولس من الجهة النفسية فهي نادرة ومرّده ثلاثة عوامل:
أولاً: إن التفسير النفسي لحياة الأفراد وتحليل شخصياتهم هما ثمرة العلوم الإنسانية والنفسية والتي تطورت وانتشرت بشكل ملموس ابتداءً من النصف الثاني للقرن العشرين.
فإن البحث عن الشخصية والنفسية اللتين يتحلى بهما كاتب نص بولس، وتعاليم بولس، وتحركات بولس، والمشاكل التي كان يواجهها بولس. بكلام آخر، لم يكن من المتوقع أن يحاول الباحث في الدراسات البولسية التنقيب في داخل شخصية بولس. بينما اليوم ومنذ اوائل القرن العشرين وبمساهمة علم النفس انتقل باحثون كثر في دراسات السيرة النفسية (Psychobiogroghy) من اسئلة مثل:((ماذا يقول فلان))؟ إلى الاستفسار عن المنابع الداخلية في شخص القائل. أو انتقلوا من اسئلة مثل ((ماذا فعل فلان))؟ إلى البحث عن النوايا الذاتية غير الموضوعة في زاويا نفس الفاعل.
ثانياً: يكمن في عدم استحسان الرأي العام الديني المؤمن للتحليلات النفسية التي تطال رموز ومرجعيات الإيمان والكنيسة خوفاً منهم أنها قد تَحُطّ من مرتبتهم، وحرصاًَ منهم على الحفاظ على مستوى معيَّن من القدسية التي تتمثّل بهذه الشخصيات.
ثالثاً: الصعوبة العلمية التي يواجهها الباحث في التعرف الدقيق على نفسيات ومشاعر اشخاص تَفصِله عنهم مئات السنوات، وتبدل الفاظ ومفاهيم، وتحوّل سياقات اجتماعية وتاريخية وجغرافية. وما يعقّد البحث هذا هو اقتصار المواد التي يمكن استخدامها إلى نصوص متشابهة، كاتبها هو بالذات موضوع البحث.
هل باستطاعتنا إذاً اكتشاف اعماق شخصية بولس الرسول بالمعنى النفسي والتحليلي؟ الجواب هو نعم، ولكن بحذر.
نعم، لأن في متناول يدنا نصوصًا غنية بالخبرات الشخصية والتفاعلات الاجتماعية والتي تؤهّلنا للتعرف على نواحي عدة من شخصية بولس، وأعني بهذه النصوص بصورة خاصة الرسائل إلى أهل كورنثوس وغلاطية. ثم هنالك وفرة نظريات في الدراسة النفسية والذاتية للشخصيات التاريخية ومنها الدينية يمكن الاستفادة منها. وأيضاً هناك مؤلفات عدة منذ بدايات القرن العشرين والتي استخدمت العلوم الإنسانية لايضاح معالم شخصيات كتابية وكنسية عدة، نذكر من بين هذه الاعمال بحث فرويدFreud) ) عن النبي موسى، وبحث البرت شويتزر (Schweitzer) عن يسوع المسيح، وبحث اريك اريكسون (Erikson) عن مارتن لوثر(1).
يجب أن نذكر أن عمل جايمس (William James) يُعتبر فاتحة الدراسات التحليلية عن الخبرة الروحية والدينية، تلته أعمالٌ تحليلية في الاتجاه نفسه.
بالانتقال إلى الأعمال التي تطّرقت إلى بولس وشخصيته الظاهرة في رسائله وقدمت تحليلاً نفسياً، نذكر الأشهر منها بغض النظر عن مدى نجاح الباحثين في مهمتهم أو اقتناعنا باستنتاجاتهم. ومن هذه الدراسات بحث اللاهوتي الالماني المعاصرGerd Theissen وقبله Schreibe وTharachow وDodd وPfister وCox (2).
وأما الحذر في البحث النفسي لشخصية بولس فيأتي من عدم إمكانية استعمال الموضوعية في الدراسات الشخصية والنفسية، ومن ثم عدم المقدرة على استنفاد كل مكونّات الشخصية الذاتية للإنسان بأي درس معمّق كان للنصوص، وأخيراً بسبب خطر الوقوع في التعميم الغير علمي في هكذا أبحاث.
وبالدخول إلى صلب الموضوع نقول بأن الوسائل المتاحة (Methodology) لنا في هذه الدراسة المختصرة، وبغض النظر عن أي تحليل نفسي نظامي (Psychonalysis) هي ثلاث:
1 ـ نصوص السيرة الذاتية لبولس (autobiography)
2 ـ النصوص العامة التي يتطرق فيها بولس إلى شخصه
3 ـ النصوص البولسية التي تُظهر بشكل غير مباشر نواحيَ مختلفة من خبرة بولس الحياتية والإيمانية.
فإذا أخذنا هذه النصوص بعين الاعتبار، يمكننا أن نطرح اسئلة تحليلية موجّهة للنص وسياقه معاً، مثل:
ما هو مفهوم بولس لذاته؟
ما هي علاقته مع الاصدقاء والاعداء؟
ما هي الازمات التي يمرّ بها؟
ما هي الاوضاع التي يعتبرها أزمات؟
ما هي التحوّلات في سيرة حياته؟
ما هي قيمه الاجتماعية وعاداته الشخصية؟
ما هي طموحاته؟
وأخيراً، يمكننا أن نرى إن كانت هناك ميزات تظهر لنا بواسطة شبك النصوص بعضها مع بعض والتي تدل على مكوّنات الشخصية لديه.

في نصوص السيرة الذاتية
غلاطية 1: 11- 2: 10: في غلاطية 1 و2 نجد سرداً ذاتياً لدعوة الله لبولس، وهذا هو اختصار لمضمون أعمال الرسل 9 وما يليه. ولكن هنا يحاول بولس اقناع القارئ بصحة دعوته. هناك ظاهرتان أساسيتان تلفتان النظر في هذا النص. الأولى تتجلى في التشديد على ان الإنجيل الذي يكرز به الرسول مبني على يسوع المسيح لا غير. ففي 1: 11- 12 يقول بولس: ((وأعرفكم أيها الأخوة الإنجيل الذي بشرت به، أنه ليس بحسب إنسان، لأني لم اقبله من عند إنسان ولا علمته، بل بإعلان يسوع المسيح)). والفكرة ذاتها وردت في 1: 1 حيث بدأت الرسالة بالقول: ((بولس رسول، لا من الناس ولا بإنسان، بل بيسوع المسيح....)). وأيضاً في 1: 10: ((فلو كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبداً للمسيح)).
وأما الظاهرة الثانية والمتكررة بأشكال مختلفة في هذا النص، فهي استقلالية وتميّز بولس عن غيره، إذ نلحظ في تحركاته وتنقلاته التي يسردها أنه دائم الحركة والتجوّل. فمن جهة، يتوجّه إلى مناطق وشعوب وأشخاص لا يعرفها، مثل ذهابه إلى العربية، أو صعوده إلى أورشليم ومكوثه مع بطرس، ثم ذهابه إلى سوريه وكيليكية وأبعد من ذلك وهو يكرز بالإنجيل. والجدير بالذكر هو أن هذه التنقلات كانت تحصل أيضاً قبل اهتدائه على طريق دمشق. وهذه الاستقلالية تطفي عليه طابعاً من الامتياز الشخصي، فهو يتميز عن الآخرين أينما ذهب. حين اضطهد المسيحيين فعل ((بإفراط)) (1: 13)، وعند صعوده إلى أورشليم، تميّز بمكوثه عند بطرس وملاقاته ((يعقوب أخا الرب)) (1: 19) ولا أحد غيرهم، وهو غير معروف من قبل الذين يزورهم في سورية وكيليكية ولكنه مقبول لديهم (10: 22- 23). وفي موضوع شائك مثل الختان يقول بولس بأنه لا يخضع لاحد ولا ساعة (2: 5).
نكتشف في هذه النصوص إنساناً مستقل التفكير وواثقًا من ذاته، إنساناً مميزاً لا يخضع للضغوط أو الظروف أو الحدود، إنساناً يضع حريته واستقلاليته وأفكاره تحت سقف واحد ألا وهو سقف الحرية الروحية والرسالة السامية التي يلتقي معها في إنجيل يسوع المسيح.
2 كورنثوس 11: 16- 12: 10: هذا سرد آخر لسيرته الذاتية بشكل وَصْف ضيقات بولس وافتخاره بميزات يملكها، والتي يضعها بأجمعها في خدمة الإنجيل. إذاً يمكن ربط مجمل العناوين الرئيسية للنص بدواعي الافتخار. فإن كان السؤال يدور حول المركز الاجتماعي والديني، لدى بولس ما يفتخر به: ((أهم عبرانيون؟ فأنا أيضاً... أهم نسل ابراهيم؟ فأنا أيضاً... أهم خدام المسيح؟... فأنا أفضل)) (11: 22- 23)(3). وإن كان السؤال يدور عن الثمن الذي يدفعه الإنسان دفاعاً عن إيمانه، فلديه الكثير الذي يذكره. ((ثلاث مرات ضُرِبت بالعصي، مرة رُجمت، ثلاث مرات انكَسَرت بي السفينة)) (11: 25). وإذا كان السؤال عن الامتياز في خدمة الإنجيل والكنيسة، فلدى بولس الكثير أيضاً ليفتخر به، فيقول: ((عدا ما هو دون ذلك: التراكم عليّ كل يوم، الاهتمام بجميع الكنائس)) (11: 28).
ولكن بولس يكرّر في البداية والنهاية، وفي كل مناسبة يسرد فيها جزءاً من سيرة حياته، أنه يوظف كل أسباب ومشاعر الافتخار الإنساني ويضعها في خدمة المسيح، ويتنازل عن نفسه. وبافتخاره حتى بضعفه، يتواضع امام ربه وإنجيله. إذاً المبالغة في الافتخار تتحوّل إلى امتياز في التواضع.
فيلبي 3: 3- 7: ما قرأناه في 2 كورنثوس 11 و12 نراه بإيجاز في الرسالة إلى أهل فيلبي، حيث يركز الرسول مناقشاته على عدم جدوى الاتكال على الجسد. يشهد بولس بوضوح بان كل ما يمكن للإنسان أن يحسبه ربحاً هو نفسه يحسبها خسارة من أجل ربح أعظم، ألا وهو معرفة المسيح فيقول: ((لكن ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل اني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الاشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح )) (3: 7- 8).
وهذه الكلمات هي إشارة مباشرة إلى التحوّل الكبير الذي عاشه بولس في حياته. أي كان يوماً من الأيام يظن أنه يكافح من أجل أسمى قضية وأهم ناموس، ولكن بعد اهتدائه يكتشف بأن التعلق بالناموس والاتكال على قوة وطاقة الإنسان يَبْطُلان تماماً تجاه سموّ رسالة المسيح التي يجد فيها الربح الأعظم. إذاً بولس لا يزال يسمو إلى الأفضل، ولكن معاييره للسموّ أضحت على مستوى النعمة الإلهية.

في النصوص العامة التي تشير إلى حياة بولس
يتطرّق بولس في كل مناقشة من مناقشات رسائله إلى نفسه أو وضعه أو مكانته الشخصية، حتى لو كان الموضوع عاماً أو نظرياً لاهوتياً. والملاحظ أنه لا يَفصل أبداً بين انجيل المسيح الذي يكرز به، والإنجيل الذي يعيشه وخدمة الإنجيل الحياتية التي اضحت جزءاً من هويته الشخصية. والأنا في رسائل بولس ليس لوضع نفسه في الوسط، بل لايضاح مركزه الرسولي وعلاقة شخصه برسالته.
وفي رسائل بولس بشكل عام، تلفت نظر القارئ المحلَّل ميزات شخصية لبولس يمكن الإشارة إلى بعضها من خلال الآيات التالية:

أ - الجُرأة أو الجسارة:
رومية 6: 1
رومية 15: 15
1 كو 4: 18- 21: ((فانتفخ قومٌ كأني لست آتياً إليكم. ولكني سآتي إليكم سريعاً إن شاء الرب، فسأعرف ليس كلام الذين انتفخوا بل قوتهم. لأن ملكوت الله ليس بكلامٍ، بل بقوةٍ. ماذا تريدون؟ أبعصاً آتي إليكم أم بالمحبة وروح الوداعة؟!))
2 كو 10: 2
2 كو 13: 2

ب - الافتخار والامتياز والتفوق:
رومية 11: 1: ((فأقول: ألعل الله رفض شعبه؟ حاشا! لأني أنا أيضاً إسرائيلي من نسل إبراهيم سبط بنيامين)).
رومية 15: 17- 18
1 كو 9: 15 (والذي هو مثل للتواضع أيضاً)
2 كو 1: 12
2 كو 9: 2- 3: ((لأني أعلم نشاطكم الذي أفتخر به من جهتكم لدى المكدونيين...)).
فيلبي 3: 17: ((كونوا متمثلين بي معاً أيها الأخوة....)).
1 تسالونيكي 2: 2

ج - الكرامة الشخصية والدفاع عن النفس:
رومية 9: 1- 2
1 كو 4: 3- 4: ((وأما أنا فأقّل شيء عندي أن يُحكم فيّ أمنكم أو من يوم بشرٍ. بل لست أحكم في نفسي أيضاً)).
1 كو 51: 9
2 كو 3: 5
2 كو 7: 8
فيلبي 1: 18- 19
فيلبي 4: 15
1 تسالونيكي 3: 1: ((لذلك إذ لم نحتمل أيضاً، استحسنا أن نُترك في اثينا وحدنا)).

د - التواضع والحنان:
1 كو 3: 5
1 كو 9: 19- 23
2 كو 2: 4
غلاطية 4: 20
فيلبي 2: 22
فيلبي 3: 12
فيلبي 3: 18
فيلبي 4: 11- 12
1 تسالونيكي 2: 7: ((بل كنا مترفقين في وسطكم كما تربي المُرضِعة أولادها)).

هـ - الصراع الروحي:
رومية 7: 21- 24: ((إذاً أجد الناموس لي حين أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضرٌ عندي. فإني أُسّر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن، ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. ويَحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟))
1 كو 2: 3
و - الرجاء والانتظار:
رومية 8: 18: ((فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا)). فيلبي 3: 20- 21
وهكذا يكتشف القارئ لرسائل بولس إنساناً حقيقياً قوياً موهوباً فخوراً بما لديه من صفات ومواهب وعلاقات وخبرات ومعرفة. يكتشف إنساناً يتميّز بكرامة شخصية عالية ووعي تام لمركزه كشخص وكرسول ولقوّته كقائد. إنساناً قادراً على الدفاع عن نفسه وعمله ومقاضاة خصومه. يكتشف المحلِّل في بولس الإنسان الحقيقي والمؤمن الذي هو يعرف أيضاً معنى الصراع الروحي الداخلي وذوق الراحة في يد الله. ولكنه أيضاً الرسول الذي يذوب في إنجيل يسوع المسيح ويكتشف بأن النعمة الالهية تقوده طوعاً إلى التواضع، والتواضع يقوده إلى معرفة ذاته وربه، وإلى المحبة والحنان، بعكس ماضٍ معروف بالاختباء وراء الناموس والقساوة والتبرير الإنساني. ويظهر لنا بولس كشخص اعتاد على النجاح الآني، وهو الآن يستطيع الانتظار لان رجاءه حي في المسيح الذي يرى فيه بولسُ كمالَه الشخصي وتحقيق ذاته.

النصوص العامة غير المتعلقة بشخص بولس
يمكننا أيضاً دراسة رسائل بولس والقراءة بين الاسطر لاكتشاف ملامح عدة عن شخصية بولس، وهذا هو جهد غير متناه. ومن المواضيع الأساسية التي لا يمكننا أن نتغاضى عنها لاتمام أي درس لشخصية بولس نذكر:
مفهوم بولس للناموس: فمثلاً عندما يقول الرسول: ((لان الناموس ينشىء غضباً، إذ حيث ليس ناموس ليس أيضاً تعد)) (رومية 4: 15)، إنما هو يتكلم عن خبرة عاشها قبل اهتدائه ويحاول الآن أخذ العبر من الخبرتين اليهودية والمسيحية.
وكذلك الأمر عندما يعلّم في كنيسة غلاطية قائلاً: ((قبلما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس، مُعلقاً علينا إلى الإيمان العتيد أن يُعلن، إذ قد كان الناموس مؤدِّبنا إلى المسيح، لكي نتبرر بالإيمان، ولكن بعدما جاء الإيمان، لسنا بعد تحت مؤدب)) (غلاطية 3: 23- 25). ويطرح بولس على الكنيسة كيفية تطبيق هذا التعليم قائلاً: ((احمِلوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمموا ناموس المسيح)) (غلاطية 6: 2).
وهنا نجد أن بولس بشخصيته القوية الواثقة يستبدل ثقته الكاملة الجذرية في الناموس بإيمان راسخ بنعمة المسيح. فهو شخص مخلص في أي خندق وُجد: كان مخلصاً ووفياً في اليهودية، وهو مخلص ووفي في إيمانه المسيحي.
مفهوم السلطة: مفهوم السلطة، إن كانت سلطة رسولية أو سلطة الإنجيل أو السلطات المدنية، أو سلطة الله، حاضر دائماً في رسائل بولس. فعلاقته مع المؤمنين والتلاميذ والكنائس وحتى الذين يحاولون زجَّه في السجن، تُحتّم تحديد السلطات. فمثلاً يقول: ((لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لانه ليس سلطان إلاَّ من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله)) (رومية 13: 1). ومن جهة أخرى فهو واثق أن سلطته هي أيضاً من الرب، ويقول: ((فإني وان افتخرت شيئاً أكثر بسلطاننا الذي أعطانا إياه الرب لبنياكنكم لا لهدمكم، لا أخجل)) (2كو 10: 8).
ونجد هنا أن بولس بشخصيته القيادية يرتاح أكثر عندما يحدد العلاقات بينه وبين الآخرين وبين الجميع في الدين والمجتمع بواسطة التعريف عن السلطات. وتحديد هذه العلاقة يبدو طبيعيًا وسهلاً مع الكنائس، لانه هو الأب والمؤسس لعدد كبير من الكنائس التي يراسلها.
علاقاته مع زملائه: من خلال رسائله كلِّها نتعرف على بولس الأب والقائد والأخ الكبير والراعي. هكذا كان قبل اهتدائه، وهكذا ظل بعد اهتدائه. وهذه الظاهرة كانت لها آثارها في عمله وعلاقاته. من الواضح جداً أنه بقدر ما كان المترئس للرحلات والتعليم، كان أيضاً الرسول الذي يقوم بأعماله بمرافقة آخرين، أو على الأقل بإرسال الآخرين. لكنه هنا، أيضاً ودائماً، القائد. وفي علاقاته حتى مع زملائه الآخرين لا مجال للمساومة. وأشهر مثل في رسائله هو مواجهته لبطرس في موضوع لاهوتي ألا وهو الأكل مع الأمم (غلاطية 2). ولكن نعي تماماً من خارج رسائله، أي من خلال قراءتنا لاعمال الرسل، بأن علاقاته كانت أيضاً تشهد صراعات شخصية. فمثلاً نقرأ: ((ثم بعد أيام قال بولس لبرنابا: "لنرجع ونفتقد أخوتنا في كل مدينة نادينا فيها بكلمة الرب كيف هم". فأشار برنابا أن يأخذا معهما أيضاً يوحنا الذي يدعى مرقس، وأما بولس فكان يستحسن أن الذي فارقهما في بمفيلية ولم يذهب معهما للعمل، لا يأخذانه معهما. فحصل بينهما مشاجرة حتى فارق أحدهما الآخر. وبرنابا أخذ مرقس وسافر في البحر إلى قبرس)) (أعمال 15: 36- 39). إذًا لم تكن كل صراعاته وشجاراته لاسباب لاهوتية، بل أيضاً بسبب قوة شخصيته والإصرار على دوره القيادي.
وكي نكون أمناء في القراءة، يجب أن نذكر أيضاً أنه كان رجل مصالحة، فحاول أن يصالح زملاءه بعضهم مع بعض، كمثل أفودية وسنتيخي في فيلبي 4: 2.

الختام
يستخلص الباحث في نصوص بولس بأن لديه شخصية ديناميكية فاعلة ومندفعة، شخصية تشعر وتفكر وتغامر وتحارب وتواجه وتتفانى. ولكن بولس يوجّه كل هذه الميزات باتجاه شخص يسوع المسيح، ويوظف كل طاقاته وضعفه باتجاه القداسة لخدمة إنجيل النعمة.
ولكن الشخصية هذه تحافظ على تمييزها وفعاليتها دونما غموض بالجمع بين ما قد تبدو كميزات متناقضة ـ بين مفهوم صارم للسلطة والاستعداد للخدمة، بين القساوة تجاه الحليف والخصم والمحبة تجاههم، بين الافتخار بالماضي والحاضر والتواضع أمام الله، بين الدفاع عن الكرامة الشخصية والتفاني من أجل بنيان الكنيسة.
تبدو عظمة هذه الشخصية لدى بولس في وضعه للماضي والحاضر والنجاحات والضعف في خدمة الإيمان الذي وجد نفسه مدعواً إليه بشكل شخصي وخصوصي. ومن أجل ذلك فهو يقبل أن يكون بالامتثال بالمسيح ((كلاً للكل)) ليربح الجميع إلى المسيح (1 كو 9: 22)، وهكذا يصبح سفيراً فعّالاً للمسيح.

القس الدكتور بول هايدوستيان

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM