الفصل الرابع والثلاثون :الاعتراف بالخطايا في العهد القديم

الفصل الرابع والثلاثون
الاعتراف بالخطايا في العهد القديم

يعلن إرميا النبيّ في قمّة من قمم كتابه العلاقة بين العهد وتجديد القلوب. إذ ينشد شعب الشمال (افرائيم) ذل المنفى ويعلن امتلاء قلبه بالرجاء "أدّبتني فتأدّبت كالعجل غير المروّض. أعدني فأعود إليك، لأنك أنت الرب إلهي. حين أبدأ بالعودة يمتلئ قلبي ندامة، حين أنظر إلى نفسي على حقيقتها، أقرع صدري". إذ ينشد هذا يجيب الرب: "افرائيم ابن عزيز لي، وولد يلذّ لي. كل مرّة أتكلّم عنه أتذكّر اسمه فتتحرّك أحشائي له (كأم نحو ابنها). أنا أحبّه، نعم أحبّه" أو أرحمه رحمة عظيمة كما يحب الأب ابنه الراجع إليه (إر 31: 18- 20).
ويتابع الرب متحدّثًا عن ذلك العهد الذي سيقيمه مع شعبه بعد أن يغفر له: "ها إنها تأتي أيام أقطع فيها مع آل اسرائيل (مملكة الشمال، بعاصمتها السامرة) وآل يهوذا (مملكة الجنوب، بعاصمتها أورشليم) عهدًا جديدًا: أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا... سأغفر آثامهم، ولن أذكر خطاياهم من بعد" (إر 31: 31-33).
هذا الكلام يُدخلنا إلى ارتباط اعتراف الخطايا بخطبة العهد... نكون أمناء للرب فنكون أمناء للعهد. نخون الرب ونهمل وصاياه، فنعود إليه مُقرّين بخطايانا.

1- الاقرار بالخطايا
يحسّ المؤمن اليوم بانزعاج أمام الاقرار بخطاياه والاعتراف بها. فقد عوّدناه في تعليمنا على اعتبار فحص الضمير العنصر الأهم في مسيرة التوبة والرجوع إلى الله. حينئذ ركّز انتباهه كله على هذا "الفحص"، فبحث بحثًا
دقيقًا عن عدد خطاياه وفتّش عن الظروف التي رافقتها، فظلَّ عائشًا مع خطيئته ونسي الله الذي يدعونا إلى حوار معه من خلال خطايانا، بل بالرغم من خطايانا.
أما انسان العهد القديم، فهو حين يتكلّم عن خطاياه، يجعلها في إطار علاقة تربطه بالله، أو انتفاء هذه العلاقة. هو يجعلها في إطار العهد نقطعه مع الله أو ننقضه وكأنه لم يكن.
فالله والانسان اللذان يلتقيان، لا يقفان على مستوى تفصيلي ومجزّأ، على مستوى واقع صغير ومحدّد. هناك العلاقة الواسعة والشاملة، هناك البُعد الذي يربط حياة المؤمن البسيطة بالبعد التاريخيّ الذي تتجذَّر فيه. هل ننسى مثلاً أن مز 51 الذي عبرّ عن توبة خاطئ فرد، إرتبط بحاجة الشعب إلى مدينة تحميه في أسوارها، وإلى هيكل يقدّم فيه ذبائحه.
أجل، حين أراد الرب أن يدخل شعبه في عهده، فهو لم يحدّد له حالاً واجباته بعبارة "أخدمني أو تعبّد لي". بل تصرّف كملوك الشرق العظام الذين يتعاملون مع تابعيهم: وجّه إلى شعبه خطبة طويلة ومُحكمة البناء، فذكّره بتاريخ علاقته معه، وبعد هذا ألقى عليه أوامره.
فإذا أخذنا الاحتفال بالعهد في يش 24: 2-15، نجد أولاً قسمًا تاريخيًا (آ 2-23)، يذكر فيه الله ما يحمله لشعبه، وبعد هذا يأتي الأمر: "فاتّقوا (خافوا) الرب واعبدوه بكمال واخلاص. إنزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم في عبر النهر وفي مصر، واعبدوا الرب" (آ 14). يلتزم الشعب (وكل فرد من أفراد الشعب) بوصيّة الله المبنيّة على مخافته وعبادته. ولكن هذا الالتزام يتأسّس على تذكير تاريخي يعود إلى إبراهيم واسحاق ويعقوب: "أخذت ابراهيم أباكم من عبر النهر... وكثّرت نسله، ورزقت اسحاق يعقوب، وأرسلت موسى وهارون... ثم جئت بكم إلى أرض الاموريين... واعطيتكم أرضًا لم تتعبوا فيها، ومدنًا لم تبنوها، وكرومًا وزيتونًا لم تغرسوها" (آ 3- 13).
هكذا يذكّر الكهنة (باسم الرب، وكأن الرب يتكلّم بفمهم) الشعب بوصايا الله، فيحمّلونها بعدًا قانونيًا (علاقة الشعب بربه) وبعدًا لاهوتيًا (يؤسّسونها على مبادرة الله في عطاياه).
وحين ينسى الشعب العهد، لا يكتفي الله (بفم الكهنة اللاويين)، بأن يحكم عليهم بعبارات جافّة: "سوف تموتون". "سوف تذهبون إلى المنفى". ولكنه يلقي خطبة طويلة يدلّ فيها على خيانة من أحبه وصنع له ما صنع. يعود الله إلى التاريخ فيذكر كيف مارس الشعب علاقته معه، ويُنهي بالحكم القاطع.
في تث 32 يعاتب الله شعبه بفم موسى: "أبهذا تكافئ الرب، أيها الشعب الأحمق الذي لا حكمة له؟ أما هو الله الذي وهبك الحياة... أذكر الأيام القديمة... سل أباك ينبئك وشيوخك فيحدثونك..." (آ 6-7). كان الله أمينًا، ولكنّ الشعب كان خائنًا: "ترك الاله الذي صنعه واستهان بخالقه ومخلصه. الخالق (مصوّرك) الذي ولدك تركته، والاله الذي أنشأك نسيته" (آ 15-18). حينئذ جاء الحكم: "فرأى الرب واغتاظ: أغضبه بنوه وبناته". فقال: "أحجب وجهي عنهم، وأرى ماذا تكون آخرتهم: هم جيل متقلّب، هم بنون لا أمانة لهم" (لا تقدر أن تثق بهم) (آ 19- 20).
لولا التذكير التاريخي، لما وجد الحكم ما يستند إليه. وحين يعود الشعب إلى ذاته وهو في أرض المنفى، حين يعي خطيئته، لن يكتفي بأن يطلب الصفح بعبارة بسيطة وقصيرة مثل هذه: "اغفر لي، يا رب" أو "جدّد عهدك معي". فالذي يصلّي، أكان شعبًا أو فردًا، يحسّ بالحاجة إلى أن يوجّه إلى الله خطبة عهد حقيقية: يعترف (يقر) بأمانة الله واحساناته، قبل أن يعترف بخطيئته وخيانته. يتذكّر ما كانت عليه العلاقة بينه وبين ربه قبل أن يطلب الصفح والغفران.


2- كيف نعترف بخطايانا
أ- الاعتراف بالربّ
إذا أردنا أن نفهم العمق اللاهوتي للعبارة التوراتية "الاعتراف بالخطايا"، يجب أن نتأمل في العبارة التي تقابلها وهي "الاعتراف بالرب". نحن نقرأ هاتين العبارتين في حادثة عاكان. يروي سفر يشوع أن عاكان اقترف خطيئة كبيرة فتعدّى على ما حرّمه الله (أو بالأحرى قانون الحرب المقدسة). بدأ يشوع وقال له: "يا بني، أقم كرامة (مجدًا) للرب إله اسرائيل، وقدّم له اعترافك. أخبرني بما فعلت ولا تكتمني" (يش 7: 19). وفي آ 20 يبدأ عاكان اقراره بخطاياه: "خطئت إلى الربّ، إله اسرائيل، وهذا ما فعلت".
ونقرأ في عز 10: 11 نداء إلى الشعب: "إعترفوا للرب إله آبائكم وأعملوا مرضاته". هذه العبارة هي امتداد لما فعله رئيس الجماعة، فأعدَّ المنفيين للدخول في العهد بعد الاعتراف بقداسة الله والاقرار بشرّهم. قال عزرا باسم الجماعة: "اللهمّ إني استحي خجلاً من أن أرفع وجهي إليك، يا إلهي، لأن ذنوبنا قد تكاثرت على رؤوسنا، وتفاقم إثمنا إلى السماوات... ماذا نقول بعد هذا؟ فإنّا أهملنا وصاياك التي أمرت بها على ألسنة عبيدك الأنبياء... نحن أمامك بآثامنا، ولا يحقّ لنا الوقوف بين يديك" (عز 9: 6- 15).
نحن هنا على نقيض مع ما حصل في حدث عاكان: إنتهى الاعتراف بموت الخاطئ (يش 7: 25)، لأن شريعة البشر حلّت محلّ شريعة الله الذي "لا يريد موت الخاطئ، بل أن يتوب عن طريقه فيحيا" (حز 23:18). فإذا عدنا إلى لاهوت العهد، نرى أن الاعتراف بالخطايا لا يغفل بصورة نهائية دورة الخلاص، بل هو يفتح الخاطئ على الله ويحرّك الغفران باتجاهه. وهنا ننتقل من الخطيئة إلى النعمة. وقد نعود إلى الخطيئة، فنكتشف الارادة الخلاصية عند إله أمين لا يتراجع أبدًا عن إظهار رحمته وحنانه.
نحن نعترف بخطيئتنا، ومن منا بلا خطيئة، كما يقول القديس يوحنا في رسالته الاولى (1: 8)؟ ونحن نعترف بالله ربًّا، ونعلن تساميه، ونُشيد بإرادته الخلاصية التي لا رجوع عنها.
يشدّد الكتاب من جهة على عظمة الله ويعلن أمانته المطلقة. ومن جهة ثانية يبيّن ضعف الانسان وعجزه حين يعي خطيئته. إنه لا يهدف إلى سحق الخاطئ وتمريغه في التراب، بل إلى التأكيد أن كل عظمة الرب هي من أجل الانسان. فالاقرار بخطايانا هو اقرار بحاجتنا إلى خلاص لا يحمله إلاّ يسوع المسيح (أع 12:4).
ب- نوجّه إلى الله كلمات البشر
إن الاقرار بالخطايا، شأنه شأن كل صلاة، هو خطبة يوجّهها البشر إلى الله. هناك خبر وهناك طلب. ففي الخبر، تروي الجماعة المصليّة بفم رئيسها وفي إطار العبادة، تاريخ علاقتها بالله: أمانة الله وخيانتنا. تاريخ نعمة الله وتاريخ خطيئتنا. الجماعة المصلّية تحتفل بالله، تعترف به، وتمدحه متذكّرة علاقتها معه في الماضي.
بعد الخبر، تنتقل الجماعة إلى الطلب. تذكّرت الجماعة أمانة الله من خلال خيانتها، فسألت الرب أن يتدخّل بطريقة ملموسة في حياة من ربطت حياتها بحياته. هنا يأتي الدعاء (أبيكلاسيس) بصيغة الأمر: "إصفح عن ذنب هؤلاء الشعب بحسب كثرة رحمتك" (عد 19:14).
أما هكذا يجب أن يكون اقترابنا من سر التوبة؟ نبدأ فنشهد لمراحم الله وعطاياه واحساناته، نبدأ فنشكره على ما غمرنا به من النعم، نتذكّر تاريخ بركاته في حياتنا. وبعد هذا نحاسب نفوسنا: هل قابلنا محبّة الله بالمحبّة؟ لاشكّ في أن الله أحبّنا أولاً (1 يو 4: 10)، ولكن لا ننسى أنه علينا أن نحبَّه ونبرهن عن حبنا له بحفظنا وصاياه (يو 14: 15).
وها نحن نعود إلى نموذج عن صلاة تائبة نقرأها في نح 9: 1-37. يصوّر لنا الكاتب الاطار المباشر في آ 1- 5. أشارت آ 1 إلى الامور الخارجية التي تميّز طقس التوبة: التجمّع (نحن في توبة جماعية)، الصوم (إذا كانت الخطيئة بحث عن لذة، فالصوم يعارضها)، المسح (يعارض الغنى والاتكال المفرط على الذات). الرماد (بدل حياة الرخاء والتنعّم).
وتعلن آ 2: "ووقفوا (كما أمام الله، وقفة صلاة) واعترفوا بخطاياهم وآثام آبائهم". وقسّمت آ 3 الزمن المكرّس للصلاة إلى قسمين. الأول: وقرأوا في سفر شريعة الرب إلههم (أي أسفار موسى الخمسة). الثاني: وقاموا بفعل اعتراف (وحمد) وسجدوا للرب إلههم.
وبعد الاعتراف بالرب والاقرار بعظمته وقداسته وأمانته، أطلقت آ 5 الدعوة إلى الصلاة والتوبة. وها نحن نورد بعض تعابير هذه الصلاة فندرك الحركة اللاهوتية التي تسير بجماعة شعب الله إلى طلب الصفح والغفران:
"أنت يا رب وحدك. أنت صنعت السماوات... أنت الرب الاله الذي اختار أبرام (أي ابراهيم) وأقام عهدًا معه... نظرتَ إلى مذلّة آبائنا وسمعت صراخهم... فتحت البحر أمامهم وأرشدتهم بعمود السحاب، نزلت على جبل سيناء وعرّفتهم سبتك المقدّس... ورزقتهم خبزًا من السماء في جوعهم... (آ 6-15).
"ولكن آباءنا تكبّروا ورفضوا أن يطيعوا أوامرك... ولكنك إله حنون رحيم، طويل البال وكثير الرحمة، فلم تهملهم... وتمرّدوا فأسلمتهم إلى يد مضايقيهم، وفي وقت شدَّتهم صرخوا إليك فسمعتَ أنت من السماء... كم مرّة خلّصتهم بمراحمك، ولكنّهم تكبّروا ولم يسمعوا. كنت طويل البال معهم سنين طويلة. لكثرة رحمتك لم تسأصلهم، ولم تهملهم لأنك إله حنون رحيم" (آ 16-31).
وبعد الخبر الذي يتذكّر أعمال الله من أجل شعبه وجواب الشعب إلى نداء ربه، نصل إلى الطلب الذي يبدأ عادة بأداة "والآن":
"فالآن يا إلهنا العظيم الحافظ العهد... لا يصغر أمامك كل هذا الضيق الذي حلّ بنا وبآبائنا" (آ 22).
تبدأ هذه الصلاة بتذكّر الوحدة الأزلية في الله الذي يتدخّل في زمن الخلق ثم ساعة اختيار ابراهيم. ثم ينطلق المصلّي منذ ضيق الآباء في مصر حتى عطيّة المن: الفاعل هنا هو الرب الذي يرى ويسمع ويفعل من أجل المؤمنين. صورة مشرقة ستتبعها صورة مظلمة مع الآباء الذين تكبّروا ورفضوا الخضوع لله ولوصاياه (آ 16- 21). الفاعل الرئيسي هنا هو اسرائيل وهو يلعب دورًا رديئًا. أما الله فيكتفي بأن يغفر، بأن لا يُهمل شعبه، بأن يهتمّ بالذين ربطوا حياتهم بحياته.
مع آ 21-25، يعلن التائب أمانة الله الذي يستلم من جديد الدور الأول. يتدخّل شخصيًا ليعطي الأرض. أما الأبناء فيكتفون بأن يدخلوا إليها ويمتلكوها ويأكلوا من ثمارها. إن المتتالية "أكل، شبع، سمن" (آ 25) تدلّ على أن الله أتمّ وعده، ولكنها البداية لتمرد الشعب وخيانته (رج تث 32: 15). وفي آ 26- 31، نجد فريقًا أول يتمرّد، يتكبّر، لا يسمع. وبعد الضيق يصرخ (هو الشعب). وفريقًا ثانيًا (هو الله) يعاقب، يحرّر، يصبر، يمتنع عن اغلاق الباب أمام العهد ودورة الخلاص.
وعلى أساس الاعلان المقدّس لهذين الخبرين المتشابكين (خبر الله وخبر شعبه) يُبنى الدعاء (آ 32-37): "فالآن، يا إلهنا". طلب بسيط في الظاهر: أن يحسب الله حساب المحنة (منفى سنة 587 ق م) التي حلّت بشعبه. ولكن إن نظرنا إلى هذا الطلب على ضوء دينامية العهد، نرى فيه صراخ المؤمن الذي يطلب من الرب أن يتدخّل في هذا الضيق الحاضر، أن يعيد العلاقة إلى سابق عهدها، أن يُرجع شعبه إلى أرضه. فالأرض التي يقيم فيها الآن ليست أرض خدمة الله وعبادته. إنها أرض عبودية تنتج ثمارًا للغرباء لا للأبناء.
إن صلاة التوبة هذه (نح 9) تكشف عن مسيرة الارتداد اللاهوتية. فضيق الزمن الحاضر (آ 36-37) يفرض على الشعب التائب أن يتوجّه إلى الله في صلاة بصيغة المتكلم الجمع (نحن) فيشارك آباءه في محنتهم. هذه المحنة تكشف الخطيئة، والخطيئة تساعد المؤمن على التعرّف إلى المسافة التي تفصله عن الله. لهذا يحتاج أن يحدّثه بلغة المخاطب المفرد (أنت) محاولاً أن يستعيد العلاقة التي عرفها آباؤه يوم كان الله الفاعل الأول، وكان الشعب يتجاوب مع عطايا ربه. نحن هنا أمام عطايا مادية، ولكنها عربون عطايا روحية. فالعطيّة هي عطيّة الله. فإن اقتبلناها بشكر قادتنا إلى الله.
ج- نوجّه إلى الله كلمات البشر وكلمات الله
دينامية بسيطة في هذه الصلاة التائبة في نح 9 وهي في جزئين: الخبر والطلب، تذكّر عطايا الله، وطلبُ مراحمه اليوم. وهناك دينامية أخرى نكتشفها في اعتراف عد 14: 13-19. هي صلاة (بشكل خطبة) يوجّهها موسى إلى الله الذي عزم على استئصال شعبه وتكوين شعب جديد إنطلاقًا من موسى.
"عرف المصريون أنك أخرجت هذا الشعب من بينهم بقدرتك، فأخبروا به أهل هذه البلاد. عرفوا أنك أنت يا رب وسط هذا الشعب تراءيت لهم وجهًا لوجه. أقام سحابك فوقهم. أنت تسير أمامهم في النهار بعمود سحاب (لتمنع عنهم الشمس المحرقة) وفي الليل بعمود النور (يضيء لهم الطريق).
"فإذا قتلت هذا الشعب كرجل واحد، تقول الأمم الذين سمعوا بأخبارك: إن الرب لم يستطع أن يُدخل هذا الشعب إلى الأرض التي وعده بها، فقتله في البريّة (آ 13- 16).
"والآن لتعظم قدرة الرب كما قلت: الرب طويل البال وكثير الرحمة (غني بالرحمة والأمانة). يتسامح مع الذنب والإثم ولكنه يعاقب. يفتقد ذنوب الآباء في البنين إلى الجيل الثالث والرابع.
"إصفح عن ذنب هذا الشعب بحسب كثرة رحمتك (أمانتك)، وعامله كما عاملته خلال طريقه من مصر إلى هنا" (آ 17-19).
تشكّل آ 13-16 الخبر في هذه الصلاة. أما آ 17-19 فتشكّل الدعاء: لتظهر قدرة الرب (آ 17)... إغفر بحسب رحمتك (آ 19). وبين آ 17 وآ 19 تأتي آ 18 كنبتة غريبة فتطعِّم الشجرة. ترجع آ 18 إلى خر 6:34-7 فتتضمّن وحيًا أورده عن الله فذكر صفاته الخاصّة.
جاءت هذه النبتة الغريبة فحملت دفقًا جديدًا من الحياة، وجاءت عبارة آ 18 فأعطت الصلاة بعدًا لاهوتيًا خاصًا. فحين طعّم المصلّي دعاءه بكلمات الله، جعل صوته في خدمة الله ليذكِّره بكلمة وعد تلفّظ بها في الماضي في وقت خطر كمثل الذي يحسّ به الآن. ما إن ذكّر موسى الله بكلام الله (طول أناته وكثرة رحمته وأمانته) حتى وجّه إليه نداء يشدّد على أمانة الله ورحمته كما يفعل المحامي من أجل قضية يدافع عنها.
هنا نعود إلى آ 16: إنطلق موسى من فكرة استئصال الشعب، فاستبق الأمور: ملاحظة يردّدها الأعداء فيقولون: لم يقدر الله أن يحقّق وعده. هذا الموقف السلبي حرّك نظرة إيجابية إلى وعد الله الذي سيتمّ لا محالة.
فإذا قابلنا دينامية نح 9 مع عد 14، نجد في هذا النص الأخير قسمَي الاعتراف بالخطايا، ونجد أيضًا أساسًا لاهوتيًا لاحقًا، نجد عنصرًا جديدًا هو كلمة الله الذي يعلن اتمام وعده.
بحث المصلّي عن عماد لاهوتي يؤسّس طلبه فبحث في "أرشيف" الله، في الكتاب المقدّس، بحث عن القول الخلاصي الذي يتجاوب والوضع الذي يعيشه. وحين وجده أقحمه في صلاته. وهكذا، حين يسمع الرب كلمات غفرانه في فم الجماعة المصلّية، تتحرّك أحشاؤه (رحمه، كما عند أم) فيتأثّر ويمنح غفرانه.

3- صلاتنا وإيماننا
لسنا فقط أمام تعبير أدبي، بل أمام واقع عبادي وهو يحمل تعليمًا لاهوتيًا وإيمانًا. نحن نعلم أن المؤمن في العهد القديم أحسّ بحدود نظرياته، فقدّم اللاهوت في صلاته. إنه يؤمن بالطريقة التي بها يصلّي. وها نحن نقدّم اعتبارين حول نظرة التوراة إلى الخطيئة، كما نكتشفها من خلاله الصلاة.
أ- الاعتراف بالخطايا هو انفتاح على الله
هنا نعود إلى ما نجده في العالم العبري من غنى في كلمة "يده" و "توده": اعترف، قرّب، شكر، مدح، مجّد، سبّح. ونجد الغنى نفسه في العالم السرياني مع "يدا"، "أودي": شكر، حمد، أقرّ، اعترف. ومن هنا ترد كلمة يد (ايدا) التي ترمز إلى القوّة والسلطة والمعونة والفضل والجدود. ونجد الشيء عينه في اللغة العربية حيث تدل اليد على النعمة والاحسان والجاه والقدر والقدرة والسلطان.
كل هذا يدلّنا على الوسع اللاهوتي للاعتراف بالخطايا. حين نعرف أننا خطأة، حين نقرّ بخياناتنا، نقرّ في الوقت عينه بتسامي الله الأمين الذي لا يقدر أن يخون نفسه (2 تم 2: 12).
فموقف الانسان الذي "يعترف" ليس تأملاً مرَضيًا بخطيئته، ولا تطلّعًا إلى قداسة الله يرتبط بعالم المطلق. الاعتراف هو إعلان في وجودنا يرتبط بتسامي الآخر الذي هو الله. وهذا التسامي يبرز حين نواجه بشريّتنا المتشرّبة بالخيانة والخطيئة، مع ما في هذه المواجهة من فرح (بلقاء الرب) وعناء (انسلاخ عن ذاتنا).
وحين قبلَ الشعب أن يقرّ بخطاياه، عرف أن الهدف الأخير لاعترافه ليس خطيئته "هو"، بل هذا الرب الذي يقدر وحده أدى يعيد العلاقة بيننا وبينه، ويُدخلنا في عهد يتجدّد يومًا بعد يوم. قال مز 51: 12: "قلبًا نقيًا أخلق فيّ يا الله". فشدّد بفعل "خلق" على أن شيئًا جديدًا سيُوجد من العدم. شدّد على أن الله يعيد شعبه وكل واحد منا، شرط أن لا نعود إلى الحماقة (مز 85: 9).
وانطلاقًا من صلاة المؤمن هذه، نفهم أن الخطيئة تكشف لنا عن الله، تكشف لنا عن علاقتها به. نفهم أنها عهد ونعمة. يتأكّد المصلّي أن الله قد منحه غفرانه، فيذكّره في ذروة صلاته بوعده أنه الاله الغفور، وأن لا شيء يقف بوجه إرادته الخلاصية. كل هذا يملأه ثقة بذلك الذي سمّى نفسه ذاك الذي لم يأت ليدين العالم بل ليخلّص العالم (يو 3: 17).
ب- الاعتراف بالخطايا هو انفتاح على التاريخ
إذا عدنا إلى صلوات التوبة في الكتاب المقدّس، نلاحظ أن المصلّي يذكر خطيئته الخاصّة، ولكنه يعجّل فيربطها بخيانات الآباء في الماضي، وبالتالي بتدخّلات الله الخلاصيّة في تاريخ آبائه. هذا الرجوع الدائم من الحاضر إلى التاريخ، هو من ثوابت التعليم التوراتي حول الخطيئة والنعمة.
نستطيع القول إن إيمان المصلّي في العهد القديم ينقلنا دومًا من نظرة أخلاقية محضة إلى الخطيئة، من نظرة يحاول فيها الفرد (أو الجماعة) عبر تقييم موضوعي وهادئ، يحاول أن يروز خطاياه (في صيغة الجمع) حسب قيمة كل انخراط في الشر، إلى نظرة لاهوتية عن الخطيئة، نظرة يدرك فيها الفرد (أو الجماعة) الخطيئة (في صيغة المفرد) اجمالاً.
لاشكّ في أن الوقت اللازم لتقييم الخطيئة تقييمًا أخلاقيًا هو ضروري، لأنه يفرض علينا أن نحدّد اتجاه حياتنا، ولأنه يمنحنا ضميرًا دقيقًا في تصرفاتنا المقبلة. ولكن إن طال هذا الوقت، فهو يسجننا في أفق شعورنا بالذنب، ويكوّن فينا حالة من القلق والوسواس.
مقابل هذا، لا يرتبط أي عائق بزمن التقييم اللاهوتي للخطيئة. فهو حين يطول يفتحنا على الله وعلى ظهوراته الدائمة في التاريخ التي تكوّن علاقته معنا.
وننهي كلامنا فنذكر هذا الانفتاح (الذي يبدو بشكل مفارقة) الذي اكتشفناه في خطبة التوبة في عد 14. إنغلق الرب على تقييم دقيق وأخلاقي ضيّق لخطيئة شعبه. أما موسى فتخلّق بأخلاق الله وتدخّل مقدمًا برهانًا يتوجّه إلى مشاعر الله، فدفعه إلى أن ينفتح على أحداث الخلاص التاريخية، التي تمت بين مصر والبريّة (عد 19:14). ما يدهشنا في هذا النص هو إن الله ينفتح عبر وعي متدرجِّ لهذا الواقع السري الذي هو الخطيئة، وأن هذا الانفتاح يتمّ في الانسان وفي التاريخ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM