الفصل الثاني والثلاثون: مفهوم الخطيئة في عالم الأنبياء

الفصل الثاني والثلاثون
مفهوم الخطيئة في عالم الأنبياء

بعد قراءة أولى للخطيئة في الشرق القديم بما فيه التوراة، نعود إلى الأنبياء الذين حاولوا أن يعيدوا قراءة الأسفار الأولى على ضوء الواقع الجديد، فدعوا المؤمنين للعودة إلى الله، لا على مستوى الطقوس فحسب، بل على مستوى الحياة الاخلاقيّة كلها.
نذكر هنا المجموعات النبويّة والأدب الاشتراعيّ (تث 1-10، 32؛ التاريخ المقدّس في يش، قض، 1-2 صم، 1-2 مل). فمن خلال التاريخ الملكيّ الذي ينتهي بكارثة سنة 587-586، والذهاب إلى المنفى، نجد خبرة روحيّة للخطيئة في اسرائيل. فهناك الخطايا الفرديّة التي تصوّرُها الكرازة النبويّة في لوحة لا التباس فيها. وخطايا الملوك التي جرّت الأمّة كلها في طرق الشرّ. وخطايا المجموعات في شعب العهد الذي تجاوز قسمَ الآباء وتمرّد على شريعة الله.
أدب واسع جدًا. نكتفي بأن نبرز السمات الظاهرة التي توضح النظرة البيبليّة إلى الخطيئة. في الواقع، لا نجد تجديدًا تعليميًا جوهريًا: فالكتاب الملهم أبرز السمات الخاصّة التي اكتشفناها في الحقبة السابقة. ولكن هناك نقطة أساسيّة في تعليمهم توسّع فيها هؤلاء الكتّاب، حين أعلنوا انتصار الله على خطيئة الانسان في نهاية الزمن.

1- خطيئة الانسان تجاه الشريعة والعهد
إن موضوع عدد من الخطب النبويّة هو شجب خطايا اسرائيل. وهي تعود بشكل واضح إلى الشريعة (هو 8: 12)، فتختلف عن الخطب الكهنوتيّة التي تتوخّى تحريض الشعب على ممارسة الشريعة. غير أن تعداد خطايا اسرائيل التي تجاوزت شريعة الله، افترض أن هذه الشريعة كانت معروفة، وذكر وصاياها الرئيسيّة.
انطبع حزقيال بالمحيط الكهنوتيّ الذي انتمى إليه، فجعل الخطايا الاخلاقيّة الاجتماعيّة (مثل الظلم والقتل) على مستوى تجاوز الفرائض الدينيّة الاساسيّة (مثل عبادة الأوثان وعدم حفظ السبت)، ومستوى التعدّي على الحقّ الايجابي (موانع الزواج) والمحرَّمات الدينيّة التقليديّة (علاقة مع المرأة الطامث) (حز 18: 1-20؛ 7:2-12). وهكذا بدت تراتبية القيم غامضة في هذه الاخلاقيّة التي ما زالت تحمل عناصر عتيقة. غير أن النبيّ أبرز بشكل عام المتطلّبات الدينيّة والأخلاقيّة السامية ولاسيّما متطلّبات الوصايا العشر (هو 4: 2)، وقدّم تلك التي تتوخّى بناء العدالة والتضامن في المجتمع (أش 1: 16-17؛ عا 5: 7- 12؛ إر 9: 1-8؛ أش 58: 6-7)، وتُخضع الأفراد للفضائل الضروريّة مثل الأمانة والرحمة...
وفي امتداد النصوص القانونيّة القديمة، شدّد الأنبياء على الضمير الدقيق، وعلى ما ينتظره الله من البشر، وعلى فهم لما هو "مادة ثقيلة" في الخطيئة. مثل هذا التعمّق لم يُغفل أهميّة الفرائض العباديّة، بل دخل في عالم اللاهوت الخلقيّ فهاجم بشكل مباشر الطقسانيّة السطحيّة التي شكّلت في المحيط الكنعانيّ والرافدينيّ جوهر متطلّبات الآلهة (أش 1: 11-17؛ 58: 1-8؛ عا 21:5-24).
وبموازاة هذه النظرة إلى الشريعة، شدّد الأنبياء على مسؤوليّة الخاطئ. لهذا، شدّدوا من جهة على العقاب الذي ينتظر الخطأة، وبالتالي شعب اسرائيل. ومن جهة أخرى دعوا المؤمنين إلى ارتداد داخليّ، إلى توبة القلب. "إغتسلوا وتطهّروا... كفّوا عن الشرّ وتعلّموا أن تصنعوا الخير" (أش 1: 16- 17).
نحن هنا أمام ارتداد خلقيّ، لأن الخطايا المقترفة هي على مستوى الاخلاق. ولكن أعمق من هذا، نحن أمام ارتداد دينيّ لأنّ الخطايا الأخلاقيّة نفسها هي خيانة لله وتمرّد عليه. ونحن نجد في خلفيّة هذا الفهم للخطيئة، موضوع العهد. فحين يخطئ اسرائيل فهو يُخلف بقسَمه، مهما كانت طبيعة الخطيئة المقترفة. وبأولى حجّة إذا كانت تلك الخطيئة هي الشرك وعبادة الاوثان، تلك التجربة التي رافقت شعب الله خلال اتّصاله بالأمم الوثنيّة. من هذا القبيل، يشبَّه العهدُ بالعلاقات بين البشر، بعلاقة الأب بابنه، والزوج بزوجته. وهذا ما يُبرز الطبيعة العميقة للخطيئة وشرِّها: هي تمرّد الأبناء العقوقين الذين يثورون على أبيهم (هو 11: 1-6؛ أش 1: 2-4). هي خيانة الزوجة الزانية التي تحتقر حبّ زوجها لها (هو 2؛ إر 2: 2-25؛ 3: 20؛ حز 16: 15-24). فالخطيئة كخيانة (لا أمانة) للإله الواحد، ولاسيّما الشرك، هي زنى وفجور. وهكذا يتحدّد موقع الخطيئة على المستوى الروحيّ، فيُدخلنا في مأساة العلاقة بين الله والبشر.

2- سرّ الخطيئة
لا يلعب خبرُ خطيئة البدايات أيَّ دور في الكرازة النبويّة (فقد يكون كُتب في زمن متأخّر). وهذا ما يدهشنا. فقد اهتمّ الأنبياء بواقع الخطيئة الحالي أكثر من اهتمامهم بأصلها. من هذه الوجهة تعمّقوا في العقيدة القديمة التي رأت في الخطيئة أكثر من عمل عابر يقترفه البشر. تعمّقوا في سرّ الشرّ الحاضر في أعماق قلبهم. فالعالم الذي يبدو أمام أنظار الأنبياء يحمل صورة فساد الكون: "لا صدق، لا حبّ، لا معرفة لله في الأرض" (هو 4: 2). "تجوّلوا في شوارع أورشليم... إن اكتشفتم انسانًا واحدًا يمارس الانصاف ويطلب الحقّ، فأنا أغفر لهذه المدينة" (إر 5: 1؛ رج 9: 1-8؛ أش 59: 1- 8).
وخبر سدوم القديم، خبر هذه المدينة الفاسدة التي لم يكن فيها عشرة أبرار (تك 18: 22-23)، يتجدّد بالنسبة إلى شعب الله نفسه. اختاره الربّ ليجعل منه شعبًا خاصًا، شعبًا مقدّسًا (خر 19: 6؛ تث 7: 6). ولكن الحضور الناشط للشرّ كان الأقوى. رغم جميع عطايا الله (العهد، الشريعة، الأرض...)، استسلم اسرائيل بإرادته إلى الشرّ فكان قلبًا قاسيًا ومتمرّدًا (حز 2: 7). ما أراد أن يسمع للربّ الذي يتكلّم بواسطة أنبيائه. ونفسية القلب هذه في الخطيئة، هي بلا شكّ العنصر الأكثر مأساويّة في علاقة الله مع شعبه. لهذا، ما استطاعت النداءات إلى التوبة أن تفعل شيئًا. "هل يغيّر الكوشي (أو الحبشي الأسود) جلده، والنمر رقطه؟ حينئذ تقدرون أنتم أن تصنعوا الخير وأنتم معتادون على الشرّ" (إر 13: 23).
إن تعليم الأنبياء يبدو بشكل مفارقة. من جهة، هو يدلّ على مسؤوليّة الخطأة الذين يدعوهم الله إلى التوبة فيعودون إليه بملء إرادتهم. ومن جهة ثانية، فهو يعلن أن التوبة مستحيلة بسبب قساوة قلب الانسان الذي لا تشفيه القوى البشريّة وحدها. فكيف تنتهي المأساة التي فتحها حضور الخطيئة في العالم؟ على المستوى البشري، لا شيء يُنهيها. فلا بدّ من معجزة تجترحها نعمة الله.

3- اختصار الله على الخطيئة في نهاية الأزمنة
هنا تجد الاسكاتولوجيا النبويّة معناها. فنحن لا نحتفظ منها مرارًا سوى بمواعيد السعادة التي وُعد بها شعب الله في الأزمنة الأخيرة. وكانت سطرة الفردوس المستعاد تشكّل جوهر الاسكاتولوجيا. في الواقع، لا تُفهم هذه الوجهة الاسكاتولوجية إلا في إطار أوسع هو درامة خطيئة الانسان. فكما تشدّد التذكّرات البيبليّة للتاريخ المقدّس على الوجهات المأساويّة في الوضع البشريّ فتدلّ على نتائج الخطيئة فيه، كذلك تصوّرُ تذكّرات النهايات (نهاية التاريخ المقدّس) تحوّل الوضع البشريّ، تصوّر انتصار الله على الخطيئة. وهذا الانتصار هو الشرط الأساسيّ لكل ما تبقّى.
لسنا هنا أمام انتصار أخلاقيّ للانسان المتروك لنفسه مع ميول طبيعته الشّريرة. فالأنبياء يقولون إن الله هو الذي يعطي الانسان كنعمة ما لا يستطيع الانسان أن يحقّقه بقواه الخاصّة وحدها. وتصوَّر نعمةُ الفداء هذه بطرق مختلفة. هنا نذكر هو 2: 16-22؛ إر 31: 31-34؛ حز 25:36-28. ففي هذه النصوص الثلاثة، السياق هو سياق عهد جديد، يقيم بين الله والبشر علاقة دينيّة عجز عهد سيناء عن تأمينها بشكل ثابت. في هذا العهد، ظلّت الشريعة الالهيّة خارج الانسان، فتسجّلت فقط على لوحين من حجر. لهذا تجاوزها الانسان فصارت وكأنها لم تُوجد. وهكذا دلّ بوضوح على الفساد العميق في كيانه (هو 2: 1-10؛ إر 31: 32؛ حز 16:36). ولكن الله سوف يعطي البشر في العهد الجديد، البرّ والمحبّة والأمانة التي يطلبها منهم (هو 2: 21-22).
سيَكتب الشريعة في قلوبهم (إر 33:31). سيطهّر القلوب ويضع فيها روحه بحيث تحفظ فرائضه (حز 25:36-27): "حينئذ يكونون شعبه وهو يكون إلههم" (إر 31: 33؛ حز 36: 28). هذا يفترض غفران الخطايا المقترفة (إر 31: 34)، وتوبة حقيقيّة يعيشها الخاطئون (هو 9:2 ب). ويتضمّن بشكل خاص تحوّلاً عميقًا لا يستطيع أن يقوم به إلاّ الله.
إن هذا اللاهوت الذي يستبق الفداء الذي قدّمه يسوع المسيح، يُسقط على سرّ الخطيئة البشريّة نورًا يكشف أبعادها الحقيقيّة. في الحقيقة، يستحيل على الانسان أن يُفلت من قبضة الشرّ، فقلبه سجين الشرّ. ولكن لا يستحيل على الله أن يخلّصه منه بشكل مجاني، برحمة واسعة من لدنه. تلك هي عطيّة الخلاص الاسكاتولوجيّة. وهكذا حين يتحرّر الانسان من قيوده الروحيّة، يستطيع أن ينعم بالسعادة التي يحفظها الله له منذ الابتداء.
ويحدّد أحد النصوص الشروط التي بها يُعطى هذا الخلاص في أناشيد عبد يهوه (عابد الله): نرى شخصًا سريًا يبدو كصانع الخلاص وكوسيط عهد جديد (أش 42: 6-7). عليه أن يحمل، رغم براءته وبرارته، نتائج خطايا البشر. شارك في الوضع البشري، شارك في الألم والموت، فأتمّ التكفير الذي يطهّر البشر من ذنوبهم (أش 53: 10- 11). ففيه وهو البار الوحيد، يتّخذ الوضع البشريّ اتجاهًا جديدًا. انطبع حتى الآن بآثار الخطيئة. فصار اليوم وسيلة فداء. وهكذا يتقابل لاهوت الخطيئة ولاهوت الخلاص. وهكذا يتوسّعان معًا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM