القسْمُ الأوّل الشَّعبُ العبراني، الشّعبُ اليَهودي الفصل العاشر من المدراش والترجوم إلى قمران وفيلو

الفصل العاشر
من المدراش والترجوم
إلى قمران وفيلون ويوسيفوس

بعد التوراة التي امتدّ تدوينها عشرة قرون ونيّف، وبعد التلمود الذي بدأت أولى تمتماته في القرن الثاني ق م،، انتهى تدوينه في القرن الخامس ب م، نودّ أن نتوقّف عند ثلاث ظواهر أدبية: المدراش والترجوم، مؤلفات قمران، يوسيفوس وفيلون الاسكندراني.
ما هو المدراش؟ تعود الكلمة إلى "درش"، تفحّص، شرح، فسّر، درس. المدراش هو تأويل الرابينيّين للعهد القديم. وإن يكن للمدراش شكل تفسيري يشرح النصّ الكتابيّ آية آية، إلاّ أنه في أغلب الأحيان توسيع وإسهاب لهذا النصّ في طريقة تقويّة تبني المؤمنين، وتحمل غنى معطيات جديدة (بعضها خبر له أساس في التاريخ). هذا ما نسميه المدراش الاخباري (هاغاده). المدراش هو جمع مواعظ وخطب قيلت في المجامع ومدارس السبوت والأعياد، أو بمناسبة أحداث هامّة في الحياة العامّة أو الخاصّة (حرب، جوع، ختان، زواج، جنازة...).
أما في ما يتعلّق بالنصوص التشريعيّة، فالمدراش يحاول أن يوضح تطبيقها في الحياة اليوميّة، أو أن يستنتج توجيهات جديدة عمليّة. هذا ما يسمّى المدراش السلوكي. أما أقدم المدارش (جمع مدراش) فهو ملكتا (قياس، أسلوب، شكل) رابي اسماعيل حول الخروج، وهو مدراش التنائيم (الردّادين) حول الخروج. يبدأ الكتاب في خر 12: 2 ويمتدّ حتى النهاية. فيحتفظ بأخبار قديمة لا نجدها في موضع آخر. وهناك "سفرا" (كلمة آرامية تعني الكتاب) حول سفر اللاويين. هو مدراش يضمّ مجموعة من "برانيات" التنائيم وهي تعود إلى القرن الثاني ب م. ونذكر أيضًا في الوقت عينه المدراش حول سفر العدد، والمدراش حول سفر التثنية. هنا يجدر القول إننا نجد "مدراش" على جميع أسفار التوراة.
والترجوم يعني "ترجمة" ونقلاً من العبرية إلى الآرامية. تعود اللفظة إلى "ت ر ج م" (شرح، نقل) (رج عز 7:4)، إلى أصل أكاديّ أو حثّي. أما في الاستعمال الرابيني، فالفعل يدلّ على نقل النصّ العبريّ إلى أية لغة أخرى (تلمود أورشليم قدشيم 1: 59 أ؛ مجله 1: 7 ج). غير أن الكلمة (ترجوم) استعملت فقط لتدلّ على ترجمة البيبليا إلى الآرامية، أو على النصوص الآرامية التي نجدها بشكل خاص في دانيال وعزرا (المشناة، يديم 4: 4). يُقرأ النص العبري في ليتورجيّة المجمع، وينقله المترجم (متورجمان) للحاضرين الذين ما عادوا يفهمون العبرية.
بدأت "التراجيم" في القرن الأول ق م، إن لم يكن قبل ذلك. وقد اكتُشفت نصوص عديدة في قمران مثل ترجوم أيوب، ترجوم اللاويّين، ترجوم (أو أبوكريفون، منحول) سفر التكوين. هذا الترجوم لم يكن مكتوبًا، بل كان قائله يتلوه غيبًا. فإذا كان النصّ المقروء من أسفار الشريعة الخمسة، يترجم المترجم آية بعد آية. وإذا كان من أسفار الأنبياء يترجم كل ثلاث آيات معًا (المشناة، مجله 4: 4).
نحن نمتلك اليوم "ترجوم" جميع الأسفار البيبليّة ما عدا دانيال وعزرا ونحميا. وهي تتوزّع حسب توزيع الكتاب المقدّس في عهده القديم: التوراة (ت و ر ه)، الأنبياء (نبييم)، الكتب (كتوبيم). تراجيم الكتب حديثة العهد. والترجوم الرسمي للأنبياء، قد نسبه التقليد (مجله 3 أ) إلى يوناتان بن عزيئيل، أشهر تلاميذ هلاّل. أصل هذا الترجوم فلسطيني، ولكنه نُشر في بابل، فصار توأم الترجوم الرسمي للبنتاتوكس، ترجوم أونكلوس. أما لغة ترجوم الأنبياء فتدلّ على أنه دوّن على أبعد حدّ حوالي سنة 135 ب م. أما تراجيم البنتاتوكس فنجعلها في مجموعتين: ترجوم أونكلوس أو ترجوم بابل. ثم النسخات الفلسطينيّة.
أما ترجوم أونكلوس فهو النسخة الرسميّة والقانونيّة للتوراة، وقد اتّخذ مكانة خاصّة في التقليد اليهوديّ بجانب تلمود بابل الذي يسمّيه "ترجومنا" (قدشيم 49 أ). يُقرأ اسم أونكلوس في مجله 3 أ، ولكن المقطع الموازي في الترجوم الفلسطيني (مجله 1: 71ج) يدلّ على أننا أمام التباس مع اسم أكيلا الذي ترجم التوراة العبرية إلى اليونانيّة في القرن الثاني ب م. أما تلمود أونكلوس فهو نسخة تقليديّة لا نعرف اسم كاتبها، ولكنها تعود في الأصل، إلى فلسطين. هذا التلمود الذي انطلق من فلسطين إلى بابل، سيعود إلى فلسطين بعد الفتح العربي ويسيطر سيطرة تامّة على سائر التراجيم التي لم تعد تنسخ. وهكذا لا نملك منها سوى مخطوطين كاملين، الكودكس نيوفيتي (أو مدرسة المعمدين الجدد)، في المكتبة الفاتيكانيّة، والمخطوط البريطاني 27031.
إن تراجيم فلسطين تمثّل نهاية المطاف لتقاليد مختلفة لترجوم شفهيّ لم يعرف يومًا نسخة رسميّة موحّدة. غير أن مضمون هذه النسخات هو واحد. نذكر منها نسخة تامّة "يوناتان المزعوم" أو الترجوم الأورشليمي الأول. ثم نسخة "نيوفيتي" التامة. وأخيرًا الترجوم الاجزائي أو ترجوم أورشليم الثاني، الذي يتضمّن 850 آية تقريبًا تعود إلى اختلافات وُضعت في هوامش المخطوطات.
وفي نهاية هذا القسم نذكر ما ترك لنا الاسيانيون في قمران من مخطوطات ونتوقّف عند شخصين دوّنا ما دوّنا في القرن الأول المسيحيّ، فكان الأول ذاك المفسّر الذي استعمل لغة الرموز.. والثاني ذاك المؤرّخ الذي أعاد قراءة تاريخ شعبه ثم قدّم لنا معلومات عن التاريخ اليهوديّ حتى نهاية القرن الأول لا نجدها إلاّ قليلاً في مراجع أخرى.
في بداية سنة 1947، كان راع شاب من قبيلة تعميرة اسمه محمد الديب، يطلب خروفًا أضاعه وسط الصخور وشقوقها، فاكتشف على مسافة 1300 م إلى الشمال من خرائب قمران، المغارة الأولى بمخطوطاتها. نشير هنا إلى أن هذه الخرائب تبعد قرابة 12 كلم إلى الشمال من أريحا الحالية، وعلى الشاطئ الغربي للبحر الميت. لهذا سمّيت أيضًا مخطوطات البحر الميت. وتتابعت التنقيبات من سنة 1949 حتى سنة 1956، فكشفت إحدى عشرة مغارة مع ما يوازي 600 مخطوطة دوّن أكثرها في العبرية أو في الآرامية، وكشفت لنا المغارة السابعة أجزاء من برديات دوّنت في اليونانيّة. وهكذا عرفنا أننا أمام مكتبة الجماعة الاسيانيّة.
ماذا تتضمّن هذه المكتبة؟ 12 لفيفة محفوظة، سبع من المغارة الأولى وخمس من المغارة الحادية عشر. نسختان من أشعيا، تفسير حبقوق، نظام الجماعة، نظام الحرب، المدائح، منحول التكوين (في الآرامية). وفي المغارة الحادية عشرة: سفر اللاويين. مجموعة مزامير تستعيد 37 مزمورًا من اللائحة القانونيّة وتضيف سبعة مزامير وجدت ثلاثة منها في اللغة السريانيّة، ترجوم أيوب، درج الهيكل. ووُجدت أجزاء عديدة، بل فتافيت ما زال الباحثون يتعاملون معها وكأنها لعبة معقدّة (بازل). رُبع هذه الأجزاء هو نسخات من أسفار التوراة، والباقي يقدّم لنا صورة عن حياة هذه الجماعة.
في هذا الاطار لا نستطيع إلاّ أن نذكر الأسفار المنحولة أو المكتوبة التي سمّيناها "على هامش الكتاب". فكتفي بذكرها: أخنوخ، وصيات الآباء الاثني عشر، مزامير سليمان، وصيّة موسى، استشهاد أشعيا، الأقوال السيبليّة، رؤيا باروك اليونانيّة، كتاب أسرار أخنوخ، كتاب العاديات (أو: القديميات) البيبليّة، سفر عزرا الرابع، رؤيا باروك السريانيّة، يوسف واسنات، وصيّة أيوب، وصيّة ابراهيم، رؤيا ابراهيم، أخبار إرميا، حياة آدم وحواء في اليونانيّة، رؤيا إيليا.
ونصل إلى كاتبين يهوديّين من القرن الأول المسيحي. الأول هو فيلون ابن الاسكندرية. وُلد بين سنة 15 وسنة 10 ق م من عائلة بورجوازية وقد لعب اخوته دورًا سياسيًا بارزًا. أما هو فاختلفت حياته عن حياتهم فتكرّس للفلسفة واللاهوت، وهو اليهودي المتكلّم في اللغة اليونانيّة. وقد ترك لنا العديد من كتب الشرح الكتابي والتفسير: أسئلة في سفر التكوين. أسئلة في سفر الخروج، الجبابرة، بلبلة اللغات، الاحلام. كما ترك كتبًا لاهوتيّة مثل: وضع الكون، الوصايا العشر، الشرائع الخاصّة. وترك أيضًا كتبًا دفاعية: حياة موسى، حياة التأمل والمشاهدة.
أخذ لغته وأسلوب براهينه من مقولات الفلسفة اليونانيّة. ولكنه لم يتوقّف عند فيلسوف واحد أو تيّار فلسفي واحد. بل انتقى ما انتقى من الفلسفة الرواقيّة والفيتاغوريّة واللاأدريّة والارسطاطاليّة. كان كل ذلك أساسًا ثقافيًا، لا ارتباطًا بهذا النظام أو ذاك. فبالنسبة إليه، الفلاسفة بسفسطاتهم هم نسل قايين القاتل. والشرائع اليونانيّة بتعدّدها مملوءة بالتناقضات. أما شريعة موسى فهي شاملة لأنها ترتبط بالله. لهذا فهي توافق العقل. أما تفسير فيلون المستند إلى اللغة الاستعاريّة في الكتاب المقدّس، فقد فتح الطريق لاوريجانس وغيره من آباء الكنيسة.
ومعِ فيلون الفيلسوف اللاهوتي نذكر فلافيوس يوسيفوس المؤرّخ الذي كان قريبًا من الحشمونيين بواسطة جدة جدّته. وُلد سنة 37 ب م، ونال ثقافة واسعة انتهت به لدى الفريسيين. حارب مع اليهود ضد رومة. حاصره الرومان في يوتفتة. وحين سقطت المدينة، عزم الوجهاء على قتل أنفسهم. وظلّ يوسيفوس ورفيق له على قيد الحياة، فاستسلما إلى الرومان وصار هو صديق الرومان. قد يكون مات حوالي سنة 100 ب م.
تآليفه: الحرب اليهوديّة، العادّيات اليهوديّة، السيرة الذاتية، مقال ضد أبيون. دوّن الحرب اليهوديّة أولاً في الآراميّة، ثم عاد فكتبها في اليونانيّة، وجاءت العاديات اليهوديّة في عشرين كتابًا فروت تاريخ الشعب اليهودي منذ الخلق حتى سنة 66 ب م. في السيرة الذاتية حاول أن يدافع عن موقفه. وفي مقاله "ضد أبيون" ردّ على انتقادات الوثنيّين ضدّ اليهود.
كتب الحرب اليهوديّة في أيام وسباسيانس، فبدا قريبًا من الرومان. ولكنه أحسّ بأنه مهدّد بالقتل. فقلّل من دوره في السيرة الذاتية. أما في العاديات اليهوديّة فتوخّى أن يعرّف المثقّفين اليونان بالتاريخ اليهوديّ. كما توخّى أن يعيد الأمل إلى شعبه المشتّت الذي يجب أن يعيش إيمانه بدون هيكل ولا ليتورجيا. فذكّرهم أن العالم اليهودي يغرز جذوره في تاريخ أقدم من تاريخ اليونان، وفي شريعة تامّة كاملة ترتبط بالله الواحد.

خاتمة
تلك هي الآداب المقدّسة لدى الشعب اليهوديّ عرضناها بسرعة في ثلاثة فصول. فهناك الكتاب المقدّس بعهده القديم (أو "التوراة"، بالمعنى الواسع) وفي اللائحة الفلسطينية التي اكتفت بكتب نقرأها في أصولها العبرية والآرامية. وهناك التلمود الذي سبقته المشناة والتوسفتا أي التعاليم والاضافات. تلمود هو في الواقع تلمودان. واحد دوّن في أرض فلسطين ولكنه سمّي خطأ تلمود أورشليم. تلمود موجز جذا وقد أراد كاتبوه أن يسرعوا في الانتهاء منه بسبب سوء الأحوال في فلسطين. والثاني تلمود بابل الذي جاء موسّعًا جدًا وفرض نفسه كالتلمود الرسميّ في كل العالم اليهوديّ. وهناك الترجوم والمدراش، وكتابات قمران، والكتابات التي ارتبطت باسماء مشهورة في العالم اليهوديّ مثل أخنوخ وأشعيا وابراهيم... فسمّيت الاسفار المنحولة أو المكتومة. وأنهينا هذه اللمحة السريعة بوجهين كبيرين، واحد في عالم التفسير اللاهوتيّ هو فيلون الاسكندراني. وآخر في عالم التاريخ هو فلافيوس يوسيفوس.
كل هذه الآداب ترجمت إلى اللغات الحديثة، وقد درسها اليهود، كما درسها المسيحيون، واستقى منها الشرق بشكل خاصّ في كتب التفاسير واللاهوت. وها هي تنشر اليوم في الغرب، فتساعد العلماء على فهم المحيط الحياتي الذي عاش فيه يسوع، وكتبَ الرسلُ الأناجيلَ وسائر أسفار العهد الجديد.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM