الفصل التاسع :من المشناة إلى التلمود

 

الفصل التاسع
من المشناة إلى التلمود

تحدّثنا في فصل سابق عن التقليد الخطّي الذي يرقى إلى موسى وداود وسليمان والأنبياء وسائر الكتّاب الملهمين. إنه كلمة الله المكتوبة التي يدرسها اليهوديّ ويتحرّاها ويقابل النصوص بالنصوص والآيات بالآيات، بل الحروف بالحروف. ولكن التيار الفريسي اعتبر أن هناك تقليدًا شفهيًا يتناقله المعلّمون جيلاً بعد جيل، وهو أيضًا كلام الله. هذا التقليد الشفهي بدأوا بتدوينه بعد زمن المسيح. بدأوا بالمشناة وانتهوا بالتلمود.
تعود المشناة (أو المشنى) إلى فعل "ش ن هـ" الذي يعني "ردّد، كرّر" وتأثر باللفظة الآرامية "تنى" (رج في العربيّة: ثنى، اثنين) فاتخذ معنى "درس". وطُبّق بشكل خاص على دراسة "الشريعة الشفهيّة"، ودلّ على أسلوب خاص يقوم على الذاكرة والاستعادة على ما في نظام الآباء (أبوت 8:3) "حين يسير واحد في الطريق ويستعيد ما تعلّمه يقطع المشنى". إن "م ش ن ه" تقابل "م ق ر ا" (قرا، قرأ) التي تعني الشريعة المكتوبة التي يجب قراءتها (نح 8: 8).
في شكل عام، تدلّ المشناة على الشريعة الشفهيّة في كل نواحيها، على المدراش (أو الدرس والتأمل)، على الهلكوت أو الأمور السلوكيّة، على الهاغادوت أي الأخبار الكتابيّة التقويّة. في النهاية، دلّت على السلوك الواجب اتباعه.
المشناة هي تعليم شفهي حول المبادئ القانونيّة وتطبيقاتها المختلفة بحيث تخرق عقول التلاميذ كما تخرق الماء الأرض. قد نكون أمام جزء تعليمي خاص بهذا المعلّم أو ذاك، أو أمام مجموعة من الشرائع اللامكتوبة، التي لا تُقرأ في كتاب، بل يسمعها التلميذ من فم معلّم ويكرّرها هو بدوره.
أما المشناة ككتاب فهي المجموعة الكاملة التي دوّنت في العبريّة، لشرائع انتقلت في الماضي انتقالاً شفهيًا، ثم دوّنها رابي يهودا هاناسي، وقد شكّلت نواة تلمود أورشليم وتلمود بابل.
نستطيع أن نعتبر المشناة نتيجة النشاط القانوني للمعلّمين اليهود خلال القرن الثاني ب م. فالظروف الجديدة فرضت شروحًا جديدة، وتفاصيل وإيضاحات، وتكيّفات وتطبيقات على شريعة موسى: الشريعة لا تتبدّل، ولكن طريقة عيشها تتبدّل، لهذا نعود إلى نصوص قديمة ونقرأها في إطار جديد فنتجدّد.
كان المشناة أولاً عمل "س ف ر د م" أي السفرة (سفر الكتاب أي كتبه) أو معلّمي الشريعة، وقد كوّنوا مجموعتين. المجموعة الأولى (الصادوقيون) يفسّرون الشريعة تفسيرًا واسعًا. والمجموعة الثانية (الفريسيون) يفسّرونها بأضيق طريقة، ويسعون إلى إلغاء خطر تجاوزها، فيُدخلون فرائض جديدة، وقد جعل الفريسيون لتفاسيرهم والفرائض التي أضافوا، قوّة تضاهي قوّة الشريعة المكتوبة، وسعوا لكي تنتقل تقاليد الآباء كلّها (غل 1: 14؛ رج مت 15: 2) من السلف إلى الخلف. ولما دمّرت أورشليم سنة 70 ب م، زالت المجموعة الصادوقيّة وسيطر الفريسيون على العالم اليهودي سيطرة لا ينازعهم فيها أحد.
عند ذاك حلّ محل علماء الشريعة (س ف ر ي م، يذكرهم الانجيل) "الردادين" (في الآرامية تنائيم، من ت ن ا، ردّد، كرّر) الذين كانوا يعلّمون في صفورية وطبرية (فلسطين)، فدونّت تعاليمهم في المشناة. ولقد أظهر النقد الأدبي، أنها عمل أربعة أجيال: النواة القديمة. رابي عقبية (الجيل الثاني 100-130 ب م). ورابي مئير ورابي يهودا (الجيل الثالث، 130- 160) وغيرهما، الذين زادوا مواد جديدة. وفي النهاية جاء رابي يهودا هاناسي (أي الأمير، وقد سمّي "رابي" فقط بدون زيادة، لأنه اعتُبر "المعلم"، 135-217 ب م) فأعطى المشناة شكلها الرسمي والنهائي، فصارت قاعدة حياة وفكر.
تألفت المشناة من ستة أقسام أو نظم (س د ر ي م، ترتيب)، وتوزّعت على ستين (في النصوص المطبوعة: 63) مقالاً، و523 (هناك من يجعلها 524 أو 525) فصلاً، و4187 مقطعًا. النظام الأول: "زرع ي م" (الزروع) ويعالج ثمار الحقل. فيه 12 مقالاً حول الزراعة والعشور... النظام الثاني: "م و ع د" أي الموعد والزمن المحدّد. نجد فيه 12 مقالاً حول السبت وأيام الأعياد خلال السنة. النظام الثالث: "ن ش ي م" أي النساء. وفيه سبعة مقالات حول الزواج والطلاق.... النظام الرابع: "ن ز ق ي م" أو الأضرار والاساءات. هي عشرة مقالات حول الحقّ المدني والجنائي. النظام الخامس: "ق د ش ي م" أي المقدسات، الأمور المقدسة. فيه 11 مقالاً عن الذبائح وشعائر العبادة. والنظام السادس والأخير: "ط هـ ر و ت" أي الطهارة في 12 مقالاً حول الطاهر والنجس.
وبعد المشناة "توسفتا" أي مجموعة تعاليم تنائية (دوّنها الردادون، تنائيم) تكمّل تعاليم المشناة. فالتوسفتا التي هي ستة أضعاف المشناة، تنقسم قسمات المشناة أي الزرع والموعد والنساء والأضرار والقدسيّات والطهارة. غير أن هناك برّانيات تزيد مواضيع على المشناة أو تحمل عناصر جديدة.
ما هو أصل توسفتا، ومن أين جاءت موادها؟ نسب التلمود (سنهدرين 61 أ) تدوين توسفتا إلى رابي نحميا، وأعلن أن المشناة هي عمل رابي مئير. إذا كان هذا القول صحيحًا، نجد تفسيرًا للنقاط المشتركة العديدة بين توسفتا والمشناة، لأن الرجلين كانا تلميذي رابي عقيبة. ولكن لا شيء يبرهن على أن رابي نحميا هو الذي دوّن "الاضافات". رأى أخصّائيون أننا أمام مجموعة انتقائية فيها الأمور المختلفة، بل المتعارضة في بعض المرّات. فالتوسفتا شأنها شأن المشناة، تورد مرارًا رأيين يتعارضان ولا تقدّم كلمة الفصل.
يبدو من البحث الحديث، أن التوسفتا كما نُقلت إلينا، لم يعرفها كتّاب تلمود بابل ولا كتّاب تلمود أورشليم، لأن التلمود يحاول أن يوضح مسائل سبق وأوضحتها توسفتا. ولكن من المرجّح أن كاتب أو كتّاب التوسفتا عاشوا في فلسطين، لأن الأسلوب والمضمون في الاضافات قريب جدًا من تلمود أورشليم.
أمّا "البرانيّات" التي نجدها في "الاضافات" فتقدّم في أكثر المرّات نصًا مشابهًا لنص المشناة. ولكن قد تكون اختلافات على مستوى التعبير، بل على مستوى المضمون. وقد تكون مادة في توسفتا غير موجودة في المشناة. أما التلمود فيعتبر بشكل عام أن المشناة هي الينبوع الأول لكل تفسير، وحين لا تتوافق برانيّة ما مع المشناة، يستند الشارح إلى سلطة المشناة. أما إذا كان هناك فجوة في المشناة، فيؤخذ عادة نص البرانيّات.
ونصل إلى التلمود الذي يعود إلى "ل م د" درس (رج التلميذ في العربيّة). هو يعود بنا إلى آراء وتعاليم تلقّاها التلاميذ من معلّميهم ليعرضوها ويفسّروها (س د ر تنائيم وأمورائيم: نظام الردّادين والقوّالين). التلمود هو تفاسير وجدالات القوّالين (أمورائيم) حول مشناة يهودا هاناسي. هناك "شاس" أي ستة أنظمة المشناة. وهناك "جمارة" أو "غمارة". تواصلت دراسة المشناة في فلسطين وفي بابل، فتكوّن تلمودان: تلمود أورشليم (تسمية خاطئة) وتلمود بابل.
هذه المجموعة هي أساس سلطة الشرائع والتقاليد اليهوديّة، التي تجمّعت على مدى 700 سنة، من 2000 سنة ق م حتى سنة 500 ب م. وهي تضمّ المشناة وجدالات الرابينيين في الغمارة. إن الشريعة الشفهيّة التي أعطيت لموسى على جبل سيناء كما يقول التقليد، قد جُعلت قوانين في المشناة، وكانت الغمارة نتيجة المناقشات في هذه القوانين. وهكذا نقسم الحقبة التلموديّة حقبتين: حقبة المشناة وحقبة الغمارة. وحين نقوم بهذه القسمة، فنحن لا نقف فقط على المستوى الأدبي. فالهلكة (أو السلوك) التي هي مجمل الشريعة اليهوديّة تتأسّس على تراتبيّة المراجع. مهما كان المرجع قديمًا كانت سلطته عظيمة. فالشرائع التي عبّرت عنها التوراة بوضوح، لها سلطة تسمو على سلطة المشناة. وتتفوّق سلطة المشناة على سلطة الغمارة. والشرائع التي أعطتها غمارة لها سلطة لا تمتلكها القرارات السلوكيّة اللاحقة. لهذا سمّي معلّمو المشناة تنائيم أي الذي يعلّمون. أما سلطة الغمارة فسمّيت "أمورائيم" أي الذين يشرحون.
تكرّست المشناة بشكل شبه حصريّ للهلكة، وهي لا تتضمّن إلاّ النتيجة الأخيرة لجدالات الرابينيّين. وغابت عنها براهين وجدالات طويلة حول النصوص البيبليّة. ولكن إذا كانت المشناة أعظم مجموعة لقرارات الرابينيين في القرن الثاني ب م، إلاّ أنها ليست الوحيدة. فقد احتفظت لنا الكتب بالاسلوب القديم لدراسة الشريعة الشفهيّة في أربعة أجزاء المدراش السلوكي. فالمدراش يدلّ على كل تفسير رابيني للنص البيبليّ. ومدراش هلكه يتضمّن تفاسير الرابينيين حول الشرائع البيبليّة. ولا ننسى "البرانيّات" التي جمعت في الاضافات، في توسفتا. غير أن توسفتا لا تتضمّن كل أعمال الردّادين التي غابت عن المشناة. فهناك برّانيّات عديدة حُفظت في القسم الثاني والأكبر من التلمود، الذي سمي "غمارة" أي ما نتعلّمه من التقليد. انطلق المعلّمون من نصّ المشناة ووسّعوه في صفحات عديدة. وهكذا كان لنا سنة 425 ب م أول نسخة للتلمود (المشناة + غمارة). سمّي أولاً تلمود المغارب لأن أرض فلسطين تقع غربي بابل، ثم سمّته الأجيال اللاحقة تلمود أورشليم.
هذا التلمود ليس نتاج أكادمية أورشليم الرابينيّة. بل الرابينيين في قيصرية البحرية وصفورية وطبرية. يشكّل تلمود أورشليم ثلث تلمود بابل في عدد الصفحات. وهو لا يحوي "غمارة" على كل المشناة (قدشيم أو الشرائع المتعلّقة بالذبائح والهيكل، طهوروت أو الشرائع حول الطاهر والنجس).
دُوّنت غمارة تلمود أورشليم في الشكل الجليلي للآرامية الغربية. ووُجدت ألفاظ عبرية، كما وُجدت ألفاظ لاتينيّة ويونانيّة مشوهة. والجدالات هي بشكل عام قصيرة وقاطعة. وثلث هذا التلمود لا يتعلّق بالسلوك، لأنه تأثّر بالمدراش الاخباري الذي اتّسع كثيرًا في فلسطين.
ساءت الحالة في البلاد فأجبر الرابينيون في فلسطين على السرعة في العمل. أما المعلّمون في بابل، فواصلوا أبحاثهم. نشير إلى دور كبير لعبه يوحنان بر نفخة خلال القرن الثالث في جميع هذه العناصر العديدة. أما التدوين فقد تمّ بعد موته. بما أن "ج ي و ن ي م" أو رؤساء الأكادميات منذ القرن السادس حتى القرن الحادي عشر، أعلنوا سلطة تلمود بابل، لهذا أهمل تلمود أورشليم الذي لم يذكره سوى سعدية غاوون. غير أن المعلّمين في أفريقيا الشمالية وجنوبي إيطاليا ظلّوا يدرسونه. نشير إلى أن النسخة الفرنسيّة ظهرت في ستة أجزاء في باريس بعناية م. شواب Schwab (1969) بعد أن كانت 11 جزءًا سنة 1871- 1879، و12 جزءًا سنة 1932. وهناك ترجمات انكليزيّة وألمانيّة...
أما تلمود بابل فهو يختلف كل الاختلاف عن تلمود أورشليم. دوّن نصف الغمارة في العبريّة، والنصف الآخر في الآراميّة. وتوسّعت الجدالات وطالت. كما أن الأمور السلوكيّة لم تأخذ سوى ثلث الكتاب. أما الثلثان الآخران فيتضمّنان المدارش الاخباريّة.
يعلن التقليد أن رابي عشي وربينا قد نشر تقليد بابل، ولكن رابي عشي قد يكون وضع الأسس، وتتابع العمل بعده أجيالاً عديدة. وانتهى حوالي 500 ب م. ولم يكتف اليهود بهذا التلمود واتّساعه ولاسيّما تلمود بابل الذي ظهر في 28 جزءًا. بل أخذوا يفسّرون التلمود. فقد فسّر راشي (1040- 1050)، في تروا من أعمال شمبانيا في فرنسا، تلمود بابل، فجاء تفسيره واضحًا، وزاد تفاصيل عديدة. وفسّر سيريلو حوالي سنة 1530 تلمود أورشليم، كما فسّره موسى مرغوليس (+ 1780 ليتوانيا).
كان تأثير التلمود كبيرًا جدًا، وهو الذي امتدّ انتقاله من الحقبة الشفهيّة إلى الحقبة الخطيّة قرونًا عديدة، ولاسيّما على الممارسة الدينيّة في العالم اليهوديّ على مرّ العصور. وقد كان لدراسة التلمود من الأهميّة بحيث إن وصيّة دراسة التوراة في تث 7:6 (وكرّرها على بنيك وكلّمهم بها إذا جلست في بيتك) و11: 19 (علموها بنيكم وتدارسوها إذا جلستم في بيوتكم)، فسّرت على أنها بشكل رئيسيّ وصيّة تدعو المواطن إلى دراسة التلمود. وحتى اليوم، ما زالت دراسة التلمود الاهتمام الرئيسي في الاكادميات الرابينيّة في العالم.
وتلمود بابل هو بشكل خاص أكثر من مجموعة شرائع وفرائض. فهو يتضمّن كنزًا غنيًا على مستوى الفكر والتاريخ والتأويل البيبلي والعادات اليهوديّة. لهذا طبع بطابعه العالمَ اليهوديّ والهويّة اليهوديّة. وشرائعه حوّلت اليهوديّة إلى نمط حياة يشمل كل وجهات الحياة اليوميّة.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM