الفصل الثامن: التوراة أو أسفار العهد القديم

 

الفصل الثامن
التوراة أو أسفار العهد القديم

كل دين ينطلق من وحي، من خبرة مع الله، من اتصال به. وهذا الوحي هو نور سماويّ يلامس أعماق الانسان، وقلبه وحواسه. فيملأه من حضور الله. غير أن هذا الوحي لا بدّ أن يتجسّد في كلام البشر إن بشكل شفهيّ وإن بشكل خطّي وإلاّ ظلَّ في قلب من تسلّمه. فيلجأ ذاك الشخص المميّز إلى وسائل التعبير الذي في متناوله، ويحمّلها المضمون الجديد أو المتجدّد الذي ملأ كيانه. ذاك هو الوضع في العالم اليهوديّ، الذي بدأ مع موسى، بل بدأ مع إبراهيم، وامتدّ إلى الأنبياء والكتّاب الملهمين والحكماء والأتقياء، فقدّم لنا عددًا من المجموعات المقدّسة، ما زالت حيّة حتى اليوم لدى اليهود في ممارستهم لإيمانهم وحياتهم اليوميّة. بل انتقل قسم كبير منه إلى الديانة الاسلاميّة والديانة المسيحيّة. بل استوحاه الشعراء والفنّانون المسيحيّون على مرّ العصور، فصار هذا الكلام المقدّس حرفًا نقرأه ورسمًا نتأمل فيه وصوتًا يتردّد في المسامع.
ونحن نعتبر المجموعات اليهوديّة ثلاثًا: التوراة بالمعنى الواسع أو أسفار العهد القديم. وهي التي كُتبت قبل مولد السيّد المسيح. التلمود وما سبقه من تدوينات بدأت بالمشناة وامتدت مع التوسفتا والغماره قبل أن تصل بنا إلى تلمود أورشليم وتلمود بابل. والمجموعة الثالثة هي التفاسير والتراجيم التي غذّت صلاة المجمع أجيالاً وأجيالاً وما زالت تغني قراءة الكتاب المقدّس لدى اليهود والمسيحيّين.
إذا عدنا إلى اللغة العربيّة، نجد المعنى الحصري والمعنى الواسع للفظة "توراة". هي أسفار موسى الخمسة. وقد سمّيت في اللغة البيبليّة العالميّة "بنتاتوكس" أو الأدراج (اللفائف) الخمسة، لأن الكتاب يلفّ على قضيب ولا يتوضّب في صفحات كتاب كما نعرف في خبرتنا. وبما أن لأسفار موسى الخمسة قيمة تفوق سائر الأسفار، حتى أسفار الأنبياء، بحيث توقّف عندها السامريون، سمّي العهد القديم كلّه "التوراة".
أما في العالم اليهودي، فالعهد القديم يتألّف من ثلاثة أقسام يُشار إليها بالحرف الأول من كل قسم: ت (توراة). ن (نبييم أو الأنبياء). ك (كتوبيم أو سائر الكتب). لهذا يسمّون الكتاب المقدّس "تنخ" (يلفظون الكاف خاء كما في عدد من اللغات الساميّة). أما القسم الأول فيضمّ البنتاتوكس أو أسفار موسى الخمسة، وقد نسبت كتابته خلال قرون عديدة إلى موسى. والقسم الثاني يضمّ ما يسمّى "الكتب التاريخيّة" (يش، قض، 1-2 صم، 1-2 مل) تحت عنوان الأنبياء الأولين أو الأنبياء السابقين. كما يضمّ نبوءات أشعيا وإرميا وحزقيال والأنبياء الاثني عشر مثل هوشع وعاموس وغيرهما. وما نجده في "كتوبيم" أو سائر الكتب، هو كل ما لم يدخل في القسم الأول والقسم الثاني. من صلوت المزامير، إلى حكمة أيوب والجامعة، إلى أسفار الأخبار وعزرا ونحميا. وقد تمّ هذا التمييز في نهاية القرن الثالث أو بداية القرن الثاني ق. م. وبما أن سفر دانيال الذي جعلته السبعينية اليونانيّة بين الأنبياء، قد دوّن في منتصف القرن الثاني ق. م. أو قبل ذلك الوقت بقليل، فهو لم يدخل مع الأنبياء، بل جُعل مع الكتب الباقية التي نجدها في القسم الثالث.
ونشير قبل الحديث عن أسفار "تنخ"، عن أسفار التوراة والأنبياء والكتب، أنه كان هناك قانونان (القانون هو قصبة القياس، المعيار للدلالة على أن هذا السفر كتاب مقدّس) أو لائحتان للأسفار المقدّسة: لائحة فلسطين التي تضمّ 39 كتابًا أو سفرًا. وقد وصلت إلينا في اللغة العبريّة، ومقاطع قصيرة جدًا في الأرامية، مثل فصول من سفر دانيال. ثم لائحة الاسكندريّة التي زادت سبعة كتب على لائحة فلسطين، ووصلت إلينا في اللغة اليونانيّة مترجمة عن العبرية أو الأرامية، أو مدوّنة مباشرة في اليونانيّة مثل سفر الحكمة. أما السبب الذي لأجله رفض العالم اليهوديّ لائحة الأسفار المقدّسة كما كانت في الاسكندريّة، فلأن المسيحيّة الفتيّة أخذت بها بعد أن وجدت فيها الكثير ممّا يدلّ على مجيء المسيح وحياته. يكفي لذلك أن نذكر أش 7: 14 حيث الصبية المتزوجة في العبرية (ع ل م ه. مؤنث غلام في العربية) صارت "العذراء والبتول" (برتانوس في اليونانية). وهكذا انطبق النصّ الكتابي على مريم العذراء، وأم يسوع المسيح. لهذا السبب، طلبوا ترجمة يونانيّة جديدة تصحّح "أخطاء" الترجمة السبعينيّة التي سمّيت كذلك لأن التقليد يقول إن مترجميها سبعون (أو اثنان وسبعون)، بنسبة ستة مترجمين من كل قبيلة من قبائل إسرائيل الاثنتي عشرة. بدأت ترجمةُ السبعينيّة في منتصف القرن الثالث ق م. أما الترجمات اليهوديّة اللاحقة فجاءت في القرن الأول المسيحي وما بعد (أكيلا، سيماك).
ماذا عن "توره" أو أسفار موسى الخمسة؟ هي في الأصل كتاب واحد، وقد قُسم إلى خمسة من أجل القراءة الليتورجيّة. يبدأ بنشيد خلق العالم وينتهي بموت موسى. أما المواضيع الروحيّة الرئيسيّة فيه، فهي بركة الله (تك 12: 1- 3)، ومخافة الله (تك 20: 22)، وعهد الله ولاسيّما في سفر التثنية، وقول الله الذي تردّد عشر مرات في تك 1 فأتمّ عمل الخلق، كما سيتكوّن شعب الله في وصايا عشر يحفظها ويعمل بها.
هناك طبقات في تدوين هذه الأسفار الخمسة التي اسمها التكوين والخروج واللاويين والعدد وتثنية الاشترع. أما عند اليهود فقد سمّيت بأولى كلمات كل سفر. الأول: في البدء. الثاني: أسماء. الثالث: ودعا (الرب موسى). الرابع: في بريّة (سيناء). الخامس: الكلمات (التي كلّم بها موسى جميع إسرائيل). يعني أنها لم تُدوَّن دفعة واحدة. بل هي انطلقت من تقاليد عديدة حاول موسى أن يجمعها ويُطلق ما سمِّي الديانة الموسويّة. وما بدأه موسى في القرن الثالث عشر ق م قد أتّمه الكاهن عزرا في القرن الرابع ق. م.
إنطلق "اللاويون" (أو الكهنة) من نواة أولى وأخذوا يتوسّعون فيها، ولاسيّما في مناسبة الأعياد حيث يجتمع المؤمنون بالآلاف. بل أخذوا أمورًا عديدة من الشعوب المجاورة، وقد اختلفت "الاخبار والأقوال" بين منطقة وأخرى، بين معبد وآخر. فالحكماء في أرض يهوذا بدأوا منذ داود وسليمان يجمعون التقاليد التي تسند ملكيّة داود وسليمان، وتدلّ على أن بركة ابراهيم قد وصلت إلى داود عبر قبيلة يهوذا، وستمتدّ في نسله. اسم الرب عندهم: يهوه أي الإله الذي هو. واللاويون المتأثّرون بالأنبياء توسّعوا بشكل خاص في موضوع مخافة الله والعيش بحسب وصاياه. كانوا في شمالي البلاد فأبرزوا قبيلة رأوبين. ولم يتعلّقوا بسلالة خاصة (سلالة داود في يهوذا)، بل حافظوا على المبدأ الديمقراطيّ الذي يتمثّل في القبائل. أما إلههم فقريب من إله الكنعانيّين. هو إلوهيم أي جمع إيل. وأعاد اللاويون قراءة التقاليد فقدّموا لنا "شريعة ثانية" (تث 18:17) توجّهت بشكل خاص إلى الملك. وفعل مثلهم الكهنة. فعادوا إلى الوثائق المحفوظة في المعابد، وقدّموا الأسفار الخمسة في صيغتها النهائية إبّان الحكم الفارسي. وهكذا كان لليهود شريعة وقوانين كما لسائر الشعوب في المملكة الفارسيّة.
حدّثنا سفر التكوين (في البدء لدى الشعب اليهودي) عن خلق الكون والانسان، عن بداية تكوين الشعب العبراني مع ابراهيم واسحاق ويعقوب والقبائل الاثنتي عشرة. في الأصل، يشكّل كل اسم من هذه الأسماء إسم قبيلة. اتّحدت القبائل اتحادًا دينيًا قبل أن تتحد إتحادًا سياسيًا حول شخص داود وسليمان. وفي النهاية اعتبر الكاتب أن رؤساء هذه القبائل هم أقارب: ابراهيم هو أبو اسحاق، ويعقوب هو أبو يوسف وبنيامين وسائر "اخوتهما". ونقلنا سفر الخروج إلى مصر (أسماء بني إسرائيل) بعد أن كانت وجهتنا في سفر التكوين بلاد الرافدين. أما هذا السفر الثاني فيروي لنا خروج الشعب من مصر، من أرض العبوديّة إلى سيناء موضع العبادة لله. أما سفر اللاويين أو سفر الأحبار، فهو يورد قوانين تتعلّق بشعائر العبادة، بالذبائح، بالكهنة، بالمحرّمات. وأعاد سفر العدد الذي سمّي كذلك بسبب الاحصاءات التي فيه، قراءة أخبار الخروج في البرية واستعدّ للدخول إلى الأرض المقدّسة. أما سفر التثنية فهو قراءة مسيرة الشعب مع موسى على ضوء الوضع الجديد الذي يعيشه العبرانيون. تركوا حياة البداوة وأخذوا بحياة الحضارة، فلا بدّ من أن تتكيّف الشرائع القديمة مع ظروف الحياة في أرض كنعان.
نقول هنا ما سبق وقلناه في مقالة سابقة: إن جميع القبائل لم تذهب إلى مصر، بل بعضها ولاسيّما قبيلة موسى (لاوي) ويشوع بن نون (إفرائيم). كما نشدّد على تمازج التقاليد بحيث نجد التكرار بين كتاب وكتاب، بل داخل الخبر نفسه كما في خبر الطوفان (تك 6-9). وأخيرًا، كان لخبرة المنفى (587- 538) تأثير كبير جعلت الكتّاب يعيدون النظر في ما كتبوا ويربطون كلّ شيء بالله تاركين جانبًا العوامل البشريّة والتاريخيّة.
أما أسفار "نبييم" فتضمّ أولى الأسفار التاريخيّة التي سمّيت التاريخ الاشتراعي لأنها دوّنت على ضوء سفر تثنية الاشتراع الذي يربط عطية الأرض بالأمانة لوصايا الله. كما يشدّد على وحدة المعبد لئلا تظهر انحرافات على مستوى العبادة في أماكن مشتّتة في عرض البلاد وطولها. ونبدأ بسفر يشوع الذي يروي لنا بشكل ملحميّ احتلال الأرض المقدّسة في سرعة مذهلة. سيُفهمنا سفر القضاة الذي يأتي بعده، كم عانى العبرانيون لكي يجدوا لهم مكانًا في هذه الأرض الفقيرة. هم لا يستطيعون أن ينزلوا إلى السهول ولا أن يقيموا في المدن. فظلّوا على التلال القاحلة أو على حدود الأرض المزروعة. ويتحدّث سفر يشوع عن قسمة الأرض. ومتى كانت الأرض كلّها للعبرانيّين؟ فهم يعيشون وسط شعوب مختلفة. ثم حين نعلم أن هذا السفر دوّن في شكله النهائي بعد المنفى، نفهم أننا لم نعد أمام المعنى السياسيّ والحربي، بل أمام المعنى الروحي: الأرض هي أرض الله والعبرانيون هم ضيوف عنده.
ويحدّثنا كتاب صموئيل عن تنظيم الملكيّة لدى القبائل الاسرائيليّة على مثال ما في الشعوب المجاورة. هنا نكتشف أولاً شخصيّة صموئيل الذي اختبر حضور الرب في رؤيا، يوم كانت الرؤى نادرة، الذي سمع كلام الله ولم يدع كلمة واحدة تسقط على الأرض. ثم نكتشف شخصيّة شاول أول ملك في "إسرائيل". أعطي المواهب العديدة، ولكنه فضّل أن يسمع صوت الجيش لا صوت الله. فرذله الله. هكذا فسّر الكاتب الملهم نهاية سلالة شاول. أما داود الذي جاء بعده، فكان بحسب قلب الله. لا شكّ في أنه خطئ، ولكنه عرف أن يتوب. ويروي كتاب صموئيل بسفريه حرب العصابات بين شاول وداود. ولم يَسُد السلام إلاّ بعد موت شاول في حرب مع الفلسطيين.
ويبدأ كتاب الملوك مع سليمان العظيم الحكيم الذي ينتهي حكمه في الثورات الاجتماعيّة بعد أن أثقل كاهل الشعب بالضرائب وأعمال السخرة. بعد موته انقسمت القبائل بين شمال بعشر قبائل وجنوب بقبيلتين. ونشهد سقوط السامرة سنة 722- 721 ثم سقوط أورشليم سنة 587-586. لا شك في أن هناك ظروفًا إقليميّة وسياسيّة، ولكن الكاتب يتوقّف فقط عند الناحية الدينيّة: "كان إسرائيل قد خطئ إلى الرب إلهه الذي أخرجه من أرض مصر" (2 مل 17: 7 ي). ولكن بقي بصيص أمل في النهاية: أفرج البابليّون عن ملك اليهود، وأعادوا إليه بعض الاعتبار. مثل هذا الأمر قد يبشّر بعودة المنفيين المهجّرين إلى بلدهم. وهذا ما سوف يتمّ في أيام الفرس سنة 538.
وأسفار الأنبياء اللاحقين هي سفر أشعيا الذي شدّد على قداسة الله، كما قدّم لنا لوحة تاريخيّة أسقط عليها كلام الله، تمتدّ من سنة 740 ق م حتى القرن الخامس والعودة من المنفى. وعاش إرميا أحلك ظروف شعبه: رأى المدينة تُدمّر، والهيكل يحرق، والملكُ يؤسر والشعبُ يهجّر، فصرخ من الوجع: أحشائي أحشائي (19:4). وكان حزقيال نبيًا في المنفى. حكم في البدء على الشعب الخائن لربّه. ولكنه لما علم بدمار أورشليم وضياع كلّ شيء، بدأ يشجّع المنفيّين ويصوّر لهم الأرض الجديدة التي يهيّئها الله لشعبه مع هيكل يقيم فيه.
وحدّثنا عاموس عن عدالة الله، وهوشع عن حبّ الله لشعبه كحبّ العريس لعروسه. وتساءل حبقوق عن معنى الشرّ الذي يصيب العالم... وهكذا امتدت نبوءاتهم حتى زمن الاسكندر الكبير وما بعد.
والقسم الثالث من العهد القديمُ سُمّي "كتوبيم" فضمَّ سفر المزامير الذي هو كتاب الصلاة، وسفر الجامعة وبطلان مشاريع الانسان التي لا تنعشها مخافة الله، ونشيد الأناشيد أي نشيد حب الله لشعبه ولكل مؤمن من مؤمنيه، وسفر الأخبار اللذان أعادا قراءة كل تاريخ الشعب العبراني منذ البدايات حتى القرن الثالث ق م، من وجهة التقليد الكهنوتي.
لن نتحدّث عن الأسفار القانونيّة الثانية التي لم تحوها التوراة العبريّة، لأن العالم اليهودي، شأنه شأن العالم البروتستانتي، يعتبرها أسفارًا منحولة. ولكننا نقول إنه بعد دمار الهيكل وغياب الكهنة، صار الكتاب المقدّس هو الوسيط بين الله والبشر. وقد كلّم الله شعبه بلغة عبريّة صارت لغة مقدّسة حتى بألفاظها وحروفها، ففتحت الطريق أمام العربية. فاليهودي المؤمن لا يقرأ كتابه إلاّ في اللغة العبريّة ولا يعود إلاّ نادرًا إلى الترجمات الحديثة. أما المسيحيّة فلم تقدّس لغة من اللغات، بل حاولت أن توصل كلام الله إلى جميع البشر في كل لغات العالم.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM