الفصل الثلاثون: تلمذوا جميع الأمم

 

الفصل الثلاثون

تلمذوا جميع الأمم
28: 16-20

نرى في هذا المقطع الانجيليّ ثلاثة مواضيع تبدو بارزة على مرّ السرد المتّاويّ. سلطة (اكسوسيا) المسيح يسوع في السماء، وعلى الأرض. كنيسة متّى التي يمثّلها التلاميذ. نظرة اخلاقيّة وارساليّة واسكاتولوجيّة، نكتشفها في تعليمات القائم من الموت إلى تلاميذه، وهي تعليمات موجزة وعمليّة تشبه توصيات يسوع كما أوردها متّى في كل انجيله. هذا ما يجب أن لا ننساه حين نقرأ هذه المقطوعة، وإن كانت بعض الأمور، ولا سيّما آ 19، قد دُوّنت بشكل نهائيّ في زمن متأخّر.
ماذا نجد في هذه الآيات الخمس؟ أولاً: ثلاثة عناصر: خبر ظهور يسبق تحديد غامض للمكان. تعليمات القائم من الموت إلى الأحد عشر. وعد المسيح إلى الأحد عشر. ثانيًا: لن نتساءل عن ((تاريخيّة)) أقوال المسيح القائم من الموت. بل نحاول أن نفهمها في الإطار المتّاويّ. ثالثًا: هناك العبارة الثالوثيّة في المعموديّة التي نجدها في وثائق قديمة مثل الديداكيه أو تعليم الرسل. رابعًا: هنا نظرة شاملة إلى الرسالة، كما أن هناك ارتباطًا بين الرسالة والمعموديّة. خامسًا: لا يلمّح هذا النصّ إلى إقامة يسوع على الأرض 40 يومًا بعد قيامته، وظهوراته المتكرّرة على التلاميذ (أع 1: 13)، كما لا يلمّح إلى الصعود (لو 24: 50-53؛ أع 1: 9-11). فمتّى لا يقول شيئًا عن الزمن الذي مرّ بين القيامة وهذا اللقاء في الجليل. ولكنه يفهمنا أن الذي يوجّه كلامه الآن إلى التلاميذ قد نال سلطانًا في السماء وعلى الأرض.

1 - كلام يسوع في الجماعة
يتضمّن انجيل لوقا أمرًا به يرسل يسوعُ تلاميذه (لو 24: 47-48). وكذلك مرقس في نهايته الطويلة (16: 15). فالامكانيّة التاريخيّة التي تقول بأن يسوع ظهر في نهاية حياته على تلاميذه كالرب القائم من الموت وكلّفهم بحمل رسالة الانجيل إلى العالم كله، أمرٌ لا شكّ فيه. بل هو معقول جدًا، مع أن النصوص الانجيليّة لا تتوافق في التفاصيل. ولنفترض أن نصًا واحدًا من الأناجيل الازائيّة لم يصلنا، فمع ذلك لا نستطيع أن نفهم الممارسة الرسوليّة في أقدم أيام الكنيسة بشكل مقبول لو لم يُعط لها مثل هذا الأمر من الرب: إذهبوا، تلمذوا، عمّدوا، علّموا.
أما في نصّ مت، فالمسائل المتعلّقة بقول أصلي من يسوع مع نشاط ((الجماعة))، هي متشعِّبة جدًا. وهذا يرتبط بالعبارات الاكليزيولوجيّة، مثل الأمر ((بالتعميد)) الذي يرتبط بالأمر بالرسالة، والعبارة الثالوثيّة لهذا الطقس العماديّ التي قد تعود إلى زمن متأخّر. فسائر أسفار العهد الجديد لا تعرف إلاّ المعموديّة ((باسم يسوع)). لهذا، سعى بعض الشرّاح إلى إعادة مضمون النصّ أو جوهره إلى يسوع. واعتبر آخرون أن النصّ كله هو من استنباط الجماعة. ماذا نختار؟ نسرع فنقول إن الأساس يعود إلى يسوع. أما التعبير، فيعود إلى الكنيسة التي استلهمت حياة يسوع وأعماله وتعاليمه، وعبّرت عن كل هذا بطريقتها على نور الروح القدس. هناك من يقول: لا نستطيع أن نجد في نشاط يسوع التاريخيّ تبريرًا لممارسة المعموديّة في الجماعة الأولى. ويلاحظ انقطاعًا في التواصل التاريخيّ. والجواب: لا شكّ في أن الرسل تيّقنوا من أن العماد الذي مارسوه، قد أمر به يسوع نفسه. وهذا ما يُسند عملهم.
إذا أردنا أن نحدّد نظرتنا، نبدأ ببعض ملاحظات حول هذه الطريقة بطرح السؤال: فالمسألة التي في خلفيّة هذا الموضوع، ليست في النهاية مسألة تفسير نصّ كتابيّ وحسب، بل تأويل النصّ على ضوء حياة الكنيسة. فنحن نجد وراء النظرتين رؤية محدّدة للكنيسة الرسوليّة. فالأولى تفصل ((يسوع التاريخيّ)) (كما عاش في التاريخ، خلال حياته العلنيّة على الأرض) عن حياة الكنيسة، وتجعل بين الاثنين هوّة عميقة هي((هوّة الفصح)) (موت وقيامة يسوع). هي تنطلق من طريقتين مختلفتين في النظر إلى ((يسوع التاريخ)) و((يسوع الايمان)) (هما ممكنان وضروريّان من أجل التمييز)، فتخلق وضعين تاريخيّين مختلفين تفصل الواحد عن الآخر هوّة سحيقة. إذن، يجب أن ننظر إلى آ 18-20 وكأنها وثيقة تتعلّق بتنظيم الكنيسة وبيقين الايمان. والنظرة الثانية ترى أننا لا نستطيع أن نحافظ على التواصل بين المسيح والكنيسة إلاّ إذا عدنا إلى أمر واضح من المسيح، الأمر بالرسالة والتوصية بالعماد. تنطلق الأولى من فكر مسبق يشدّد على ((الكارغما)) أو الاعلان الأول للكلمة، ويحارب النظرة الثانية. أما النظرة الثانية نظرة ((التاريخيّ)) فتحاول أن تدافع عن يسوع والكنيسة.
إن هذه الطريقة في طرح المسألة بمجملها، طريقة ضيّقة جدًا. ولقد اتّضح للشرّاح أن الفصل الدقيق بين الوجهة ((التاريخيّة)) (يسوع كما هو في التاريخ، في حياته على الأرض) والوجهة ((الكارغمية)) (يسوع كما هو في كرازة الكنيسة أي بعد موته وقيامته)، صعب جدًا، بل مستحيل. فمادّة الأناجيل، في أقسامها وفي تأليفها، ترتبط كلها بالاهتمام الكرازي لدى الانجيليين، وهو اهتمام يعكس النشاط الكرازيّ في الكنيسة الرسوليّة الأولى. ونحن نستطيع أن نعالج بدون أفكار مسبقة المسائل التاريخيّة والتفسيريّة واللاهوتيّة في 28: 16-20 حين نحاول أن نرى يسوع والكنيسة معًا (لا نفصلهما). حين نحكم على كل شيء انطلاقًا من الكنيسة وإيمانها. حين لا نفصل ((يسوع التاريخ)) عن ((يسوع الايمان)) لا في التاريخ ولا في الأحداث. قد يكون من الضروريّ أن نطرح حتى في داخل الأناجيل أسئلة حول الأصل التاريخيّ لهذه القطعة أو تلك. ولكن من الضروريّ أيضًا أن نفهم أننا لا نصل هنا إلاّ إلى فهم النصوص والأحداث التي نشهدها. فالفهم في حدّ ذاته يتعدّى هذه النظرة الحرفيّة ويرتبط بخيار يبحث عن المعنى بالنظر إلى الكنيسة (هذا ما نسميه: الهرمانيا).
وبدلاً من أن نطرح واحدًا من الخيارين التاليين: ((تقليد حقيقيّ (تاريخيّ) حول يسوع))، أو ((استنباط كرازي تقوم به الجماعة))، نطرح نظرة جديدة: ((التقليد الرسوليّ الشرعيّ أو تقليد غير شرعيّ)). هذا التعارض يتضمّن قرارًا هرمانيًا (تفسير داخل الكنيسة)، يجب أن نأخذه. بعد ذلك، يحقّ لنا أن نبرهن، ولو من الخارج، على ((شرعيّة)) تقليد من التقاليد بواسطة أساليب تفسيريّة محدّدة، وأن نقابل هذه الأساليب بمجمل كرازة العهد الجديد، وهكذا نحدّد حتّى من الوجهة التاريخيّة امكانيّة هذه الأساليب وقيمتها.
هذه الاعتبارات الأولى حول الاسلوب، تتيح لنا أن نصل فيما يخصّ هذا النصّ إلى النتائج التالية. (1)لا نعتبر نواة تقليد تاريخيّ إلاّ أمر الربّ القائم من الموت الذي به أرسل تلاميذه. هذا الواقع ينبع من النصوص الازائيّة الموازية، ومن اتجاه رسالة يسوع التي هي في مبدأها شاملة. (2) لا نستطيع بواسطة النقد الأدبيّ أن نعيد نصّ متّى إلى أحد من هذه الأوامر التي نجدها في الأناجيل الموازية. فنقاط الاتصال الادبي الضعيفة لا تسمح لنا بذلك. (3) يجب أن نعيد هذه الآيات (آ 16-20) في شكلها الخاص إلى الانجيل الأول (مثلاً، العبارة الثالوثيّة. هكذا كانوا يعمِّدون في جماعة متّى). فهي تتوافق مع ألفاظ خاصة به، وعالم من الافكار نعرفه عنه. ثمّ إن هذه الآيات تحتلّ مكانة هامّة في الانجيل الأول فتعطيه معناه الأخير. حين قرأنا بداية مرقس (1: 1) وجدنا تصميم إنجيله. وقد يعطينا متّى، شأنه شأن يوحنا (20: 30)، تصميم انجيله وهدفه، في هذه الخاتمة التي بها ((أرسل)) يسوع تلاميذه إلى العالم كله.

2 - إطار الخبر (28: 16-17)
ونبدأ شرحَ هذه الآيات بالتوقّف عند إطار الخبر (آ 16-17) قبل أن نصل إلى تصميم آ 18-20 ومضمونها. ونُنهي كلامنا باكتشاف المعنى الاكليزيولوجي الذي نشهده عند متّى في نهاية انجيله.
إن المشهد الأخير في انجيل متّى هو أكثر من خبر فصحيّ وأقلّ من خبر فصحيّ. نفهم بهذا الكلام أن هذه القطعة لا تشبه الأخبار المفصّلة التي نجدها في الأناجيل حول الفصح. فهي موجزة جدًا. والمشهد مرسوم رسمة سريعة لا تحمل شيئًا من الألوان. غير أن هذه القطعة هي أيضًا أكثر من خبر فصحيّ، لأن بُعد كلمات القائم من الموت (آ 18-20) تتجاوز تجاوزًا بعيدًا ما تتضمّنه سائرُ الأخبار الفصحيّة.
ذهب التلاميذ إلى الجليل. تعود بنا هذه الإشارة إلى أمر الملاك (28: 7: إنه يسبقكم إلى الجليل) وإلى أمر يسوع نفسه للنسوة: ((إمضين وقلن لإخوتي ليذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني)) (آ 10). هذا الواقع يدلّ على الرباط الوثيق بين النصّ الذي ندرس وخبر ((القبر الخالي)) (28: 1-15). توسّع متّى في هذا الخبر فتذكّر لقاء يسوع بالنسوة عند القبر (28: 9-10)، وهكذا أعطى قوّة للشهادة المرتبطة بالقبر الخالي. ففي صباح أحد الفصح، كانت الشهادة للقائم من الموت وللقيامة تامّة كاملة. فما احتاج متّى بعد ذلك إلى أن يعود إلى ما هو أساس أخبار الظهورات في الأناجيل. وهذا ما نجده في 1كور 15: 3-7: التقليد الرسوليّ الثابت الذي به حرّكت ظهورات القائم من الموت إيمان التلاميذ بعد الفصح. فعند متّى، نجد الشهادة عن الفصح والايمان الفصحيّ في 28: 2-10. لهذا يتّخذ المشهد الأخير في 28: 16-20 وظيفة أخرى غير وظائف أخبار الظهورات المعروفة. فالنصّ ينقلنا إلى ((زمن الكنيسة)): إن المسيح الذي نال كل سلطان على العالم كله، يرسل تلاميذه مع تعليمات محدّدة، ويعدهم بعونه حتى نهاية الأزمنة.
يحدّثنا النصّ عن ((الأحد عشر)) تلميذًا،لأن يهوذا قد مضى. وهو يجهل كل الجهل أع 1: 15-26. والعبارة التي كرّسها التقليد (((الاثنا عشر)))، امّحت هنا كما أمّحت في مواضع أخرى عند متى (ترد مرارًا عند مرقس) وراء تسمية أوسع وأكثر انفتاحًا، هي تسمية ((التلاميذ)). وهذا ما لا يدهشنا. لأن متّى لا يقول أيضًا ((رسل)) كما كنا ننتظر منه أن يقول بعد خمسين سنة على موت المسيح وقيامته. وفي 28: 7 تكلّم الملاك عن ((تلاميذه))، تلاميذ يسوع. وفي 28: 10 تحدّث يسوع عن ((إخوتي))، عن إخوته الرسل لكي يسبقوه إلى الجليل. إذن، نظر النصّ إلى الأحد عشر بحسب نظرة رسميّة عن صفتهم كرسل، بل بحسب مفهوم نموذجي لوضعهم كتلاميذ. أي بحسب علاقتهم الشخصيّة مع يسوع. هذا ما يتجاوب مع مفهوم((التلميذ)) عند يسوع وفي 28: 19-20.
وما يدلّ أفضل دلالة على أن الاطار التاريخيّ لم يُذكر بدقّة، هو الإشارة إلى الجبل الذي عليه تواعد يسوع مع تلاميذه. ليس الجبل مكانًا نحدّده جغرافيًا. إنه الموضع النموذجيّ للوحي. وما نقوله عن العهد القديم نقوله أيضًا عن مت. فموضع التعليم العظيم هو الجبل في 5: 1. وهذا ما أعطى هذه الخطبة اسم ((العظة على الجبل)). ويبرز الجبل أيضًا في 15: 29، الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما في 5: 1 حتى في المبنى (صعد إلى الجبل وجلس هناك. قبل تكثير الأرغفة السبعة). فكما في 5: 1-2، كذلك في 15: 29-31، صُوّرالمشهد بطريقة تُبرز أهميّة ما يلي. من جهة، عظة الجبل. ومن جهة ثانية تكثير الأرغفة (15: 32-39). من جهة، وحي يلقيه بالكلمة معلّم اسرائيل. ومن جهة ثانية وحي المخلّص الذي يطعم شعبه كما فعل موسى في البريّة. وفي 28: 16 ظهر ((الجبل)) للمرّة الثالثة ليشدّد أيضًا على كلمة الوحي. قال متّى: ((إلى الجبل حيث دعاهم يسوع)). هم بالنسبة إليه كما التلميذ تجاه المعلّم، كما الذي يطيع تجاه الذي يأمر. نجد الصور عينها في 28: 7، 10 وفي 28: 19-20.
أن يكون التلاميذ ((رأوا)) يسوع، هذا ما قاله متّى بشكل خفر عبر اسم فاعل خاضع لفعل رئيسيّ هو ((سجدوا له)) (وهم راؤوه سجدوا). لا تُذكر ((رؤية يسوع)) إلاّ بإيجاز، عكس ما نجد في سائر أخبار الظهورات. فلم يعد لها قيمة كبرى بالنظر إلى الايمان الفصحيّ. أما الأمر المهمّ بالنسبة إلى متّى فهو أنهم ((سجدوا)) (بروساكينيسان). استعمل الانجيليّ الفعل في معناه القويّ، في مضمونه اللاهوتيّ المحدّد. لا يستعمل فعل ((سجد)) إلاّ لدى أناس عرفوا كرامة يسوع ودلّوا على معرفتهم هذه بفعل السجود. هذا ما فعل المجوس في خبر الطفولة (2: 2، 8-11). والأبرص (8: 2).والتلاميذ في السفينة (14: 33). هذا ما فعلته الكنعانيّة (15: 25) حين طلبت الشفاء لابنتها: ((أتت وسجدت له)). حين لا يريد متّى أن يتحدّث عن هذا العمل الديني من الاكرام المحفوظ لله، فهو يستعمل أفعالاً أخرى. وارتدى إكرامُ التلاميذ طابع العبادة الدينيّة، طابعًا ليتورجيًا.فعبّر مسبقًا عمّا ستقوله آ 18 ب حول سلطان يسوع.
ندهش حين نرى ارتياب الشرّاح وشكّهم في هذا النصّ، رغم الكثافة اللاهوتيّة التي تميّزه. فالحاشية قد تفسَّر بطرق مختلفة: ((أما هم فارتابوا)). وهذا يعني أنهم كلهم ارتابوا. أو: ((ولكن بعضهم ارتابوا)). وهذا لا ينطبق إلاّ على مجموعة منهم. إن الترجمة الثانية أكثر معقوليّة حين نعرف الموضوع، لأن موضوع الارتياب يجب أن يُفهم بشكل نمطيّ (تيبولوجيّ) ولاهوتيّ، شأنه شأن سائر المعطيات في آ 16-17. هذا الارتياب يظهر أيضًا في أخبار ظهور أخرى. وكل مرّة يتجاوزه التلاميذ بشكل مختلف: في لو 24: 14-15 طلب القائم من الموت شيئًا يؤكل. في مر 6: 14ي، ظهر يسوع مرّة أخرى للتلاميذ ((ولامهم على عدم إيمانهم)). وفي يو 20: 24-29، أراد توما أن يلمس جراحات يسوع. أما هنا فلا نجد شيئًا من هذا. لهذا نعتبر أن الشرّاح الذين ربطوا موضوع الارتياب بحقبة لاحقة، كانوا على حقّ. فقد بدأت الجماعة آنذاك تطلب عبر ((رؤية يسوع)) يقينًا جديدًا حول القائم من الموت، بعد أن صارت الرؤية تقليدًا وحدثًا من الماضي. إذن، لم يكن الارتياب ارتياب بعض التلاميذ في حدث مضى، بل ارتياب الجماعة التي أقتنعت بكلمة القائم من الموت. والترتيب النموذجي لكل هذا الإطار يظهر أيضًا في هذه الحاشية القصيرة: ((بعضهم ارتابوا)).
وما يجعل هذا التفسير معقولاً، يبرز في آ 18أ (فدنا يسوع وكلّمهم) التي تبدأ خطبة يسوع. نحن أمام كلمة. والتلاميذ يسمعون ولا يرون (يو 20: 29). لقد كشف يسوع عن نفسه في كلمته كذلك الذي أعطيَ كل سلطان والذي يتكلّم بملء السلطان. إنه من هذا القبيل حاضر في زمن العالم، في الكنيسة، حتى نهاية الأزمنة. ومهابة اللقاء على الجبل يدلّ عليها هنا قولٌ يعلن أنه ((جاء إليهم)). أتى. دنا. جاء من البعيد نحو الذين هم تلاميذه، الذين يطيعونه، الذين يسجدون له باحترام. وهو وحده يستطيع أن يتجاوز المسافة التي تفصلهم عنه. لهذا جاء إليهم.

3 - تحريض ووعد (28: 18-20)
ينقسم هذا المقطع ثلاثة أقسام تبدو كما يلي: كلمة وحي، تعليم، وعد.

أ - كلمة وحي (آ 18ب)
هذا الوحي الذي وُضع في البداية يُسند القسمين اللاحقين: التعليم والوعد. ((لقد دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض)). إن هذا القول يحمل بُعدًا هامًا جدًا. فالسلطان (اكسوسيا) هو الذي أعطاه الله للرب بالنظر إلى قيامته. فبحسب الكرازة الرسولية الاولى، أقيم يسوع كربّ (كيريوس) الكون وكديّان نهاية الأزمنة. وهذا السلطان السامي لا حدود له (باسا، كل) في ذاته، في ملئه، في قوّته. في المكان يشرف على الكون كله (السماء والأرض) على مثال الله الذي عُرف في العهد القديم كربّ السماء والأرض، أي كخالق الكون كله وحافظه في الوجود.
وبما أن يسوع قد جُعل ربًا بهذا الشكل، فهو يستطيع أن يعطي رسالة تشمل الكون، ويربط الناس به فيدعوهم إلى حالة التلمذة، إلى أن يكونوا تلاميذه. إنه السيّد الوحيد والحقيقيّ. وهو يقدر أن يكون على الدوام حاضرًا كسيّد الكون وبالتالي كسيّد التاريخ. نحن هنا بعيدون جدًا عن تفسير يفهم ما في آ 18ب ((تتميمًا)) لنبوءة ابن الانسان في دا 7: 13-14.
ب - تعليم الرب القائم من الموت (آ 19-20أ)
لقد عبّرالانجيليّ عن تعليم الرب بشكل واضح، وبناه بناء محكمًا.فالاعلان الرسمي الذي يُشرف على هذا التعليم، هو أنه يجب أن ((نصنع تلاميذ)) أن نتلمذ جميع الأمم. فالفعل ((ماتيتواين)) (صنع تلاميذ) يعطي الأمرَ بالرسالة طابعَه المميّز. وهذا الفعل يحمل معنى أقوى من فعل ((كرز، أعلن)) (كيريساين) الذي نجده في نصوص مشابهة (مر 13: 10؛ 14: 9؛ 16: 15؛ لو24: 47). فيسوع لا يطلب منا فقط أن نحمل التعليم،أن نقدّم التعليم، بل أن نحمل الناس إلى علاقة شخصيّة حميمة معه. ونموذجُ هذه العلاقة هو علاقة يسوع التاريخيّ مع تلاميذه الذين دعاهم. دعاهم لكي يتبعوه. أخذهم في مدرسته، وربطهم بشخصه برباط حميم (لا بواسطة التعليم أو تقليد أحد المدارس الرابينيّة). وهذا النموذج صار بعد اليوم القاعدة لكل مسيحيّ: ((فالتلميذ)) هو اسم كل مسيحيّ يتميّز بالتتلمذ ليسوع والسير وراءه.
أما مضمون حالة المسيحي هذه فيحدّده الفعلان التاليان: عمّد، علّم. إن العلاقة بين اسمي الفاعل هذين(معمّدين إياهم. معلّمين إياهم) هي موضوع جدال. هناك رأي أول يرى في ((ببتيزو)) التفسير المباشر والوحيد لفعل ((تلمذ)). وهكذا نصل إلى المعنى التالي: إن الدخول في حالة التلمذة يتمّ في المعموديّة. بعد ذلك يأتي التعليم حول الفرائض الأخلاقيّة. وهناك رأي آخر يرى في تسلسل أسمي الفاعل(معمّدين، معلّمين) أمرًا موضوعيًا: فالمعموديّة والتعليم يشكّلان حالة المسيحي. يكوّنان التلميذ. وهكذا يخضع الفعلان لفعل علّم ((ماتيتواين)). ففي الديداكيه أو تعليم الرسل، يأتي التسلسل في ترتيب معاكس: ((بعد أن تقولوا كل هذا، عمّدوا)) (7: 1).
غير أنه يجب أن نعتبر هذا التعليم كتعليم يهيّئ للمعمودية، كفقاهة سابقة للعماد. فلا سبب مبدأيًا يدعونا إلى القول بأن المعموديّة قد مُنحت بدون هذا التعليم في الكنيسة التي يتحدّث عنها متّى. فالمقابلة مع الديداكيه 7: 1 حيث نجد أيضًا عبارة العماد الثالوثيّة، يجعل هذه الفرضيّة الأخيرة غير معقولة.
أمّا في ما يتعلّق بالأمر بمنح العماد، فيلفت نظرنا التعبيرُ الثالوثيّ. لا نستطيع أن نشكّ أنه يجب أن نرى في عبارة ((باسم الآب والابن والروح القدس)) عبارة عماديّة. أما البرهان على ذلك فالمدلول الأول لـ ((باسم)) (إيس تو اونوما). فالعبارة تعني أولاً كما في العبارات العماديّة القديمة ((باسم يسوع)): بالدعاء باسم (يسوع، الله، الآب والابن والروح القدس). وهناك برهان ثان على مستوى الاسلوب: ليس من تشديد خاص على الجملة ((باسم الآب والابن والروح القدس))، بل هناك تحديد لفعل ((عمّد)) الذي يرتبط بدوره بفعل ((علّم)). إن هذه الجملة تدلّ أولاً على أنه في زمن تدوين الانجيل،وفي الموضع الذي فيه دُوّن الانجيل الأول، كان العماد يُمارَس بهذا الشكل: باسم الآب والابن والروح القدس. بعد هذا، يجب أن نتساءل كيف نستطيع أن نفهم هذه العبارة التي تبدو ((غريبة)) وسط التقليد الانجيلي، في إطار مجمل كرازة العهد الجديد. نكتفي هنا بالإشارة إلى جواب على هذا السؤال.
لفت الشرّاح مرارًا انتباهنا إلى تمتمات تعابير ثالوثيّة نجدها بشكل خاص في رسائل القديس بولس. فإذا قابلنا هذا التعبير (باسم الآب والابن والروح القدس) مع هذه النصوص، فهو يتفوّق عليها على المستوى النظري والدقيق، في الإطار اللاهوتيّ. ولكن يبدو أنه من الأهميّة بمكان أن نتطلّع إلى الواقع الذي تشير إليه هذه العبارة والذي نجده أيضًا في الأناجيل الازائيّة: العلاقة الوثيقة لحياة يسوع وعمله مع الآب في الروح القدس. ونرى صورة عن ذلك في هذه المقاطع الموازية التي فيها تُنسب إلى الآب والروح القدس ((الوظيفة)) عينها. ((ولكن إن كنت أنا بإصبع الله (أي بقدرة الله. هو لا يحتاج أن يحرّك يده، بل يكتفي بإصبعه. يشير بإصبعه) أطرد الشياطين، فهذا يعني أن ملكوت الله قد جاء إليكم)) (لو 11: 20). ((إن كنت بروح الله أطرد الشياطين)) (مت 12: 28). فما يمكن أن نفهمه في مت 28: 19ب على أنه استباق لاحق لعبارة ايمان ثالوثيّ في المعنى الجامد، يجب أن يُنظر إليه من زاوية التقليد الإزائيّ كدمج ديناميكيّ لطرق العمل: فحياة يسوع وعمله هما عمل وحياة الآب في الابن. ونحن نجد العلاقة الديناميكيّة عينها في رسائل بولس الرسول، وهي علاقة لا تستبعد التوسّع العقائديّ اللاحق، بل تهيّئه. إذن، نستطيع القول إن آ 19ب تمثّل شرحًا أعطي بشكل شميلة حسب الايمان وبفعل الالهام لعمل يسوع حسب التقليد الازائيّ. وهذا ما نجده بشكل مماثل وإن بتعابير مختلفة في انجيل يوحنا.
والأمر الثاني الذي أعطاه يسوع في تعليمه هو: علّموهم. فعلى الرسل أن يعلّموا كما علّم يسوع نفسه: فقد حدّثنا انجيل متّى بشكل خاص عن يسوع على أنه المعلّم. ((ليس لكم سوى معلّم واحد، وكلّكم إخوة)) (مت 23: 8).والتشديد على ((تعليم، علّم)) يميّز انجيل متّى ويقابل المنظار الذي جعله أمامه حين قدّم لنا الخطب الخمسة التي تبدو بشكل تلخيص لكل ما علّمه يسوع. هنا نتذكّر كيف جلس يسوع لكي يعلّم، وكيف تنظّمت المتتاليات التعليميّة التي انتهت كلها بجملة مقولبة (ولما فرغ يسوع من خطابه، 7: 28.ولما فرغ يسوع من وصيّته، 11: 1؛ رج 13: 53؛ 19: 1؛ 26: 1). وكيف أن التعليم(والخطب) يُشرف على الأخبار . وكيف أن مت جعل السرد تعليمًا أكثر منه خبرًا مشوّقًا كما في مرقس مثلاً.
أما فعل ((علّم)) فيشير إلى تبديل عميق. تحدّث مرقس عن ((الانجيل)) (اونجليون) في المطلق. هذا الانجيل الذي يُعلن. أما مت فتحدّث عن ((إنجيل الملكوت)) (رج 4: 23؛ 9: 35؛ 24: 14).وهذا الانجيل يجب أن يعلَّم. إنه موضوع الفقاهة وتكوين المرتدّين وتعليم الجماعة. والناس الذين اجتذبهم فتعمّدوا، يجب أن يتثبّتوا في تعليم الحياة الابديّة، ويتدرّجوا في ممارسة إرادة الله ممارسة عمليّة، كما في الاقتداء بيسوع.
وقال يسوع: على التلاميذ أن ((يحفظوا جميع ما أوصيتكم به)). إن فعلَي ((حفظ)) (تيراين) و((أوصى)) (انتلستاي) يشدّدان على إرادة الله السامية تجاه التلاميذ، على سلطة يسوع الذي يفرض شرائع ووصايا بالنظر إلي كرامته كالرب. كل هذا قد عبّر عنه انجيل متّى في عظة الجبل ولا سيّما في النقائض (قيل لكم... أما أنا قأقول لكم). إن العهد القديم بشكل عام، وسفر التثنية بشكل خاص، يستعملان ذات العبارات ليدلاّ على مشيئة الله في متطلّباتها تجاه شعب العهد. غير أن التوازي نفسه يدعونا إلى أن لا نحصر وصايا يسوع وحفظها داخل تعليمات أخلاقيّة وفرائض أدبية. فكل تعليم يسوع مطبوع بطابع المتطلّبات الحياتيّة. ففي عظة الجبل، لا نستطيع أن نميّز الكرازة عن الوصيّة . فكلتاهما تندمجان في وحدة كاملة: إن كرازة يسوع في التطويبات مثلاً (5: 3-11) هي في الوقت عينه دليل لحياة التلميذ. ومقابل هذا، ففريضة خاصة كتلك التي تدعونا إلى أن نغفر، هي في الوقت عينه كرازة عن الله الذي يغفر لنا زلاتنا (6: 14-15). فكل الانجيل هو في حدّ ذاته، وبطابعه العميق وبمضمونه الواسع، تعليم حياة من أجل التلاميذ. وتعليم الحياة هذا يجب أن يعلَّم كله. فلا نميّز بين تعليم وتعليم، ونختار بين تعليم وتعليم. نعلّمه دون أن نخفّف من طابعه المطلق. أما العنصران اللذان اجتمعا، عمل العماد الأساسيّ، والانجيل الذي يتجسّد في الحياة، فهما يشكّلان ما يدلّ عليه فعل ((ماتيتواين)) (تلمذ، صنع تلاميذ).
إن تحقيق هذه الوصيّة يجب أن يكون شاملاً بالمعنى الحصري للكلمة. يجب أن يعمّ الكون كله. هذا لا يعني أن ((الخليقة كلها)) (باسا هي كتيسيس، مر 16: 15)، أن جميع البشر سوف يتقبّلون تعليم الخلاص. بل يجب أن ((نصنع تلاميذ)) من جميع الأمم. هذه العبارة البيبليّة تحيلنا من جديد إلى العهد القديم. فجميع الأمم قد دخلت مبدأيًا في الوعد الذي أعطاه الله لابراهيم. وحسب تعليم الأنبياء، يجب على جميع الأمم أن تتقبّل الخلاص الاسكاتولوجيّ مثل اسرائيل نفسه. وهذه الشموليّة الأساسيّة في العهد القديم ترتبط بشرط يقول إن الأمم تنال الخلاص بواسطة اسرائيل وبعد اسرائيل (دَعي البنين أولاً يأكلون) . وهذا الشرط الذي يوافق تدبير الخلاص الالهيّ، لم يُلغ ولم يُستبَعد. فإذا كان الانجيل يستطيع أن يعبّر عن هذا التعليم، فلأن الوعد الذي أعطي لابراهيم، ونبوءات العهد القديم، قد وصلت إلى تمامها. فلأن الخلاص الذي يصل إلى الأمم بواسطة اسرائيل، هو حاضر الآن. وهذا التعليم يترجم التتمة الاسكاتولوجيّة بشكل نهائيّ لا عودة عنه.
ولفظة ((سلطان)) التي نقرأها في آ 18 ب، تدلّ على أن الأمر هو كذلك، وأن هذا ما يؤكّده الايمان. فبحسب هذه اللفظة، يسوع المسيح قد دخل كالرب في سيادة اسكاتولوجيّة مسكونيّة تمتدّ امتداد العالم كله وتصل إلى جميع الأمم التي تنتمي منذ الآن إلى عالم يسود عليه الرب القائم من الموت. وتحقيقُ هذه السيادة على الأرض قد بدأ في مجموعة التلاميذ الذين يشكّلون اسرائيل الحقيقيّ، فينفّذون مواعيد الله الشاملة بالنسبة إلى الأمم. إذن، يجب أن يُرسل التلاميذ إلى جميع الأمم. وإن لم يكن الأمر كذلك، أو إذا كانت الحواجز ستعارض هذا الامتداد في الكون، فهذا يعني أن يسوع المسيح ليس حقًا كيريوس، ليس الرب الذي يسيطر على السماء والأرض.
ج - الوعد (آ 20ب)
يستعيد هذا القسم الثالث أيضًا فكرة معروفة في العهد القديم: ((أنا معكم على الدوام)). فقد أكّد يهوه مرات عديدة على حضوره بجانب المؤمنين، بجانب الأنبياء، بجانب الشعب كله، بعبارات مماثلة. نحن هنا أمام حالات من العون الناشط والرحيم والخلاصي الذي يقدّمه الله في المحن الخارجيّة أو في ضيق داخليّ هو ضيق الايمان. وقد وعد الربُّ شعبه دومًا بأن يكون معه وبأنه لا يتركه وحده. ويؤكّد ((كيريوس)) التأكيد عينه لتلاميذه: ((ها أنا معكم)). ولسنا هنا فقط مع الأحد عشر الذين يقفون على جبل الجليل. فالنظر يمتدّ إلى كل شعب الله، إلى جميع الذين سيكونون تلاميذ يسوع، يتتلمذون له. فالأفق واسع، والنظر يضمّ المكان والزمان دون أن يحدّه شيء. وتدوين النصّ لا يسعى فقط إلى أن يبيّن أن الرب (كيريوس) حاضر وسط شعبه كسرّه الباطني وواقعه الصوفيّ، بل هو يقول لنا أيضًا إن الرب هو في كل الأزمنة والظروف بجانب شعبه لكي يعينه ويعزّيه ويشجّعه، لكي يحضّه ويناديه، أن الرب يرافق عمل مرسليه.
((حتى نهاية العالم)). إلى انقضاء الدهر. هكذا يكون الرب مع تلاميذه والمنادين بإنجيله. فهذا ((الدهر)) في امتداده الزمنيّ هو أيضًا خاضع لسيادة المسيح. فلا يستطيع أحد أن يعارض هذه السيادة أو يتغلّب عليها. ونفهم من خلال القيمة الزمنيّة للعبارة أن هذا الدهر لن يأتي إلى تمامه في مستقبل قريب. لا شكّ في أن انتظار المجيء (باروسيا) هو عنصر جوهري في زمن العهد الجديد، وقد تشرّب منه متّى فانطبع به. غير أن هذا الانتظار يصوَّر بأشكال مختلفة. هو قوّة قريبة تجتاح الكون. هو انتظار نستشفّه في مستقبل بعيد بالنظر إلى خبرة ممارستنا للانجيل، إلى كرازة تبدو صعبة وطويلة، إلى نموّ للزرع يبدو بطيئًا. مثلُ هذه الخبرات قد أثّرت كل التأثير على تدوين الانجيل الأول.

4 - تعليم الكنيسة
نحن نعرف عددًا من نصوص العهد الجديد (أو في الزمن البَعد الرسولي) تقدّم لنا شيئًا عن تنظيم الكنيسة في مجملها، أو تتضمَّن عناصر أو معلومات عن هذا التنظيم. فعبارة ((تنظيم الكنيسة)) تدلّ في المعنى الحصريّ على وجهة خارجيّة منظورة في كنيسة تكوّنت وترتّبت كما نراها في انجيل متّى. فتراتبيّة الخدم التي نشاهدها، وتنظيم الحياة العباديّة، ومشاكل حياة الجماعة، كل هذا جزء من هذه الكنيسة كما نراها. والنصّ الذي ندرسه الآن يتضمّن بعض عناصر من هذا التنظيم في الكنيسة: هناك تأسيس المعموديّة مع العبارة الثالوثيّة ((باسم الآب والابن والروح القدس)). فالمعموديّة كمؤسّسة تنتمي إلى بنية الكنيسة.غير أن المقطع الذي يتحدّث عن المعموديّة ليس جزءًا مستقلاً، بل عنصرًا مرتبطًا بما قبله وما بعده. إذن، نستطيع أن ننطلق من هنا لكي نشاهد في كل هذه المقطوعة ((تنظيم الكنيسة)) أو ((تنظيم الجماعة)). في الواقع، إن سياق النصّ يدلّ على نظرة خاصة إلى الكنيسة نجدها في نهاية انجيل متّى. وهكذا نصل إلى التعليم الحقيقيّ الذي يقدّمه هذا النص: فعناصر ((تنظيم الكنيسة)) قد أدرجت في موضوع أوسع هو صورة الكنيسة كما قدّمها انجيل متّى.
تظهر صورةُ الكنيسة هذه في الألفاظ. وتنكشف خصوصًا في لوحة التنظيم الاكليزيولوجيّ الذي نكتشفه من خلال الكلمات. وهذا يعني بالتفصيل أن المسيحي مدعوّ لكي يكون تلميذًا. هذا ما يحدّده. فبدون هذا الرباط الشخصيّ مع يسوع، ليس اليوم من معرفة حقيقيّة لله وطرق خلاصه، وليس من تتميم حقيقيّ لمشيئته. وما يكوّن جوهريًا حالة المسيحيّ هو العماد. هكذا يدلّ النصّ على البداية التي يفعلها الله، على أساس النعمة وسرّ الحياة المسيحيّة. وواجبُ المسيحيّ يقوم بأن يمارس وصايا يسوع، أي بأن يجعل التعليم الحياتيّ في الانجيل يمرّ في حياته الخاصّة. يصبح الانسان تلميذًا بالعماد. ويبقى تلميذًا بكل معنى الكلمة إذا مارس وصايا يسوع.وكما يجب على التلاميذ أن يعمّدوا، كذلك يجب عليهم أن يعطوا تعليم الحياة. فالوظيفتان قد سُلّمتا إلى الأحد عشر رسولاً. وستُسلّمان إلى الذين يأتون بعدهم حتى يصبح البشر من كل أمّة تلاميذ يسوع المسيح.
نستطيع أن نفهم هذا في معنى حرفيّ، كصورة لما يجب أن يكون المسيحيّ، تلميذ يسوع. عند ذاك لن يعود ((تصوّر التلميذ)) هو ((تصوّر الكنيسة)). ولكن التعليم يحيط به قولان كرستولوجيان، واحد حول السلطان وآخر حول الوعد. ولكليهما أهميّة كرستولوجيّة وأهميّة اكليزيولوجيّة أيضًا. أي إنهما أساسيان من أجل فهم الكنيسة. فبقدرة الرب في الكون، تأسّست مجموعة التلاميذ، شعب الله، وسُلّمت إليها مهمّة شاملة تمتدّ إلى جميع الأمم. فالكنيسة لا تحدّد موقعَها فقط في ما قبل الوعد، بل تحمل أيضًا في ذاتها كل سيادة يسوع وملء عظمته. وتعبّر الخاتمةُ عن الفكرة عينها. فالكنيسة تستطيع أن تكون متأكّدة من عون الرب الدائم في جميع الأزمنة وحتى نهاية الدهر. في هذه التأكيدات نجد التعبير عمّا يؤمن به المسيحيون ويعترفون. وهي كلها ذات طابع اكليزيولوجيّ. أي ترتبط بمفهوم الكنيسة.
هذه التأكيدات هي قبل كل شيء (وهنا نعود إلى نقطة الانطلاق) توسّعٌ وتفسير شرعيّ لأول ((نؤمن)) (قانون إيمان) عرفه العصر الرسوليّ الأول: يسوع هو كيريوس. هو الربّ. فإذا استطعنا أن نقول (في معنى من المعاني) أن العهد الجديد في كل أجزائه هو توسّع لهذا الاعتراف الايمانيّ الاولاني، وأن هذا الاعتراف هو المركز الذي إليه يستند العهد الجديد و((قاعدة الايمان)) التي هي مقياس داخليّ في الكنيسة، عندئذ ينطبق كل هذا أيضًا على هذا النصّ الذي ندرس. هنا نجد تثبيتًا لطرح عبّرنا عنه سابقًا وهو يعلن أن قول آ 18ب حول سلطان يسوع هو أساس كل ما يلي. وهذا القول حول سلطان يسوع ليس إلاّ تعبيرًا جديدًا يصل بالاعتراف الايماني في بداية الكنيسة، إلى بُعد مسكوني وإلى لاهوت نما ونضج. والرباط مع التعليم والوعد يعطي هذا الاعتراف الايماني قيمته الاكليزيولوجيّة الملموسة دون أن يتبدّل جوهره. فمن وجهة الكاتب، صار الاعتراف بالرب والاعتراف بالكنيسة اعترافًا واحدًا. ومن وجهة الربّ الممجّد الذي يتكلّم بروحه القدوس في الشهادة الرسوليّة، يجد عملُه الخلاصيّ الخاص حتى صعوده امتدادَه التام في عمل الكنيسة حتى مجيئه.


 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM