الفصل الثامن عشر: حبيبي أبيض أسمر

الفصل الثامن عشر
حبيبي أبيض أسمر
5: 10-16

بعد ظهور الحبيب (5: 2- 4)، والمحنة التي مرّت فيها الحبيبة (5: 5: 9)، نصل إلى المشاهدة، إلى التأمل في صورة الحبيب (5: 10- 16). سألت العروس بنات أورشليم، أو بالأحرى طلبت منهن أن يخبرن العريس بحالها. تظاهرت الرفيقات بأنهن يجهلن مَن هو العريس، مع أنهنّ سبقن وقلن إنهن رأينه يرعى غنمه (1: 8). وهو قد التقى بهنّ واستحلفهنّ مرتين (2: 7؛ 3: 5) أن لا يوقظن العروس إلا متى تشاء. تظاهرن بالتجاهل مع بعض الحسد. وتساءلن عن "ذاك" الحبيب الذي تركض حبيبته وراءه في سواد الليل. لم تنتظر العروس إلاّ هذا النداء (ما فضل حبيبك) لكي تفرغ قلبها. وجاءت صورة العريس مقابلة لصورة العروس في 4: 1- 15: "جميلة أنتِ يا خليلتي، جميلة أنتِ ".
(آ 10) تقدّم هذه الآية حكمًا إجماليًا في بداية تعداد مفاتن العريس. الكلمة الأولى هي "ص ح ". قد تعود إلى العربيّة في معنى: السليم من كل عيب. وقد تعود إلى "وضح "، والوضح هو الضوء وبياض الصبح. والوضّاح هو الحسن الوجه، البسّام. ونجد في مرا 4: 7 موازاة بين "ص ح ه" و"ز ك ك ": "كان شبّانها أنقى من الثلج، وأنصع من اللبن الحليب ". وهكذا نكون أمام وجه أبيض متألّق، وجه كله طراوة ونضارة. وجهه يناقض وجه الحبيبة (1: 5). هي سوداء لأن على وجهها آثار ألم المنفى.
الطراوة علامة الصحة والشباب. ولون الوجه أيضاً. ولكن ما تعني كلمة "ادوم "؟ قالوا: أصهب. والأصهب هو من كان فيه حمرة أو شقرة. أما نحن ففضلنا أن نقول: أمر عائدين إلى العربية آدم أي الاسمر. وآدم يرتبط بالتراب الذي نعرف لونه.
حبيبي "علم " (د ج ل). ولكن يبدو أن جذر هذه الكلمة يعني: رأس، شاهد. فالعلم يُرى من بعيد. وهكذا يُعرف الحبيب ولو كان بين عشرة آلاف. ويرى بعضهم أن "الربوات " (ر ب ب ه) هي "الالوهيم " أو الملائكة الذين هم رفاق العريس. تفسير عجيب يربطنا بالأحرى بعالم الشرك حيث "الالهيم" هم الآلهة. المهمّ هو أن تُبرز الحبيبة ميزة العريس وسموّه. وهذا أمر طبيعيّ حين نعرف أن العريس هو الله نفسه.
(آ 11) ترجم آكيلا "ك ت م. ف ز" بـِ حجر ذهب. وكذا فعلت البسيطة فقالت "كافا ددهبا". أما تيودوسيون فتحدّث عن لطخة، بقعة (في السريانيّة كوتما). وجمع سيماك (كما نجده في السريانيّة الهكسبلة) اللطخة إلى الحجر فقال "لطخة حجارة الذهب". واقترح بعضهم "ك ت ر" بدل "ك ت م" فتحدّث عن التاج. ولكننا نجد "ك ت م" مع "ز هـ ب " في أي 31: 24 ؛ أم 25: 12؛ مرا 4: 1. أما "ف ز" فتعني الذهب المنقّى. وهكذا تدلّ عبارة "ك ت م. ف ز" على نوعيّة عالية من الذهب. هكذا اعتاد الكتاب المقدس أن يعود إلى المعادن الثمينة ليدلّ على عظمة ما يريد أن يصوّره.
"ق و ص و ت ي و". عاد المترجمون إلى "القُصة" في العربيّة وهي تعني "شعر الناصية". فقالوا: ضفائر، خصائل، غدائر، وشبّهوها بأغصان النخيل التي تنزل من فوق إلى تحت. ولفظة "ش ح و ر" تدلّ على اللون الأسود. الحبيب هو أسمر كما قلنا، وشعره أسود غامق يشبه ريش الغراب.
ما معنى هذه الصورة؟ كانت فرضيّات عديدة منها أن الأقدمين كانوا يزرعون في شعرهم مسحوق الذهب، وهكذا يدلّون على نبلهم. في الواقع، يدلّ الحبيب على الرب من خلال صورة الهيكل. ففي 1 مل 6 يُذكر الذهب مرارًا وقد غطّى جدران الهيكل ولاسيمّا قدس الأقداس. ويتحدّث هذا النصّ من سفر الملوك عن أوراق النخيل التي نقشها سليمان على أرض البيت والأبواب. والنخيل صورة عن الشعر المسترسل (هنا نتذكر شعر ابشالوم بن داود، 2 صم 14: 25؛ 18: 9). أما اللون الأسود فهو لون قدس الأقداس الذي لم يكن فيه نافذة واحدة عكس الهيكل (1 مل 6: 4).
(آ 12) وإذ أراد الشاعر أن يبرز جمال عينَي العريس، استعاد عبارة استعملها ليصوّر عيني العروس. "جميلة أنتِ وعيناك حمامتان" (1: 15؛ 4: 1). والاختلاف الوحيد هو وجود كاف التشبيه (ع ي ن ي ك. ك- ي و ن ي م).
"ع ل. ا ف ي ق ي. م ي م ". على مجاري المياه. هذا ما قال أكيلا. والبسيطة: ساقية. والشعبيّة تحدّثت عن المياه الجارية. هناك من عاد إلى جذر "ا ف ق " الذي يعني "احتوى". وهكذا نكون أمام حوض من ماء أو مجرى الهر. وتعود المحاولتان إلى المعنى نفسه.
نجد فعل "ر ح ص " غسل، اغتسل. واللبن (أو: الحليب) يرمز إلى البياض الناصع كما في تك 49: 12 ؛ مرا 7:4. لن نتكلّم عن عين بيضاء وإلا صار العريس بشعًا. بل نفهم الاستعارة كما يلي: حين تغتسل الحمامة في الحليب تصبح كلها بيضاء. فالحليب هو أبيض والبياض علامة النور.
كيف نفسّر"م ل ا ت"؟ الملء. هو المعنى الأول كما في العربيّة (ملأ). ولكن بعضاً فكّر بملء العين: الوقت، الحجر. والبعض الآخر فكّر بالحوض والبِركة أو بالمحيط الواسع. المهمّ أن هذه الاستعارة تعبّر عن جمال عينيّ الحبيب في تناسقهما وحيويّتهما. وإذا عدنا إلى ما قلناه عن الآية السابقة، وإلى تشبيه عيني العروس ببركة حشبون (7: 5)، نقول إن الشاعر يجعلنا أمام بحر النحاس الذي كان الكهنة يغتسلون فيه قبل تقديم الذبائح (1 مل 7: 23- 26؛ 2 أخ 4: 2- 5؛ رج خر 30: 18- 21 ؛ 38: 8 ؛ 40: 30- 32).
(آ 13) في 1: 10، أنشد العريس جمال وجه العروس. وها هي تردّ له المديح. "خدّاه روضة أطياب ". كان العالم الشرقيّ القديم يضع العطور على اللحية (في العبرّية: ل ح ي و). مثلاً، نقرأ في مز 133: 2 عن الزيت (العطر) الطيّب على الرأس، والنازل على اللحية، لحية هارون.
لا نجد في البسيطة عبارة "م ج د ل و ت. م ر ق ح ي م " (اتلام رياحين، زهراء رياحين). اللفظة الثانية لا ترد إلاّ في هذا الموضع من التوراة، وهي تعود إلى جذر "ر ق ح " مزج العطور المختلفة (8: 2 ؛ خر 30: 33؛ رج 25: 35 ؛ جا 10: 1؛ 2 أخ 16: 14). إذن، يبدو أننا أمام مجمل النباتات التي تؤلّف كتلة واحدة.
"شفتاه سوسن ". زادت البسيطة "ايك"، كاف التشبيه، لتوازي العبارة السابقة "خدّاه كروضة". يتحدّث الشاعر عن شفتَي العريس كما سبق له وتحدّث عن شفتي العروس، ويمتدح لونهما الأحمر الفاقع. وهاتان الشفتان تقطران (4: 11) عبير المرّ (5: 5). هنا تقرأ البسيطة: المرّ والناردين. قيل عن العروس أن شفتيها تقطران عسلاً. صورتان مختلفتان بعض الاختلاف، ولكنهما تعبّران عن الفكرة عينها. هنا لن نتحدّث كما فعل بعضهم عن القبلات أو عن النفَس المعطَّر، بل عن حلاوة الكلام.
إذ ينشد الشاعر خدَّي الحبيب ولحيته وشفتيه، إذ يتغنّى بسحر كلامه، فهو لا ينسى ما يتعلّق بالهيكل. حسب 1 مل 6: 29، نقش سليمان على جدران البيت من الداخل والخارج الكروبيم والنخل والزهور المفتّحة. وقد رأت مخيّلة الشاعر في جدران البيت خدّي العريس. والنقوش دلّت على لحيته المعطّرة بالزيت. والشفة تدلّ على شفة الكأس، كما تدلّ على حافة الحوض وجانبه وحرفه (كما في العربيّة).
(آ 14) "يداه حلقتان من ذهب". هنا نعود إلى نص 1 مل المتعلّق ببناء الهيكل. ففي 7: 15- 22 يتحدّث الكاتب عن عمودين وُضعا عن يمين المدخل وشماله. ووُضع على رأسهما تاج. ويستلهم نش الصورة ولا ينسى السوسن المذكور في آ 19.
إن كرات الذهب هذه تزيّنها الحجارة الكريمة الآتية من ترشيش (في اسبانيا) كما تقول بعض المخطوطات. هكذا زُيّن هيكل سليمان، وهكذا زيّنت يدا العريس.
لا تدلت "م ع ي و" على الامعاء بل على البطن (دا 2: 32) كما يُرى من الخارج. وقال بعضهم: الصدر أو الجسد كله. ويُذكر العاج والياقوت كعلامة للبياض الناصع، للشفافيّة التي تحمل اللون الأزرق. جاء الياقوت من شواطئ الصومالي بواسطة مصر، أو من الشرق الأقصى عبر ماداي وبلاد الرافدين. قد نتوقّف عند العريس أو عند لباسه، ولكن يجب بالأحرى أن نعود إلى خبر 1 مل المتعلّق ببناء الهيكل. إن 1 مل 6: 3 يتحدّث عن الرواق الذي أمام هيكل البيت، و 7: 19 عن التاجين اللذين على رأس العمودين في الرواق (رج حز 40: 48- 49). نجد هنا لفظة "ا و ل م " أو"ا ي ل م "، التي تدلّ على المدخل الذي يشكّل دائرة فيشير إلى بطن العريس. أما الياقوت فيدلّ على ما يزيّن هذه الحجارة "العاجيّة".
(آ 15) ساقاه. تشبهان العمود في ارتفاعه (سي 26: 18). شكلهما شكل المرمر ولونها أيضاً. إن العمودين اللذين يتخيّلهما الشاعر يرتكزان على أساس من الذهب الخالص. نلاحظ أن "ا د ن " (قاعدة) تدل على القاعدة الفضيّة التي تحمل أرض المعبد (خر 26: 19 ي). كما تدلّ على القاعدة النحاسيّة التي تقف فوقها العواميد حيث تعلَّق الستائر (خر 27: 11 ي). قد يكون صاحب نش قد استلهم هذين النصّين القريبين من 1 مل 6-7. وقد يكون عاد إلى العواميد التي تحيط برواق هيكل سليمان.
"م ر ا ه و" (في العربيّة: مرآه، منظره). صارت في البسيطة "ننديه" أي صدره. ترد اللفظة عينها في 2: 14 على شفتَي العريس المتحدّث إلى حبيبته (مرآك، محيّاك جميل). يدلّ لبنان هنا على الجبل، كما يدلّ على الخضرة التي تغطّيه، خصوصاً حين يذكر الشطر اللاحق "الأرز" الخضَرّ دائمًا.
رأى سيماك في "ب ح و ر" الشاب وكذلك الترجوم الارامي (ع و ل م). هو المختار (في السريانيّة: غبي). تعجّب الشرّاح من هذه العبارة، فبدّلوا الكاف (كالارز) بالباء (بـ أرزي م، بالارز). فلبنان يتميّز بأرزه. وجعل آخرون لفظة "ا د ي ر" (مجيد، عظيم) محلَّ "ب ح و ر" (حز 17: 23). ولكن لماذا ننسى أن هذه اللفظة تدلّ على سموّ على الآخرين. فالكاتب يريد أن يدلّ على جمال الحبيب ومهابته. ونقدّم اقتراحًا: هل نستطيع أن نربط لفظة "ب ح و ر" بالبخور. فالعريس "ممتلئ بالبخور" مثل أرز لبنان. هنا نعود إلى فكرة العطور التي تملأ نش.
هنا نتذكّر أن الارز استعمل كثيرًا في الهيكل: للسقف، للابنية المحاذية، للجدران، بحيث بدا "كل ما فيه ارزًا" (1 مل 6: 9، 10، 15، 16، 18). ومذبح البخور غطّاه الأرز أيضاً (آ 20). وأخيرًا، بنى سليمان "الدار الداخليّة ثلاثة صفوف من الحجارة المنحوتة وصفًا من لاطات الأرز" (1 مل 6: 36؛ 7: 12). فكما كان الأرز يملأ الشعب إعجابًا، هكذا أثَّر الحبيب على الحبيبة بمرآه وطلعته.
(آ 16) هنا نقرأ "ح ك و". هو الحنك وداخل الفم (حز 3: 26) ويرمز إلى العضو الذي به نتكلّم (أي 31: 30؛ 33: 2؛ أم 5: 3 ؛ 8: 7). نتذكّر في هذا المجال أم 16: 21 (عذوبة الشفتين تزيد فائدة) التي تقدّم عذوبة الشفتين فتدلّ على الخطاب المنمَّق والمليء بالحكمة. زادت البسيطة: "مثل شعاع من العسل". ما أوحى للشاعر بالمقابلة هو مز 19: 11 (أحلى من العسل وقطر الشهاد)؛ 119: 103 (ما أعذب قولك في حلقي. هو أحلى من العسل في فمي) اللذان يشيدان بحلاوة الوصايا. إن الكلمات التي تسحر الحبيبة هي كلمات التوراة، كلمات الكتاب المقدّس.
"ك ل و". أي كلّه. كل شخصه. كل ما يصدر عنه. كان الحبيب قد هتف حين رسم صورة عروسه "كلّك جميلة" (ع:7). وها هي العروس تعلن: "كلّه شهيّ". يرغب فيه الناس لعذوبته، لأنه عزيز كريم.
"هذا حبيبي، هذا رفيقي ". تدلّ "رع " على الرفيق (خر 2: 13؛ 22: 9). كما تدلّ على شخص حميم (تث 13: 7 ؛ مي 7: 5)، وعلى علاقات الحبّ بين الرجل والمرأة، بين الحبيب والحبيبة. في 3: 20، تدلّ هذه اللفظة على العريس: "كما أن المرأة تغدر بخليلها". لا تستعمل العروس إلاّ مرّة واحدة "رع"، بينما هي تسمَّى مرارًا "ر ع ي ت ي" (رفيقتي). حين تتذكّر خياناتها السابقة، لا تعود تتجرّأ أن تأخذ لنفسها لقب "الزوجة". والعبارة "هذا حبيبي، هذا خليلي" هي هتاف النصر الذي ختم ردّ العروس على بنات أورشليم: "أردتن أن تعرفنّ بما يتميّز حبيبي عن أي حبيب. هل عرفتنّ الآن"؟

* حبيبي علم بين ألوف
بدأت العروس تتأمّل في شخص العريس بشكل إجماليّ قبل أن تتوقّف عند كل سمة من سماته. هكذا فعل الحبيب بالنسبة إلى حبيبته: جميلة أنتِ يا رفيقتي (4: 1ي). سألتها الجوقة: "ما فضل حبيبك على أي حبيب"؟ في الحقيقة لا يقابل الحبيب مع أيّ إنسان آخر. لو وُجد بين ألوف، بين عشرات الألوف، لعرفته. هو يتميّز عن جميع البشر إذا تذكّرنا أن العريس هو الله، نفهم في هذا المجال كلمة "قدوس". القدوس هو الفريد في العالم. هو الذي يختلف عن الجميع فلا نستطيعِ أن نحصره في صورة أو في شخص. القدّوس لا شيء يقابله. والحبيب هو الفريد اطلاقاً، هو الوحيد الوحيد. والتي سماها بناتُ أورشليم "الجميلة بين النساء"، هي جميلة ولكنها "سوداء". أجل، ما أقرّت به: سحنتها سوداء، معتمة، وقد أحرقت الشمس وجهها. أما وجه حبيبها فهو أبيض متألّق.
هذا الحبيب يشعّ بالصحّة والشباب، بالحياة والجمال. هذا ما قيل عن داود (1 صم 16: 12 ؛ 17: 42). ومثله يكون حبيب نش الذي هو ابن داود. نجد على وجهه جمعًا بين بياض النور كما قيل عن ثياب يسوع في التجلّي (لو 9: 29، صارت ثيابه بيضاء لامعة)، واللون الأحمر الذي هو علامة الحبّ. كل شخصه نور وحبّ. ذاك هو شعاع مجده.
هنا نشير إلى أن تقليدًا فسّر لفظة "ادوم" أحمر. فقال غريغوريوس النيصي إن هذين اللونين هما لونا التجسّد: بياض البدن وحمرة الدم. هذان هما اللونان اللذان يلجأ إليهما يوحنا ليصوّر ابن الانسان في سفر الرؤيا. من جهة، "كان رأس شعره أبيض كالصوف الأبيض أو كالثلج" (رؤ 1: 14) "وكان يركب حصانًا أبيض " (رؤ 19: 11). لا ننسَ أن البياض هو علامة الانتصار، غير أن هذا الانتصار تحقّق في الدم. هو"يلبس ثوبًا مغموسًا بالدم " (رؤ 19: 13). فالمجد والصليب اللذان يشاهدهما يوحنا معًا، يظهران منذ بداية نشيد الحبيبة لحبيبها.
بعد هذه اللحظة الأولى من السحر والانخطاف، تستسلم العروس إلى الإعجاب فترسم حبيبها رسمة مفصلة في اسلوب استعمله العريس ليصوّر عروسه. فهناك مقابلة بين 4: 1- 15 و 5: 10- 16. ما معنى هذه الصور التي تستعملها العروس لكي تتحدّث عن عريسها؟
صُوّرت العروس على مثال أرض فلسطين. انعكست في جسدها كل جمالات الأرض. أما العريس فصُوّر على مثالا هيكل أورشليم. فقد قالت يوحنا عن يسوع إنه الهيكل الحقيقيّ. حين قال ما قال بعد أن طرد الباعة من الهيكل، شرح يو 2: 21: "كان يتكلّم عن هيكل جسده ". وهكذا ترى الحبيبة جمال حبيبها مرسومًا في بهاء الهيكل. فهي تذكر الذهب والعاج والمعادن الثمينة وأفضل الحجر والخشب، ولاسيمّا خشب الأرز الآتي من لبنان. وكل هذا يدخل في بناء الهيكل وزينته. وإن التيار الجلياني سوف يجمع بعد حزقيال رؤية الكائن المجيد مع رؤية هيكل أورشليم. وهكذا كان الهيكل وأرض فلسطين الرمز الأخير في لقاء الحبيب بالحبيبة. أرض فلسطين تحتوي الهيكل الذي يدلّ على حضور الله. والهيكل يكرّس بوجوده أرضاً اختارها الله ليحلّ فيها متجسّدًا.
ونحن نتساءل: أين هي الصورة؟ يُذكر الحبيب ورأسه وشعره وعيناه وخدّه وشفتاه ويداه وساقاه وفمه. وفي كل مرة، نجد تشبيهًا مأخوذًا من العالم الذي يحيط بالشاعر. إذن، لا تحاول العروس حقًا بأن تصوّر العريس، بأن تجعلنا نراه. فكيف تستطيع ذلك؛ فمن يستطيع أن يعبّر عن عظمة جماله؟ حين رأت مملكة سبأ كل حكمة سليمان ومجده، "أصابها الذهول "، كاد يُغمى عليها من الإعجاب (1 مل 10: 5). فكم بالأحرى عروس نش. يكفي أن تذكر جمال مليكها لكي تحسّ أن قواها بدأت تخور. "فهنا أعظم من سليمان" (مت 12: 42). هي لا تقدر إلا أن تنشد أنه كنز لا يثمّن ودرّة حياتها الفريدة. وهي تجمع الذهب والمعادن النفيسة والحجارة الكريمة والخشب الثمين، تجمع أجمل ما في الكون وأندره وأعجبه وأثمنه، لتؤلّف نشيدًا فريدًا لكي تمجّد تمجيدًا فريدًا وتقدّم مديحًا فريدًا لذلك الذي هو فريد في قلبها، فريد في كلّ الأرض. هذا ما فعله يوحنا حين رسم في سفر الرؤيا ذلك الجالس على العرش: عاد، شأنه شأن حبيبة نش، إلى كنز الرموز الذي لا حدود له.

* رأسه ذهب خالص
يعود الذهب أربع مرات في صورة الحبيب. ولا يكفي العروس أن يكون الرأس من ذهب. بل هو من الذهب الخالص، الذهب الذي يتعدّى الذهب. فوجه العريس هو أجمل الوجوه وأحلاها، ولا يُقابل بوجه آخر. لهذا شبّه رأس الحبيب بقدس الأقداس، الموجود في عمق هيكل سليمان، الذي موقعه في رأس الهيكل حيث كان الذهب كثيرًا جدًّا (1 مل 6: 20: الذهب الخالص). لا ننسَ أن الذهب يدلّ على غنى الله الفيّاض. والذهب الخالص يدلّ على جمال كامل لا عيب فيه ولا غضن. أما تُرسم الايقونات بالذهب فتدلّ على عالم القداسة، عالم الكمال، عالم الغنى الذي لا حدود له؟
ويتفتّح شعر الحبيب ويتماوج حول وجهه كأغصان النخيل. ضفائر، جدائل جميلة وسوداء. هكذا كانت جدائل العريس. ويدلّ شعر العريس على رسوم النخل التي تزيّن أبواب قدس الأقداس. ويشير اللون "الأسود" إلى الظلمة العميقة التي تكتنف قدس الاقداس. فإذا كان الذهب يعلن مجد الله الساطع، فاللون الأسود يدلّ على أنه خفيّ لا تنظره عين.

* عيناه يمامتان على مجاري المياه
ويرى الشرّاح في قسمات الوجه تفاصيل تزيّن هيكل سليمان. ومن مواضيع الزينة اليمامة أو الحمامة. وهناك الماء الذي يدلّ على "بحر النحاس " في الهيكل، وقد يشير في مخيّلة الشاعر إلى أنهار الفردوس الأربعة. ولا ننسَ أن الحبيب سمّى حبيبته "يمامة". أنرى تشاهد نفسها في عينيه؟ جمالها هو من جماله.
عينان كعيناه ينيرهما الروح. والمياه واللبن تدلّ على الصفاء والشفافيّة. صور من الطفولة والطراوة والوداعة. بأي سلام وأي حنان يلقي الحبيب عينيه على الحبيبة. قال الربّ في أش 66: 12: "أجري السلام كالأنهار". وحين نتحدّث عمّن هو نور العالم، نفهم شفافيّة نظره وصفاءه.
حين صوّر الحبيب حبيبته، توقّف عند قطيع المعز وقطيع الخراف (4: 1- 2). أما هنا، فلا وجود لهذه الصورة الخاصّة بالعروس. فهي قطيع الراعي الصالح، وهو يقود خرافه إلى المراعي الخصبة.

* خدّاه روضة أطياب
لا نحاول هنا أن "نعصر" الصورة لكي نستشفّ وجه الحبيب ونراه. يجب أن نبقى على مستوى الشعر. فنؤخذ بالشعور والاحساس، لا بالنظر، كما في موسيقى صامتة. هذه الصور لا تتوجّه إلى عيون الجسد بل إلى عيون النفس. لهذا تتكاثر أدوات التشبيه (كسعف النخل، كالغراب، كالحمامتين). هي تثقل النصّ ولكنها تدلّ على مجهود قام به الشاعر ليجعل الحقيقة قريبة منا. إنه يستعمل صورًا من عالم الأرض ليعبّر عن واقع السماء، فكيف نريده أن يفعل إن لم يعد إلى عالم المقاربات والتشابيه.
خدّا العريس مع خدَّي العروس هما خميلتان من الراحة والسعادة. والشفتان ليستا "خيطاً من القرمز" كما قال الحبيب عن الحبيبة (4: 3)، بل سوسن أحمر شبّهت نفسها به. ومن سوسن الشفتين يقطر عبير يترك آثاره على مسكة الباب. "من شفتيه يقطر مرّ خالص ". هذا ما يدلّ على عذوبة الروح القدس الذي تنفحه شفتا الحبيب في عمق النفس لكي يعيد خلقها في كل لحظة. هذا ما قيل عن خلق الإنسان. "نفخ الله في أنفه نسمة حياة" (تك 2: 7). وقيل كذلك عن ولادة الكنيسة. "نفخ على تلاميذه وقال: خذوا الروح القدس" (يو 20: 22). فالعروس قد تمنّت منذ البداية عذوبة هذه القبلة، قبلة الروح التي تنالها من شفتَي الحبيب. "ليقبّلني بقبل فمه "

* يداه سواران من ذهب
حين نتذكّر التشابه بين الحبيب وهيكل أورشليم، نرى في العمودين الموضوعين عن شمال مدخل قدس الأقداس ويمينه، يدَي الحبيب وبطنه. ذهب اليدين، عاج البطن، هما وسيلتان تلجأ إليهما العروس المفتونة لكي تعبّر عمّا لا يعبّر عنه. هذا ما فعله يوحنا في سفر الرؤيا حين صوّر "ذاك الجالس على العرش، ومنظره كاليشب والعقيق الأحمر" (رؤ 4: 3). تحدّثت الحبيبة عن يدين مجلّلتين بالذهب. وقد نكون أمام ذهب ترشيش كما في بداية سفر حزقيال (1: 16).

* ساقاه عمودا رخام
بدأت الحبيبة ترسم حبيبها مع الرأس، وتوقّفت عند ضفائر الشعر والعينين والخدين والشفتين. وامتدّت الصورة إلى اليدين والبطن. وها هي قد وصلت إلى الساقين اللتين تشبهان عمودين من رخام. وهكذا نشعر بجمال العريس كما نشعر بقدرته. فهو لا يشبه أصنام الأمم: "لها أفواه ولا تتكلّم، لها عيون ولا تُبصر، لها آذان ولا تسمع، لها أنوف ولا تشمّ، لها أيدٍ ولا تلمس، لها أرجل ولا تمشي" (مز 115: 5- 7). ودانيال نفسه يهزأ بأرجلها التي لا تحمل صاحبها. أما ساقا العريس فلا شيء يزعزعها. هما كالصخر وقد قال رؤ 1: 15: "رجلاه كنحاس مصقول". إذن، تعرف العروس أنها تستطيع معه أن تكون مطمئنّة. تستطيع أن تستند إليه. فهو لا يلوي ولا يتراخى. هو مثل "عمودي رخام على قاعدة من الذهب ".
نتوقّف هنا عند الألوان التي تدخل في "صورة" العريس. هناك خمسة: الأبيض، الأحمر، الذهبيّ، الأسود، والأزرق. ويسيطر على الصورة لونان: الأبيض. حبيبي أبيض. عيناه حمامتان. هو يستحمّ في اللبن (الحليب). إنه كتلة من العاج. ساقاه عمودا رخام. ثم لون الذهب. يُذكر الذهب خمس مرّات بشكل مباشر مع الزبرجد. نتذكّر هنا أن الأبيض والذهبي هما لون الألوهة، وهذا ما يعرفه راسمو الإيقونات: ثياب بيضاء للمسيح المتجلّي أو القائم من الموت. ذهب الملك المجيد الذي يدلّ على عظمة لاهوته. لا ننسَ أن الذهب يُذكر 22 مرّة في سفر الرؤيا فيدلّ على شخص المسيح أو عطاياه. ثم إن الذهب يرتبط هنا، في نش، بالرأس واليدين والساقين التي ترمز إلى فكر الحبيب (الرأس) وقدرته (يداه) وثباته (ساقاه).
في البداية، حين أنشدت العروس عريسها، قدّمت لنا شعورًا إجماليًا. وها هي الآن تتوقّف أيضاً في نهاية "خطبتها" عند نظرة شاملة إلى جماله مع مديح خاصّ برأسه ويديه... حبيبها هو "مثل لبنان ". ماذا تستطيع أن تقول أكثر من ذلك. كان بنو اسرائيل يعرفون أن لا شيء يضاهي عظمة لبنان وجماله. لا شيء يماثل أرزاته الملوكيّة الباسقة التي تعلو جميع الأشجار.
قالت العروس في البداية إن الحبيب يُرى وسط الألوف. وهي تقول في النهاية: "لا نظير له". وكل هذا بسبب عظمته الفريدة ومهابته الجليلة. قال سي 24: 13 عن الحكمة: "ارتفعت كالأرز في لبنان ".
الأرز والتفّاح هما شجرتا الحبيب. رمزَ التفّاح بجمال زهوره وحلاوة ثماره إلى بشريّة أجمل البشر، يسوع المسيح الإنسان. ورمز الأرز بقامته التي لا تُضاهى إلى تساميه في لاهوته. على مستوى الجمال يكون الحبيب وسط البشر "كالتفّاح بين الأشجار". ولكن على مستوى لاهوته "لا نظير له" بين البشر فهو كالأرز لا تقابله شجرة من الأشجار.

* كلامه أعذب ما يكون
انتهت صورة الحبيب بالنسبة إلى النظر. والآن نعود إلى السماع. فكلمات الحبيب تسحر الحبيبة أكثر ممّا يسحرها جماله. هنا لا نترجم "الفم" أو"الريق " (الحلق، الحنك)، بعد أن وصلنا إلى الساقين، بل نتوقّف عند الفم على أنه أداة الكلام، وهكذا نفهم أن الشاعر يتحدّث عن الكلمات التي يقولها العريس فيخلب قلب عروسه.
منذ اللقاء الأول هتفت العروس: "جميل أنت يا حبيبي وعذب " (1: 16). وقال صاحب المزامير: "ما أعذب كلامك في حلقي. هو أحلى من العسل في فمي" (119: 103). فجمال ذاك الذي تحبّه قد استشفّته، قد حاولت أن تعبر عنه. ولكنه جمال يبقى في جوهره خفيًا. قال أش 45: 15: "انت إله خفيّ " (محتجب). أما الكلمات التي يوجّهها إلى العروس، فهي موضوع اختبار، وهي تفعل فعل العطور. والكلمة (يسوع المسيح) الذي يكلّمها في سرّ قلبها، يكلّمها كلام الوداعة والحنان. كلامه عذب كله ولم يتكلّم إنسان مثل هذا الرجل (يو 7: 46).
أترِدْن أن أقول لكنّ شيئًا بعدُ، يا بنات أورشليم؟ أقول: "هو شهيّ كله ". كانت رفيقات العروس قد سألنها عن العريس، فصوّرته وأنهت كلامها: "كل ما فيه شهيّ ". فماذا تستطيع أن تزيد؟ ليس من برهان يدلّ أفضل من هذا على أن عريسا نش هو الله نفسه. في المرّة الواحدة التي حاولت أن تتصوّره، جاءت الصورة ساطعة ومعتمة معًا. هذه هي اللغة الرمزيّة. لغة هي لغة السر. وعبرها تحاول النفس أن تقول من هو الله بالنسبة إليها. ولكنها لا تصوّره كما يصوَّر إنسان من البشر فبعد هذه "الصورة" المفصّلة عن العريس، نحن لا "نراه " إطلاقًا. هو يفلت منا، لأنه أبعد من نظرنا بحسب الجسد.
"أرادت " أن تصوّره. ولكن، هل تستطع أن تصوّره؟ قد أغرمت بذاك الذي لا يمكن الوصول إليه. لقد اشتهت ذاك الذي لا يمكن إدراكه. لا شيء ممّا نعرفه في عالمنا يكشفه لنا: لا الشكل ولا اللون ولا الوجه ولا المقابلة ولا القياس. هو يتجاوز كل تمثّل، ويفلت كليًا من "قبضة" الذين يطلبونه. تتخيّل العروس سلسلة من الألفاظ تحاول أن تدلت على الخير الذي لا يعبَّر عنه. ولكنه يتجاوز كل إمكانيات التعبير اللغويّ. هذا ما قاله غريغوريوس النيصيّ.
وتحدّث أوغسطينس عن هذه المحاولة اليائسة التي تقوم بها العروس: "إنها رؤية تتجاوز كل جمالات الأرض: الذهب، الفضّة، الخشب، الطبيعة، جمال البحر والهواء، جمال الشمس والقمر، جمال النجوم، جمال الملائكة... هو جمال (إلهي) يتعدّى كل جمال، لأن منه ينال كلُّ شيء جماله... تقول اللغة ما تستطيع أن تقوله، والباقي يفهمه القلب... فهذه الحقيقة التي لا نقدر أن نعطيها اسمًا حقيقيًا، قد نسمّيها "ذهبًا"، قد نسمّيها "خمرًا". هو اسم نعطيه لما لا نستطيع أن نسمّيه. قد نعتبر أننا نعطه اسمًا من الأسماء. أما اسمه الحقيقيّ فهو الله ".
وهكذا، في النهاية، لا تجعلنا العروس نرى شيئًا من العريس، كما لا تقول لنا شيئًا خاصاً عن ذاك الذي تحبّ. بل عندما تتكلّم، يجتاحنا معها شعور عميق بالسجود المفعَم بالحبّ. هذا السجود هو انخطاف الحبّ الذي يسحقه جمال المحبوب وقدرته وعظمته.

* هذا حبيبي، هذا رفيقي
لسنا هنا أمام خاتمة، بل أمام نشيد الانتصار تطلقه العروس في نهاية نشيدها فيمتدّ في صوتها. في الحقيقة، لا نرى كيف تستطيع بنات أورشليم اللواتي حدثتهنّ العروس عن حبيبها، أن يساعدنها على العثور على ذاك الذي أضاعته. ولكنها لم تتكلّم إلى بنات أورشليم بقدر ما تكلّمت إلى نفسها، وهي تتطلعّ إلى الأفق البعيد وغير المنظور. ثم أطلقت صيحة وكأنها رأت مرّة أخرى رفيقاتها، فقالت: "هذا هو حبيبي، هذا هو رفيقي"! هي المرة الوحيدة في نش كله تسمّي فيه الحبيبةُ ذاك الذي تحبّه: "زوجي" (خليلي، رفيق حياتي)، مع أنها سمّته أكثر من 25 مرّة "حبيبي " (دودي).
نجد في هذه الصرخة تشديدًا على غلبة أحرزتها. بل نجد تحديًا لبنات أورشليم اللواتي تحدّينها فقلن: "ما فضل حبيبك على أي حبيب "؟ بعد أن أنشدت الحبيبة نشيدها الجنونيّ، أجابت بعزّة وافتخار: أترِدْن أن تعرفنَ! إنه زوجي. ولا أستطيع أن أقول شيئًا بعد ذلك. هنا نسمع كلام الرب كما ورد في سفر هوشع: "وفي ذلك اليوم تدعينني "زوجي". ولا تدعينني بعد ذلك "بعلي " (هو 2: 18). وقال أش 54: 5: "بانيك هو زوجك " (رج تك 2: 2 حيث بنى الربّ الاله المرأة). لقد أوضحت لنا الحبيبة بأحلى الألفاظ ما يعني هذا العهد الذي يجعل من أعظم حبيب على الأرض، عريسها الفريد. "هذا هو حبيبي، هذا هو زوجي".
نشيد الحبيبة هنا هو "نشيد الغائب ". فنحن لا نستطيع أن نرى الله، ولا نحاوله أن نتمثّله وكأنه صنم من الأصنام (أش 40: 18؛ 46: 5). فالحبيبة قد تمزّق قلبها وتحطّم جسدها، ومع ذلك هي تنشد نشيدها للغائب، لذاك الذي يقيم فيها والذي لا تستطيع أن تدركه، أن تصل إليه. نحن في هذه الآيات أمام تقدمة الحبّ ترخص للأمير الذي لا يمكن البلوغ إليه. فهو غائب. ولكن بدل ليتورجيا جنائزيّة، ها نحن أمام نشيد المجد الذي يرينا معجزة الحبّ الذي أنكر ذاته.
فمع أن الحبيب "غائب "، إلاّ أن الحبيبة هي بكلّيتها له. ومع أنه غائب، فهو فريد، فهو الأجمل. ووجهه الذي رأته وقبّلته، يبقى فيها إلى الأبد تجسيدًا للجمال المطلق... لم نعد أمام إنسان، بل أمام شخص الله الحاضر الغائب الذي تسجد له.
استعملت العروس 22 أداة تشبيه: الألوان، المعادن الثمينة، الحجارة الكريمة، العصافير، عناصر الكون، الأرض، المياه، الأشجار، العطور، الأزهار. انطلقت من كل هذا لكي تصوّر لنا حبيبها. غير أن ذاك الذي تراه يتعدّى بعظمته حدود الكون، وحبّه لا حدود له. وهي العروس المصلوبة بيد الأمير الغائب الذي تنشده، والذي يجعلها غيابُه وكأنه فقدت الخليقة كلها. ولكن الإيمان يصنع المعجزة فيحوّل ألمها إلى نشيد من المديح يتيح لها في انخطافها أن تصوّر لبنات أورشليم، أميرها الغائب.
ما نلاحظه في نش هو أن جمال الحبيب الذي لا يُعبَّر عنه، يُحتفل به هنا كحبّ لا يتغيّر ولا يتبدّل. جمال يختلف عن جمال الحبيبة الذي هو في جوهره متقلّب ومتحرّك. مثل جمال الحمامة والخراف والمعز في أرض فلسطين. جمال تأخذه من جمال الزهر والنبات في فلسطين، جمال عذب ولكنه عابر زائل. أما جمال العريس في هذا المقطع الوحيد الذي فيه تحاول العروس أن تتصوّره، فيبدو جمالاً لا يتحرّك، جمالاً مطلقاً.
وما يلفت النظر في هذا المجال، هو اختيار العروس في هذه القصيدة لحبيبها، الذهب والمعادن الثمينة والحجارة الكريمة، وخشب الأرز، كل هذا لا يتبدّل في نظر العالم. قالت أوغسطينس: "ذاك الذي ترغبين فيه لا يتحرّك. ذاك الذي ندعوه الكائن (الذي هو) لا يتبدّل لأنه الوجود الحقيقيّ. إنه ثابت دائمًا ولا يتحوّل. فلا فساد فيه. هو لا ينمو لأنه كامل. ولا ينقص لأنه أبديّ".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM