الفصل الخامس عشر: عروستي جنّة مقفلة

الفصل الخامس عشر
عروستي جنّة مقفلة
4: 13- 5: 1

شكّلت اللوحة في 3: 6- 11 مجموعة مميّزة ومشهدًا مستقلاً دون أن يكون كاملاً. غير أنها قدّمت سمات معبّرة نستطيع أن نحزر مدلولها. رأى عدد من الشرّاح رباطاً بين هذه المقطوعة والسياق اللاحق فقالوا: هو دخول احتفاليّ إلى أورشليم يسبق اتحاد الزوجين. وهذا ما يفترضه 4: 1ي. وقالوا: هو وصول سليمان إلى قصره من جبال لبنان قبل الكلام الذي فيه سيحاول الملك أن يقنع الشونميّة. وقالوا: هو وصول الربّ إلى الهيكل حيث سيثبت مسكنه في عيد تدشين الهيكل.
ولكن المقطع هو بالأحرى تصوير لعودة المسبيّين من المنفى وبداية المُلك المسيحانيّ. فسليمان الذي هو المسيح، هو هنا في صهيون. والحدث الذي يتمّ هو نهاية رغبات نش، هو الاتحاد النهائيّ بين العريس والعروس في سعادة تامّة. في هذه الظروف، نحن لم نخرج من الموضوع العام في نش، حيث يبدو هذا المقطع التعبير الأخير لهذا البحث المتبادل.
رأت المدرسة الطبيعانيّة في 3: 6- 11 تصوير موكب مع الاحتفال بالأعراس. وفي 4: 1 بدأ وصف العروس كما القاه العريس. ولكن الشاعر يريد أن يبرز الحبّ الولِه الذي ما زال الربّ يحتفظ به لشعبه، والرغبة في أن يعيد بناء هذه الوحدة التي تحطّمت في الماضي. وانتظار الاجتماع المقبل يختتم هذا القسم الأول من القصيدة.
ودلّ القسم الثاني على تدرّج بالنسبة إلى القسم الأول: فالعريس يعلن (آ 9- 15) شعوره أمام سحر الحبيبة. عاد من أجل ذلك إلى صورة العسل واللبن، كما سيعود إلى صورتَي الجنّة المقفلة والينبوع المختوم. نحن أمام جنّة سحريّة تنتج أغرب الصور وأكثرها تنوّعًا وأغلاها ثمنًا. وتنتهي الصورة مع نداء يوجّه إلى العريس لكي يدخل إلى جنّته وينعم بثمارها.
(آ 12) تُذكر الجنّة مرارًا في نش. في آ 15، 16؛ 5: 1؛ 6: 2، 11. وهي تُذكر دومًا في معرض الحديث عن العروس سواء تماهت مع فلسطين أم لا. الجنّة هي موضع مقفل. رج "ج ن ن ": غطّى، أحاط، دافع. والسياج يدلّ على حقّ الملكيّة كما على الحماية. فسّرت المدرسة الطبيعانيّة الصورة في معنى جنسيّ وإباحيّ. ولكن إن أردنا أن نكتشف معنى الصورة، نعود إلى التقليد البيبليّ. فنحن نرى هوشع في لوحته الأخيرة، يماهي الشعب العائد من المنفى مع جنّة مخضوضرة (14: 6- 7). وفي الخطّ عينه تنبّأ حزقيال: "يُقال: هذه الأرض التي كانت خربة صارت مثل جنّة الله " (36: 35). وقال أش 51: 3: "لقد عزّى الرب صهيون، عزّى جميع خرائبها. جعل برّيتها (صحراءها) كعدن، وقفرها كجنّة الرب ". وفي 61: 10 الذي استغلّه صاحب نش، كان حديث عن العروس والعريس. ونحن نقرأ في آ 11: "لأنه كما أن الأرض تخرج نباتها والجنة تنبت مزروعاتها، كذلك السيّد الربّ ينبت البرّ والتسبحة أمام جميع الأمم ". وهكذا، حين يقابل نش العروس بجنّة، فهو يتطلعّ إلى ازدهار مثاليّ ستعرفه الأزمنة الاسكاتولوجيّة.
إن باب الجنّة مغلق مقفل اقفالاً محكمًا. فالفعل "ن ع ل" يدلّ على باب مغلق من الداخل (قض 3: 23- 24؛ 2 صم 13: 17- 18). ثم نقرأ "ج ل " التي لا نجد لها معنى في القراءة الماسوريّة. ولكن عدّة مخطوطات عبريّة، والسبعينيّة والبسيطة والشعبيّة، تقرأ "ج ن " (جنة). فتصير العبارة: "جنّة مقفلة وينبوع مختوم ". لا شك في أننا أمام تكرار، ولكن التكرار أمر معروف في نش.
ولفظة "م ع ي ن " (كما في العربية) تعود بنا إلى أم 5: 16: "فلو فاضت الينابيع في الخارج، كسواقي مياه في الساحات ". أو بحسب السبعينيّة كما في المخطوط الفاتيكانيّ: "لا تَفض ينابيعك ". فالمياه التي "تكسر" العطش هي صورة الرغبة التي "شبعت ". أفهمنا سفر الامثال أن لا يبحث الرجل عن لذة الاتحاد الزواجيّ خارج الزواج الشرعيّ وقرب المرأة الغريبة. ويقدّم نش فكرًا مماثلاً حين يتحدّث عن "الينبوع المقفل " أو المختوم (ح ت م). فللعريس وحده حقّ على العروس. هنا نكون أمام موضوع معروف هو غيرة الله كغيرة الرجل على امرأته. وحبّه قد نسي تعاسات الماضي ودلّ. على متطّلباته كما في بداية حبّه (8: 6): "الحبّ قويّ كالموت، والغيرة قاسية كعالم الموت ".
(آ 13) نقرأ "ش ل ح " (رج "الشلح " في العربيّة العاميّة): أغراس، أغصان، فروع (شليحوت في السريانيّة). هناك من قال: قنوات. "ش ل ح ": أرسل. وقال آخرون. خدّاك، بعد أن صارت الكلمة العبريّة "ل ح ي ي ك ". أما نحن فنعود إلى أش 16: 8: إذ قد ذبلت حقول حشبون وكرم سبمة الذي صرعت جفناته سادة الأمم وفروعه بلغت إلى يعزير وساحت في البرّية وامتدت وجازت البحر". رج إر 17: 8؛ مز 80: 12.
نجد كلمة "ف ر د س " (فردوس) في نح 2: 8؛ جا 2: 5؛ سي (يوناني) 24: 30. جاءت من الفارسيّة ودلت على مكان يحيط به سياج. ودخلت في نظرة المقام الملكيّ في بلاد فارس. هناك من يلغي "ر م و ن ي م " (رمّان) في خط السبعينيّة كما في السينائي والفاتيكاني والاسكندرانيّ وعدد كبير من المخطوطات الجرّارة. ولكن يبدو أن هذه اللفظة هي في الأصل ونحن نحافظ عليها (في السريانيّة: فرديس درومنا). فالرمّان يدلّ على الثمرة والشجرة (4: 3؛ 6: 7؛ 8: 2؛ 6: 11؛ 7: 13). وهو علامة عن الخصب المرتجى (عد 23:13 ؛ تث 8:8 ؛ يوء 1 :12 ؛ حج 19:2).
"كافور مع ناردين ". تحدّث البعض عن الورد. ولكن يبدو أن الورد جاء من جبال القوقاز في أيام السلوقيّين (القرن الثالث)، أي بعد تدوين نش. يُذكر الورد في حك 2: 8 وفي سي (حسب اليونانيّة) 24: 14 ؛ 39: 13. ولكن في هذا النصّ الأخير قرأت السريانيّة البسيطة: الأرز. ولكن يرى عدد من الشرّاح أن العبارة "كافور مع ناردين " قد زيدت فيما بعد. لهذا ألغوها. أما نحن فحافظنا عليها لأنها موجودة في العبريّة والسريانيّة...
(آ 14) تقدّم لنا هذه الآية لائحة بمواد ثمينة، بدأت مع آ 13: كل ثمر شهيّ. كافور وناردين. هناك "ك ر ك س " أي الزعفران. "ق ن ه" هي القصبة وقد تكون القرفة والكون. رائحته معروفة ويُذكر في خر 30: 23 كأحد عناصر العطور المقدّسة. يعتبر عطرًا غالي الثمن (أش 43: 24) وهو يأتي من البلدان البعيدة (إر 6: 20). من عرابية (حز 27: 19) والهند. والكون (ق ن م و ن) يرد في خر 30: 23. وهناك البخور (أو: اللبان). في العبرية: ع ص ي. ل ب و ن ه: شجر اللبان. ويأتي المرّ (م ر) والعود مع أفخر الطيوب.
إن هذا التعداد يقابل ما في خر 30: 23. يكدّس الشاعر أسماء العطور النادرة والثمينة، ليبرز جمال العروس الفريد: لا يزاحمها أحد في نظر الله.
(آ 15) "م ع ي ن. ج ن ي م " معين جنّات. ينبوع جنّات. أي ينبوع يخصب الجنائن ويكوّنها. فلولا الماء لا نجد أثرًا للنبات. قالت السبعينيّة حسب الفاتيكاني: معين جنة وبئر. أما البسيطة فحافظت على النص الأساسي: معين جنات، بئر ماء حيّ.
كانت آ 12 قد تحدّثت عن جنّة مقفلة وينبوع مختوم. وها نحن نجد الجنّة في آ 13- 14. وفي آ 15، نجد الينبوع الذي ذكر في آ 12 ب. نحن في آ 15 مع جملة مستقلّة فيها يعبّر الشاعر عن إعجابه. وهذا الاندفاع الغنائيّ يدلّ على أسلوب نش، ويختتم بطريقة طبيعيّة صورة حماسيّة امتدّت منذ 4: 1.
"ب ا ر" أي بئر، لا معين ولا ينبوع. و"بئر ماء حيّ " يقرأ في تك 26: 19. ونجد نصًا مماثلاً في إر 2: 13؛ 17: 13 (م ق و ر. م ي م. ح ي م): "ينبوع المياه الحيّة". المياه الحيّة هي المياه الجارية، فتكون نقيّة وباردة. ونجد هذه العبارة في لا 14: 5- 6، 50- 52؛ 13:15 ؛ عد 17:19؛ زك 8:14.
"ن ز ل ي م ". أي: نازلة. لا "نابع ". ولا "أنهار". في السريانيّة: ردين. وهي تعني كما في العبريّة. الماء تُطفئ العطش، وتهدئ الرغبة. نجد الصورة عينها في أم 5: 15: "إمرأتك ماء مباركة نازلة في وسط بئرك ". هكذا تنحدر المياه من جبال لبنان إلى أرض فلسطين.
(آ 16) "أفيقي يا ريح الشمال". رج فعل "ع و ر" الذي قد يرتبط بالسريانيّة. وقد يعني: تحرّك، تنشّط، قام (2: 7). ويُقال أيضاً للجماد كما في إر 25: 32 (زوبعة عظيمة تقوم)، حب 2: 19؛ زك 13: 7 ؛ مز 57: 9. "ويا ريح الجنوب تعالي " (ب و ا ي). وقد نكون أمام "باء" في العربية أي عاد. "هبي " (هـ ف ي ح ي) أنفخي، اعصفي. يتوجّه الشاعر إلى هذه الريح أو تلك.
"ليأتِ حبيبي إلى جنّته ". هذا ما نقرأ في النص الماسوريّ. ونجد في بعض المخطوطات ضمير المتكلّم: "إلى جنتي " (أنا) كما من قبل (هبّي على جنتي). من يتكلّم في هذه الآية؟ رأى الشرّاح القدماء أن العريس يواصل كلامه. في الواقع، هي العروس تتكلّم. فالجنّة هي العروس. وهي "ملك " العريس وحده. لا شكّ في أن العروس التي هي شعب اسرائيل، تتماهى في خدعة أدبيّة مع أرض فلسطين كما في 7: 3- 6. ولكن الحبيبة تستعيد حقوقها. والعروس تستطيع أن تقول "جنتي" كما قالت "كرمي (1: 6؛ رج 13:2 ؛ 13:7) وسريرنا (16:1).
وتدعو العروس عريسها لكي يأتي إلى جنّته. ويكون الجواب في 5: 1: "أجيء إلى جنتي ".
(5: 1) أجاب العريس على نداء العروس بنبرة احتفاليّة. هل يأتي العريس لكي يحتفل بأفراحه؟ بل بالأحرى، نحن أمام مجيء الرب القريب. يعطي النصّ واقعًا سوف يتحقّق قريبًا. وتُذكر العطور التي جمعها العريس، والأطعمة الشهيّة التي تغذّى منها: المرّ مع الطيوب. الشهد مع العسل. الخمر مع اللبن. كل هذا يدلّ على سعادة الحبيب مع الحبيبة.
"ي ع ر" هو شهد العسل البريّ (1 صم 14: 25- 26). "د ب ش " هو العسل في المعنى العام (رج دبس في العربيّة). قالت السبعينيّة والشعبيّة: خبزي بدل عسلي، لكي تلغي التكرار. وجُمع النبيذ مع الحليب (خمر ولبن) ليمثّلا الحلاوة الكبيرة (4: 10- 11؛ رج 1: 2، 4؛ 7: 3- 10). لن نتساءل: كيف وجد العريس في جنّته كل هذه الأمور الطيّبة؟ فحنان العروس يوازي في نظر العريس كل العطور معًا، كل كنوز الأرض، وقد يكون الشاعر تذكّر أش 55: 1 الذي يدعو المساكين لكي يشبعوا مجانًا من الخمر واللبن.
ويتوجّه العريس إلى أشخاص يسميهم "ر ع ي م " أي: رفاق، أخلاّء. ويدعوهم لكي يقاسموه سعادته. فلفظة "ر ع " تدلّ على الرفيق، الصديق، الشخص الحميم. في 5: 16 ستكون مع "دود" فتعبّر عن حبّ العروس للعريس. وما نلاحظه، هو أننا نجد اللفظتين هنا. فمن هم هؤلاء "رع ي م "؟ يُظنّ عامّة أنهم أولئك المدعوّون إلى العرش. وبصورة خاصة أولئك الذين يرافقون العريس (قض 14: 11). وقال آخرون: بنو اسرائيل الأمناء للرب. لهذا يشاركون في أعراس الأمّة الروحيّة.
ولكن يرى بعضهم أن "ر ع ي م " لا يختلفون عن الحبيبة. فالعروس هي جماعة (المرأة تدلّ على المجموعة، كما نقول بنت أورشليم، أي شعب أورشليم) وحبّ الله يتوجّه إلى الأفراد الذين يؤلّفون هذه الجماعة. وهكذا نجد الحقيقة من خلال الاستعارة. وهذا ما وجدناه في 1: 4.
دُعي "الأخلاّء" ليشربوا ويسكروا. لسنا أمام السكر الذي نعرفه. ولسنا أمام صورة عن لذّة الحواس كما تقول المدرسة الطبيعانيّة، بل أمام سكر يُحدثه حبّ الله في نهاية الأزمنة وهو يترافق مع البركات الزمنيّة. وهكذا نلتقي مع أش 25: 6 ؛ 55: 1- 2؛ 13:65.
نقرأ لفظة "د و د ي م " (أحبّاء) مرارًا في نش. ترد عادة في صيغة المفرد مع الضمير: حبيبي، حبيبك. وبعض المرّات ترد في الجمع (1: 2، 4؛ 4: 10) فتدلّ على الحبّ. رأت الترجمات القديمة وبعض الكتّاب أن "د و د ي م " هنا يقابل "رع ي م " وأن اللفظتين تعنيان الشيء ذاته. فإذا كانت الأمّة قد سمّيت "حبيبة" فمن الطبيعيّ أن تطلق التسمية ذاتها على أعضائها.
وهكذا نستطيع أن نقول عن هذه الآية ما يلي: ما زال الرب يعتبر الشعب خيره الخاص ويحبّه حبًا خاصًا. وهو يؤكّد له مجيئه القريب والازدهار الخارق الذي يلي هذا المجيء. والدعوة إلى الأحبّاء (د و د ي م) هي صدى لما في أش 55: 1- 2 مع التلميح إلى الوليمة الاسكاتولجيّة التي يُدعى إليها الأبرار (رج أش 25: 6). وقد يكون الشاعر تذكّر أعيادًا يتحدّث عنها عز 6: 19 ي ونح 8: 10- 12.

جنّة مقفلة وينبوع مختوم
يرتبط الينبوع والجنّة دومًا معًا في الكتاب المقدّس. والواحد يرافق الآخر. فالينبوع هو الذي يمنح الجنّة جمالها. وينبوع الماء الحيّ، ينبوع الحبّ في قلب الحبيبة، هو الذي يؤمّن غنى وجمال جنّة حياتها، كما جعلها عريسها تترجّى. قال الرب: "تكون نفوسهم كجنّة ريّا" (إر 31: 12). وقال أش 58 بلسان الرب: "تكون كجنّة ريّا كينبوع فائض لا تنقطع مياهه ".
ويتواصل موضوع الجنّة عبر الكتاب المقدّس كله: جنّة الخليقة في الفصول الأولى من سفر التكوين. جنّة يُدفن فيها أميرُ الحياة، ويظهر للمجدليّة في صباح القيامة. جنّة العالم الجديد في نهاية سفر الرؤيا. جنّة الحبيبة التي هي في قلب القصيدة الثالثة من نش، بل في قلب نش كله. بل في قلب الكتاب المقدّس كله. فعلى خمس مرات تُمتدح الحبيبة على أنها جنّة تنمو فيها الحياة وتتغلّب على الموت (4: 12- 5: 1).
ويرافق كلَّ هذا تحديدٌ جوهريّ: واحد هو سيّد الجنّة وصاحب الينبوع. لا يدخل هنا إلاّ الحبيب، ولا أحد سواه. إذن، لم نعد في زمن كان يشتكي فيه من عروسه التي "تركته هو ينبوع الماء الحيّ واحتفرت لها آبارًا، آبارًا مشقّقة لا تحتفظ بالماء" (إر 2: 13). لقد جاءت الساعة التي فيها لن تُفتح الجنّة إلا للحبيب وحده. مفتاحها بيده، وهو فيها يتمشّى كما يقول حزقيال. "يكون الباب مغلقًا. لا يُفتح ولا يدخل منه أحد، لأن الرب، إله اسرائيل، قد دخل منه. لهذا يكون مغلقًا" (حز 44: 2). وقال أش 22: 22: "وأجعل مفتاح ست داود على كتفه (أي كتف المسيح). يفتح فلا يغلق أحد. ويغلق فلا يفتح أحد". ولا يشرب أحد غيره من الينبوع الذي في وسط الجنّة، لأنه يكون مختومًا. قال الرب: "أحرسه ليلاً ونهارًا خوفًا من أن يأتي عليه أحد" (أش 27: 3).
ترد ثلاث مرات في هذين البيتين من نش لفظتا "مقفل، مختوم "، فتعبّران عن حصر الحبّ في الله، عن حصر الانتماء إلى الله، عن تكريس جذريّ ومطلق يقوم به الحبيب تجاه التي هي مسيّجة، مقفلة، مختومة، مثل وثيقة سريّة وحقيقيّة تحتفظ بكلامها للحبيب وحده. تكريس لتلك التي هي لعريسها وحده على مثال ما قال بولس لمسيحيّي كورنتوس: "خطبتكم لرجل واحد" (2 كور 11: 2).

* أغراسك فردوس رمّان
ولكن كيف نفسّر أن تكون كلمات الحبيب متعارضة كل التعارض مع تلك التي تلفّظ بها منذ لحظة. قال: "أغراسك فردوس رمّان وكل ثمر شهيّ، وكافور مع ناردين. ناردين وزعفران، كمّون وقرفة مع كل أشجار البخور. مرّ وعود مع أفخر الطيوب. معين جنّات وبئر مياه حيّة نازلة من لبنان"!
نحن أمام مفارقة هامّة نجدها في كل قصيدة من قصائد نش: حبيبة مكرّسة حصرًا لعريسها، جنّة مقفلة، ينبوع مختوم. ومع ذلك، فهي في الوقت عينه مفتوحة على جميع سكّان الأرض. هذا هو معنى هذه الأشعار وبُعدها. فـ "البستان المقفل " يرسل الأغصان إلى أبعد من حدوده، فتصل إلى أقاصي العالم. هي تجتاح الأرض كلها كما رآها أشعيا بإلهام إلهيّ: "وفيما بعد يتأصّل يعقوب وينبت، ويُزهر اسرائيل، ويملأ وجه المسكونة ثمارًا" (أش 27: 6). ونقرأ في هو 14: 7: "وتمتد أغصانه ".
هذه الأغصان، هذه الفروع، لا تجعل فقط من أرض فلسطين "فردوس رمّان" مع "أشهى الثمار"، بل إن أفخر الطيوب الآتية من البلدان البعيدة، وعددها سبعة (عدد الكمال)، تملأ جنّة الحبيب السريّة والمدهشة. فالجنّة المقفلة التي تحوي أطيابًا لا تملكها فلسطين، قد صارت الأرض كلها التي تجمع الجنّة منها العطور العديدة وترسلها إلى أقاصي الأرض فتعطّر كل خليقة الله. هذا ما حدث في بيت عنيا مع رائحة الناردين الذي أفاضته مريم على يسوع قبل موته (يو 12: 3). وهكذا تجمع النفس المكرّسة في ذاتها كل أشواق الأرض لكي تحوّلها إلى مديح يتجدّد به الكون ويحيا من جديد.
وسوف نرى أيضاً كيف أن "المعين المختوم" قد صار "معين (ينبوع) الجنّات ". ليس فقط ينبوع جنّة واحدة هي جنّة العروس الداخليّة، بل ينبوع كل جنّات الأمم. صار"بئر مياه حيّة"، ومياهًا "نازلة من (جبل) لبنان ". نحن هنا أمام عمق الآبار، وانحدار المياه النازلة من أعالي الجبال. وكما أن نهر الفردوس في سفر التكوين "كان يخرج من عدن فيسقي الجنّة، ويتشعّب من هناك فيصير أربعة أنهار" (تك 2: 10)، تتوزّع على أقطار الأرض الأربعة، فتذهب لتسقي الأرض كلها، كذلك الينبوع المحفوظ لعطش الحبيب وحده. سيذهب عبر العالم كله ويطفئ عطشه، ويبقى مع ذلك مختومًا. "تكونين مثل جنة مرويّة، مثل ينبوع فائض لا تنقطع مياهه " (أش 58: 11).
بعد أن توقّف الشاعر عند "الجنّة المقفلة" (والمحكمة الإقفال) و"المعين المختوم " (ينبوع مختوم سبعة ختوم، فلا يستطيع أحد أن يفتحه)، امتدّ نظره إلى المياه المنحدرة من الجبال. هنا نتذكّر ما قاله أم 5: 16- 17: "فلو فاضت الينابيع في الخارج، كسواقي مياه في الساحات، فلتكن لك دون سواك، دون أيّ من الآخرين ".
ولكن ليست هذه عاطفة الحبيب في نش. بقدر ما تكون عروسه مكرّسة حصرًا له، بقدر ذلك يكون انفتاحها على العالم شاملاً وخصبها يصل إلى أقاصي الأرض. إذن، يذهب الينبوع المختوم، باندفاع وحريّة، فيسقي الكون كله بمياهه الحيّة. هذا ما وعد به يسوع السامريّة: "فالماء الذي أعطيه يصبح فيه ينبوعًا يفيض بالحياة الأبديّة" (يو 4: 14). وهكذا تختبر النفس الخفيّة التي تحتفظ بذاتها كلها لله، أن "من جوفها تجري أنهار مياه حيّة" (يو 7: 38).
وقد طبّقت إحدى القدّيسات هذه العبارة حول الجنّة والينبوع، على العذراء مريم فقالت: "ينبوع البساتين الروحيّة، بئر المياه الحيّة التي تنحدر أنهارًا من بستان الالهيّ. إنها تجري من جبل صهيون إلى كل الأمم التي تحيط بها أو تمتدّ إلى البعيد، فأنهار سلام وسواقي نعمة تفيض من السماء".
أن تكون زهورًا وعطورًا وأثمارًا، أن تكون ينبوعًا ومجرى مياه حيّة لنموّ الكون كله وجماله، كل هذا من أجل سرور العريس. ولكن من أجل سعادة العروس أيضاً.

* أفيقي يا ريح الشمال
أجل، كل سعادة العروس أن تكون فرح العريس. ولهذا، فهي ترفع الصوت هنا للمرّة الأولى في هذه القصيدة الثالثة التي "تغزّل" بها عريسها تغزّلاً "مجنونَا". هي صاحبة الجمال الفريد، تريد أن تكون بحسب رغبته، مكرّسة له، محترقة له، يحرقها بنار حبّه. لهذا هتفت: "أفيقي يا ريح الشمال، وتعالي يا ريح الجنوب! هبّي على جنّتي فتفيض طيوبها. ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمرها الشهيّ ".
تستطيع العروس أن تقول في الوقت عينه وفي العبارة ذاتها: جنّتي أنا، وجنّته هو. فالجنّة واحدة. العروس هي الجنّة وهي لعريسها. وهي لا "تخصّ" ذاتها إلا بقدر ما هي كلّها له. وبقدر ما تكون له تكون حقًا لنفسها. إذن، لم تعد رغبتها إلا في أن تفيض نفسها في حضوره، في أن تنسى نفسها ، تضيعّ نفسها. حينئذ تجدها حقا.
ومن أجل هذه الغاية، دعت الرياح جميعًا. تلك الآتية من الشمال، وتلك الآتية من الجنوب. لتأتِ. لتسرع، ولتنفتح على الجنّة فتُخرج منها كل العطور وتحملها إلى قلب الحبيب. هناك الرياح الباردة التي تأتي من الجبال الشماليّة، والرياح الساخنة الآتية من الصحراء العربيّة. رياح "مجلّدة" تدلّ على المحنة والألم. رياح حارّة تدلّ على فرح الحبّ وتعازيه. ولكن روح الله، نفحة الحياة، يجعل كل شيء يؤول لكي تخرج الجنّة الجميلة كل عطر ينتظره حبيبها منها.
قال يوحنا الصليب في هذا المجالس: "تعالي يا ريح الجنوب، أنت يا من توقظين الحبيب. تعالي وانفخي في جنّتي... فالريح هي الروح القدس. وهو يوقظ الحبّ حين يملأ النفس ويحرقها ويعيد خلقها وينعشها. وإذ ينفخ الله مع روحه في جنّته المزهرة، فهو يفتح أزهار الفضائل، ويكشف عن عطور المواهب، وعن كمالات النفس وغناها. وحين يفتح هذا الكنز وهذا العالم الداخليّ يكشف كل جماله ".

* ليأتِ حبيبي إلى جنّته
ولكن لا يكفي أن تقطّر الجنّة عطورها السريّة قطرة قطرة بفعل جميع الرياح، لتترك الطيب يرتفع إلى قلب الحبيب كما سبق للعروس وفعلت. فتمتمت في داخلها: "حين يكون الملك في مجلسه، ينشر نارديني عبيره " (1: 12). يجب على الحبيب أن ينزل بشخصه اليوم إلى جنّته: ليدخل إليها وليضع يده عليها لكي يمتلكها. ولا يكتفِ بأن يتنشّق العطور، بل ليقطف ثمارها الشهيّة وليذقها. لهذا قالت: "ليأتِ حبيبي إلى جنّته ويأكل ثمرها الشهيّ ".
قال غريغوريوس النيصيّ: "هي كلمة جريئة جدًا. لمن تقدّم ثمارها؟ لمن تهيّئ طعامًا من خيراتها؟ لذلك الذي به ومنه وفيه كل الخيرات. قبل ذلك الوقت كانت هي تتنعّم من ثمرة التفاحة فتقول: ثمره حلو في حلقي. وها هي قد صارت بدورها ثمرة جميلة وشهيّة. تقدّم للبستاني لكي تسرّه "
هو الروح القدس يكشف منذ الآن عن حضوره في نفس الحبيبة من خلال نش. فهي حقًا جنّة الروح: حيث تجري مياه الروح الحيّة. حيث تنفخ ريح الروح القويّة والعذبة. هي الجنّة التي تعطّرها طيوب عطايا الروح التي لا تحصى. وحيث تُقطف ثمار الروح التي يتحدّث عنها بولس في غلاطية. وأوّل هذه الثمار، بل هو يجمل هذه الثمار: المحبة (غل 5 :22).

* أجيء إلى جنّتي
قالت الحبيبة: ليأتِ حبيبي. فأجاب الحبيب حالاً: أجيء إلى جنّتي. هو لم ينتظر لحظة واحدة. فهو يستسلم بكلّيته إلى النفس التي تسلّم ذاتها إليه. قالت تريزيا الأفيليّة: "هو لا يستطيع أن يرفض بأن يعطي ذاته لتلك التي تعطي ذاتها بكليّتها له ". وقال يسوع: "إن أحبّني أحد أحبّه أبي. ونأتي عنده ونصنع عنده منزلاً" (يو 14: 23). وهكذا نسمع العريس يقول: "أجيء إلى جنّتي، يا أختي العروس. أقطف مرّي وطيوبي، وآكل شهدي مع عسلي، وأشرب خمري ولبني ".
أجل، لقد أحسّ الحبيب بعظمة التقدمة التي تقدّمها له الحبيبة، بغنى حياة تلك التي يحبّ. وهو يعبّر عن هذا الشعور بالتكرارات الاحتفاليّة الفخمة. فيعلن: أقطف، آكل، أشرب... لقد أعطي له مع حياة عروسه، كل عطر يمكن أن يتنشّقه إنسان في الكون، كل طعام حلو المذاق وعذب. كل شراب يبرّد القلب ويقوّيه ويسكره. إن الحبيبة تشبع جميع رغباته. إنها مرّ وطيب، عسل وخمر ولبن. كلها عطور، كلها عذوبة، كلها سكر.
والفرح هو تام في هذا الامتلاك التام مع ورود ضمير المتكلّم المفرد ثماني مرّات: جنّتي (أنا)، أختي العروس، مرّي، لباني، عسلي، شهدي، خري، لبني أنا. هي ساعة الوليمة في الاعراس، ساعة الحبّ الذي وصل إلى التمام. وقد تصوّر أوريجانس كل هذا من خلال الفضائل الانجيليّة التي تشكّل مختلف الأطعمة: "قل لي، بأي طعام سيتغذّى هؤلاء المدعوّون؟ أولاً السلام. ثم يقدّم لهم في الوقت عينه التواضع والصبر واللطف والوداعة. وتُقدّم لهم فاكهة عذبة وشهيّة هي نقاوة القلب. ولكن الجزء الجوهريّ في الوليمة هو الحبّ ".
هذه الوليمة تختلف عن سائر الولائم التي نعرفها في التوراة حتى الآن. فالعروس هي التي تقدّم "الطعام" للعريس. فقد كنا قرأنا في أش 25: 6: "سيصنع الرب القدير على هذا الجبل وليمة لكل الشعوب، وليمة من اللحوم السمينة الطيّبة ومن الخمر العتيقة المروّقة". وكان المرنّم قد قال: "يرتوون من ولائم بيتك، ومن نهر فردوسك تسقيهم " (مز 36: 9). أما هنا فنحن أمام جديد كله جديد. فالعريس هو الذي يعرف فرح الوليمة التي أعدّت له، فيستطيع أن يقول لحبيبته: "كنت جائعًا فأطعمتني. كنت عطشانًا فسقيتني " (مت 35:25).

* كلوا يا رفاقي واشربوا
ومن لماذا يظهر العريس الآن وقد قام عن المائدة، وفتح على مصراعيها قاعة الأعراس حيث قدّمت له عروسه مثل هذه الوليمة؟ لماذا يرسل في الرياح الأربع وبالصوت العالي هذه الدعوة التي لا تصدّق فيقول: "كلوا يا رفاقي واشربوا، واسكروا يا أحبّائي ".
لقد سمعنا مثل هذه الدعوة ترتفع من أعماق الكتب المقدّسة. صرخت الحكمة في الساحات: "تعالوا، تعالوا. كلوا من خبزي، واشربوا من خري " (أم 9: 5). وقال أش 55: 1- 2: "أيها العطاش، تعالوا إلى المياه حتى الذين لا فضّة لهم. تعالوا اشتروا، بلا فضّة ولا ثمن. اشربوا الخمر واللبن ".
وهو النداء نفسه يستعيده اليوم حبيب نش. ولكن ها إن مائدة حبيبته صارت مائدته. والعيد الذي دعته إليه صديقته، صار العيد الذي إليه يدعو جميع أصدقائه. والطعام الذي قدّمته له، فكانت فيه العسل واللبن والخمر وجميع الثمار، قد تحوّل إلى طعام يقدّمه هو بنفسه للجميع. ففي يوم من الايام، أخذ يسوع خمسة أرغفة شعير وسمكتين صغيرتين قدّمها إليه صبيّ صغير، فجعل منها الخبز الذي يشبع الجموع (يو 6: 9). وفي ليلته الأخيرة، جلس إلى المائدة مع أصحابه وقالت على الخبز والخمر المأخوذين من أرضنا: "خذوا كلوا. خذوا واشربوا منه كلكم ".
فكلّهم مدعوّون إلى مائدة الأعراس. لا يُستبعد أحد، لا يميّز أحد. كل الأصحاب. يعني جميع البشر والتي كانت حبيبته المتحفّظة والمقفلة والمختومة والتي امتلكت جميع الثمار بغيرة قويّة، هي الآن حاضرة في المائدة المشتركة تتقاسم كل شيء مثله، مع جميع المدعوّين. وتقسم ذاته معها على الجميع. وذلك الذي كان يقول دومًا: صديقتي، رفيقتي، حبيبتي، يقول الآن (وستكون الكلمة الأخيرة في القصيدة): أصدقائي، أحبّائي. كلهم صاروا أحبّاءه في حبيبته الفريدة. نحن نرى هنا من البعيد رسمة عن الكنيسة عروس المسيح التي تجمع له البشريّة كلها.
وفي مائدة البشريّة التي اتسعت وسع العالم، لن ينقص الخبز أبدًا. ولا الخمر التي تجري بغزارة. "فهل يستطيع بنو العرس (المدعوون إلى العرس) أن يصوموا والعريس معهم" (مر 2: 19)؟ ورغبة الحبيب ليست فقط في أن نشرب، بل في أن نسكر. هنا نحتاج إلى الجرأة. كم من أناس نراهم في وليمة الحبّ يكتفون بأن يأكلوا أي بأن يتأمّلوا فيعالجون الكلمات والأفكار. ولكن هناك عددًا قليلاً يتجرّأ فيشرب بلذة ووفرة كما في المشاهدة. ولكن قلّة قليلة تصل إلى السكر فتترك الروح يستولي عليها ويختطفها.

خاتمة
وتنتهي القصيدة الثالثة من قصائد نش مع هذه الوليمة الحقيقيّة، وليمة الملكوت، وليمة العريس والعروس التي يُدعى إليها الجميع. منذ الآن قال يسوع: "يشبه ملكوت السماوات ملكًا أقام وليمة في عرس ابنه " (مت 22: 2). وقال أيضاً: "وسيجيء الناس من المشرق والمغرب، ومن الشمال والجنوب، ويجلسون إلى المائدة في ملكوت الله " (لو 13: 29). هذا ما نجد عنه صورة مسبقة هنا: "كلوا يا رفاقي واشربوا، واسكروا يا أحبّائي ". ويأتي الجواب من البشر بلسان يوحنا في آخر سفر من الأسفار المقدسة: "طوبى للمدعوّين إلى وليمة عرس الحمل " (رؤ 9:19).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM