الفصل الرابع عشر: تعالي معي من لبنان

الفصل الرابع عشر
تعالي معي من لبنان
4 :8-11

بدأ العريس يتكلّم منذ آ 1: "جميلة أنت يا رفيقتي ". وما زال حتى الآن يشاهد العروس. تأمّل في جمالها، ووصف شعرها الشبيه بقطيع من المعز كما وصف أسنانها وشفتيها ووجهها وعنقها وثدييها. وعاد يعلن في النهاية: "جميلة كلك يا رفيقتي وما فيك عيب ".
وها هو الآن يدعو حبيبته لكي تأتي إليه. كانت قد قالت: عد يا حبيبي كالظبي، عد سريعًا. والآن، هو يطلب منها أن تأتي إليه. هي بعيدة، هي خارج أرض فلسطين. فالحبيب، الذي هو الربّ، ينتظرها في هيكله. هي مشتّتة من خلال أولادها الذين راحوا إلى المنفى. وكم يريدها أن تعود، كم يريدهم أن يعودوا.
ويعود الشاعر إلى تصوير العروس بشكل روحي منطلقًا من إطار مليء بالجمال، هو جبل لبنان بخمره وطيوبه، بعسله ولبنه، بجنّاته بما فيها من أغراس طيّبة الثمار. عروسه جميلة في الخارج. هذا ما قرأناه في المقطع السابق. وعروسه جميلة في الداخل. هذا ما نقرأه في هذا المقطع. لهذا يقول لها: "خلبت قلبي يا عروسي ".
(آ 8) إن قرأنا النص الماسوري (أي العبري كما شكله العلماء في القرن الثامن ب م)، نفهم: معي من لبنان. وإن تبعنا السريانيّة البسيطة واللاتينيّة الشعبيّة نقرأ: "تعالَي من لبنان، يا عروس ". هو العريس يطلب من عروسه أن تأتي إليه حيث هو، أي في أورشليم كما قالت آ 6 (جبل المرّ وتلّ البخور). لقد انقلبت الأدوار بالنسبة إلى 2: 8 ي: "هو صوت حبيبي، ها هو آتٍ ".
نجد "ك ل ه" (عروس، خطّيبة) هنا للمرة الأولى وسيتكرّر وجودها في آ 9، 10، 11، 12 وفي 5: 1، ولن نعود نجد هذه اللفظة في نش. هذه التسمية تنطبق على العروس التي لم تذهب بعد إلى بيت زوجها، فظلّت في بيت والديها. هي ما زالت مخطوبة بمعنى أن الاحتفال بالعرس لم يتمّ بعد. ولكنها عروس العريس في المعنى الشرعيّ بعد أن تمّ الاتفاق ودُفع المهر (رج تث 20: 7؛ 22: 23 ي).
وإذا عدنا إلى "الخدعة الأدبيّة" التي تحدّثنا عما في 3: 11، فالشعب يحمل لقب "ك ل ه" بطريقة شرعيّة. وقد أعطي له في هو 2: 21- 22: "أتزوّجك إلى الأبد. أتزوّجك بالصدق والعدل والرحمة والرأفة. أتزوّجك بكل أمانة فتعرفين أني أنا الرب ". ونقرأ أش 49: 18: "بنوك اجتمعوا كلهم وعادوا... تلبسينهم جميعًا كالحلي وتتقلّدين بهم كالعروس "، رج 61: 10؛ 62: 5.
"ت ب و ا ي ". تجيئين. هو الفعل في صيغة المضارع. يعبّر عن الرغبة ويدلّ على الأمر: يا ليتك تجيئين. هذا يعني أن القراءة للسريانيّة للكلمة "ا ت ي " هي الصحيحة: تعالَيْ. وهكذا نكون أمام توازٍ : تعالي... تجيئين. والتكرار يدلّ على أن الرغبة تلحّ عليه.
نقرأ "ت ش و ر ي ". أما الشعبيّة فقرأت: "ت ع ط ري " أي تتكلّلين. هناك فعل "ش و ر" (رج في العربيّة سار وفي الأشوريّة) الذي يعني مرّ، سافر، سار في قافلة. نجده في أش 58: 9؛ حز 27: 025 احتفظت السبعينيّة والبسيطة (تعبرين) بهذا المعنى (تأتين وتعبرين). ويعني فعل "ش و ر" أيضاً. نظر، شاهد. نجد هذا المعنى في سفر أيوب. وهناك نصّ في عد 23: 9 يفترض وضعًا مشابهًا لوضع هذه الآية: نظر من أعلى الجبل.
"من أعالي أمانة". قالت السبعينيّة: من بداية الايمان. في الواقع، لا يُذكر "أمانة" إلا في هذا الموضع من التوراة كاسم جبل. تحدّث المفسّرون اليهود القدماء عن امانوس الذي هو قمة في طورس، ويقع شماليّ العاصي. أما معظم الشرّاح المعاصرين فيجعلونه في المنطقة التي ينبع فيها نهر بردى الذي يسمّى "أمانة" في 2 مل 5: 12 حسب النصّ المقروء.
أجل، إن جبل نش 4: 8 الذي عرفته الحوليّات الأشوريّة في القرن الثامن بشكل ام- م ا- ن ا، يقابل جبل الزبداني الذي فيه يولد نهر بردى. وجبل الزبداني هو جزء من سلسلة جبال لبنان الشرقيّة (انتيليبان) التي تبدأ عند جبل حرمون.
ويذكر"سنير" هنا ويميّز عن حرمون. والتمييز واضح بينهما في 1 أخ 5: 23. غير أننا نجد حاشية في تث 3: 9 تقول: "وحرمون يسمّيه الصيدونيّون سريون، والاموريون يسمّونه سنير". ولكن العلماء يرون أن اسم سنير ينطبق على القسم الشمالي من جبل حرمون. ويمتدّ بين بعلبك وحمص. وإذا عدنا إلى مدوّنة شلمنصر (842 ق م)، نفهم أننا أمام مرتفعات تشرف على المدخل الشمالي للبقاع (المسمّى سورية الجوفاء)، أي السلسلة الشرقيّة. نفهم أننا أمام ما سمّي جبل سنير عند الكتّاب العرب حتى القرن الرابع عشر.
أما حرمون فيكوّن سلسلة جبليّة تمتد على 30 كلم تقريبًا وهي تتوجّه من الجنوب الغربيّ إلى الشمال الشرقيّ، وتشكّل القسم الجنوبيّ من السلسلة الشرقيّة في لبنان (انتيليبان). أما قممه الثلاث فتشرف الأولى على البقاع، والثانية على سهل دمشق، والثالثة على وادي الاردن. حين يقف الانسان على حرمون، يشاهد وادي الأردن وبحيرة طبرية والجليل والسامرة حتى جبل الكرمل.
والإشارة إلى "مرابض الأسود" تجعلنا نذكر نا 2: 12 الذي أعلن دمار نينوى فصوّر هذه المدينة على أنها مربض يلجأ إليها الأسود و"يخرجون " منها ليبحثوا عن طريدة، كما أنهم هناك يكدّسون الأسلاب. هل نفهم هذا الكلام في المعنى الحرفيّ؟ لقد قدّمت تفاسير مثل هذه: كانت العروس تصطاد في الجبال. هي بتول جموح ولا تريد أن تترك هذه الأماكن الموحشة، فاندفعت تنتقل من أمانة إلى سنير وحرمون. أو قال العريس: حين تكونين معي أنتِ في أمان على أعلى الجبال وفي عرين الأسود والنمور. أينما كنت أحفظكِ وأحميكِ.
وهكذا لا نفهم الآية إذا قرأنا هذه العبارة بالمعنى الحرفيّ. لهذا نلجأ إلى الاستعارة. فالتوراة التي تذكر الأسود الذين يقيمون في غور الأردن (إر 49: 19)، لا تقول إن جبال لبنان اختصت بإقامة الحيوانات المفترسة. ولكن هناك استعارة واستعارة. فالأسود لا تدلّ على المحيط المعاديّ الذي تقيم فيه العروس. ولا تدلّ على جيران شعب اسرائيل، ولا على الخطر الذي تشكّله الأصنام في الحقبة الفارسيّة واليونانيّة.
فماذا تعلّمنا التوراة عن الأسد والأسود؟ قد تدلّ صورة الأسد على شعب اسرائيل (عد 23: 24: هو شعب كلبوة يقوم وكشبل ينهض واقفًا) أو على إحدى قبائله (تك 49: 9: يهوذا شبل أسد... كأسد سريع يركع ويربض، وكلبوة، فمن يقيمه؟)، أو على أحد ملوكه (حز 19: 2، 6: يا لأمّكم لبوة بين الاسود... سار بين الاسود وصار شبلاً). وتدلّ الصورة بشكل خاص على عدوّ رهيب وتقليديّ يأتي من الشمال الشرقيّ. نقرأ في إر 4: 7: "طلع الأسد من عرينه! ها هو قاهر الامم! يزحف خارجًا من مكانه ليجعل الأرض خرابًا"، رج 5: 6؛ 50: 17 ؛ 51: 38؛ نا 2: 12- 14؛ يوء 1: 6.
أما لفظة "ن م ر" فتتخذ معنى استعاريًا (رج أش 11: 6؛ سي 28: 23...). في هو 13: 7- 8، يهدّد الله شعبه الخائن بأن يكون له أسدًا ونمرًا ودبًا. وفي هذا تلميح إلى العدوّ الذي يهدّد أرض فلسطين. إستعاد إر 5: 6 هذا المقطع حين تحدّث عن اجتياح سريّ يأتي من الشمال. وربط حبقوق هذه الصورة مع الكلدانيّين. لهذا نقول إن نش 4: 8 يتحدّث عن هذه الشعوب التي كانت أداة غضب الله تجاه اسرائيل، والتي بقي بينها عدد من الذين راحوا إلى السبي سنة 721 (الأشوريون) وسنة 587 (البابليون).
ولكن لماذا جُعلت هذه الوحوش المفترسة في سلسلة لبنان الشرقيّة؟ هناك سببان. الأول: إن هذه الجبال التي تقفل أفق اسرائيل في الشمال والشمال الشرقيّ، حدّدت طريق الاجتياحات. فالجيوش الاشوريّة والكلدانيّة كانت تصل إلى الشاطئ الفينيقيّ عبر وادي العاصي والليطاني، أي عبر مدخل حماة (رج زك 9: 1ي). الثاني: يشبّه الكتاب المقدس القوى المتكبّرة التي تعادي الربّ بالجبال العالية، بالغابات، بأرز لبنان (أش 2: 12- 14؛ 32: 19 ؛ إر 21: 14 ؛ 46: 22- 32؛ حز 21: 2-3).
ونلاحظ بشكل خاص النصوص التالية التي تتحدّث بوضوح أو بشكل ضمني عن الأشوريين أو الذين جاؤوا بعدهم. نقرأ في أش 10: 33- 34: "لكن السيد الربّ القدير يكسرهم كالأغصان بعنف، يجدع رؤوسهم المتعالية، ويحطّ كل شامخ فيهم. يقطع غاب الوعر بالفأس ولبنان بكل مجده يسقط ". رج، 32: 16- 19 ؛ حز 31: 1ي ؛ زك 11: 1-2؛ مز 29: 5- 6: "صوت الرب يكسّر الأرز، يكسّر الرب أرز لبنان ".
من أجل كل هذا سمّي البلد الذي حكمه الأشوريون في الرمز: أمانة، سنير، حرمون، أو: مرابض الاسود، جبال النمور. وفكّر نش بأبناء إسرائيل، أبناء الذين سباهم سرجون (سبى السامرة سنة 721) أو نبوكد نصر (سبى أورشليم سنة 587) إلى ضفاف دجلة والفرات فشكّلوا جزءًا كبيرًا من الأمّة. هم يُدعون الآن لكي يرجعوا إلى فلسطين حيث عاد الربّ إلى هيكله (لا ننسى أن العروس تمثّل الشعب). وبعد أن يخرجوا من البرّية ويعبروا وادي البقاع، يدعوهم الشاعر إلى الوقوف على جبال لبنان ليتأمّلوا من هناك أرض آبائهم التي يرونها للمرّة الأولى. أن يفعلوا مثل بني اسرائيل في زمن الخروج: خرجوا من صحراء سيناء فتأملوا من على نبو وفسجة في أرض الميعاد التي تمتدّ أمامهم (تث 32: 48-52؛ 34: 1- 4).
(آ 9) نقرأ "ل ب ب ت ن ي ": خلبت قلبي، سبيت قلبي. يعود فعل "ل ب ب " إلى اللبّ أو القلب. أما السريانية فقرأت: شجعتيني. ورأى بعض الشرّاح أن هذا المعنى معقول بعد أن ذُكرت الحيوانات المفترسة. وقالت الشعبيّة: جرحت قلبي.
"ا ح ت ي. ك ل ه": أختي العروس. هي عبارة نجدها في آ 9، 10، 12 وفي 5: 1 . من أين أتت؟ قد تكون أتت من مصر، ونحن نعرف تأثير الأدب المصريّ على الأدب العبري: على أيوب، على سفر الأمثال، على نش. أما معنى هذه العبارة فهو إظهار حنان وحنان: حنان العروس وحنان الأخت.
(آ 10) غاب القسم الأول (ما أشهى حبّك يا أختي العروس) من الآية من السبعينيّة حسب الخطوط الفاتيكاني. أما البسيطة (ومثلها السبعينيّة) فقرأت "ت د ي ك " أي ثدييك بدل "د د ي ك " أي ودّك وحبّك. هذا ما يذكّرنا بما في أم 5: 19: "تكون لك الظبية المحبوبة والوعلة الحنون الصغيرة. يرويك ودادها (لا ثدياها) كل حين، وبحبّها تيه على الدوام ".
تستعمل "ي ف ه" في الحديث عن الجمال الطبيعي أكثر منه على التأثير الذي يسبّبه هذا الجمال (رج 1: 8، 15 ؛ 4: 1، 7؛ 6: 4؛ 7: 2). ولكن يبدو هنا أن المعنى الثاني هو المعقول، ولاسيمّا إذا نظرنا إلى المقابلة مع الخمر والطيوب التي "نتذوّق " طعمها أو رائحتها. نشير إلى أن المقابلة مع الخمر قد وردت في 1: 2، 4. ثم إن 1: 2 ب يشبه تقريبًا ما نقرأه هنا: "حبّك أطيب من الخمر".
قرأت السبعينيّة بحسب الفاتيكاني "ملابس " بدل "الطيوب "، فقالت: "أريج ملابسك ". وقد تكون تأثّرت بما في آ 11 ج (أريج ثيابك أريج لبنان). "ب س م ي م " (رج في السريانيّة: بسما) تعني الطيوب بشكل عام (خر 30: 23 ؛ أش 3: 24). إن آ 10، شأنها شأن آ 9، تعبّر عن الشعور الذي أحدثه في العريس جمالُ العروس. وهو يستعيد لذلك عبارات استعملتها الحبيبة لتصوّر الحبيب. هكذا يبرز الشاعر تبادل الحبّ الذي يوحّد بينها.
(آ 11) يدل "ن ف ت " على العسل السائل الذي يجري من الأقراص. أما السبعينيّة فتحدّثت عن خلايا الشمع. وقالت ترجمة أكيلا: مذاق حلو. ويبرز معنى اللفظة كما في مز 19: 11: "أحلى من العسل وقطر الشهاد". وترد عذوبة "ن ف ت " في أم 24: 13: "يا بنيّ، كُلِ العسل فإنه لذيذ". وفي 27: 7: "النفس الشبعى تدوس الشهد، وللنفس الجائعة كل مرّ حلو". ولكننا نتوقّف بصورة خاصّة عند 5: 3: "شفتا الغريبة تقطران شهدًا، وحنكها ألين من الزيت ".
ما هو المعنى الرمزيّ للعسل؟ نعود إلى أم 5: 3 وإلى استعمال لفظة "ن ط ف ": جعل الكلام يسيل، نطق. يُستعمل هذا الفعل في أي 29: 22 بمعنى: قطر، سال نقطة نقطة (على كلامي لا يزيدون، وأقوالي تقطر عليهم كالندى). رج عا 7: 16 ؛ حز 21: 2، 7 (نقابل "ن ب أ" كما في العربيّة نبع) ؛ مي 6:2، 11.
"د ب ش " يدلّ على عسل النحل الذي كان كثيرًا في فلسطين. في أم 16: 24 (أقوال النعمة شهد عسل) يدلّ على عذوبة الكلام. وفي نش 5: 1 على عذوبة الحبّ. لماذا قال الكاتب "د ب ش " بعد "ن ف ت "؟ لأنه تذكّر عبارة ترد مرارًا في أسفار موسى وتدل على أرض الموعد: أرض تدرّ لبنًا وعسلاً (خر 3: 8، 17؛ لا 20: 24؛ عد 13: 27 ؛ تث 6: 3...). هو اللبن مع العسل. هو قمة العذوبة والطيبة.
"س ل م ه" تقابل "س م ل ه" (في العربية الدارجة: الشملة). هي قطعة قماش بشكل ثوب يوضع فوق الثياب (خر 8:22، 25). وقد تعني الثوب بشكل عام (تث 29: 4). نجد هنا موازاة مع تك 27: 27: بارك اسحق يعقوب فدلّ الأريج الذي يفوح من ثيابه على وفر البركات الإلهيّة. وقد نذكر مز 45: 9: "جميع ثيابك مرّ وعود وسليخة". قالوا: الشولميّة هي بنت المدينة. وقالوا: بل بنت الحقول. المهمّ هو أن الطيوب هي صورة عن مفاتن العريس والعروس.
يشبّه الاريج العذب الذي يفوح من ثوب الحبيبة بأريج لبنان (ر ي ح. ل ب ن و ن). هنا نتذكّر هو 14: 7: "تنتشر فروعه، ويكون بهاؤه كالزيتون، ورائحته كلبنان ". إن هوشع يصوّر الازدهار الذي يتبع إعادة بناء الأمّة، فيلجأ إلى صور مأخوذة من عالم النبات. يزهر الشعب مثل العريس، تنمو جذوره مثل لبنان، مجده يكون مثل مجد الزيتون الذي يعمّر طويلاً، ورائحته تكون مثل رائحة لبنان (ر ي ح. ل و. ك ل ب ن و ن). وهكذا تصوّر مفاتن العروس بأعذب طعام وأشهى أريج.

* من لبنان معي يا عروس
قال العريس: سأمضي إلى جبل المرّ، إلى جبل الهيكل. إلى هناك تلاقيه العروس. لتستعدّ إذن. لتترك كل ما يربطها ويمنعها من اللقاء به. لهذا هتف لها: "من لبنان معي، يا عروسي، من لبنان معي تجيئين. من أعالي أمانة تنحدرين، من رأس شنير وحرمون، من مرابض الأسمود، من جبال النمور".
ولكن كيف نفهم أن يكون لها أن تسرع من لبنان تلك التي جعل جمالُها العريس يندهش، تلك التي كلّمها منذ لحظة أطيب كلمات الحبّ؟ فمع أن صديقته هي حاضرة جدًا أمام نظره وفي قلبه، فهي ما زالت بعيدة عنه. هناك مسافة بينها وبينه. كانت قد قالت: "حبيبي لي وأنا له " (2: 6). ومع ذلك، فهي ليست معه، كما هو معها. هو يلاحقها بقلبه وعينيه وهو دائم حاضر لها. أما هي فما زالت تعرف الصعوبات العديدة لكي تنضمّ إليه. هذا ما يُقال عن أب الابن الضالّ: رأى ابنه حين كان ابنه "لا يزال بعيدًا". وسيكون هنا في ساعة العودة. في الواقع، هو لم يترك ابنه الضالّ ساعة واحدة، مع أن هذا الابن "ذهب إلى بلاد بعيدة" (لو 15). سيعترف أوغسطينس فيقول للربّ: "أنت كنتَ معي، أما أنا فما كنت معك ".
هذه هي عاطفة عريس نش. صبره هو صبر الأب الذي ينتظر ابنه، واهتمامه اهتمام الأب. وهو ينتظر دومًا العودة الحقيقيّة لتلك التي يحبّ. وهو لا يتوقّف عن مناداة تلك التي لا يستطيع شيء أن يفصلها عنه. "من لبنان معي يا عروسي، من لبنان معي تجيئين ". فالعروس "مسجونة" في لبنان. فلبنان الذي يرتبط دومًا بالجمال في الكتاب المقدّس، هو أيضاً أرض غريبة. فالعروس وإن كانت جميلة بجمال أجمل بلدان العالم، إلاّ أنها تعيش في أرض غريبة. وهي بالتالي مهدّدة فلا تستطيع أن تكون في الهيكل، على تلّة الأطياب.
ما زالت العروس بعيدة عن عريسها، تفصلها جبال عالية يقيم فيها الأعداء، أولئك المجتاحون الآتون من الشمال. يقيم فيها "الأسود والنمور" (إر 5: 6) الذين يحملون خطرًا أين منه خطر "الثعالب الصغار" (2: 15)، هذه الممالك الصغيرة والمجاورة لأورشليم. كان المرتّل العائش في المنفى يتأوّه ويقول: "أعيش وسط الأسود، وأضطجع بين الوحوش المفترسة" (مز 57: 5). ونستشفّ في هذا المزمور كما في نش، من خلال قناع الاعداء الهائل، وجه الوحش المخيف كما نجده في سفر الرؤيا. قال يوحنا: "وهذا الوحش الذي رأيته كان يشبه النمر، وله قوائم كقوائم الدب وفم كفم الأسد" (رؤ 13: 2).
فكيف تستطيع العروس وحدها، كيف تستطيع بقواها أن تصل إلى ذلك الذي تحبّ؟ أما زالت تتذكّر نداءها القديم: "اجذبني إليك "؟ ولكن العريس يعرف أكثر مما تعرف هي أنها ضعيفة. يعرف أنها بدونه "لا تستطيع شيئًا" (يو 15: 5). لهذا قال لها: تعالي معي. لا تخافي. تشجّعي. من لبنان، مع جماله وسحره وتعلّقك به، من لبنان معي سوف تجيئين. أنا متأكّد أنك ستأتين.
في مز 45 الذي يبدو قريبًا جدًا من نش، تلتزم العروس أيضاً، بأن تترك مدينة صور، تترك أرضها التي هي أرض لبنان بما فيها من غنى. "إسمعي يا ابنتي... إنسَيْ شعبك وبيت أبيك فيشتهي الملك جمالك، يا بنت صور" (مز 45: 11- 13). ونلاحظ في نش كما في مز 45: هي في الوقت عينه حاضرة قرب الملك (آ 10: قامت الملكة عن يمينك بذهب أوفير) وبعيدة عنه. فالنصّ يقول بعد ذلك: "تُزفّ (يأخذونها) إلى الملك وسط أناشيد العيد فتدخل إلى قصر الملك " (آ 15- 16). هذا هو الوضع في نش. أما في نش، فليس وزير الملك هو الذي يدعو الحبيبة لكي تترك أرضها وتنضمّ إلى عريسها. بل هو الحبيب نفسه يلحّ على صديقته. ولا يكتفي بأن يدعوها إلى اللقاء به، بل هو يذهب إلى لقائها، ومعها ينتصر على كل أعدائها.
ويدعوها أن لا تخاف. أنظري من أعالي أمانة. فعند قدميك تجدين الاسود (أي الأشوريين) والنمور (أي الكلدانيين) الذين ضايقوك. فما الذي يستطيعون أن يفعلوا بك حين أكون معك؟ لا تخافي، "فأنا غلبت العالم " (يو 16: 33). تعالي، تعالي معي. يتكرّر الطلب بشكل توسّل ملحّ. ماذا تنتظرين؟ أما ترين الخطر يداهمك؟
"تعالي معي ". معي هي الكلمة التي يلجأ إليها الرب مرارًا في الكتاب المقدس ليعيد الشجاعة إلى عباده: موسى، يشوع، جدعون، أشعيا، إرميا... وقال يسوع أيضاً: أكون معكم. "ها أنا معكم كل الأيام " (مت 28: 20). ولما كانوا في البحر، قال لهم: "لماذا تخافون؛ أنا هو" (مت 14: 27). عمانوئيل أي الله معنا، هو الاسم الذي أعطاه الله لمسيحه في أش 7: 14. وقال حبيب نش: "معي، معي، تعالي ". تعالي. فكيف أتحمّل أي تردّد من قبلك. وتتجاوز الحبيبة كل العوائق التي تمنعها من المجيء وتترك الخوف من الاعداء، وتعبر جميع المهاوي فتصل إلى حبيبها الكليّ القدرة.

* خلبت قلبي، يا أختي العروس
ويعود نشيد الفرح على شفتي الحبيب الذي ينشد جمال من يحبّ. ولكن لم يعد نشيده كما في السابق نشيد إعجاب فقط، بل صار نشيد شكر وحب موله، حب جنون، بعد أن صارت العروس مع العريس. "خلبتِ قلبي يا أختي العروس، خلبت قلبي! بنظرة من عينيك، بقلادة من عنقك ".
هناك تعارض واضح بين اندفاع النشيد الأول للحبيبة (4: 1- 7) والوله الصامت الذي يعبَّر عنه الآن. لم نعد فقط أمام العينين. بل نظرة واحدة من العينين. ولفتة من العنق، أو حبّة من القلادة. فتلك التي يدعوها الآن "عروسي" كل ما فيها يؤثّر على الحبيب حتى الأعماق.
هي عروس مرتين. مرة أولى، لأنها لم تصبح بعدُ له كما ستكون في الاتحاد التام والزواج، وهذا رغم نشيد الحب والاعجاب الذي سمعته من الحبيب. ومرة ثانية: مهما كان وجهها ساطعًا، فهو ما زال تحت الحجاب مثل كل فتاة مخطوبة (4: 1- 3). وسيفسّر بولس أن هذا الحجاب (البرقع) سيبقى، وأنه لن يُرفع إلا بالمسيح (2 كور 3: 14). وهكذا تتنهّد العروس مع يوحنا الصليب فتقول: انزع هذا البرقع وليتمّ اللقاء السعيد. أما الآن، فما زلنا في زمن الخطوبة.
يجب أن نلاحظ حنان الحبيب حين يدعو عروسه، أخته العروس. ذاك هو حنان الرب حين يدعو شعبه. فقد عقد معه عهدًا وسمّاه بهذا الاسم: العروس والزوجة. قال في أش 62: 5: "كما يسرّ العريس بعروسه، هكذا يسرّ إلهك بك ". وكرّر الربّ مرارًا في هوشع: "أتزوّجك لي إلى الأبد. أتزوّجك في البر والحق. أتزوّجك في الحنان والمحبّة. أتزوجك لي (تكونين لي زوجة وعروسًا) في الأمانة، فتعرفين الربّ" (2: 21- 22). إلى من قال الرب العريس هذا الكلام بلسان هوشع؟ إلى جومر الزانية، العاهرة. ولكن الخطيبة هي الصبية العذراء، لا المرأة التي تزوّجت. وخصوصاً لا المرأة العائشة في الزنى. ولكن ليس من خيانة تثبت أمام حبّ الله الرحيم. فهو عندما يغفر، يخلق من جديد، كما نقول في مز 51: "قلبًا نقيًا أخلق فيّ يا الله "
وهكذا يرينا الرب الطابع الجديد لحبّه الذي لم يُسمع به. هو حبّ لا يرتبط بالماضي وما فيه من خيانات. حبّ لتلك التي ما زال هو خطيبها مع أنه زوجها وعريسها. هذا ما نسمع في نهاية الكتب المقدّسة في سفر الرؤيا (21: 9): "تعال أريك العروس (أو: الخطيبة) زوجة الحمل ". فحبّ يهوه لزوجته هو دومًا حبّ الخطيب لخطيبته. حبّ شاب، حبّ حارّ، حبّ نقيّ. أكون خطيبك، تكونين خطيبتي إلى الأبد.
وهنا نتجرّأ ونزيد: حبّ عجيب، ولكنه حبّ مجنون، يضيعّ العقل. فالحبيب يقول: خلبت قلبي، سبيت قلبي فأضعت الطريق. لم أعد أعرف كيف أسير. أهذا هو الكلمة (يسوع) الحكمة الذي يقول هذا الكلام؟ كان هو 4: 11 قد استعمل هذه العبارة ليدلّ على جنون إسرائيل الذي جعله "الزنى والخمر يضيعّ عقله ". أما هنا فيقال عن الحبيب نفسه إنه ضاع، فقد رشده. ليس فقط "مغرمًا" بتلك التي يحبّ كما يقول مز 45: 12 (يصبو الملك إلى جمالك). إنه يقرّ أنه أضاع رشده بسبب عنف الوله والعشق. ويسوع نفسه سيقول عنه أقاربه إنه "أضاع رشده " (مر 3: 21). وكتبت تريزيا الطفل يسوع: "سماه هيرودس مجنونًا. وأنا أظنّ مثله. حبيبنا مجنون ". إنه حبّ جنونيّ.
ويكفي العروس شيء قليل لكي تخلب قلبَ الحبيب: نظرة واحدة من عينيها، حبّة من العقد الذي على عنقها، إشارة صغيرة. وحين سمّى عروسه صديقته، أتراه دل على أنه غير متعلّق بها؟ كلاّ ثم كلاّ. وكذلك حين سمّاها "أخته ". قال أحد الشرّاح: إن حب الخطوبة والزواج يتأسّس على عاطفة من الأخوة توحّد بين الحبيب والحبيبة. وإن عبارة "الأخت العروس" تجد ملء معناها في سرّ التجسّد. قال برنردس: "تصبح الحبيبة أخته لأن لهما أبًا واحدًا، وتصبح عروسه لأنهما كليهما في روح واحد".

* ما أجمل حبّك يا أختي العروس
وإذ سكر الحبيب حين رأى حبيبته بقربه، قال: "ما أجمل حبّك يا أختي العروس. أطيب من الخمر حبّك ومن كل الطيوب عبيرك ".
كانت الحبيبة قد قالت في بداية نش: "حبّك أطيب من الخمر" (1: 2). لم تقل وحدها هذا الكلام. بل حبيبها الذي سكر من الحبّ، ومن حبّ جنونيّ. فالتعبير عن الحبّ هو مثل خمر "يصعد" إلى الرأس. وكما قالت هي من قبل "عبيرك طيّب الرائحة" (1: 3)، ها هو مسحور الآن بأريج الطيوب العديدة، بعطور الأرض كلها التي يتنشّقها فيها: "أريج عطورك أكثر من كل الطيوب ".
حين تجتمع العطور مع الحبيبة، تعبّر عن طبيعة كيانها كلّه. تدلّ على السحر الذي تمارسه. عطور تشع من ثيابها. "مثل عبير لبنان عبير ثيابك ". هذا ما قال لها العريس فدلّ على أريج عطور لا حدود لها. عطور تصدر عن شخص الحبيبة فتتداخل مع عطور الكون.
ولكن هذه العطور تعني أيضاً الطبيعة الروحيّة "للسحر" الذي تمارسه العروس. فبما أنها وسط بين عالم المادّة وعالم الروح، فهي تجعلنا نستشفّ أن جمال العروس، وإن كان مسكرًا، فهو لا يؤثّر تأثيرًا بشريًّا (لحميًا) على قلب صديقها. وسواء كان الموضوع الحبيبة أم الحبيب، فالعطور في نش قيمة ليتورجيّة وقدسيّة: عطر السنط والمرّ والبخور. والبخور يستعمل بشكل خاصّ في شعائر العبادة، في الهيكل، ويحرق على "مذبح البخور". وقد رأى يوحنا في رؤ 8: 3 "ملاكًا آخر يحمل مبخرة من ذهب. وقف عند المذبح فأعطي بخورًا كثيرًا ليقدّمه مع صلوات القدّيسين على مذبح الذهب أمام العرش الإلهيّ ". من هذا المنطلق تكون عطور العروس عطور نفسٍ احترقت بحبّ العريس فقدّمت له نفسها ذبيحة ذات عطر طيّب، وهي أثمن في عينيه من كل الذبائح التي تقدّم في هيكله. "أريج عطورك أهمّ من كل طيوب " العالم.

* شفتاك تقطران شهدًا
إن الكلمات التي سيقولها الحبيب في ما بعد، تؤكّد أيضاً الطبيعة الروحيّة والليتورجيّة لتأثير العروس على ذلك الذي تحبّ. فيقول: "شفتاك أيتها العروس تقطران شهدًا. تحت لسانك عسل ولبن. ومثل عبير لبنان عبير ثيابك ".
العسل واللبن (أو: الحليب). عذوبة اللبن تُزاد على عذوبة العسل. هذا ما يدلّ حقًا على أن سكر الخمر والعطور الذي سبّبته الحبيبة ليس سكرًا يثير الانسان ويجعله محمومًا. هو سكر عظيم جدًا، ولكنه ينتقل في العذوبة والسلام اللذين يحملهما كلام الحبيبة وشخصها. "فالعسل واللبن تحت لسانك ". إذن، يجب أن تكون كلمة الله قد صارت كلمتها بعد أن "هضمتها" هضمًا كاملاً، ليجد العريس فيها هذا الطعم عينه، طعم العسل الذي أحسّ به حزقيال حين ابتلع الكتب المقدّسة (3: 3: أكلته فصار في فمي كالعسل حلاوة، رج رؤ 10: 9). وهذا ما جعل المرنّم يبتهج وينشد: "ما أعذب أقوالك في حلقي. هي أحلى في فمي من العسل " (مز 119: 103).
والحبيب نفسه يستعيد اليوم هذه الكلمات ويوجّهها إلى "أخته العروس ". قال: الحليب والعسل تحت لسانكِ. فالعسل عمل النحلة النشيطة والصبورة. والحليب حليب الطفولة وحليب النضج. هذا ما رآه الحبيب في كلام الحبيبة. فهي له حتى في صمتها، أرض الميعاد الحقيقيّة "حيث يجري اللبن والعسل " (خر 3: 8).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM