الفصل التاسع: حبيبي لي وأنا له

الفصل التاسع
حبيبي لي وأنا له
3: 15- 17

هنا تتدخّل الجوقة فتتحدّث عن الثعالب التي حملت معها الضرر إلى أورشليم. تتدخّل الجوقة فتقطع كلام العروس التي تعود فتنشد: "حبيبي لي وأنا له ". أجل، هي تحبّ العريس وتودّ أن تهب ذاتها له. ولكن حبّها مهدّد، حبّها سريع العطب. فيقلق العريس من الأخطار التي تهدّد العروس، وتقلق هي، لاسيمّا أنها سوف تذهب في الليالي لكي تبحث عمّن يحبّه قلبها.
تبدأ العروس فتنادي عريسها وتعلن له حبّها. "عُدْ يا حبيبي ". إنّما الحبيب ليس هنا. هو بعيد. هو"لا يسمع " ولا يرى المحنة التي تمرّ فيها الحبيبة. ولكن المحنة سوف تزول فيتمّ اللقاء: تمتلك حبيبها وحبيبها يمتلكها. "أجد مَن يحبه قلبي. أمسكه ولا أرخيه ".
(آ 15) خذوا الثعالب. مَن يتكلّم هنا؟ العريس الذي يخاف من الأخطار التي تهدّد العروس، فيرسل أوامره وهي ستُطاع؟ أو العروس تتابع كلامها إلى نفسها (مونولوج) منذ آ 8، فتطلب من العريس أن يزيل الخطر؟ أو هي الجوقة كما قلنا في المقدّمة؟ المهمّ أن نعرف أن هناك خطرًا تشكّله الثعالب أي الأمم الصغيرة المحيطة بأورشليم، وهي تتلف ميراث الرب.
"ا ح ز و. ل ن و": خذوا لنا، خذوا عنا. نحن في صيغة الجمع كما في 1: 16-17 (سريرنا أخضر، بيتنا) وفي 2: 9- 12 (وراء حائطنا). إلى مَن يتوجّه الكلام؟ قد يكونون أشخاصًا غير محدّدين كما في 2: 05 المهمّ أن الخطر هو هنا.
الثعالب (ش و ع ل) هي هنا. حتى الصغار منها. إذا توقّفنا عند الربيع، لا نستطيع أن نتكلّم عن العنب الذي يمكنها أن تأكله. ففي زمان الزهر، تلهو الثعالب هذه وتفتح لها حجرًا في الكروم. وهكذا تقيم، تختبئ وتهدّد الموسم الآتي.
ماذا تعني هذه الآية؟ الآراء متعدّدة. الأول: رأى العريس أن كرومه قد أتلفت فأعطى أوامره بطرد الثعالب التي تعيث فسادًا في أرضه. الثاني: ترمز الثعالب إلى بني اسرائيل الذين يعارضون حبّ العريس لعروسه. العريس ملك عظيم هو سليمان. والعروس هي صبيّة بسيطة، هي الشونميّة. الثالث: هذه الآية قد زيدت على النصّ كعنصر من النشيد العباديّ. الرابع: ترمز الكرمة إلى شعب اسرائيل وما يمارسه من ديانة. والثعالب هم الكنعانيّون.
إذا عدنا إلى 1: 6 (جعلوني ناطورة للكروم)، نفهم أن الكرم هو أرض فلسطين التي تماهت معها العروس (العروس هي فلسطين، والهيكل هو الربّ). هنا نتذكّر هو 2 وإر 12: 7 ي. في هوشع هدّد الربّ بأن يدمّر فلسطين. سيترك وحش البرّ يتلف الكرم والتين (آ 14). ولكن نهاية المقطع هي وعد بإعادة البناء: سيقيم الرب عهدًا (آ 20) مع وحش البرّ وسائر الحيوان الذي يتلف أرضه. بعد هذا ستكون الأعراس الأبديّة التي يرافقها ازدهار على المستوى الزراعيّ. من الواضح أن حيوان البرّ ينطبق على أعداء شعب الله. وما يدلّ على ذلك هو ما نقرأه في آ 20 ب: "أكسر القوس والسيف وأدوات الحرب من الأرض ".
ويحدّد إر 12: 7 ي الفكرة فيعلن أن يهوه قد تخلّى عن ميراثه، تركه دون وسيلة دفاع أمام حيوان البرّ، فجاء من كل جهة وأتلفه. مَن هي هذه الحيوانات؟ في آ 10، حلّت محلّها صورة الراعي. وفي آ 14، تماهى معها جيران اسرائيل الأشرار. إذن، هم ملوك الشعوب الصغيرة التي تحيط بفلسطين. إن إرميا يلمّح إلى أعمال السلب والنهب التي يتحدّث عنها 2 مل 24: 2: في أيام يوياقيم هجمت مجموعات من الأراميّين والموآبيّين والأدوميّين على يهوذا، وقد نالوا مساعدة الكلدانيّين (رج إر 48: 26 ي؛ 49: 1؛ حز 25: 3- 6، صف 2: 8). وبعد دمار أورشليم، احتلّ الجيران "الأشرار" أرضاً فرغت من ساكنيها. وفي أيام نحميا وعزرا، عارضوا عمليّة البناء السياسيّة والروحيّة. وذكر النصّ السامريّين (عز 4: 2؛ نح 3: 34) والعمونيّين والأعارب والفلسطيّين (نح 2: 19؛ 4: 1). وقد ساعدهم مرارًا في عملهم، يهود فاترون أو جاحدون لإيمانهم (نح 6: 17- 19؛ 13: 4- 9). وزادت الزواجات المختلطة تأثير هؤلاء الشعوب (ملا 2: 10- 20؛ عز 9: 2؛ 10: 18 ي ؛ نح 23:13-28). في هذه الظروف، لا نعجب أن يلمّح أدبُ ما بعد المنفى إلى مثل هذا الوضع الصعب والقاسي (أش 11: 14؛ 57: 1- 4 ؛ مز 60: 10- 11؛ 19:74؛ 7:80، 13- 14 ؛ مرا 5: 18).
وقد نجد في هذه الآية من نش ذات الاهتمامات أمام الوضع السياسيّ الذي أشرنا إليه. فالثعالب الصغار (لا أهميّة لهم، ومع ذلك هم مسيئون ومبغَضون) تمثل الأمم الصغيرة المجاورة التي أقامت في الأرض المقدّسة. هي تشكّل حاجزًا مستمرًا أمام بناء الأمّة وهي سبب بلبلة وشكوك. وهكذا نفهم أن يكون زوالهم من أول اهتمامات المؤمنين، وأول عمل في تدخّلات الله ساعة الخلاص (أش 11: 4- 5؛ مز 72: 4، 12- 14) .
حين نفهم هذه الآية بهذا الشكل، لن تعود معزولة عن السياق الذي وردت فيه. فإذا كانت الكرمة المزهرة (آ 13) ترمز إلى الأزمنة الجديدة التي حلّت، يكون من الطبيعيّ أن يرغب الناس في ابتعاد مسبّبي القلاقل. مثل هذه الرغبة تُفهم بلسان العريس، بلسان العروس، وبلسان الجوقة التي تمثّل الشعب كله.
(آ 16) يرى بعضهم أن هذه الآية هي امتداد لما في آ 4- 14. فكأني بالحبيبة تجاوبت مع تحريضات العريس (آ 10- 14). لقد جاء الآن وقت الامتلاك المتبادل، وهذا ما جعل العروس تطلق صيحة السعادة وهي في ملء النشوة والافتتان.
إن عبارة "حبيبي لي وأنا له " تتكرّر في 6: 3 مع قلْب الألفاظ (أنا لحبيبي وحبيبي لي). ونجدها بشكل عام في 7: 11: "أنا لحبيبي أنا، وإليه اشتياقي ". مثل هذه العبارة ترتبط بالقول النبويّ المعروف: اسرائيل هو شعب يهوه. ويهوه هو إله اسرائيل. نقرأ في تث 26: 17- 18: "وفي هذا اليوم أعلن أن يكون الرب إلهًا لكم، فتسلكوا في طرقه... والربّ اختاركم في هذا اليوم لتكونوا من نصيبه "؛ رج 29: 12؛ هو 2: 4 (ما هي امرأتي ولا أنا رجلها) ؛ إر 7: 23 (أكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا)، 11: 4؛ 24: 7؛ 31: 33؛ حز 34: 30- 31؛ 36: 38 ؛ 37: 23، 27.
في هذه النصوص، يدلّ الترتيب على صاحب المبادرة. في تث 26، الله هو الذي يخطو الخطوة الأولى ليعقد العهد. في هو 2، نراه يعيد العلاقات إلى ما كانت عليه في السابق، بعد توبة الزوجة وبالنظر إلى رحمته. أما إر 31: 33 (أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتبها في قلوبهم، وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا) فيدلّنا على الله الذي يخلق العهد (الميثاق) الجديد. وفي مقاطع نش، يختلف الترتيب. إن 6: 3 و7: 11 يذكران أولاً الحبيبة. أما هنا، فالحبيب يُذكر أولاً وهو الذي يهتمّ بالحبيبة ويحاول أن يعيدها إليه.
"بين السوسن يرعى". هذا هو اسم العريس. وهو يتكرّر في 6: 3 ب. حبيبي هو الذي يرعى قطيعه. قالت المدرسة الطبيعانيّة بلغتها الشهوانيّة: السوسن هو شفتا العروس. وقال آخرون: السوسن هو بنو اسرائيل حيث يقيم فيهم الرب راعيًا. غير أن "ر ع هـ " يُستعمل كفعل متعدٍّ. هذا ما نجده في 1 :7 (ق تك 37: 16): "أين ترعى غنمك "؟ ونقول الشيء عينه عن 6: 3 في خط 6: 2. ثم إن القطيع الذي نتحدّث عنه هو أمّة اسرائيل. وإن السوسن الذي يميّز أرض فلسطين يدلّ بشكل ضمنيّ على هذه الأرض مع لباسها الربيعيّ (رج 2: 1). وإذا يقول الشاعر إن الحبيب يرعى قطيعه بين السوسن، فهو يريد أن يفهمنا أن الرب قد جمع شعبه في أرض الآباء.
(17) "قبل أن" كما في 7:2 (قبل أن تشاء) لا "حين" كما في 1: 12 (حين يكون الملك في مجلسه، ع د في العبرّية). وعبارة "ي ف و ح. هـ ي و م " تعني "فاح النهار" فتلمّح إلى النسيم الذي يحمل البرودة في بعض ساعات النهار. هناك من يتحدّث عن نسيم المساء كما في تك 3: 8. ولكن في الواقع، نحن هنا أمام نسيم الصباح لا أمام نسيم المساء (رج 6:4).
فعل "ن و س " يعني "هرب ومضى" كما في تث 34: 7؛ أش 35: 10. أي: "تهرب الظلال ". لا ظلال الأشياء عند غياب الشمس، بل ظلال الليل وظلماته. هي تهرب شيئًا فشيئًا أمام أولى أنوار النهار.
إذا كان هذا المعنى هو الحقيقيّ، نصل إلى موضوع معروف لمّح إليه 1: 7 حيث النهار يأتي بعد ظلام الليل. ولفظة "ب ق ر" تعني ساعة يبدأ النور ينفذ عبر الظلمة. وهي تدلّ أفضل دلالة على ساعة الخلاص، ويكون بُعدها الاسكاتولوجيّ واضحًا (2 صم 23: 4؛ مز 49: 51). وذكرُ النهوض من النوم يحيلنا إلى أفكار مشابهة في مز 17: 15 (وأنا في براءتي أعاين وجهك، واشبع في يقظتي من حضورك) ؛ 73: 20 (عند اليقظة تزول صورته) ؛ 108: 3 (أفق يا عود، يا كنارة، لأوقظ السحر).
إن هذه النصوص تعبّر عن انقلاب مفاجئ من حالة إلى حالة، عن عبور من الألم إلى سعادة جماعيّة أو فرديّة. ونقول الشيء عينه عن الآية التي ندرس: فساعة نسيم الصباح، ساعة هرب الظلال، هي الساعة التي فيها تنجو الأمّة من المنفى وتقيم في فلسطين من جديد. وهكذا يلتقي 17:2 مع 1 :7؛ 7:2؛ 5:3؛ 8: 4.
"عد" (س ب). هذا هو نداء العروس. ولكن كيف اكتشفت المدرسة الطبيعانيّة "اللذة الشهوانيّة" في هذا الفعل؟ قالت: دُعي الحبيب إلى أن يجلس إلى المائدة ويتحوّل إلى اللّذة. وقال آخر: دعت العروس الحبيب أن يستسلم إلى اللّذة معها حتى المساء! في الواقع، هذا الفعل يدلّ على تبدّل في الموقف. ابتعد الحبيب وهي تدعوه إلى أن يبدّل رأيه ويعود. أتراه تظاهر بالذهاب ليجعل الحبيبة تذهب في طلبه؟
"عد يا حبيبي وكن كالظبي ". تستعيد هذه العبارة آ 9 بشكل تحريض. وفي 2: 9 كنا أمام ملاحظة: جاء العريس طوعًا يطلب حبيبته. وهنا كما في 8: 14 هي التي تدعوه ليأتي إليها بسرعة، لأنها لا تستطيع بعد أن تنتظر.
"على جبال باتر" (ع ل. هـ ر ي. ب ت ر). يرى بعض الشرّاح في "باتر" اسم علم. والتلمود، جبل موريا حيث كاد ابراهيم يذبح اسحق، وحيث أقيم الهيكل. وبعضهم عاد إلى فعل "بتر" أي قطع، شقّق، قسم. والجبال المذكورة هنا هي جبال مشققة أو هي تقطع الطريق بين العريس والعروس. ولاحظ آخرون في 8: 14 أن "ب س م ي م " (العطور، رج 4: 6) قد حلّت محل "ب ت ر". وقالت البسيطة "بسميا". إذن، نحن أمام الجبال المعطّرة التي تدلّ على العروس.
ولكن يبدو أن العودة إلى فعل "ب ت ر" (قطع الشيء قطعتين) هي الأفضل في تك 15: 15. قسم أبرام الضحايا المذبوحة بمناسبة قطع العهد. والاسم (ب ت ر) يدل على نصف حيوان يقدّم كضحيّة. ويذكر"ب ت ر" أيضاً في إر 34: 8- 9 (قطع الملك صدقيًّا عهدًا).
اشتكى ابراهيم إلى الرب لأن لا ولدَ له. فوعده الرب بنسل كبير كما وعده بأرض له ولنسله. رغب أبو الآباء بعلامة، فطلب منه الرب أن يقطع الأضاحي. ومرّ الرب بينها وقال: سيحلّ الضيق بنسل ابراهيم ولكنهم سيعودون إلى أرضهم. وهكذا استفاد نش لكي يذكّر الرب بعهد قطعه مع ابراهيم، لاسيمّا وأن عدد الراجعين قليل جدًا. وهكذا عاد نش إلى هذه العبارة (جبل باتر) لكي يعزّي القلوب ويشجّعها. وهكذا يكون جبل باتر جبل العهد الذي قطعه الله مع شعبه في شخص ابراهيم. وحين يعود الرب إلى أرضه التي تركها وذهب إلى المنفى مع الذاهبين (حز 11: 22- 23)، فهذا يعني أنه رضي عن عروسه، رضي عن شعبه.

* خذوا الثعالب، الثعالب الصغار
على ماذا تدلت العبارة "الثعالب الصغار"؟ تدل على جيران صغار، جيران أشرار ومكروهين. استفادوا بجبانة من وجود الشعب في المنفى، بعد دمار أورشليم، فسلبوا ما استطاعوا ثم أقاموا في أرض لا تخصهم. وكان سفر التثنية قد أعطى لائحة بهم. "الحثيون، الأموريون، الكنعانيون... ". ونجد صدى لذلك في مرا 5: 18: "جبل صهيون مقفر، والثعالب تتجوّل فيه".
وحين رأى صاحب المزامير الكرمة المخرّبة بكى أيضاً وقال: "أتلفها خنزير الوعر، ورعتها وحوش البرّ" (مز 80: 14). فلكي يكون بناء الشعب كاملاً وتامًا، يجب قبل كل شيء أن تُطرد هذه الثعالب التي تتلف ثمة الربّ.
ولكن كرمة الرب القدير هي أرض فلسطين، هي كل شعبه، هي كل واحد منا. ونحن نقرأ في أش 5: 7: "كرمة ربّ الجنود هي بيت اسرائيل، وغرس بهجته شعب يهوذا". في زمن تزهر فيه الكروم وتثمر، تتكاثر الثعالب فتدوس النصبات وتأكل العنب. هكذا يكون ألف عدوّ وعدوّ فينا وخارجًا عنّا، وهم يحاولون أن يدمّروا عمل الرب، ولاسيّمَا ساعة يكون الحبّ في بدايته، ساعة يكون ضعيفًا ولم يتجذّر بعد. إذن، أمسكوا لنا الثعالب، هذه الثعالب الصغيرة.
وأوضح يوحنا الصليب فكرته عن هذه الثعالب فقال: نحن أمام أفكار متنوّعة وحركات وانجذابات مختلفة تضايق النفس وتقلق العذوبة التي تنعم بها والهدوء الداخليّ. ونحن أيضاً أمام الأبالسة الذين انحسدوا من سلام النفس واستغراقها الداخليّ في التأمّل، فصوّروا أمامها القلاقل والمخاوف والأمور المشينة. كل هذا نسميه الثعالب. فكما أن هذه الحيوانات المشهورة بخفّتها وحيلتها تتلف وتدمّر زهور الكرم، هكذا يفعل الشياطين المملوءون حيلة وشرًا.
هل يعني أن هذه الثعالب تحمل الخطر الكبير؟ هي صغيرة، لا شكّ في ذلك. ولكن الحبيبة (الكرمة) سريعة العطب. يجب أن نمسك الآن هذه الثعالب الصغيرة. فإذا كبرت، لا نستطيع شيئًا ضدّها. ويكون الكرم قد خرب.

* حبيبي لي وأنا له
ولكن الحبيبة تحسّ نفسها في أمان، تحسّ أن حبيبها الذي هو الآن بقربها، يحميها ويدافع عنها. لهذا، فلا تهتمّ كثيرًا لهذه الثعالب الصغيرة، ولا تتوقّف عند تنبيه حكيم يأتيها من حبيبها. فلا تفكّر إلا في الاستسلام له من أجل سعادتها. فتقول: "حبيبي لي وأنا له، وبين السوسن يرعى (قطيعه) ".
قال يوحنا الصليب: "مال وجهي على حبيبي فمكثت هنا ونسيت نفسي. اختفى كل شيء بالنسبة إليّ فاستسلمت له، وتركت كل قلقي يضيع وسط السوسن ". وأخذت العروس تقول وتردّد: أنا لحبيبي وحبيبي لي. في فمها نشيد الفرح والسعادة، وتبادل كامل في الاتحاد. هو تجدّد عهد متواصل بين نفسي وحبي. هذا ما قالته إحدى القديسات. وتابعت: "ما أعظم هذا الاتحاد! إنه مزيج حبّ وحبّ. ونستطيع أن نقول مع الله: حبيبي لي وأنا له ".
وهكذا تكرّر العروس كلمة العهد كما سمعها الشعب مرارًا في كتب الأنبياء. "تكونون شعبي وأكون إلهكم " (حز 36: 8 ؛ إر 31: 33). هي تستعيد هذه العبارة وتنقلها إلى عالم الحبّ الزواجيّ. وإذ أراد يسوع أن ينشد الحبّ بينه وبين أخصّائه، عاد إلى أقوال تشبه ببنيتها هذا الكلام: "أعرف خرافي وخرافي تعرفني " (يو 10: 14).
هذا هو حلم الحبيبة. حلم تسرّعت فيه. مع العلم أن كل المبادرة في هذا الاتحاد تعود إلى العريس. فهو قد أحبّها أولاً (1 يو 4: 19). وبما أنه كان لها صارت هي بدورها له. وهذا ما يكفي سعادتها. قال فرنسيس السالسي: ترضى الحبيبة بأن تعرف أن الحبيب معها، على صدرها، في جنّتها، أو في مكان آخر. المهمّ أن تعرف أين هو. لهذا فهي هادئة، مطمئنّة، مرتاحة. وتمتدّ هذا الراحة بحيث تبدو كل قوى النفس وكأنها نائمة، بحيث لا تحتاج إلى أية حركة أو أي عمل.
حبيبها معها. بل هو لها. وهذا يكفيها. قالت: هو الراعي وسط السوسن. هو من جديد في قلب بلاده. وفلسطين المعيّدة بزهورها تبدو كسجّاد من السوسن (أنا نرجسة الوديان، قالت الحبيبة في 2: 1)، فتكوّن سريرًا يرتاح فيه العريس والعروس، الله وشعبه.
والراعي الصالح في شعبه يمسك عصوين: نعمة، صلة (زك 11: 7). إنه الآن في وسط شعبه. إنه يرعى قطيعه. كانت خرافه مشتّتة في الماضي، وها هي قد اجتمعت معه وسط سوسن أرض فلسطين. وإذ عرفت الحبيبة أنها كلها لحبيبها، عرفت السلام العميق، وأنشدت نشيد الصمت المقدّس وهي في منتهى البهجة والسعادة.

* قبل أن يطلع النهار، عُد يا حبيبي
ولكن ما الذي حدث بعد أن قُطع العهد من جديد، وعاد الرب إلى أرضه مع العائدين من المنفى؟ ما الذي حدث لتبدو العروس حزينة، كئيبة؛ فتصرخ: "قبل أن يطلع النهار، قبل أن تهرب الظلال، عُد يا حبيبي، وكن كالظبي أو كن كوعلٍ صغير على جبال باتر".
تلك التي قالت منذ وقت قصير "حبيبي لي وأنا له "، ها هي تقول: "عد". فإلى أين ذهب؟ ما هذه الفوضى في النص؟! بل نحن بالأحرى أمام مقطع تتمثّل فيه الخبرة الروحيّة بما فيها من فرح ومن تعب. فزمن الراحة الكاملة في امتلاك الحبيب امتلاكًا تامًا لا عودة عنه، لن يكون في هذه الحياة: من جهة، العروس هي ضعيفة، متقلّبة، سريعة العطب، وخاضعة لتقلّبات القلب، تحترق الآن شوقًا، وبعد وقت تصبح باردة كالثلج. ومن جهة ثانية، لا نستطيع أبدًا أن ندرك العريس بشكل نهائيّ. فنحن لا نستطيع أن نضع يدنا عليه. لا نستطيع أن نحتفظ به بالقوة، فيصبح ملكنا.
إن حضور يسوع المتواصل بقربنا، يتحقّق عبر ابتعاد وغياب ظاهرين يومًا بعد يوم. فيسوع هنا حين يظهر ويختفي، حين يعطي ذاته دون أن نستطيع أن نمسكه كما يُمسك "شيء"، أو كما كان الأقدمون يضعون يدهم على صنم. بل يفضّل أن يفلت بعض المرّات منا وبشكل لا نتوقّعه، لكي ينمو فينا التحسّر على الغياب والرغبة في حضوره. تلك هي المفارقة. حين يختفي نكتشفه. حين يختبئ يفتح لنا أسراره. وحين يمتنع يسلّم ذاته إلينا.
ولقد صوّر أحد الصوفيّين "لعبة" الحبّ الإلهي فقال : "يبدو العريس وكأنه يلعب مع العروس لعبة الوله. وفي كل وقت يقتلع نفسه بعنف من يد الحبيبة لكي يستسلم من جديد إلى رغبتها. تارة يخرج ويبتعد وكأنه تراجع بشكل نهائيّ لكي تطلبه بحرارة متزايدة. وطوراً يعود ويدخل إلى بيتها وكأنه يريد أن يقيم عندها على الدوام ويدعوها إلى قبلات الحنان. ومرّة ثالثة يقف وراء الحائط وينظر من خلال الكوّة ليحرّك الغربة لدى الحبيبة. ويجعلها تراه ولكن لا تراه كلّه، تراه بوجه ملاطف. ويُسمعها دعوة ونداء، ولكن من البعيد.
وبعد ذلك، وبعد أن تشتعل النار في قلب الحبيبة، يمضي ويختفي . لا تعود تراه، لا تعود تسمعه، لا تعود تحسّ به. والعروس التي هي أضعف من أن تحتفظ بالهارب، تتوسّل إليه أن يعود من وقت إلى آخر. عُد يا حبيبي ، وكن كالظبي منذ السحر . نفسي عطشى إليك. إليك يشتاق جسدي مثل أرض قاحلة وعطشى ولا ماء فيها".
وكانت عظة القديس برنردس بشكل مسارّة طويلة، فدلّت على ذهاب الحبيب ومجيئه، على وصوله ورواحه الذي لا نتوقّعه. قال: "مّن يفهمني أسرار هذه "التقلّبات"، مّن يفسّر لي رواح ومجيء الكلمة؟ فكلمة الله الذي هو الله بالذات وعروس النفس، يأتي إلى النفس ثم يتركها كما يروق له.... فلا يبقى لها إلاّ أن تبحث عنه حين يكون غائبًا، وأن تدعوه حين يبتعد... ومنذ ذهاب الكلمة إلى عودته، لا يكون للنفس إلاّ صوت واحد، وصرخة متواصلة، ورغبة لا راحة فيها، ونداء متواصل: "عد" ... قد يكون العريس ابتعد عن قصد لكي تطلبه بحرارة أكثر، وبعد عودته تحتفظ به بطريقة أفضل. وقد حصل له في يوم من الأيام أن تظاهر بالذهاب دون أن يقرّر ذلك، لكي يسمعنا نقول له: إبقَ معنا يا رب، فالنهار قد مال... يريد منها أن تمسك به حين يمرّ، وأن تدعوه حين يكون غائبًا... هو يذهب ويعود كما يشاء. يزور النفس منذ السحر ثم يتركها فجأة لكي يمتحنها. وإن ابتعد فابتعاده شكل به يعطي ذاته..."
كم تتمنّى الحبيبة أن يستعيد في هذه الساعة جري الغزال والوعل الصغير ليأتي إليها كما فعل في السابق. كانت قد قالت عنه حين قفز فوق الجبال والتلال: "حبيبي كظبي هو، أو كوعل صغير". وها هي تقول الآن: "كن يا حبيبي كالظبي أو كوعل صغير". أجل، الآن كما في الماضي. هكذا اعتادت معه.
إذن، توسّلت العروس إلى حبيبها أن يعود، وأن يعود "قبل أن يطلع النهار وتهرب الظلال ". أي قبل الضوء في الصباح. فهي تتوق بحرارة إلى عودة ذاك الذي تحبّه من أجل عهد يوحّد بينهما، من أجل ليلة الأعراس.
رمز الليل غنيّ جدًا. تارة هو ليل الغياب، غياب الحبيب وغياب النور. لأن النفس انغلقت على الحبيب (كما سوف نرى في القصيدة الرابعة) أو لأن الحبيب ابتعد عنها (كما في هذه القصيدة الثانية) من أجل نموّ حبّهما. ولكن الليل قد يرتبط بحضور الحبيب الذي يظلّ خفيًا حتى وإن كان هنا في حميميّة الحياة. حينئذ يكون الليل ساعة الاتحاد والأعراس معه. مثل هذا الليل ترغب فيه بكل جوارحها، وهي لا تريد أن تخسر منه لحظة واحدة. وهذا ما تقوله الآن: "قبل أن يطلع نسيم النهار، وقبل أن تهرب ظلال الليل، عد".
من خلال هذه الكلمات، تتذكّر العروس من جديد هذه الليلة الأولى. في بداية تاريخها معه، تلك الليلة التي كانت ليلة عهدها الأول مع عريسها. ليرجع الرب في هذا المساء أيضاً على جبل باتر، على جبل العهد، أي على تلّة صهيون التي تركها. ليرجع إلى قلب حياتها من أجل عهد واتحاد نهائيّ. وليسرع الحبيب من أجل وحدة المحبة هذه، وليكن خطوه مثل خطو الظبي والوعل في جريح. فنفسي ما عادت تستطيع أن تنتظر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM