الفصل الثامن: ها صوت حبيبي

الفصل الثامن
ها صوت حبيبي
3 :8- 14

تركنا العروس في قاعة الوليمة وهي مغمورة بالسعادة. هي تمتلك حبيبها في انخطاف من الحبّ بما فيه من فرح. وفي هذه القصيدة الثانية، ها هي تذهب من جديد للبحث عنه فتجوب شوارع المدينة وساحاتها بقلق ووله، إلى أن تجده فتنضمّ إليه وتستسلم مرّة ثانية إلى سعادة كانت قد خسرتها فاستعادتها.
هنا نكتشف أيضاً إشارة تدلّ على الطريقة التي بها ألِّف نش. لسنا أمام خبر أو قصّة، ولا أمام دراما متواصلة. بل أمام مجموعة من قصائد تكوّنت حسب النموذج الواحد، وهي تنشد حبّ الله لشعبه بعد أن أنشدت حبّ العريس لعروسه، وحب العروس لعريسها.
ويعود الموضوع عينه. يستعيده الشاعر بحريّة ورشاقة. لسنا أمام تكرار مرتّب كما في "عمليّة حسابيّة"، بل أمام نشيد غنائيّ. فكما تتنوّع مشية العصافير في أرض فلسطين، كذلك تتنوعّ في نش تعابير الحبّ بين الحبيبين.
حين نصل في هذه القصيدة الثانية إلى قلق البحث، نجد طريقنا بسهولة. فالبداية تحيّرنا. ولكننا نفهم حالاً أنها ترتبط بمشاهدة متبادلة فيها الرغبة والرضى والسعادة. استشفّت العروس مجيء العريس الذي يثب كالغزال. ها هو على النافذة يتطلعّ إلى ما في الداخل. بل هو يتكلّم. يتلفّظ بأعذب كنت تعبّر عن الاعجاب بعد المشاهدة: "قومي يا حبيبتي، يا رفيقتي تعالي ".
مثل هذا المشهد يجب أن ينتهي بدخول العريس. ولكن لا. ففي المشهد التالي يغيب العريس وتذهب العروس في طلبه. وبعد ذلك فقط يتمّ اللقاء المنشود. في القصيدة الأولى كانت المحنة، ثم المشاهدة، ثم الامتلاك. أما في هذه القصيدة فالمشاهدة تسبق المحنة.
تمّ اللقاء والمشاهدة من خلاله الشبابيك. تنادى العروسان، وكلّم الواحد الآخر. ولكن هل رأى الواحد الآخر؟ ليس الأمر بأكيد. وفي أي حالة، لم يلتقيا عن قرب ولم يلامس الواحد الآخر. وبعد لحظة انفصلا من جديد، فسيطر الحزن على قلب العروس التي ذهبت تطلبه بتحرّق. لقد توخّى هذا "اللقاء" أن يشعل الرغبة عند الحبيبة. وهكذا هيّأت المشاهدة الطريق للمحنة فجاءت أليمة جدًا.
(آ 8) صوت حبيبي. ها هو صوته. أنا أسمعه. هنا نتذكّر 5: 2: "سمعت صوتًا: هو حبيبي يقرع ". ما تسمعه العروس ليس صوت الحبيب. فهو لن يتكلّم إلاّ بعد وصوله في آ 15: "قومي يا رفيقتي ". ولكنها تترصّد. وحدْس حبّها يجعلها تدرك من بعيد وقع خطاه.
ها هو الحبيب. ها هو آتٍ . هو يثب، يقفز (ق ف ص في العبرّية) فوق الجبال. هي صورة تدلّ على جريه السريع. إذا كانت العروس مشتاقة إلى لقاء العريس، فشوق العريس ليس بأقلّ من شوقها. الجبال هي جبال فلسطين (آ 17؛ 8: 14) حيث تقيم العروس. وإلى هنا جاء. من أين أتى؟ هذا ما لا يقوله النصّ. في أي حال، ليس المهمّ من أين يأتي، بل إلى مَن يذهب. فالوضع هنا شبيه بما في أش 52: 7- 9: "ما أجمل على الجبال اقدام المبشّرين، المنادين على مسامعنا بالسلام، الحاملين بشارة الخير والخلاص، القائلين لصهيون: قد ملك إلهك ". ونقرأ في 62: 10- 12: "قولوا لابنة صهيون: ها مخلّصك الرب آتٍ ، جزاؤه معه وأجرته تتقدّمه " (رج 4: 3- 5، 9- 11).
(آ 9) "حبيبي كظبي هو". يستعيد الشاعر ما قاله في آ 7 وما في 8: 14 (أهرب يا حبيبي، وكن كالظبي). نحن أمام ردّة وقرار يقابل 2: 7؛ 3: 5؛ 8: 4. ما زالت العروس تعبّر عن رغبتها بعودة الحبيب السريعة. أما هو فيعترض ويقول: ما استيقظت بعد.
ونقرأ كلمة "ع ف ر" في نش (17:2 ؛ 4: 5 ؛ 7: 4 ؛ 8: 14) ولا نقرأها إلاّ في نشيد الأناشيد. هي تقابل في العربيّة "غفر" (ولد الوعل). جاء الحبيب بسرعة وتوقّف (ع م د: أقام، قدّم ذاته). لقد وصل إلى الهدف الذي وضعه نصب عينيه: بيت الحبيبة. وقد يكون بيتهما (16:1-17 ،12:2).
نجد "ش ن هـ " تطلعّ، نظر بانتباه، لاحظ (أش 14: 16، مز 33: 14). نظر الحبيب من النافذة، وقد تكون عالية، فأشرف بنظره على داخل البيت (مز 80: 15؛ 102: 20). لم تكن هناك نوافذ في البيوت الفقيرة لأن جدرانها مبنيّة من الطين. ولكن كان للبيوت المهمّة نوافذ مع شبابيك. قد يكون من الأفضل أن نجعل صيغة المفرد. فنقول: من نافذة من النوافذ.
ومع "ش ن هـ " نقرأ "م ص ي ص " أي نظر بانتباه، راقب. رج في العربيّة "وصوص ": نظر من ثقب في الستر.
إذن، تقيم الحبيبة في بيت فخم. تقيم في المدينة. وهذه المدينة لا يمكن أن تكون إلا أورشليم (3: 1- 4 ؛ 6- 7). إلى هناك ذهب الحبيب يطلبها.
(آ 10) أجابني حبيبي قال. هي المرة الوحيدة نجد هذه العبارة في نش: هي العروس تتحدّث كما في خبر تاريخي. نقرأ صيغة الماضي، ولكن الفعل يدلّ على الحاضر في الواقع، نحن في خارج الزمن، والكلام يدلّ على الأمل بإعادة بناء الأمّة في المستقبل.
"قومي ". العريس يدعو العروس إلى أن ترتفع فوق الاحلام. هو يدعوها كما يدعو النبيّ أورشليم في أش 51: 17: "استيقظي، استيقظي، قومي يا أورشليم ". وفي 52: 2: "انفضي الغبار عنك، قومي يا أورشليم المسبيّة". إذن، لا بدّ من إزالة "النعاس " عن عروس ذليلة مرهقة ومنهارة. "يا رفيقتي تعالي ". هو يدعوها لكي تقترب منه.
ما معنى هذه الآية؟ أترى تروي العروس في حوار داخليّ (مونولوج) حدثًا من علاقاتها مع عريسها؟ بعد مطر الشتاء، ها هو يدعوها لكي تتمتعّ معه بجمال الربيع. هذا الحدث هو ذكرى لأنها الآن في البيت... قد يكون هذا الأساس. ولكن المعنى هو أن الأمّة سجينة في بلادها، نائمة مثل عبدة. أرسل إليها الرب نداء يدلّ مسبقًا على الخلاص الذي ينتظرها.
(آ 11) وتأتي عبارة "ك ي " (لأن، ف) فتبدأ توسّعًا يعطي سبب النداء الذي سمعته العروس. هو توسّع عن الربيع كما في فلسطين. يبدأ هنا وينتهي مع آ 13 ب وتجديد المنادي: "قومي يا رفيقتي، يا جميلتي تعالي ".
الشتاء (س ت ي. لا ترد هذه اللفظة إلاّ مرّة واحدة في الكتاب المقدس). رج السريانيّة (ستوا) والعربيّة. يدلّ على فصل الشتاء كما على المطر. وصار في فم العريس شخصًا حيًّا: لقد "عبر". وكذا يقول عن "المطر" (غ ش م، المطر الغزير) الذي يسير، يمضي، كما يفعل انسان من الناس. لقد انتهى فصل الشتاء حقًا، وأطلّ فصل الربيع. تستطيعين أن تخرجي دون أن تخافي المطر.
(آ 12) وما الذي يدلّ على الربيع؟ الزهور. ويشير الشاعر إلى التين والكرم. هذا يعني أننا في شهر أيار. ولكن لماذا التحديد في نصّ شعريّ كهذا؟ يقول النصّ: "في الأرض ". أي في أرض فلسطين بعد أن دمّرها الشتاء وما يرمز إليه هذا الفصل. إذا كان الدمار يدلّ على العقاب، فزهر الربيع يدلّ على الخلاص (رج هو 14: 6- 8؛ ق 2: 5، 14).
"آن أوان الغناء" (زمر في العبرّية، أنشد). فالربيع علامة الفرح، وهو يرمز إلى حدث الخلاص. ولهذا يصعد نشيد الشكر إلى الربّ: "من أطراف الأرض نسمع أناشيد الإكرام للإله الحق " (أش 24: 16؛ رج 26: 1 ؛ إر 33: 11).
تُذكر اليمامة في إر 8: 7 مع حيوانات رحّل. هي تصل في شهر نيسان إلى فلسطين آتية من الشرق. هي تأتي إلى "أرضنا". أرض العريس وأرض العروس. فلسطين هي ملك الشعب، والربّ هو الذي يُشرف على هذا العطاء.
(آ 13) يُذكر التين بجانب الكرم في الكتاب المقدّس. وهو يدلّ على سعادة هادئة محفوظة للمؤمنين في أرض فلسطين (1 مل 5: 5؛ 2 مل 18: 31؛ أش 17:36؛ مي 4: 4؛ زك 3: 10). ومن علامات غضب الله تدمير الكرم والتين (إر 5: 17؛ 8: 13 ؛ هو 2: 14). إذن، نحن بعيدون كل البعد عن اللعنة. فالبركة حلّت في الأرض (وفي قلب العروسين) بعد أن أنضجت التينة ثمارها والكروم أزهرت وفاح منها الشذا.
نجد فعل "ح ن ط "كما في العربيّة. حان حصاد الزرع أو أدرك ثمر الشجر. إذا كنا في زمن الربيع، في شهر أيار، فالتين المذكور هنا هو التين "القزّي " أي الذي يرافق ظهور دودة القزّ. هو تين باكوريّ.
(آ 14) حمامتي مختبئة في شقوق الصخور. في العبرّية "ح ج و". واسمها في العربيّة هو منعرج الوادي، الملجأ. قال هو 7: 11: "بيت افرائيم حمامة طائشة، لا لبّ لهم ". قد يشير نش إلى هذا النصّ، كما يشير إلى هو 11: 11 وأش 60: 8 اللذين يتكلّمان عن المنفيّين الذين يعودون كالحمائم إلى ديارها.
"في مكامن (مخابئ) السفوح ". هذا يعني أن الحبيبة موجودة في مكان لا يصل إليه أحد. وهكذا لا يستطيع العريس أن يصل إليها. بل هو لا يستطيع أن يراها فيقول لها: "دعيني أرى وجهكِ " (حرفيًا: أريني مرآكِ). بالإضافة إلى ذلك، فهي صامتة، وهو يرغب في سماع صوتها. "دعيني أسمع صوتك ". فصوتك عذب ووجهك ساحر، رائع. لا نجد لفظة "ع ر ب " إلا هنا وفي أم 20: 17. أما الصفة "ن 1 د ه" (رائع) فتقال دومًا في العروس (5:1 ؛ 3:4 ؛ 4:6؛ رج 1 :10).
هي لوحة فلسطينيّة من أرض يهوذا بنخاريب صخورها ومخابئها. هناك تقيم الحبيبة ولا تريد أن تتحرّك. يناديها الحبيب وهولا يراها ولا يسمعها. فلا يبقى لها إلاّ أن تأتي إليه. ذاك هو الوضع في 2: 7 (لا تنهضن الحبيبة، قد لا تحبّ أن تنهض) وفي 5: 2 (أنام وقلبي مستفيق). ذاك هو وضع الأمّة: رغم تعلّقها بالربّ، لم تعد إليه كل العودة. لهذا، فهو يلحّ عليها بأن تأخذ قرارها. أتراها ستسمع صوته؟

* هو صوت حبيبي
في نهاية كل قصيدة، نظنّ أن الوحدة تحقّقت بين الحبيبين. ولكننا نكتشف في القصيدة التالية أننا أمام رغبة (جديدة)، ثم انتظار، ثم بحث وطلب إلى وحدة جديدة. فما دمنا على هذه الأرض، لا نزال ننتظر الله ونشتهيه ونطلبه ونبحث عنه. وإذا كانت الوحدة تتطوّر من قصيدة إلى أخرى، من ارتداد إلى ارتداد، فهي لن تتمّ بشكل نهائيّ إلاّ في الملكوت. نحن نتقدّم في نش كما في طريق جبليّة، فنمرّ دومًا فوق النقطة ذاتها. ندور وندور على السفح وكأننا لا نتقدّم. ولكننا في كل مرّة يزداد صعودُنا نحو القمّة. نحن في الواقع نصعد إلى الكمال في مراحل متعاقبة.
"ها صوت حبيبي. أسمع حبيبي ". هذا ما هتفت به العروس في فرحها. هناك مَن "نبّهها" إلى أنه يقترب. من بعيد ومن بعيد جدًا أحسّت باقترابه. وعرفت قفزات خطواته قبل أن تسمع صوته. قيل عن آدم وحواء في المرة الأولى التي فيها استشفّا اقتراب الله، أنما عرفاه من وقع خطواته. "سمعا صوت خطى الرب في الجنّة" (تك 3: 8)0 الكلمة العبريّة هي هي (ق و ل). الحبيب هو ذاك الذي لا بدّ من أن يأتي. هو دومًا ذاك الآتي.
ولكن خطى الحبيب ليست خطى من "يتمشّى" في نزهة. هو يركض، واثبًا على الجبال، قافزًا على التلال. هذه الجبال وهذه التلال هي تلك التي تحيط بأورشليم كما يقول مز 125: 2: "أورشليم تحيط بها الجبال ". والعروس في قلقها تراقب الجبال منذ شهور وشهور لترى إن كان الحبيب سيأتي إليها. قالت مع المرتل: "أرفع عينيّ إلى الجبال. من أين يأتي عوني " (مز 121: 1)؟ ولكن الحبيب يأتي من مكان أعلى، من جبل بيت الربّ الذي تحدّث عنه أشعيا، والذي هو أعلى من الجبال ويرتفع فوق التلال (أش 2: 2). ترك مقامه الأزليّ، كعريس يخرج من خدره، وكجبّار يبتهج بقطع شوطه. ينطلق من طرف السماء فيصل في جريه إلى الطرف الآخر، ولا شيء يستتر عن حرّه (مز 19: 6- 7).
وهكذا يصل إليها. خطوه السريع هو خطو الرقص، لأنه خطو الحبّ. قال أوريجانس: "هي قفزات لا خطى. هو يركض. هو يقفز. هو يثب. فهو يريد أن يصل إلى الحبيبة بعجلة واندفاع. ليس من حاجز لا يمكن تجاوزه حين يكون هدفه أن يجد العروس. وحين تقرأ العروس اليوم الكتب المقدّسة، وتتصفّح كتابات الأنبياء، تراه يقفز عبر سطور النصّ الموحى، بل هو يترك هذه الكلمات لكي يلتقي بها". حينئذ تتخيّله كما هو الآن، سريعًا كالغزال وخفيفًا كصغير الغزال. له حريّة الغزال ورشاقته واندفاعه ورقّته. وعجلته هي عجلة المرسل الذي يحمل خبرًا طالما ننتظره. ما أجمل أن نرى الرسول الذي يحمل السلام، يحمل البشارة، يركض على الجبال ويعلن الخبر المفرح. هذا ما قاله أشعيا.
هو يركض لأنه لا يقدر بعدُ أن يمتلك نفسه، والحبّ يلجّ عليه. قال يوحنا الصليب: "ظهر الغزال المجروح على قمّة الجبال. فحين رأى أن عروسه قد جرحها الحبّ، وحين سمعها تتنهّد، جُرح هو أيضاً بالحبّ لأجلها. إذن، أسرع حالاً إليها ليعزّيها ويدلّلها، وكأنه يقول لها: إن كنت يا عروسي قد جرحتِ حبًا لأجلي، فأنا أيضاً كالغزال قد جرحت بجرح الحبّ لأجلك ".

* ها هو واقف وراء حائطنا
حين ركض دلّ على جرأته وقوته. وحين وصل الآن إلى بيت العروس، كان خِفرًا متحفظًا. وقف وراء الحائط لكي لا يراه أحد. ثم اقترب بعض الشيء. وراقب من خلال النافذة الوقت الذي فيه يستطيع أن يدخل. ومثل حبيب حقيقيّ، ترصّد من خلال الشباك أصغر حركة تقوم بها تلك التي لا تتركه صورتها. فهناك تعارض لافت بين هذه القدرة التي تتجاوز الجبال بخفّة، وبين انتظار من التواضع والاحترام على باب حياتي، يبديه ذاك الذي يلجني نظره الحميم، فلا يريد أن يدخل عنوة إلى نفسي. كل حرارة الحبّ مع الاحترام العميق العميق. قال إيريناوس: "جرت أجيال وأجيال قبل أن يستطيع الانسان أن يستقبل في بيته الكلمة المتجسّد. ومن جهة ثانية، احتاج الكلمة المتجسّد سنوات عديدة لكي "يتبلّد" شيئًا فشيئًا مع بشريّتنا، لكي يتكيّف مع جسدنا. هذا ما توحي به المحاولات المتعاقبة التي يقوم بها العريس لكي يقترب منّا".
لاحظت العروس كل خطوة من خطوات عريسها، كل حركة من حركاته، فلم يفتها شيء. قال برنردس: "أنظروا بأي دقّة وروعة تميّزت العروس الساهرة اقتراب العريس، ولاحظت أبسط حركاته. جاء، أسرع، اقترب، وقف هنا، نظر، تكلّم. لا شيء يفلت من نظرة العروس الحدقة... ومع أنه اختفى وراء الحائط، فقد عرفت بحضوره، وحزرت أنه ينظر إليها عبر الشبابيك. والآن، ها هو يكلّمها ليجازيها على انتظارها التقيّ ".

* أجابني حبيبي وقال
تكلّم الحبيب بوداعة. ومع ذلك غطّى صوته كل صوت آخر وسيطر على كل ضجيج العالم. فهذا الصوت ينبع من الداخل، وهو قويّ خارق بقوّته. قالت: "قومي يا رفيقتي، يا جميلتي تعالي ".
كل ما يرغبه الله لدى الانسان نجده في هذا النداء الملحّ الذي يطلقه الحبيب الآن، بأعذب الكلمات وأرقّها: "قومي، تعالي ". يا حبيبتي، يا جميلتي. الحبّ والجمال. وهي جميلة إلى درجة صارت محبوبة. قال الحبيب: قومي. يبدو أن "العروس الساهرة" التي اكتشفت اقتراب العريس، لم تتحّرك حتى الآن لأنها ما تزال ذابلة موهنة. هي ترى. هي تسمع. ولكن يصعب عليها أن تفعل. وتوسّل الحبيب: قومي، تعالي. هو ذات الصوت الذي أمر ابنة يائيرس لكي تنهض من رقاد الموت. طليتا قومي، يا صبيّة قومي (مر 41:5).
غير أن الحبيب لا يفرض نفسه. لا يريد أن يقتحم الباب. قال: تعالي طوعًا. لا مدفوعة بالتأسّف أو الضرورة، بل مدفوعة من الداخل. نحن أمام دعوة، لا أمر يفرض.
قال: تعالي. ولم يقل: إذهبي. هي الدعوة نفسها التي سوف يُسمعها يسوع للتلميذين الأولين: "تعاليا وانظرا" (يو 1: 30).
ولكن إلى ماذا يدعو الحبيب عروسه ويلحّ عليها؟ لكي يحتفل معها بالربيع، أجمل فصول السنة، فصل الحبّ، فصل الحبيبة الحلوة، وحقبة الخروج من مصر (خر 13: 4) والدخول إلى أرض الموعد (يش 4: 19)، زمن الفصح وتذكار الولادة الحقيقيّة. فروعة الربيع في فلسطين تقابل روعة العروس التي لا تعرف أن تتخلّص بسهولة من فصل الشتاء الطويل الذي مرّت فيه.

* الشتاء عبر وولّى
الشتاء الذي مضى هو شتاء المحنة والمنفى. وشتاء النفس الغارقة في النعاس وثقل النوم. لقد انتهى زمن المطر، زمن الحزن والدموع. قال رؤ 21: 4: "يمسح الله كل دمعة من عيونهم ". ها هو الربيع. ربيع التجدّد والتوبة، ربيع الحبّ الذي يتفجّر بمجيء المحبوب. ربيع طويل يمتدّ إلى أيار ويتداخل في أشهر الصيف. نراه ساطعًا في كل مكان مع الزهرات الأولى التي تجعل من فلسطين سجّادًا جميلاً.
قدّم التين أول ثماره والكرم زهره ورائحته. شجرتان يحبّهما سكّان فلسطين فتدلاّن على السلام في أيام سليمان. وتذكّراننا أيضاً بالحبّ الأول في البرّية. قال للرب بلسان هوشع (9: 10): "وجدت بني اسرائيل كمن يوجد عنبًا في البرّية. كمن رأى باكورة في التين أول أوانها". وبدأت الطبيعة تسمع زغردات الطيور ولاسيّمَا طيور الحبّ: اليمامة والحمامة. كان الرب قد قال في حز 16: 8: "رأيتك ناضجة للحب ".
وانضمّت الخليقة كلها إلى الحبيبة ساعة استفاقت ونهضت: زهور الجبال والوديان، أناشيد العصافير وأغاني البشر وهكذا تقابل الكون كلّه مع الانسان، فصير الواحد يرتبط بالآخر. بعد الخطيئة الأولى، كان الشوك والعوسج. وبعد عودة الشعب إلى حبّ صبائه الأول، تلوّن كل شيء بلون الربيع. جاء وقت فيه تنفتح كل خليقة على الله وتستقبل الحب.
قال العريس: "في أرضنا". صارت أرضنا أرضه بمجيئه، بسرّ التجسّد. قالت برنردس: "هي المرّة الثانية يتحدّث فيها العريس السماويّ عن الأرض. ويتحدّث بحنان كما يفعل إنسان يعيش على الأرض. كم نلتذّ حين نسمع الله يقول: أرضنا. هو لا يشدّد على أنه السيّد، بل على أنه الرفيق والصديق، لا يريد ان تكون أرضنا "مشاعًا" له يسيطر عليها، بل بلدًا يحبّه. ولمَ لا؟ فمنها أخذ عروسه وجسده... كالربّ يملك عليها. وكالخالق يسوسها. وكالحبيب يشارك فيها".
لا يدعو الحبيب حبيبته فقط (ويكرّر الدعوة، قومي، تعالي في آ 10 وآ 13) لكي تفرح معه بالربيع على أرض فلسطين التي هي أرض حبّهما وعهدهما. ولكنه يتوسّل إليها أيضاً لأن تريه وجهها ولا تتأخّر، لأن تسمعها صوتها. فيقولن لها:

* دعيني أرى وجهك، دعيني أسع صوتك
في الكتاب المقدّس، الشعب هو الذي يرغب كل الرغبة بأن يرى العريس ويسمعه. قال موسى: "أرني مجدك " (خر 33: 18). وصاحب المزامير (27: 8- 9): "قلتَ: التمسوا وجهي. فقلتُ: وجهك يا ربّ التمس، لا تحجب وجهك عنّي ". أما الجديد في نش فهو أن نسمع العريس يتوسّل إلى العروس (يسمّيها حمامتي) أن تريه وجهها وتسمعه صوتها.
فبدلاً من أن تبقى منغلقة على نفسها، منعزلة في برجها العاجيّ، مختبئة في نخاريب الصخر، وهكذا تتفلّت من ندائه ومن قبضته (حمامة خائفة في مخابئ الصخور). بدلاً من ذلك، ها هي تقرّر بملء إرادتها أن تعود إلى عريسها. لن تميل بوجهها عنه، بل توجّه قلبها إليه. لن تسكت بعد اليوم، ولن تبقى صامتة، بل ستجيب إلى ندائه. لن تبقى كسولة داخل بيتها، بل تذهب إلى خارج الدار وتأتي إلى لقائه.
لماذا لا نتجرأ ونخرج من ذواتنا؟ لماذا نعاند فنبقى منطوين، منغلقين على نفوسنا؟ أنحسب أن هذا هو التواضع؟ كلا. بل التكبّر الذي يجعلنا نخاف ولا نخاطر.
قال فرنسيس السالسي في هذا المجال بلسان العريس: "قومي، اخرجي من ذاتك، طيري إليّ يا حمامتي، يا جميلتي... تعالي يا حبيبتي العزيزة، تعالَي إلى هذه النوافذ التي بها أنظر إليك، لكي تريني بوضوح. تعالي وتأمّلي في قلبي داخل جنبي حين تدمّر جسدي على خشب الصليب. تعالي وأريني وجهك".
ما نفهم من هذا النصّ هو أن شقوق الصخور هي موضع العزلة التي فيها تختبئ الحمامة الخائفة والمثقلة بالنوم، وهي أيضاً انفتاح على جنب المسيح الذي به ينكشف لها فتستقبله. وقد رأى التقليد الصوفيّ القديم في نخاريب الصخر موضع العزلة الذي فيه تقيم العروس فتنتقل من ملجأ هو نفسها حيث تختبئ إلى مغارة عميقة جدًا هي جسد المسيح صخرتنا (1 كور 10: 4)، هي جرح قلبه (يو 19: 34).
فكيف لا نرى في هذه الفتحة سرّ قلبه الذي يظهر على حقيقته في جراح جسده؟ ويطلب منا الآباء أن نقيم في هذه الفتحة. هناك تدخل النفس فتسكر وتتحوّل تحوّلاً عميقًا في الحبّ الذي تعطيه معرفة هذه الأسرار. هناك تختبئ على صدر المحبوب.
ويتوسّل الحبيب إلى الحبيبة فيدلّ على حبّه العميق، على ولهه الشديد. ويسمّيها بأحلى الأسماء وأرقّها: حبيبتي، جميلتي، يمامتي، حمامتي، رفيقتي. ويكرّر لها النداء بأن تقوم وتجيء. ويستعجل الوقت الذي فيه يرى وجهها ويسمع صوتها. ويشير إلى السحر الذي يكتشفه في وجهها، والعذوبة التي يحسّ بها لدى سماع صوتها.
كيف نفهم أن يكون كلمة الله وصوت الآب قد وجد عذوبة في صوتنا؟ أن يكون ذاك الذي هو"شعاع مجد" الله (عب 1: 3) قد وجد سحرًا في وجهنا؟ أعلن يوحنا المعمدان أنه ابتهج فرحًا حين سمع صوت العريس (يو 3: 29). وهنا، العريس هو الذي ابتهج حين سمع صوت الحبيبة.
ولكن حبّ العريس مهما كان عظيمًا ومجنونًا، لا يعيش في السراب. فولهه لا يعميه. وهو يعرف أن حبيبته تخاف، تستحي، أنها ما زالت سجينة نفسها. هي مستعدّة كل الاستعداد كالحمامة البسيطة التي لا لبّ لها (كما قال هوشع)، أن تلتفت تارة إلى مصر وطورًا إلى أشورية لتطلب منهما العون، لا إلى عريسها (هو 7: 11). ذاك هو وضع الكنيسة التي تطلب العون البشريّ من سلطة أو مال. ذاك هو وضع النفس المؤمنة التي تستند إلى تعزيات هذا العالم وتعاليمه، وتنسى صوت المعلّم الذي يتوق أن يرى وجهها ويسمع صوتها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM