جسد واحد وأعضاء كثيرة

جسد واحد وأعضاء كثيرة
12: 12- 30

من المواضيع التي تقبّلها المسيحيّون في كورنتوس تقبّلاً حاراً، فيضُ الروح القدس فيضاً طوعياً، بحيث لا نُطفئه (1 تس 5: 19)، والحريّةُ التي نعيشها تامّة في يسوع المسيح، بحيث نفهم فهماً صحيحاً القول الذي نقرأه في 1 كور 6: 12: كل شيء مسموح لي. ولكن مثل هذه الحرارة بدأت تطرح بعض الأسئلة في قلب الجماعة: كل واحد يسير على هواه، فيرتبط بهذا المرسل أو ذاك. وكل واحد يظنّ أنه يمتلك روحَ الله. وهكذا حلت الخلافات والفوضى في جميع المجالات. كما صارت الحياةُ مستحيلة والشهادةُ ليسوع المسيح شبه غائبة. مثلُ هذا الوضع أقلق بولس، بل كان همّه الأكبر في ذلك الوقت من رسالته. ومع ذلك فهو متيقّن أن فيض الروح وحريّة المسيحيين لا يتعارضان مع الوحدة التي يجب أن تسود في الكنيسة: فالمسيح لا يمكن أن ينقسم.
وسيتأخّر بولس (ومعه المدرسة البولسيّة) للتعبير عن سرّ ما زال يتأمّل فيه. فالرسالة إلى أفسس سوف تقدّم لنا فكراً وصل إلى النضوج. أما 1 كور 12 فهي محاولة أولى مليئة بالتعليم. وها نحن نقرأها الآن في نصّ طويل (آ 12- 30):
(12) وكما أن الجسد واحد وله أعضاء كثيرة هي على كثرتها جسد واحد، فكذلك المسيح. (13) فنحن كلنا، أيهوداً كنا أم غير يهود (= يونانيّين) عبيداً أم أحراراً، تعمّدنا بروح واحد لنكون جسداً واحداً، وارتوينا من روح واحد. (14) وما الجسد عضواً واحداً، بل أعضاء كثيرة. (15) فلو قالت الرِّجل: "ما أنا يداً، فما أنا من الجسد". ولو قالت الأذن: "ما أنا عيناً، فما أنا من الجسد"، أفتبطل أن تكون عضواً في الجسد؟ (16) ولو قالت الأذن: "ما أنا عيناً، فما أنا من الجسد"، أتبطل أن تكون عضواً في الجسد؟ (17) فلو كان الجسد كله عيناً، فأين السمع؟ ولو كان الجسد كله أذناً، فأين الشمّ؟ (18) ولكن الله جعل كلَّ عضوٍ في الجسد كما شاء. (19) فلو كانت كلها عضواً واحداً فأين الجسد؟ (20) ولكن الأعضاء كثيرة والجسد واحد. (21) فلا تقدر العين أن تقول لليد: "لا أحتاج إليك". ولا الرأس للرجلين: «لا أحتاج إليكما»! (22) فما نحسبه أضعف أعضاء الجسد هو ما كان أشدّا ضرورة، (23) وما نحسبه أقلّها كرامة هو الذي نخصّه بمزيد من التكريم، وما نستحي به هو الذي نخصّه بمزيد من الوقار. (24) أما الأعضاء الكريمة، فلا حاجة بها إلى ذلك. ولكن الله صنع الجسد بطريقة تزيد في كرامة الأعضاء التي بلا كرامة، (25) لئلاّ يقع في الجسد شقاق، بل تهتمّ الأعضاء الأعضاء كلُّها بعضُها ببعض. (26) فإذا تألّم عضو تألّمت معه جميع الأعضاء، وإذا أكرم عضوٌ فرحت معه سائر الأعضاء. (27) فأنتم جسد المسيح، وكل واحد عضو منه. والله أقام في الكنيسة الرسل أولاً والأنبياء ثانياً والمعلّمين ثالثاً، ثم منح آخرين القدرة على صُنع المعجزات ومواهب الشفاء والإسعاف وحسن الإدارة. والتكلّم بلغات متنوّعة. (29) فهل كلّهم رسل وكلّهم أنبياء وكلّهم معلّمون ركلهم يصنعون المعجزات (30) وكلهم يملكون موهبة الشفاء وكلّهم سيتكلّمون بلغات وكلهم يترجمون؟
استعمل بولس بشكل مَثل صورة أخذها من العالم اليونانيّ. كان ابيكتات ورواقيّون آخرون قد استعملوا مراراً صورة الجسد البشري في مقالاتهم الفلسفيّة. وفي رومة أيضاً، استعمل مينينيوس أغريباً الصورة عينها ليُفهم الشعبَ أنه بحاجة إلى مجلس الشيوخ، ومجلسَ الشيوخ أنه بحاجة إلى الشعب. وطبّق بولس هذا التشبيه على ما في يسوع المسيح (آ 12)، فوسّع توسيعاً طويلاً، في جزء أول، مختلفَ وجهات صورة الجسد (آ 27- 30).
"هكذا المسيح" (آ 12). ليس الجسدُ مجموعةَ الأعضاء، بل المبدأ الذي يوحّد الأعضاء. والمسيح كذلك. فالجسد هو الشخص، في الفكر الساميّ. هو الانسان كله كما يحيا ويفعل. وهنا المسيح هو، في شخصه، المبدأ الذي يجعل من المسيحيين واقعاً موحّداً. نحن أمام تدبير جديد يُدخلنا فيه المسيح.

1- جسم الانسان (12: 14- 26)
أ- الواقع (آ 14- 20)
تقدّم آ 14- 20 الوضع: في جسم الانسان، الوحدة والكثرة أمرٌ لا مهرب منه. ولا يقدر أحد أن يلغيها. فالأعضاء لا تستطيع أن تنعزل عن الوحدة التي تتشارك فيها مهما قالت أو فعلت. فهي جزء من الجسد (آ 15- 16): فإن قالت الرِجلُ: لست من الجسد... ومقابل هذا، لا يُوجد الجسد إلاّ بتنوّع الأعضاء (آ 19): إذا كان المجموع عضواً واحداً، فأين الجسد؟ وهكذا تبدو الكثرةُ والوحدةُ مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً نجد فيه إرادة الله: "رتّبَ الله في الجسد، كلاً من الأعضاء، حسب مشيئته" (آ 18).
ب- النتائج (آ 21- 26)
هذا الوضع يُلقي ضوءاً خاصاً على علاقات الأعضاء بعضها ببعض. فلا يمكن أن نرذل أو نستبعد عضواً واحداً. فكل عضو يلعب دوراً في الجسم، والأعضاء الأخرى تحتاج إليه. "لا تقدر العين أن تقول لليد: لست بحاجة إليك" (آ 21). ثم إن عدم المساواة بين الأعضاء هي ظاهرة وليست بعميقة فتصل إلى الكيان. فيأتي تعويضٌ يعيد التوازن في الجسم. "فالذي نعتبره أقلّ كرامة، نكرمه بشكل خاص" (آ 23). وهذا التعويض الذي يحقّقه الله نفسه، يتيح في النهاية التبادلَ بين الأعضاء، بحيث يهتمّ الواحد بالآخر داخل الشركة الواحدة. في هذه الجماعة، كل ما يحدث لجزء في الجسم يترك أثراً في سائر الأجزاء، على مستوى الفرح كما على مستوى الحزن: إن تألّم عضو تألّمت معه سائر الأعضاء. وإن كُرِّم عضو كُرّمت معه سائرُ الأعضاء (آ 26).

2- الجماعة المسيحيّة (12: 27- 30)
ذاك هو التشبيه الذي قدّمه بولس الرسول. يكفي أن ننقله في بضعة ألفاظ كي تظهر حالاً مختلفُ الوجهات التي درسناها ظهوراً جذرياً في وجه جديد. "أنتم جسد المسيح". لا يحتاج الرسول إلى التوقّف طويلاً عند هذا التشبيه. يكفي القارئ أن يرى مثَل الجسد بواسطة الصورة المقدّمة. أما الرسول ففضّل أن يلفت الانتباهَ إلى بعض النقاط الهامّة. نجد الاسلوب عينه في مقابلة الغنيّ والفقير التي استعملها ناتان النبيّ، ليقول في النهاية: هذا الرجل هو أنت. وافق داود على الخبر فحكم على نفسه. فما احتاج ناتان إلاّ أن يستخلص النتائج. فقرع الملكُ صدرَه.
ففي الجماعة عددٌ كبير من المواهب المختلفة وأهمّها هي التي لا تُرى بشكل صارخ، بل تبدو خفيّة. والترتيب الذي نجده هنا يُدهشنا بعض الشيء، لا سيّما وأن الألفاظ المستعملة تختلف عمّا نستعمل في أيامنا. ولكن يبقى شيء أكيد، وهو أن بولس يجعل في الدرجة الأخيرة، موهبة الألسن التي رأى فيها الكورنثيّون أسمى مواهب الروح. فكل شيء يجب أن يُنظَّم بالنظر إلى مجمل الجسد، بالنظر إلى الخير العام (13: 1 ي). والظواهر الخارقة ليست بشيء إذا كانت لا تفيد في البناء (14: 11- 12، 26). لهذا، لا بدّ في البدء أولاً من شخص يعرف أن يترجم، وإلاّ يَسكت المتكلّمُ بالألسن (14: 16). هذا لا يعني أننا نمنع الروح من الكلام، ولو بشكل غريب وغير معتاد (14: 39). إلاّ أن الروح الحقيقيّ لا يُعطى إلاّ من أجل الخير المشترك 1(2: 7) الذي يكفله الذين تسلّموا مهمّة في الكنيسة: أولاً، الرسل. ثانياً، الأنبياء. ثالثاً، المعلّمون (آ 28).
الألفاظ المستعملة هنا هي احتفاليّة جداً بحيث لا يمكنها إلاّ أن تدلّ على ترتيب تعترف به الكنيسة. فمع "الأنبياء والمعلّمين"، نجد الترتيب المعمول به في أنطاكية (أع 131:) حيث عاش بولس مدّة طويلة (أع 11: 25 ي؛ 12: 24- 25؛ 13: 2). وترتيبُ الخِدَم هذا قد يكون امتدّ إلى كنائس تأسّست في العالم اليونانيّ، ساعة فضّلت أورشليمُ والكنائسُ المؤسّسة في مناخ يهوديّ، لفظ "شيوخ" (أع 15: 2، 4، 6،22). غير أننا نجد هنا وهناك "الرسل"، أي أولئك الذين رأوا المسيح القائم من الموت، وأرسِلوا من قبله إلى أنطاكية كما إلى أورشليم.
لا شكّ في أن تلك هي الخِدم الرئيسيّة التي ستصل بنا في نهاية القرن الأول، إلى الترتيب الذي نعرفه اليوم: الأساقفة، الكهنة. أما الشمامسة الذين يُذكرون في نصوص أخرى، فلا يظهرون هنا. ونلاحظ أن بولس جعل في المرتبة الأولى مواهبَ هي اليوم "وظائف" و"خدم". وهكذا نرى أنه يستحيل أن نعارض الكنيسة "المواهبية" بكنيسة "الخدم" أؤ "الوظائف" (الكنيسة التراتبيّة). في أي حال، ليس هذا فكرَ بولس. فالذين يمارسون أرفع الوظائف في الكنيسة هم الذين نالوا أهمّ المواهب. وحين يمارسون تمييز الأرواح (أع 2: 15ي؛ 5: 32؛ 11: 12، 15؛ 15: 28)، فهم لا يتدخّلون في مجال غريب عنهم. كل ما يفعلونه هو الاضطلاع بمسؤوليّاتهم في مجال هو مجالهم.
بعد هذا، لا يحسد أحدٌ أخاه، وليلبث كلُّ واحد حيث وضعه الله (آ 28). فالتعدّدية لا يمكن أن تكون ذريعة الفوضى وغياب كل نظام. بل ما يجب أن يرمي إليه الجميع، هو الخير المشترك، الوحدة، البناء، بناء الجسد، لأن "الله ليس إله فوضى، بل إله بسلام" (14: 33). في هذا المنظار، الطريق التي تتجاوز كلَّ طريق أخرى هي المحبّة، وهذا أمر لا شكّ فيه. أعظم المواهب وأسخى الأعمال وأروعها، ليست بشيء من دون هذه المحبّة التي ترى الاختلاف وتتقبّله، ولكنها تتجاوزه من أجل الوحدة التي تقودنا إلى أن نجعل الآخر يمرّ قبلنا.

خاتمة
سوف ننتظر الرسالة إلى أفسس لكي نرى تتمّة التأمّل الذي بدأ في جماعة كورنتوس التي لا تعرف الهدوء. وستكون أزمة أخرى (كو 2: 10) تكشف للمؤمنين صورة أخرى: الكنيسة جسد اجتماعيّ، والمسيح الرأس. كل هذا سوف يساعد المدرسة البولسيّة على التعمّق في النظرة إلى الكنيسة: فالكثرة والوحدة هما عمل يسوع المسيح الذي "ينظّم القديسين لعمل الخدمة من أجل بناء جسد المسيح" (أف 41: 2) والذي منه (في الوقت عينه) "ينال الجسدُ كلّه التلاحم والتماسك بواسطة كل أنواع المفاصل التي تغذّيه وتحرّكه" (أف 4: 16).
وحين حقّق المسيح هذا العمل، ما اهتمّ إلاّ بالخبر المشترك. كانت حياته عطاء كاملاً قاده إلى الصليب. إنه الحبّ. لهذا، "قتل البغضَ والعداوة، في شخصه". ومسكنُ الله ينمو على حجر زاوية المسيح المصلوب، الذي يصالح البشر مع الله، فيجعل منهم إنساناً جديداً (أف 2: 15- 16).
وحده الحبّ يستطيع أن يبني مثلَ هذه الوحدة في احترام لا يُحدّ للأشخاص. والحبّ السامي يقود إلى الصليب. غير أن مثل هذا الطريق قد استضاء منذ يسوع المسيح، بأنوار القيامة. فالحبّة تسقط في الأرض وتموت، ولكنها تفرح لانها تستشفُّ بواكيرَ الحصاد

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM