نشهد للمسيح المصلوب

نشهد للمسيح المصلوب
1 كور 2: 1- 5

نقرأ هذه القطعة بعد توسّع يوبّخ فيه بولسُ الكورنثيين الذين انقسموا حول وعّاظ الانجيل. نسوا أن هؤلاء الوعّاظ هم هنا من أجل المسيح، لا من أجل أنفسهم. وُجدوا لكي يُبرزوا تعليمَ الخلاص بالصليب. وبولس الذي يرفض أن يتشيّع له أحدٌ (1: 13)، سيذكر تصرّفه في كورنتوس. لقد ركّز كرازتَه كلَّها على سرّ المسيح المصلوب، وعملَ ما في وسعه لئلاّ يفتخر بنفسه أو يتجاهى. هذا ما نقرأه في آ 1- 5 التي تُلقي الضوء على هذا الموقف. سبق وقال: "من يفتخر فليفتخر بالربّ" (1: 31). فبولس خادم للربّ، شأنه شأن إرميا الذي أورد كلامه، وهو يريد من المسيحيّين أن يتعلّقوا بالمسيح، كما كان الأنبياء يتعلّقون بكلام الله، لا بمن يحمل هذا الكلام. ونقرأ النصّ:
(1) وأنا، عندما جئتكم أيها الاخوة، ما جئتُ ببليغ الكلام أو الحكمة لأبشّركم بسرّ المسيح، (2) وإنما شئتُ أن لا أعرف شيئاً، وأنا بينكم، غير يسوع المسيح، بل يسوع المسيح المصلوب. (3) وكنتُ في مجيئ إليكم أشعر بالضعف والخوف والرعدة، (4) وكان كلامي وتبشيري لا يعتمدان على أساليب الحكمة البشريّة في الإقناع، بل على ما يُظهره روحُ الله وقوّته، (5) حتى يستند إيمانُكم إلى قدرة الله، لا إلى حكمة البشر.

1- كرازة بدون لفّ ولا دوران
تذكّرنا آ1 أن بولس لا يجعل من المسيحيّة فنَّ الكلام المنمّق لكي يرضي الناس أو يُمالقهم، كما لا يجعلها نهجاً فلسفياً يقف وسط تيّارات عديدة تعاقبت في تلك الحقبة، في العالم الهلنستيّ، أي العالم الشرقيّ الذي ارتبط بالحضارة اليونانيّة بعد مجيء الاسكندر المقدونيّ.
إن بداية الرسالة تُفهمنا قوّةَ ما يقوله الرسول الآن. فجماعةُ كورنتوس تعيش أزمة، لأن أعضاءها دلّوا على عدم نضوج روحيّ، حين انقسموا في شأن الوعّاظ المسيحيين. لن نتحدّث عن هذه الاتجاهات المتنوّعة، ولكننا نفهم أن البعض لا يرون سوى بولس، وآخرون بطرس، وآخرون أبلوس. بل إن بعض الكورنثيين أرادوا أن يرتبطوا ارتباطاً مباشراً بالمسيح دون حاجة إلى التقليد الرسوليّ، أو جعلوا يسوع معلّم مدرسة على مستوى سائر المعلّمين. انطلقوا من سطحيّة تعيسة فوصلوا إلى مثل هذه الاستنتاجات. فاعتبروا أن الوعّاظ يعارضون بعضُهم بعضاً، ساعة رفض ابلوس أن يمضي من أفسس إلى كورنتوس، لئلاّ يشجّع الحزبَ الذي ينتمي إليه (16: 12). توقّف المؤمنون عند صفات خاصة متنوّعة، عند نقص أو اختلاف، لدى هؤلاء الوعّاظ، فرأوا فيهم معلّمي بلاغة، أو أشخاصاً ممالقين، أو مفكِّرين استنبطوا نهجاً خاصاً بهم ، نهجاً لا يرتبط بالانجيل. فدلّوا هكذا على خطأ كبير.
كانت ردّة فعل بولس قاسية، لا سيّما وأن المتشيِّعين له لا يفهمون تصرّفه (1: 13- 14). وقد سبق له وخاب أمله في أثينة (أع 17: 16- 34). كان محقاً حين راعى الحسّ الدينيّ عند سامعيه، وامكانيّةَ التقبّل والتفكير لديهم. ولكنه اصطدم بفضوليّين يبحثون عن كل جديد في الفكر وفي الكلام، كما اكتشف العداوة والارتياب حين شهد لقيامة المسيح. لهذا، واجه الكورنثيين مواجهة مباشرة، في اكتفائهم الفكريّ، كما سبق له وواجه أهل أثينة، وأعلن التعليم المسيحيّ في كل واقعيّته. فذكّر الكورنثيين بأن المسيح يجب أن يكون حكمتَهم كلها، وأن مسيح الصليب صار من أجلنا "حكمة وبراً وقداسة وفداء" (1: 30). بعد هذا، لن يعود من حديث عن إيديولوجيا ومجموعة أفكار ونظريات، بل عن شخص التقوا به وسمعوا كلاماً عنه.
في مثل هذا السياق، نفهم ما يعني بولس حين يقول: "وأنا عندما جئتكم... ما جئتُ ببليغ الكلام، أو الحكمة" (آ 1). "الكلام" يعني هنا اللفظ الفارغ، أو المنطق الباطل. أو الكلام المنمَّق، لا الاعلان الفاعل الذي هو صوتٌ (رج خر 19: 19) وعملٌ وحدثٌ ديناميكيّ. و"الحكمة" تؤخذ هنا في معنى منحطّ: هي نهج نظريّ وتنظيريّ، وهي تُقدِّم البراهين من أجل التجاهي. إنها مجهود عقليّ لا يصل بنا إلى الحياة. أما الحكمة الحقّة ففنُّ العيش بحسب الله. وتفكيرٌ وتصرّف نقلتهما الحكمة البيبليّة التي تجد ذروتها في الإنجيل، لأن يسوع هو حكمة الله الوحيدة والنهائيّة من أجلنا: فيه نجدُ كلَّ مخطّط الله، كلُّ طريقة حياة مع الله. وسيذكّر الرسول الكورنثيّين (الذين ظنّوا أنهم حكماء) بالتواضع، فيقول لهم إنهم لم يصيروا بعدُ جديرين بسماع أعماق حكمة الله (2: 6).
تجنّب بولس أن يمالق هذه الميول المزعجة، فأعلن سرّ المسيح. فسرّ الله الذي أعلنه بولس هو ذاك الذي يكشفه لنا العملُ الفدائيّ. بعد ذلك، سيصف الوعّاظَ أنهم "وكلاء أسرار الله" (4: 1). في المسيح، أظهر الله حبّه لأجلنا. وشهد لأمانته وتمام قصده. والصليب هو "نعم" من الله لم يكن ينتظره البشر. في كورنتوس، ما أراد بولس أن يُعلن شيئاً آخر، فرفض أن يتّخذ طرقاً ملتوية ومعوجّة.

2- بولس وصليب المسيح
تشدّد آ 2 على الخيار الذي اتّخذه بولس بملء حرّيته وإرادته، بحيثُ يَدخلُ إلى قلب التعليم: المسيح والمسيح المصلوب.
نتوقّف أولاً عند شهادة الرسول الشخصيّة. ففي هذه الرسالة، وعبر كل التعاليم التي يوردها، نراه يلتزم، يخاطر، وفي النهاية يوجز توصياته: "اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح"(11: 1). وهذه أمثلة يقدّم فيها بولس تصرّفه أمام نظر المؤمنين: لا حاجة إلى رفع الوعّاظ على حساب البشارة (1: 13- 15). حياة العفّة (7: 7: لو كان جميع الناس مثلي). المحبّة والفطنة في التعامل مع القريب (8: 13- 9: 1). استعمال المواهب استعمالاً خفراً (14: 18- 29). شهادة نؤدّيها للمسيح القائم من الموت (5: 8- 9، 30- 32). وهنا أيضاً، بدأ بولس فكرز بالمسيح المصلوب، وقد فعل لا ليتكيّف فقط مع ما يراه ضرورياً في كورنتوس. فهو نفسه ركّز حبّه واندفاعه على شخص يسوع. ففي ما يقول وما يكتب، يدلّ على التزامه الشخصيّ التام والتجنّد من أجل الربّ. هو في قرارة نفسه لا يعرف إلاّ المسيح: فالربّ هو حياتُه وعلّةُ وجوده وعملِه وتضحياته وآلامه وموته. فمن طريق دمشق، "أنا يسوع" يُشرف على آفاق بولس، كما أشرف "أنا يهوه" (الربّ) على كل حياة موسى. تتلمذ الرسول لما يكرز به، فوعظ نفسه بما يقوله للآخرين. وتتميّز الرسالتان إلى كورنتوس تمييزاً خاص بهذا الطابع المعاش والشخصيّ. وهكذا نعرف شخصَ الرسول وحياته معرفة أفضل.
كانت كرازة بولس أولاً، في كورنتوس، "إعلان يسوع المسيح". ففي نظر الأنبياء، كان أساس عملهم، السعي ليجعلوا الانسان يلتقي بالله الحيّ والفاعل. فتعليم الكتاب المقدّس يتوخّى اللقاء مع آخر. والأفكار، مهما كانت جميلة، تبقى خاصة بهذه الوقفة في حضرة الله، في حضرة المسيح. ويسوع يتماهى، في شخصه، مع كل ما يحمله: هو برّ وسلام وحكمة ومصالحة وفداء. هو الحياة، وهو "فصحنا" (5: 7). فعلى الواعظ المسيحيّ أن يتحوّل بدوره إلى يسوع المسيح بحيث يجعله مركزَ حياته وتعليمه.
"ويسوع المسيح مصلوباً". هل نفهم هنا أن بولس لم يتكلّم سوى عن الصليب؟ في الواقع، ممّا تبقّى من الرسالة، ومن الرسائل البولسيّة، وما تركته لنا الفقاهةُ الأولى، نفهم أن بولس والوعّاظ الأولين شدّدوا على شخص المسيح وعلى ألقابه، المسيح الذي أنبأت به الكتب المقدّسة. ابن الله. الربّ القائم من الموت، الحيّ والممجّد. كما ذكروا تعاليمَه ومعجزاته وقدرتَه التي تحمل الحياة والخلاص، وحضورَه في الكنيسة كلها وفي المسيحيّين. غير أن كل الكرازة (وكل حياة يسوع المسيح) تتركّز على الحدث الفصحيّ، منذ "الليلة التي أسلم فيها" (11: 23) حتّى الصعود. فالحياة المسيحيّة كلها تستخرج قوّتَها الروحيّة من سرّ المسيح الذي مات وقام من أجلنا... "المسيح فصحنا ذُبح" (5: 7).
من الواضح أن بولس حين يكرز بالسرّ الفصحيّ، يضمّ وجهةَ الآلام إلى وجهة المجد. فموتُ المسيح هو من أجل الحياة. وصليبُ المسيح هو "قدرة الله وحكمة الله" (1: 18- 25)، لأنه يقودنا إلى نصر لم نكن نتوقّعه، على قوى الخطيئة والموت. فالمسيح المصلوب هو في الوقت عينه "ربّ المجد" (3: 8- 9). ومع ذلك فعبارة "وأنا بينكم" مهمّة هنا: لقد شدّد بولس، في كورنتوس، على الوجهة المؤلمة في العمل الفدائي، لأنه رأى فيها أنجع دواء ضدّ التباهي، والميل إلى الكبرياء، والتعلُّق بما يظهر في الخارج. إن صليب يسوع يشجب كلَّ اعتداد بشرّي، كما قال بولس في الرسالة إلى غلاطية: "أما أنا فلا أفتخر إلا بصليب ربّنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي وصُلبت أنا للعالم" (6: 14).
فعلى حياتنا المسيحيّة أن تغتذي دوماً من التأمّل في السرّ الفصحيّ. فالإيمان كله يدفعنا لكي نتجنّد للمسيح الذي مات وقام، ونتّحد به، ونشارك في عمله. والنسكُ المسيحيّ كله، الذي هو مسيرة متواصلة "في جدّة الحياة"، يستند إلى "الفعل الفصحيّ" الذي هو عبور من الموت إلى الحياة. والعبارة المسيحيّة تؤوِّن (تجعله الآن، تجعله حاضراً) دوماً سرّ الصليب والمجد هذا، إلى عودة الربّ، "إلى أن يجيء" (11: 6).
لا تعرف المسيحيّةُ تعليماً عن الألم يقف عند الألم، وعن الصليب يقف عند الصليب. فالصليب ينتهي في القيامة. والمسيحيّة التي هي تعليم حياة وفداء ورجاء، تنظر نظرة جريئة إلى نهاية العمل البشريّ في المسيح الممجّد. ولكن الكورنثيين يحاولون أن ينالوا الغلبة دون المرور في طريق المسيح. إذن، لن تكون قيامة دون حاش وآلام، ولا نصرٌ دون محن. ذكر بولس هذا الطريق المعروض على كل تلميذ، في الانجيل (4: 7- 13). فالحكمة المسيحيّة الحقيقيّة نجدها في اتّحاد إرادي بالفداء، بالصليب. ومهما فعلنا، لا نقدر أن نعتاد على هذا الوحي "الذي أخفي على الدهور"، على الخلاص بالصليب.

3- قدرة الله تظهر في الضعف
تُبرز آ 3- 5 الظروفَ التي فيها تمَّت الكرازةُ في كورنتوس. وهذه الظروف تدلّ على التعليم الذي سبق، وتكشف مفارقة الخلاص بالصليب. انطلق بولس من حياته. والتعليمُ الذي يكرز به يتسجّل في تصرّفه وحياته الرسوليّة.
جاء إلى كورنتوس وهو يشعر "بالضعف والخوف والرعدة" (آ 3). هل نرى هنا مرضاً يصيبه بشكل مزمن؟ هل نرى شكلاً خارجياً لامقبولاً؟ قالوا عنه: "رسائل بولس قاسية عنيفة، ولكنه متى حضر بنفسه، كان شخصاً ضعيفاً وكلامه سقيماً" (2 كور 10: 10). لا نتوقّف طويلاً عند اعتبارات تصدر عن خصوم بولس. وإن هو أبرز شكلاً لاملائماً يظهر للعيان، فلكي يدلّ على مخطّط الله الذي لا يتوقّعه بشر، والذي يستعمل مثلَ هذه الآنية التي من خزف. في أي حال، نتذكّر أن بولس حين وصل إلى أثينة (أع 17: 33- 34)، بدا قلقاً، دون أن نعرف نوعيّة محنه. فهو سيختبر في كيانه، في لحمه ودمه، قدرةَ الصليب وما فيها من مفارقة. فالمسيحُ نفسه واجه آلامه، لا كرواقيّ يحاول أن يسيطر على الألم. بل كانسان عرف النزاع في بستان الزيتون، فواجه ألمَه وحده وبدون سند خارجيّ. وبولس بدوره اضطُهد، عرف المقاومة، رُفض. ووجد إرميا النبيّ الشجاعة، في ما يعترضه، في كلمة الله. كما وجد بولس العزاء والتشجيع في صليب المسيح (2 كور 1: 9- 9؛ 12: 9- 12).
ونذكر هنا أيضاً أن الربّ تراءى له في كورنتوس، فشجّعه: "لا تخف، بل تكلّم ولا تسكت. فأنا معك" (أع 18: 9- 10). إذن، يحقّ للرسول أن يذكّر الكورنثيين أن تعليم الصليب يَقلب الحسابات البشريّة. فهو نفسُه اختبر الانتصارَ الفصحيّ عبر وسائل غير منتظرة. لهذا أضاف في آ 4 أنه لم يسعَ إلى إقناعهم ببراهين بشريّة وحيل بلاغيّة، بل جاء على نقيض كل ما "يلمع". ففي الشكل، لم يجعل في كرازته الدبلوماسيّةَ الكاذبة، بل أبرز سرّ الصليب. فكلامُ الرسول (أو اعلانه للتعليم) كان «برهان روحِ القوّة». نجد هنا مفهوم "الكلمة" (في الكتاب المقدّس): إعلان، عمل فاعل يلج إلى القلوب.
روحُ الربّ جعل بولس يشهد، بحيث أحسّ أنه في قبضة "يد الله"، شأنه شأن الأنبياء. فمن خلال كرازته، حوّل حياةَ الناس، قلب طريقةَ وجودهم، وهداهم إلى المسيح المصلوب. فعلى المؤمنين الذين بُشِّروا، أن يتذكّروا أنّ عطيّة الله وصلت إليهم هكذا، وأن روحَ الربّ أمسك بهم. فأي دواء هذا الدواء ضد الغرور الذي يُولد دوماً فينا! وهكذا يتمّ مخطّطُ الله بالنسبة إلى حامل البشارة وبالنسبة إلى من يتقبّلها.
وأخيراً توجز آ 5 القطعة كلها. لا يستطيع إيمان الكورنثيّين إطلاقاً أن يستند إلى مجرّد اعتبارات بشريّة، إلى إعجاب بالواعظين، إلى تعلّق بالبراهين الجميلة. الإيمان طاعةٌ لعطيّة الله التي تحوِّلنا، لأننا نعرف أنّ كلَّ شيء يرتكز على قدرة الله. فعلى الكورنثيين، شأنهم شأن بولس، أن يشكروا لله تعلّقَهم بانجيل الصليب. فالربّ، بطرقه اللامنتظرة، مع «جهالة» الصليب، قد أعطاهم الحياةَ وهو الذي يثبّتهم في الإيمان.

خاتمة
هزئ بولس بالبلاغة البشريّة، فدلّ على بلاغة خاصة تنطبع بالحياة وتتلوّن بالحقيقة. فالبلاغة الحقيقيّة تبتعد عن أساليب البلاغة التي يعرفها البشر. والانسانُ الخاضعُ للنعمة والأمين لعطيّة الله، سبق له وتخلّى عن المجد الباطل والعابر. عندئذ يدلّ على حكمته في شكل جديد. والرسول الذي أناره الروح، خسر كل شيء. ولكنه في العمق ارتفع إلى عظمة جديدة. فالانجيل يدعو التلميذ إلى التجرّد الذي يفرضه الصليب، لكي يتبع طريق الحياة الحقّة التي لا تغشّ. في هذه المسيرة السرّية التي يتجاهلها اللامؤمنون، يرى المسيحيّ نفسه منذ الآن متّحداً مع "ربّ المجد".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM