إقبلوا بعضكم بعضاً

29
إقبلوا بعضكم بعضاً
15: 4- 9

دعا الرسول المؤمنين ليقبلوا بعضهم بعضاً في اختلافاتهم دون أن يغرقوا في جدالات ثانويّة. أمّا حدود هذا التسامح فالمحبّة الأخويّة، واحترام القريب، ومساندة بعضنا بعضاً. أما هكذا تقبّل يسوع الجميع، سواء كانوا يهوداً أو وثنيين؟
ونبدأ بقراءة النصّ:
(4) وكل ما جاء قبلاً في الكتب المقدّسة إنما جاء ليعلّمنا كيف نحصل على الرجاء بما في هذه الكتب من الصبر والعزاء. (5) فليعطكم إله الصبر والعزاء اتفاق الرأي في ما بينكم كما علّمنا المسيح، (6) لتمجّدوا الله أبا ربّنا يسوع المسيح بقلب واحد ولسان واحد.
(7) فاقبلوا بعضكم بعضاً لمجد الله كما قبلكم المسيح. (8) وأنا أقول لكم إن المسيح صار خادم اليهود ليُظهر أن الله صادق ويفي بما وعد به الآباء. (9) أما الوثنيّون فيمجّدون الله على رحمته، كما جاء في الكتاب: «لذلك أسبّح بمجدك بين الأمم، وأرتّل لاسمك».

1- دراسة أدبيّة
تشكل هذه الآيات الست (آ 4- 9) ثلاثة مقاطع لا رابط بينها: آ 4؛ آ 5- 6؛ آ 7- 9. لن نحاول أن نجد مبدأ وحدة بينها. أما وجود المقطع بقرب الآخر، فيُفهم بالنظر إلى دورها في السياق الذي ترد فيه.
إن التوسّع الذي يبدأ في 14: 1 ويمتدّ إلى 15: 13، يتوخّى أن يؤمّن الوفاق في جماعة رومة. هناك مسيحيّون «ضعيفون في الإيمان» (141: ) يعتبرون أن يوماً يختلف عن يوم (آ 5)، وأن بعض الأطعمة نجسة (آ 14). يظنّون أنهم مجبَرون على الامتناع عن اللحم والخمر (آ 21)، ولا يتجاسرون أن يأكلوا سوى البقول (آ 2). وساوسُهم لم تكن سهلة. فجاءت متتالية أولى (14: 1- 12) تدعو «الأقوياء» و«الضعفاء» إلى التفاهم المتبادل: فالاختلافات في وجهات النظر هذه ثانوية بالنسبة إلى الانتماء المشترك إلى المسيح. فعلى «الأقوياء» أن لا يحتقروا «الضعفاء» (آ 3، 10)، وعلى الضعفاء أن لا يحكموا على الذين يأخذون بموقف متحرّر. ويتوجّه بولس بشكل رئيسيّ إلى الضعفاء»: هم يدينون إخوتهم فيتعدّون أساساً على دينونة الله: «سنقف جميعاً أمام محكمة الله» (آ 10- 12). والمتتالية الثانية (14: 13- 23) تتوجّه إلى «الأقوياء»: هم على حقّ حين يعتبرون «أن لا شيء نجس في حدّ ذاته» (آ 14). غير أن هذا لا يسمح لهم بأن يكونوا سبب عثار لإخوتهم، بحيث يتصرّفون عكس ضميرهم.
ويُنهي بولس توسّعه في 15: 1- 13 باعتبار جديد: «الأقوياء» والمسيحيون بشكل عام، يسيرون على مثال المسيح. لا يعودون يتصرّفون كما يرتأون، بل يتّبعون المثال الذي أعطانا يسوع (آ 1- 3). وإذ أراد بولس أن يصوّر هذا التجرّد عند المسيح، أورد مز 69: كانت له مناسبة ليبيّن فائدة الكتب المقدّسة للمسيحيين (آ 4). واختتم بصلاة هي في الوقت عينه مباركة (آ 5- 6). غير أن الفكرة التي أعلنها بدت له هامّة. فاستعادها بشكل آخر، ودعا المسيحيين ليسلكوا سلوك المسيح الذي تقبّلهم فأتمّ الكتب المقدسة (آ 7- 12). وينتهي كل هذا بمباركة جديدة: «فليغمركم إله الرجاء بالفرح والسلام في الإيمان» (آ 13).

2- الفائدة من الكتب المقدّسة (15: 4)
أ- الكتاب من أجلنا
كان المعلّمون اليهود قد لاحظوا أن الكتاب المقدس لم يحتفظ إلاّ بجزء صغير من أقوال تفوّه بها الأنبياء. فقالوا: «النبوءات الضروريّة للأجيال التالية، قدّ دُوّنت. وما لم يكن ضرورياً، لم يدوّن». فالكتاب لم يحتفظ من تعليم الأنبياء إلاّ بما يمتلك قيمة دائمة، ولا سيّما إذا قرأناه على ضوء العهد الجديد.
ولكن فكر بولس لا يتوقّف عند هذه الوجهة العامّة. فإذ قال: «كل ما كُتب في الماضي» لفت انتباهنا، بشكل غير مباشر، إلى الزمن الحاضر الذي لأجله كُتب. لا شكّ في أنه يرى العهد القديم موجّهاً للمسيحيّين. فلا يكتفي بأن يلاحظ أن نصاً ظرفياً يعني الذين يؤمنون بالمسيح (4: 23- 24؛ 1 كور 9: 9- 10). بل يُعلن ذلك بوضوح إذ يُورد خبر أحداث عبور البريّة. «حدث هذا كله ليكون لنا مثلاً... وهو مكتوب ليكون عبرة لنا نحن الذين انتهت إليهم أواخر الأزمنة» (1 كور 10: 6- 11). لم يُكتب خبر الخروج فقط من أجل الأجيال الآتية، بل هو يتوجّه بشكل أدقّ إلى جيل نهاية الأزمنة، الجيل الذي سيرى تتمّة الوعد ويحيا، بحسب عالم جديد، أحداثاً صوّرت مسبقاً الفداء النهائيّ. فالكتاب يتوجّه بشكل خاص إلى جماعة الزمن المسيحانيّ، إلى كنيسة المسيح.
ب- الكتاب من أجل تعليمنا
ذاك هو هدف الكتب المقدّسة. وقالت 2 تم 3: 16- 17: «فالكتاب كلّه من وحي الله، يفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البرّ، ليكون رجل الله كاملاً مستعداً لكل عمل صالح». فكّر بولس بشكل خاص في التعاليم التي تقدّمها الكتبُ المقدّسة للمسيحيين، فتساعدهم لكي يحيوا حياة أكثر توافقاً مع مشيئة الله.
وترتبط ملاحظة بولس بإيراد نبوءة مسيحانيّة، من مز 69 الذي تحدّث عن آلام المسيح. ما يقوله الكتاب عن المسيح، لا يمكن أن يكون فقط أساس براهين لاهوتيّة أو دفاعيّة، فهو يبيّن لنا أيضاً الطريق الذي نتبعه لنسير إلى الله. وإذ تكشف لنا الكتبُ المسيح، تعلّمنا الوسيلة التي بها نُرضي الله. وهذا يكون حين نتشبّه بابنه.
ج- تعزية الكتب
ويتابع النصّ: «لكي نحصل على الرجاء بالصبر والعزاء». الصبر (أو الثبات) يعني أن نقف، نقاوم عدواً قوياً، أن نبقى حيث نحن مهما كانت الأمور شديدة. لسنا فقط أمام نظرة بشريّة إلى قوّة نفسيّة لا يستطيع أحد أن يزعزعها. بل إن ثبات المسيحيّ يرتبط بثقة بالله وينتظر منه عوناً. لا يستند المسيحيّ إلى نفسه، بل الصبر الذي يصبره هو شكل خاص يتّخذه الرجاء في قلب الصعوبات. هذا هو صبر القدّيسين. وهكذا نرى الرباط الوثيق، في فكر بولس، بين فكرة «الصبر» (أو: الثبات) وفكرة «الرجاء» (5: 3- 5؛ 8: 24- 25؛ 12: 12؛ 1 كور 13: 7؛ 2 كور 1: 6- 7؛ 1 تس 1: 3).
في زمن المحنة والضيق، الذي يعيشه المسيحيون، يجب أن «يقفوا» بفضل رجاء حيّ، لا يتزعزع، ويُعينهم العزاء «الذي تحمله الكتب». فالكتب تغذّي رجاءنا وتوسّعه حين تجعل أمام عيوننا المواعيد الالهيّة. وتكفل لنا مساعدة يمنحها الله لأحبّائه. إذن، يُفهم عزاءُ الكتب المقدّسة بالنظر إلى رجاء نضعه في الله فيتيح لنا أن نتجاوز صعوبات طريقنا ولا نتراخى.

2- الاتفاق في الرأي (15: 5- 6)
ووصل بولس إلى ما أراد أن يقوله للرومانيّين. فكّر في أن يودّعهم، فتصرّف حسب العادات الليتورجيّة، وتلفّظ بعبارة مباركة. في الواقع، لم تنتهِ الرسالة بعد. فستأتي حواش ثلاث، وتنتهي كل حاشية بمباركة جديدة (15: 13؛ 15: 33؛ 26: 20). أما الاسلوب فأسلوب المباركة التي تعلّمها شاول (بولس) في المجامع اليهوديّة.
عاد بولس إلى آ 4، فتوجّه إلى «إله الصبر والعزاء»: هو ذاك الذي ينتظر منه المسيحيّون القوّة التي تساعدهم على الصبر والثبات في المحن، والعزاء الذي يمنع رجاءهم من التراخي واليأس.
انتظر بولس من الله أن يمنح مسيحيّي رومة أن يكونوا «على اتّفاق في ما بينهم». أن يفكّروا التفكير الواحد في ما بينهم. هذا لا يعني أن الأقوياء ينضمّون إلى آراء الضعاف في الإيمان، مع ما في هذه الآراء من ضعف. ولا يعني أن يقاسم الضعفاء الأقوياء نظرتهم بسبب النور الذي عندهم. فالاتفاق الذي يتمنّاه بولس يسير مع النظرات المختلفة، مع التعدّدية: فالوحدة لا تعني المطابقة وانقياد الواحد للآخر. والاختلافات، التي هي ثانويّة، لا تمنع التفاهم بين المسيحيّين. هذا ما يعود بنا إلى عمق النفس الواحدة التي تحدّثت عنها روم 12: 16؛ 2 كور 13: 11؛ فل 2: 2، 4؛ 4: 2.
ويتمّ هذا الاتفاق «حسب المسيح يسوع». إنه ذبيحة المحبّة المسيحيّة، لا تعاطف بشريّ محض. هذا يفترض أن يأخذ كلّ واحد مثالَ المسيح، فلا يطلب ما يرضيه، بل ما يرضي الآخرين (آ 1- 3). ولا يمكن للاتّفاق أن يتمّ إلاّ في التجرّد ونسيان الذات اللذين بهما يشهد المسيحيّ على أمانته للمسيح المصلوب.
وتضيف آ 6 أن اتّحاد المسيحيّين هذا لا يجد غايته في ذاته. بل يجب أن يتيح لهم أن يؤدّوا لله المجد الذي ينتظره منهم، أن يؤدّوا له التسبيح. وهذا التسبيح يتمّ «بقلب واحد وفم واحد». فمن دون هذا الاتفاق العميق بين جميع المؤمنين، تشبه الجماعة حينذاك جوقة تتنافر أصواتُها. فكيف يرضى الله مديحاً يتوجّه إليه دون أن تتوافق أصواته؟ فنحن لا نستطيع أن نؤدّي المجد اللائق بالله إلاّ إذا أقمنا في وفاق المحبّة الأخويّة.
ومديح الجماعة المسيحيّة يتوجّه إلى «الله أبي ربنا يسوع المسيح». نرى هنا عبارة من الليتورجيا المسيحية (2 كور 1: 3؛ أف 1: 3؛ كو 1: 3؛ 1 بط 1: 3) تحلّ محلّ ما اعتاد اليهود أن يتلوه: «إله ابراهيم واسحق ويعقوب». فالاله الذي يُنشده المسيحيون، كان قد ظهر للآباء. ولكنه كشف عن نفسه في شكل عميق جداً على أنه «أبو يسوع المسيح».

4- كما قبلكم المسيح (15: 7- 9)
«لهذا إقبلوا بعضُكم بعضاً» (آ 7 أ). ترتبط هذه التوصية مع «لهذا»، لا بما سبق بشكل مباشر، بل بمجمل التوسّع الذي بدأ في 14: 1: «اقبلوا بينكم ضعيف الايمان». ينطبق الفعل أولاً على واجب الضيافة، فنستقبل الانسان في بيتنا. ويتّخذ هنا معنى أوسع: نقبله في جماعتنا. نعامله باللطف الواجب لقريب من أقربائنا. مهما كانت الاختلافات في الآراء كبيرة، على المسيحيّ أن يقبل الآخر كأخ. فانتماؤهما المشترك إلى المسيح، يخلق فيهما رباطات عميقة جداً، بحيث لا يعود لسائر الاختلافات سوى أهميّة ثانويّة.
«كما أن المسيح قبلكم، هو أيضاً» (آ 7 ب). على سلوك المسيحيّين أن يتطابق مع سلوك المسيح (أف 5: 1- 2، 25؛ كو 3: 13). قبلنا المسيحُ. صيغة الماضي هنا تدلّ على ظرف معيّن (رج آ 3)، هو الموت الذي احتمله المسيح من أجلنا. فعلى الصليب دلّ على حبّ يجب أن يكون مثالاً للمسيحيّين في علاقاتهم مع إخوتهم. أوصى بولس فما تكلّم عن «محبّة» بل عن «قبول». غير أن اللفظ ينطبق على الله أكثر منه على المسيح الذي به نقترب إلى الله (5: 2؛ أف 2: 18؛ 3: 12؛ 1 بط 3: 18). أجل، الله هو من يقبلنا (14: 3). لهذا، قال الرسول «لمجد الله»، ليبيّن أننا لا نعارض الآب بالابن. فكل ما يفعله المسيح من أجل البشر، إنما يفعله لمجد الله.
في آ 8- 12، شرح بولس كيف أن المسيح قبل المسيحيّين. فالمسيح أجرى الخلاص، لا لليهود فقط (آ 8)، بل للوثنيين أيضاً (آ 9- 12)، فلم يفرّق بين فئة وفئة. وهكذا أعطانا مثال محبّة تصل إلى الجميع ولا تميّز. ثم يبيّن الرسول أن فئتي البشرية لم تخلُصا بالطريقة عينها. قُبل اليهود بالنظر إلى صدق الله وأمانته، حين أتمّ لأجلهم المواعيد التي أعطيت للآباء. أما الوثنيون (= غير اليهود) فيخلصون برحمة من لدنه تعالى. وهكذا جمع الرسول لفظتين تصفان الله: هو إله الحق والصدق والأمانة. وهو إله الرحمة والمحبّة.
أولاً، صار المسيح «خادم الختان»: جعل نفسه في خدمة اليهود المختونين (غل 4: 4- 5). وهكذا «ثبّت» المواعيد، فدلّ على «صدق» الله الذي يُتمّ ما وعد به.
والمسيحيّون الذين جاءوا من الوثنيّة، كانوا غرباء عن المواعيد. فان خلصوا، فبرحمة مجانيّة من قبل الله. ولكي يدلّ بولس كيف قبلهم المسيح، أورد أربعة نصوص كتابيّة. بما أننا توقّفنا عند آ 9، نذكر فقط الايراد الأول الذي أخذه بولس من المزامير (مز 18: 50 = 2 صم 22: 50)، ففسّره وكأنه كلمة من كلمات المسيح. وهكذا بدا صاحب المزامير وكأنه أعطى صوته للمسيح. إذن، هو المسيح يعلن أنه أراد أن يسبّح الله ويمجّده وسط الأمم. بهذا قبل الأمم فأشركهم في التسبيح والتمجيد. ونحن نقبل بعضنا بعضاً على مثاله، مهما كانت المسافات.

خاتمة
يعرف المسيحيّ أنه لا يستطيع أن يسبّح الله ويمجّده، إلاّ إذا شارك المسيح. وحين يتذكّر أن المسيح أراد أن يشرك في مديحه اليهود والوثنيين، ينبغي عليه أن يفهم أنه لن ينعم بقبول المسيح له إن هو لم يقبل الذين لا يفكّرون مثله. فعليه أن يقبل جميع الذين قبلهم المسيح مثله، بحيث يُصبح الجميعُ مقبولين لدى الآب

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM