نحن للربّ

28
نحن للربّ
14: 7- 9

بعد أن صوّر بولس الرسول كيف يجب على المسيحيّ أن يتصرّف في علاقاته الاجتماعيّة العاديّة (12: 3- 13: 14)، تطرّق إلى مسألة خاصة: السلوك تجاه «الضعفاء». وإذ أراد الجواب، عاد إلى اعتابارات تلامس جوهر الحياة المسيحيّة. وها نحن نقرأ بعضها في 14: 7- 9 الذي فيه يؤكّد بولس أننا نحيا للربّ ونموت للربّ. وهكذا لا نعود مُلك أنفسنا في الحياة وفي الموت. فالمسيح مات وقام ليكون ربّ الأموات والأحياء. وهكذا يُطرح أمامنا اثنان: سيادة المسيح، خدمة المسيح. وقبل ذلك، نورد النصّ الكتابيّ:
(7) فما من أحد منّا يحيا لنفسه، وما من أحد يموت لنفسه. (8) فإذا حيينا فاللربّ نحيا، وإذا متنا فللربّ نموت. وسواء حيينا أو متنا، فللربّ نحن. (9) والمسيح مات وعاد إلى الحياة ليكون ربّ الأحياء والأموات.

1- سيادة المسيح
مبدأ الإيمان الأساسيّ في الجماعة الأولى، الذي فيه تُعلن الكنيسة أصالتها في قلب الانسان اليهوديّ هو: يسوع ربّ. وهناك عبارات أخرى: يسوع هو المسيح. يسوع هو ابن الله. أما عبارة «يسوع هو الربّ» فتُستعمل لتحديد التعليم الإيماني ولا سيّما عند القدّيس بولس (10: 9؛ 1 كور 8: 6؛ 12: 3؛ أف 4: 5؛ فل 2: 11؛ كو 2: 6).
أ- ربّ
يتميّز لقب «يسوع ربّ» باثنين. في معناه الخاصّ وفي معناه الشامل. ولفظ ربّ يدلّ في عمق معناه على السيّد السامي، سيّد المسكونة. ويصف من يمارس سيادة مطلقة لا استئناف فيها. وقد استُعمل في العالم الوثنيّ كما في العالم اليهوديّ. ففي شعب اسرائيل، ينطبق على يهوه، الاله الذي هو. ولفظ كيريوس (نتذكّر كيريا إليسن) هو ترجمة يهوه. وعند الأمم الوثنيّة، الاله ربّ (1 كور 8: 5)، والامبراطور والملك أيضاً (أع 25: 26). وإذ يطبّق اللقبُ على يسوع يدلّ بوضوح، لليهود وللمسيحيين، أن يسوع تولّى كرامة ملوكيّة، بل كرامة إلهيّة، أنه يمارس سلطة مطلقة، شأنه شأن الله.
وأدرجت المسيحيّة الأولى في هذا اللفظ كل ما قاله التقليد البيبليّ عن مسيح ملكيّ، ابن الانسان، يهوه ملك. فاعتبرت أن يسوع الذي أقامه الله ملك الكون وديّان المسكونة، يمارس وظائف تخصّ الله وحده. كل سلطان أعطي له في السماء وعلى الأرض. وسيادته تمتدّ، لا على جميع البشر وحسب، بل على جميع الخلائق أيضاً وعلى كل القوى اللامنظورة (أف 1: 21). هذه السيادة المطلقة مصدرُها دخول يسوع في دائرة خاصة بالله. هذا ما يشير إليه بولس حين يقول إن الله إعطاه «الاسم الذي فوق كل اسم»، أي الاسم الخاص بالله، الاسم الذي لا يوصف (فل 2: 10- 11).
وحدّد بولس فقال إن المسيح ربّ «الأحياء والأموات»، فدلّ على شموليّة سلطانه وعلى تأثيره في الكون كله. هذه العبارة المقولبة نجدها منذ البداية للكلام عن سيادة يسوع الذي هو الربّ (أع 10: 42؛ 2 تم 4: 1؛ 1 بط 4: 5). وهي تشدّد على «الأموات»، كما على الأحياء. فسلطة يسوع لا تتوقّف عند حدود الموت. سلطته لا حدود لها. وما من انسان، مهما كان وضعه، يقيم خارج هذه السيادة، بل هو خاضع لها سواء علم أم لم يعلم. لهذا اهتمّ الجيل المسيحيّ الأوّل بأن يؤكّد تأكيداً خاصاً أن الذين ماتوا قبل مجيء المسيح يرتبطون بهذه السيادة وينعمون بالخلاص (1 بط 3: 19- 20؛ 4: 6؛ رج 1 كور 15: 29). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إن الذين يموتون قبل عودته في نهاية الزمن، يقومون ليكونوا دوماً معه (1 تس 4: 13- 18).
ب- الموت والقيامة
وربط بولس سيادة يسوع (أي يسوع هو السيّد والربّ) بموته وقيامته. هذه النظرة تنتمي هي أيضاً إلى ما هو أساسيّ وأوّلانيّ في التعليم المسيحيّ (أع 2: 32- 36). غير أن الرسول يتعمّق فيها تعمّقاً خاصاً في رسائله. ونبدأ بارتباط السيادة بالقيامة. فهي التي تعطي يسوع كرامته المجيدة كالربّ (فل 2: 11). وحسب روم 1: 4، أقيم كابن الله في قدرة ملكيّة وإلهيّة، وفي الروح الذي به يمارس في البشر سلطاناً فاعلاً على مستوى التقديس. فبدت القيامةُ ضروريّة لكي يكون يسوع الربّ. فبدونها، كان سُلّم إلى ضعف البشريّة والفساد. وبولس لا يقدر أن يتصوّر جثّة مفكّكة فاسدة تفعل الآن في البشريّة. كان لا بدّ من القيامة لكي يملك يسوع بقدرة الله. لهذا أقامه الآب.
ولكن لا بدّ أن يموت لكي يقوم. وهذا الموت لا يشبه موت كل انسان. فهناك نمط من الموت هو في ذاته انتصار يمارس فيه يسوع قدرة الروح، يمكن أن يقود إلى القيامة المجيدة التي تُوليه قدرتَه الملوكيّة. فيسوع في موته انتصر على الخطيئة (روم 8: 3) وقوى الشرّ التي تستعبد البشريّة (كو 2: 13- 15). وهو انتصار روحيّ وخلقيّ. هذا ما قاله بولس في فل 2: 5- 8: فمع أن يسوع وُجد «في صورة الله»، لم يطالب بالمساواة مع الله، بل أخلى ذاته وأخذ صورة عبد، وتواضع وأطاع حتّى الموت على الصليب. فبسبب موت من هذا النوع، كانت القيامة: «لهذا رفعه الله وأعطاه اسماً فوق كل اسم» (فل 2: 9- 11).
هنا نفهم من رُفع إلى السيادة. من صار السيّد والربّ. هو الانسان الذي عرف أن يموت مثل هذه الميتة في تواضع تام، وعطاء كامل للذات، وخضوع واثق لله. وما يملك ملكاً مجيداً في يسوع هو روح القداسة الذي به مات دون أن يترك الخطيئة تنتصر. بل انتصر على الخطيئة بالتواضع والمحبّة، ذاك الروح، روح الحياة الأبديّة التي لا يقدر العالم أن يدمّرها.

2- خدمة المسيح
يصير الانسان مسيحياً حين يتقبّل، في الإيمان، البشرى التي تعلن أن يسوع هو ربّ بالنظر إلى موته وقيامته (10: 9). وفي الوقت عينه، يخضع لسيادة يسوع ويُطبَع بروحه (أف 1: 13). وكل من له الروح، يخصّ المسيح منذ الآن (8: 9). وهكذا صار الانسان خادم المسيح. تجاه الربّ والسيّد هناك الخادم. ولكننا نقول منذ الآن إننا لسنا أمام واقع مذلّ من الخضوع والخنوع، ولا سيّما حين نعرف أن يسوع نفسه أعلن أنه جاء ليخدم.
أ- الخدمة
في الواقع، تستعمل عبارة «خادم المسيح» للكلام عن الرسل (1: 1؛ فل 1: 1) وبعض المرات عن المسيحيّين (أف 6: 6؛ 1 كور 7: 22). غير أن فكرة الانتماء إلى المسيح وفكرة خدمة المسيح، تدلاّن مراراً على الحياة المسيحيّة (12: 11) التي تجد أساسها في الإيمان. وهذا الإيمان يعترف بسيادة يسوع، فيُتمّ عملَ الخضوع الذي يُلزمنا في خدمة المسيح (روم 1: 5؛ 6: 17؛ 16: 26). في هذا المعنى تكون الحياة المسيحيّة طاعة (16: 19). بل بالإيمان بيسوع ننجو من عبوديّة الخطيئة وننتقل إلى خدمة الله (6: 17- 18، 22) التي تقوم في حياة باسم البرّ، وفي تتميم إرادة الله (6: 13- 19). هذا يعني الأعمالَ الصالحة التي ترضي الله ويُطلب منّا أن نقوم بها (أف 21: 0). بهذه الطريقة نثمر لله (روم 7: 4) وللقداسة (6: 22).
ب- في الروح
ولكن إن كان الإيمان بيسوع الربّ يُحدث فينا مثل هذا التحوّل، فلأنه يشركنا في روحه، وفي قدرته التقديسيّة (غل 3: 2؛ أف 1: 13؛ 3: 16- 17). حينئذ يُصبح الروح فينا مبدأ قوّة لحياة جديدة في القداسة (غل 5: 25). فتقوم خدمةُ الربّ، بشكل ملموس، في أن نبقى تحت دفع الروح، وفي ناموس الروح (8: 2)، ونطيعه (8: 4)، ونتركه يقودنا (غل 5: 16). فتتضمّن فاعليّتهُ وجهتين.
من جهّة، يحفظنا الروح من اقتراف الخطيئة، فيُفشل أهواءنا الشرّيرة (غل 5: 19) ويمنعها من أن تحمل ثمارها (8: 13). في هذا المعنى، يُصلب انسانُنا العتيق (6: 6؛ غل 5: 24) ويجعلنا شبيهين بيسوع الذي ظفر بالخطيئة على الصليب (8: 14).
ومن جهة ثانية، يجعلنا نثمر «ثمار الروح» (غل 5: 22)، أي الأعمال الصالحة، أعمال القداسة التي تتوافق مع الحياة الأبديّة (6: 22؛ غل 6: 8). في هذا المعنى، نتماهى مع يسوع القائم من الموت الذي يحيا لله ولأجل الله في الحياة الأبديّة (8: 10). بهذين العملين يرسمنا الروح حسب صورة المسيح ويجعل منّا أبناء الله (8: 14)، لأنه روح الابن (غل 4: 6) وروح التبنّي (8: 15).
ج- في الحريّة
حين يحرّك الروح القدس فينا خدمة الربّ هذه، يجعل لها سمات خاصة. أولاً، هي أبعد ما يكون عن عبوديّة محقّرة. «فحيث يكون روح الربّ، هناك تكون الحريّة» (2 كور 3: 17): لقد جدّد الروح تجديداً عميقاً قلب المؤمن، فصار في داخل داخله. وأسّس فيه طواعيّة حقيقيّة توجّهه نحو الربّ، وتجعله يعمل أعمالاً صالحة ترضيه.
فالمسيحيّ لا يتصرّف بدافع الخوف أمام شريعة إلهيّة تهدّده بالعقاب، بل يفعل لأنه تذوّقَ الخير، تذوّق العملَ من أجل الربّ. هو لا يطيع الله خوفاً من سيّد يقاصص، يضرب، بل مدفوعاً بحبّ ينبع من أعماق إرادته. غير أن الحريّة المسيحيّة لا تشبه الفلتان والتحرّر من كل شريعة. إنها حريّة الروح، وهي تؤهّلنا لكي نحبّ الله ونُتمّ مشيئته بقلب مطواعٍ وبإرادة سامعة، بعيداً عن إكراه يعرفه العبيدُ الخائفون من عقاب ينتظرهم.
د- كالأبناء
هذا الموقف الطوعيّ الذي يميّز الأبناء، يعارض موقف الاكراه الخاص بالعبيد. فالروح الذي يُنعش المسيحيّ ليس روح عبوديّة يعمل باسم الخوف، بل روح بنوّة يحرّك فينا الحبّ لله أبينا (8: 15)، ويؤكّد لنا حبّه الأبويّ لنا (5: 5). فخادم الربّ يعتبر نفسه ابناً، لأنه يعرف بقوّة الروح، أن الله بدأ فاعتبره ابنه. والحبّ الذي به يحبّنا الله، قد أفاضه الروح في قلوبنا (5: 5). ولكن إن كان الخادم ابناً في الحقيقة، لم يعد في وضعه شيء يحقّره. فهو في بيته لدى الله، ويمتلك جميع خيرات الحبّ الالهيّ في الثقة وفي الفرح (14: 17).
هـ- نعمل لأجل الربّ
في ف 14 من الرسالة إلى رومة، أعلن القديس بولس شرطين يدلاّن في الحقيقة أن عملاً من الأعمال هو «خدمة الربّ»: النيّة الصالحة والشكر. فعلى مستوى بسيط جداً، لا نقدر أن نعتبر أعمالنا قويمة تجاه الله وموافقة لما يسرّه، إلاّ إذا اعتبرها وجدانُنا صالحة، ولم يكذب (14: 5). فحرّية الروح التي هي الطواعيّة المسيحيّة، ليست اللامبالاة على المستوى الخلقيّ، بل الاهتمام بأن نريد الخير والخير وحده.
وعلى مستوى ثانٍ، تتميّز خدمة الربّ بالشكر (14: 6) الذي به نُوجّه تصرّفاتنا نحو الربّ، والذي يدلّ على أن هذه الخدمة ليست نشاط عبيد، أُكرهوا على العمل، بل هي تصدر عن طواعيّة الحبّ. فهذا الشكر يكوّن ظاهرة تدلّ على روح الأبناء من خلال سلوكهم اليوميّ. لهذا ينصح به بولس مراراً، فيقول مثلاً في 1 تس 5: 18: «إحمدوا الله على كل حال، فهذه مشيئة الله لكم في المسيح يسوع». وفي 1 كور 10: 31: «فإن أكلتم أو شربتم، أو مهما عملتم، فاعملوا كلّ شيء لمجد الله» (رج أف 5: 20؛ كو 31: 7).
و- في الحياة وفي الممات
ما من عمل نقوم به، نستبعده عن خدمة للربّ. سواء حيينا أو متنا، نستطيع أن نقوم بكل عمل، بقلبِ ابن يخدم أباه واخوته. لأن ما من شيء يمنع الروح القدس أن يجعلنا نعمل في الحبّ وفي الشكر. لا شيء، حتّى الموت نفسه، الذي يمكن أن يكون أسمى عمل في عطاء ذواتنا لربّنا في الثقة والحمد. وهكذا نكون أمناء حتّى النهاية لمن مات لأجلنا فنكون بدورنا له (2 كور 5: 15). فنبقى متّحدين به ونمجّده في الممات كما في الحياة (فل 1: 20).

خاتمة
استعمل بولس هذه الحقائق الكبرى حول سيادة المسيح، ليحثّ خدّام الربّ على احتمال بعضهم بعضاً في اللطف والتسامح، وإن اختلف الواحد عن الآخر. فخدمة المسيح الحقيقيّة تتوافق مع التنوّع، بحيث لا نحكم على إخوتنا ولا نحتقرهم، لأنهم لا يفهمون واجبهم كما نفهمه نحن. هم لا يؤدّون حساباً لنا، بل للربّ وحده الذي يعرف كيف يجازي كل واحد منّا بحسب أعماله

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM