غنى الله وحكمته

24
غنى الله وحكمته
11: 33- 36

ما أعمق غنى الله وحكمته وعلمه! هذه الصرخة التي يُطلقها بولس الرسول في روم، هي خاتمة توسُّع غنيّ أوضح فيه الرسولُ سخاء الله تجاه الوثنيين وتجاه اليهود. فإن كان أبا الجميع سمح بأن يختبر الجميع سجن الخطيئة اختباراً قاسياً، فلكي يقدّم لهم في النهاية التحرير والخلاص، وغفراناً يجدّدهم في رحمته. هذا ما ينشده بولس فيدلّ على إعجابه بمبادرة الله الخلاصيّة، وطول أناته، ولطفه الذي أظهره لنا منذ إنشاء العالم. ونقرأ النصّ:
(33) ما أعمق غنى الله وحكمته وعلمه! وما أصعب ادراك أحكامه وفهْم طرقه! (34) فالكتاب يقول: «من الذي عرف فكر الربّ، أو من الذي كان له مشيراً؟ (35) ومن الذي بادره بالعطاء ليبادله بالمثل»؟ (36) فكل شيء منه وبه وإليه. فله المجد إلى الأبد. آمين.

1- لجّة الله وعمقه
منذ اللفظة الأولى، جعل بولس نفسه وجعلنا أمام تسامي الله الذي يجب أن يدفعنا إلى السجود أمام السرّ الذي يتجاوز عقولنا الضيّقة. يتحدّث النصّ عن العمق (عمق غنى)، عن اللجة التي تدلّ على ما هو واسع جداً بحيث يصعب استكشافه. وهذا ما دفع بعض الآباء إلى أن يجعلوا من اللجّة أحد أسماء الله.
أمّا في الرسائل البولسيّة، فاللجّة الالهيّة هي كنز الحبّ الذي لا يمكن أن ينفد، والذي يستطيع الروح وحده أن يسبر غوره، فيعطينا فكرة عنه: «نعلن ذاك الذي ما رأته عين ولا سمعت به أذن، ولا خطر على قلب بشر، نعلن كلَّ ما أعدّه الله للذين يحبّونه. لنا كشفه الله بالروح، لأن الروح يفحص كل شيء حتّى أعماق الله.... أجل، نلنا الروح الذي أرسله الله لنعرف ما وهبه الله لنا» (1 كور 21: 10- 12).
غير أن هذه المواهب التي وهبها الله لنا، اجتمعت كلها في شخص يسوع المسيح. فعمقُ قلب الله ينكشف في عمق قلب يسوع. وفي النهاية، حين ننظر إلى يسوع ونتقوّى بالروح، نصبح جديرين بأن نفهم «مع جميع القدّيسين ما هو العرض والطول والعلوّ والعمق (أو: اللجّة)، ونعرف محبّة المسيح التي تفوق كل معرفة فنمتلئ بكل ما في الله من ملء» (أف 3: 18- 19).

2- غنى الله
أن يرى بولس في لجّة الله، اللامحدودَ في حبّ لا حدود له، أمرٌ نقتنع به حين نكتشف معه ما في هذه اللجّة التي أمامها يقف المؤمنُ مشدوهاً: غنى الله، حكمة الله، علم الله. ونبدأ بالغنى.
فالغنى، حين يطبّق على الله، يرتدي في الرسائل البولسيّة معنى خاصاً جداً. فهو يدلّ تارة على جود عطاياه الطبيعيّة والفائقة الطبيعة (فل 4: 19)، على ينابيع من الرأفة والصبر وطول الأناة (2: 4)، والمحبّة والرحمة (أف 2: 4). على فيض نعمته (أف 1: 7؛ 2: 7)، على إشعاع قدرته ومجده، الذي يريد أن يوصله منذ الآن إلى الذين يقاسمون ابنَه حياتَه على الأرض، ويورثهم هذا الغنى في ملئه، ساعة يقاسمونه أيضاً قيامته (9: 23؛ أف 1: 18؛ 3: 16). وبمختصر الكلام، غنى الله هو غنى حبّ يُعطي، يغفر، يعطي ذاته.
وملء هذا الحبّ قد عاشه أمامنا يسوع المسيح. وفيضُ مجد الله هو «المسيح بيننا» (كو 1: 27). ويسوع، شأنه شأن أبيه، هو الربّ الغنيّ لجميع الذين يدعونه، سواء كانوا يهوداً أم وثنيّين (10: 12؛ 1 كور 1: 5). وحين نُخبر الجميع بغنى حبّ قلب الله، نعلن «غنى الله الذي لا يُستقصى» (أف 3: 8). هو غنى الحياة الالهيّة التي نشارك فيها إلى الأبد، وغنى رحمة الله التي ننظرها فنشهد لها، وغنى المجد الالهيّ الذي استعاده الربّ يسوع في موته وقيامته، كما يقول رؤ 5: 12.
مثلُ هذا الغنى لا يكمن في امتلاك كائن أو شيء نحتفظ به ونتكمّش، بل في امتداد عطاء لا يتوقّف فيفرض علينا تجرّداً كاملاً. هذا ما فهمه بولس وأراد أن يشرحه. أراد أن يحرّك سخاءنا، فوضع أمام عيوننا سخاء المسيح. قال: «وأنتم تعرفون نعمة (= كرم وسخاء) ربّنا يسوع المسيح. كيف افتقر لأجلكم، وهو الغنيّ، لتغتنوا أنتم بفقره» (2 كور 8: 9؛ رج فل 2: 6- 7). فسلوكُ السيّد يبقى القاعدة للرسول: فبقدر ما يكون التلميذ، مثل يسوع، فقيراً ومتجرّداً، يستطيع أن يُغني كثيرين، يُغني العديد من أصدقاء المسيح، الذين يغتنون به بغنى الله بالذات، بغنى حبّ الله (2 كور 6: 10؛ رؤ 2: 9).

3- حكمة الله
بدا غنى الله في وُجهة من المفارقة حين تَقابل مع الفقر. ونقول الشيء عينه عن حكمته التي تظهر بمظهر الجهالة (والجنون). هذا ما تجرّأ بولس وقاله في 1 كور 2: 5 (ما يبدو حماقة من الله) فشدّد على تسامي الله الذي لا قياس له، تجاه حساباتنا البشريّة.
تكلّم العهد القديم مراراً عن حكمة الله التي لا تُفهم (أي 28: 1 ي؛ با 3؛ 1 ي؛ سي 1: 1ي). وصوّرها على أنها صدرت عن الله منذ الأزل، وقبل بدايات العالم (أم 8: 22- 23). ورآها حاضرة في الخلق (أم 8: 27)، وعرضها كصديقة البشر (أم 8: 31؛ حك 7: 27)، وراغبة في أن تتحدّث معهم حديث الحبيب مع حبيبه (با 3: 37). وتمنّى الكتاب أن تأتي الحكمة في يوم من الأيام، كشخص يأتي ليعيش في وسط البشر ويشقى شقاءهم لكي يعلّمهم أن يعرفوا مشيئة الله ويتجاوبوا معها (حك 9: 10).
عرف بولس كلَّ هذا، وهو الآن يندهش من جواب قدّمه الله لانتظارات البشر، في المسيح يسوع. وتحدّث أيضاً عن الحكمة الفريدة (16: 27)، «حكمة الله السرّية الخفيّة التي أعِدّت قبل الدهور في سبيل مجدنا» (1 كور 2: 7). ثمّ بيّن كيف تجلّت في النهاية «حكمةُ الله في جميع وجوهها.... حسب التدبير الالهيّ الذي حقّقه الله في ربّنا يسوع المسيح» (أف 3: 10- 11). ولعبت الكنيسةُ دوراً كبيراً في إطلاع العالم على هذه الحكمة.
ففي نظر الرسول، الحكمة هي يسوع المسيح، و«يسوع المسيح المصلوب، شكاً لليهود وجهالة للوثنيّين» (1 كور 12: 3). أما بالنسبة إلى المؤمنين فهي البرهان الساطع لقدرة الله، لإرادته الخلاصيّة، لحنانه ورحمته. فأمام الصليب، كيف نرتاب بأن حبّ الله ذاته يسكن قلب المسيح؟ لهذا قال بولس أكثر من مرّة: «أحبّني وضحّى بنفسه لأجلي» (غل 2: 20). «المسيح الذي أحبّنا وضحّى بنفسه من أجلنا قرباناً وذبيحة لله» (أف 5: 2). وقال عن الكنيسة: أحبّها المسيح «وضحّى بنفسه من أجلها» (أف 5: 25). فكما أن الغنى الفقير عاد بنا إلى لجّة محبّة الله، كذلك فعلت الحكمة الجاهلة.

4- علم الله
فكما أن غنى القدير وحكمته يتجاوزان بلا حدود، حدودَنا الضيّقة، كذلك يتجاوز علمُه السامي نظراتنا الحقيرة. شدّد العهد القديم مراراً على معرفة الله الشاملة، فدعاه «الاله العليم» (إله المعرفات، 1 صم 2: 3). فالله يكشف الخطيئة وضعف الانسان (مز 103: 14)، ولكنه يختلف كل الاختلاف عن الرقيب الذي لا ينسى ما فعله الخطأة ويأخذ عليهم تصرّفهم. بل إن نظره العالي يجعله ينحني من أجل رحمة تُدهش الانسان. «إن تخلّى الشرير عن طريقه وفاعل الاثم عن أفكاره، وتاب إلى الربّ فيرحمه، وإلى إلهنا فيغمره بعفوه. فأفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي. كما علت السماوات عن الأرض، علت عن طرقكم طرقي وأفكاري علت عن أفكاركم» (أش 55: 7- 9).
هذه الأفكار التي تُخجل أفكارنا، هي أفكار حبّ لا يتراجع (مز 103: 11). فالعلم الذي يمتلكه الله بدرجة سامية، هو علم الحبّ. والعلم الذي نمتلكه عن الله هو أن نعلم أنه يُحبّنا وأننا نقابل الحبّ بالحبّ. وكل علم آخر يبقى باطلاً ولا نفع منه (1 كور 8: 1؛ 132: 0). لهذا، يجعل بولس موقع الاستدلالات البشريّة تحت المعرفة الجوهريّة. قال: «نهدم الجدل الباطل وكل عقبة ترتفع لتحجب معرفة الله» (2 كور 10: 5).
هذا يعني بالنسبة إلى الرسول أن «نأسر كل فكر ونُخضعه لطاعة المسيح». ففي النهاية، على وجه المسيح «تُشرق معرفةُ مجد الله» (2 كور 4: 6). وفيه يجتمع «كلُّ غنى المعرفة» (1 كور 1: 5). وكنوز المعرفة هذه، هي عطيّة النعمة. فمن طلب معرفة الله وجد المسيح. ومن وجد المسيح التقى بحبّ الله.
وهكذا يقودنا إلى يسوع المسيح فقرُ غنى الله وجهالة حكمته وضآلة علمه مع ما فيه من نور، لأن في يسوع يتجلّى لنا سرّ الله ذاته: «ففي المسيح تكمن جميعُ كنوز الحكمة والمعرفة» (كو 2: 3). وبعبارة أخرى، كل غنى رحمة الله المُحبّة التي تنحني على الجميع، وثنيّين ويهوداً.

5- قول الكتاب
الله هو لجّة عميقة. هو لجّة الكرم والسخاء. هذا ما قرأه بولس الآن في الكتاب المقدّس، الذي يُورده ليُسند أقواله. تأمّل في ترتيبات القدير وعنايته، في مقاصده العميقة، في طرقه المحيّرة (أش 55: 8- 9؛ حك 17: 1)، فهتف: «من الذي عرف فكر الربّ، أو من الذي كان له مشيراً» (آ 34)؟ عاد بولس إلى إش 40: 13، إلى فصل 40 الذي يعلن صلاح الله المخلّص والآتي لكي يعزّي شعبه ويكلّمه في قلبه ويُسمعه بشرى (انجيل) الخلاص الذي يحمله إليه.
والتحرير الذي يقدّمه الله دوماً لشعبه (اسرائيل القديم، واسرائيل الجديد الذي هو الكنيسة)، يدلّ على ما في قلب الآب من حب مجانيّ، حبّ فيّاض يستبق كل ما يمكن أن نطلب. وإذ أراد الرسول أن يشدّد على هذه الفكرة، نقل بعض الألفاظ من سياقها، فطبّقها في معناها العميق على الله: «من الذي بادره بالعطاء ليبادله بالمثل» (آ 35)؛ ما من أحد استطاع أن يسبق الله، على مستوى السخاء، وما من أحد يقدر أن يتجاوزه. هذا ما قاله يوحنا في رسالته الأولى: «تلك هي المحبّة. نحن ما أحببنا الله، بل هو الذي أحبّنا وأرسل ابنه كفّارة لخطايانا... فعلينا أن نحبّ، لأن الله أحبّنا أولاً» (هو الأول، 1 يو 4: 10، 19).

6- منه وبه وإليه
وهكذا يسبقنا حبّ الله. هو الأول. ويتبعنا أيضاً. فهو في البداية وفي النهاية. وهو ينتظرنا، كما يقول بولس. فمن الله نلنا الحياة، وبه نحافظ عليها، وإليه نسلّمها. «لأن كل شيء هو منه وبه وإليه» (آ 36 أ).
نحن هنا أمام عبارة بولسيّة كثيفة تضمّ اللاهوت في موجز لافت. حاول الأقدمون أن يوجّهوا كلامهم إلى الطبيعة التي اعتبروها شخصاً عاملاً، فقالوا: «كل شيء منك، كل شيء فيك، كل شيء لك». ينطلق الانسان من الأرض ويعود إلى الأرض. أما بولس فقال: «كل شيء يأتي من الله، كل شيء يقوم بالله. كل شيء يحيا لله» (رج عب 2: 10).
وفي موضع آخر يشرح بولس أن الله ينبوعنا ونهرنا ومحيط مياهنا، وهو يُدركنا بيسوع المسيح (1 كور 8: 6). ففي المسيح تجد حياتُنا مبدأها وقوامَها وكمالها، على ما نقرأ في كو 1: 16- 17: «به خُلق كل شيء... به وله خُلق كل شيء. هو قبل كل شيء وفيه يتكوّن كل شيء».

خاتمة
ينطلق فكر بولس دائماً من الله الآب ليصل إلى ابنه يسوع المسيح. وإن هو تأمّل باعجاب كنوزَ الرحمة والمحبّة التي يمنحها الآب، فهو يضيف حالاً أن هذه الكنوز صارت في متناولنا، في المسيح وبالمسيح. تلك هي خلفيّة المديح الذي يختتم روم 1- 11، فيدعونا إلى السجود أمام سرّ الله في ما فعله للبشر قبل إنشاء العالم. يبقى علينا أن نقول، رغم ضعفنا وخطيئتنا: «له المجد إلى الأبد. آمين».

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM