الروح يُنجد ضعفنا

19
الروح يُنجد ضعفنا
8: 26- 27

حين تحدّث بولس الرسول إلى المؤمنين المعمّدين، ذكّرهم بأنهم ما زالوا يعيشون في جسد مائت، ونبّههم إلى الخطر الذي يترّبّص بهم حين يتبعون شهوات الجسد، الشهوات البشريّة (6: 12- 14). هذا ما نكتشفه في هذا المقطع (8: 26- 27) الذي ندرس مع لفظ «ضعفنا». أما الاداة «أيضاً» فتربط صلاة يرفعها الروح من أجل المؤمنين بما سبق من كلام. من أجل هذا، وقبل أن نتحدّث عن ضعفنا وصلاة الروح من أجلنا، نتوقّف عند حضور الله في المؤمنين. فيأتي عرضُنا عند ذاك عن ضعف المؤمنين وصلاة الروح فيهم.
ونبدأ بقراءة النص:
(26) ويجيء الروح أيضاً لنجدة ضعفنا. فنحن لا نعرف كيف نصلّي كما يجب. ولكن الروح يشفع لنا عند الله بأنّات لا توصَف.
(27) والله الذي يرى ما في القلوب يعرف ما يريده الروح، وكيف أنه يشفع للقدّيسين بما يوافق مشيئته.

1- حضور الروح في المؤمنين
«ويجيء الروح أيضاً». إن الاداة «أيضاً» تحيلنا إلى الشرح السابق حول عمل الروح وحضوره في المؤمنين: هذا الروح يعطينا الثقة بأن خلاصنا، الذي هو موضوع رجائنا، قد تمّ (آ 24). ونلاحظ بشكل خاص آيات تُلقي الضوء على المقطع الذي نقرأ: الروح حاضر فينا، ويشهد أننا أبناء الله (آ 16). ثم هو حاضر فينا، بشكل ثابت، «كباكورة» و«بداية خلاص»، وفي منظر ديناميكيّ، «كعربون التتمّة». إنه ينبوع رجائنا وقوّتنا في هذه الحياة التي ما زالت زمن الإيمان والصبر (آ 25).
إن «باكورة الروح» تدلّ على ثمار الحياة المسيحيّة، التي ننالها منذ هذه الحياة بتأثير من عمله: فالروحُ يُفيض حبّ الله في قلب المؤمنين (5: 5)، فيحرّك مختلف تجلّيات المحبّة المسيحيّة (رج غل 5: 22- 23). وبما أن الروح يقيم فينا (8: 11) ويعمل فينا (8: 14)، فهو يحوّل «أنّاتنا»، وينقلها من مستوى إلى آخر (آ 23)، فيضيف إليها «أنّات إلهيّة» (آ 26)، أي تشفّعه الالهيّ من أجل المسيحيّين (الأمم) الذين ما زالوا عائشين في جسد ميت (6: 12) ويخضعون «لضعف» الجسد، ضعف اللحم والدم (آ 26).
وموضوع رجائنا هو تحرير وضع جسدنا البشريّ. هو حالتنا المقبلة في زمن المجد الذي تكوّنه تكملةُ بنوّتنا الالهيّة (آ 24- 25). ولكننا ما زلنا في هذا الزمان وفي هذا المكان، حيث نحتمل الآلام المتعلّقة بوضعنا في هذا الدهر.
فالحياة المسيحيّة تتأسّس على الإيمان الذي يُعبَّر عنه بالمحبّة. وهذه المحبّة تأخذ عادة وجهاً ملموساً ومتواضعاً، وجه الصبر بانتظار مجيء المسيح.
لهذا يكون التعارض ظاهراً في حالة المفارقة التي يعيشها المسيحي: فهو إذ يمتلك بداية الخلاص والفرح في الرجاء، ما زال يقاسي الآلام والمحن. وهذا ما يفسّره وضعُه الخاص: إنه يرتبط بمصير المسيح، فعليه أن يشارك في آلامه ليكون متّحداً به في مجده (8: 17). ثم إن الألم الذي نحتمله بصبر، يقوّي نوعيّة الحياة المسيحيّة فيجعلها تكتشف طبيعةَ الأمل ومعناه، لا الأمل بتحسّن زمنيّ وإن لم يكن شيء يمنع ذلك، بل موقفاً أعمق يُدعى الرجاء المسيحيّ. يتأسّس هذا الرجاء على محبّة الله القدير، فيكون ينبوع فرح (5: 3- 5) وثقة بأننا سنتحرّر يوماً من عبوديّة تربطنا بعدُ بفساد طبعنا البشريّ ومحدوديّته. ويُتيح لنا هذا الرجاء أيضاً أن نتقبّل بإيمان ومحبّة، أي في الصبر (8: 25)، عطيّة البرّ من أجل الحياة الأبديّة.
من هنا الفرح والسلام اللذان يعطينا إياهما إلهُ السلام الذي يفعل فينا بالروح القدس (15: 13). وفي الوقت عينه، الفطنة، التي بها نعيش، في الزمن الحاضر، نعمة المسيح (فل 2: 12). فخلاصنا الذي بدأ منذ الآن، هو نعمة من الله تثبّتنا على العيش بالفرح، في الايمان والصبر والرجاء، في وضع الضعف الذي نعرفه الآن. وهذا الوضع الذي ليس عائقاً لحياة الإيمان فينا، يدفعنا بالأحرى إلى محافظة على صدق هذا الايمان، وإلى وعي يُفهمنا أن كلَّ شيء نعمة (4: 16). كما يدفعنا، نحن تلاميذ المسيح الحقيقيّين، أن نقبل يوماً بعد يوم، بتعلّق متجدّد بمخطّط الله الخلاصي. وهذا يفترض تحوّلاً دائماً في حياتنا المسيحيّة لكي نتغلّب على هذا الضعف.

2- ضعفنا
«ويجيء الروح أيضاً إلى ضعفنا». الضعف يعني بشكل عام، مرض الجسد، في العهد الجديد. أمّا عند القديس بولس، فنفهمه عادة في معنى ديني: هو ضعف على المستوى البشريّ، على مستوى اللحم والدم. وهو يدلّ على محدوديّة الانسان الذي يحتاج إلى مساعدة الروح القدس. إنه يدلّ على الضعف البشريّ الذي فيه تعمل قدرةُ الله. وصفة «ضعيف» تعود بشكل خاص إلى نقص في المعرفة الدينيّة. وحين يتحدّث بولس عن نفسه، فهو يستعمل هذا اللفظ ليدلّ على الوضع البشريّ بما فيه من ضعف، والذي يجب على الرسول أن يَقبل به. وهذا «الضعف» الذي يقبل أن يعيش رسالته، يتيح له أن يحيا حياته المسيحيّة في نشاط رسوليّ صحيح، وأن ينقل قدرة النعمة الالهيّة، دون أن يحتفظ بها، وهي قدرة تُثمر وحدها الثمار الروحيّة. فعبر ضعف الانسان، يتجلّى ملءُ قدرة الله والمسيح. وهكذا يحقّق الرسول ملء دعوته كخادم لمجد الله، على مثال المسيح الذي ارتضى حياة العبد وموته لمجد الله.
في هذا المعنى نفهم آ 26- 27. والسياق المباشر يدعونا إلى هذا الفهم: لا نعرف أن نصلّي «كما يجب». فالروح يصلّي «حسب الله»، محلّنا ومن أجلنا. إذن، يأتي الروح إلى معونة ضعفنا البشريّ هذا ليبيّن أن عمله يُبقينا في وضعنا البشريّ، وأن طرق الله ليست طرقنا. من هنا ضرورة الصلاة لنخضع لمخطّط الله فينا. وبما أننا لا نستطيع، يأتي الروح إلى معونتنا.
ولكن إن أخذنا بعين الاعتبار لاهوت رسالة رومة كلها بشكل عام، وف 7- 8 بشكل خاص، يرتدي لفظُ «الضعف» معنى غنياً جداً. ففي ف 7، نرى أن الانسان «ضعيف» بسبب وضعه البشريّ، اللحميّ. إذن، لا يستطيع وحده أن يحقّق خلاصه، ولا سيّما بأعمال الشريعة. مقابل هذا، يصوّر ف 8 نظام الروح الذي يتيح للانسان أن يتقبّل خلاصاً يُعطى له بنعمة مجانيّة (7: 25- 8: 4).
لم يعد المسيحيّ «لحميا» (7: 14، من لحم ودم) أو «ضعيفاً» (5: 6)، على مثال اليهوديّ أو الوثنيّ اللذين لم يقبلا الخلاص في الإيمان بمجيء المسيح. ولكنه يبقى في وضع «مائت» (6: 12)، في ضعفٍ خاص بطبيعة الانسان (6: 19)، ضعفٍ حُرم من هذه المحبّة التي هي ثمرة الروح (غل 5: 22). إن «الضعف» يدفع الانسان لكي يرفض علاقة الحياة والحقيقة مع الله (1: 19)، ويتّميَّز باللابرّ الذي هو ينبوع مختلف الخطايا (1: 29- 30). في هذا المعنى، تبقى المحبّة التي هي خاصّة بالعالم الروحيّ، بعيدة المنال عن الانسان «اللحمي» الذي هو «غير بارّ». قالت 1 كور 13: 6: «لا تفرح المحبّة بالظلم (اللابرّ)، بل تجعل فرحها في الحقّ».
وهكذا فالضعف الأساسيّ في الانسان، الذي يجعل خلاصه مستحيلاً بدون نعمة الله، يبقى حاضراً حتّى بعد افتدائه. هذا يعني أنه لا يقدر أن يحصل بنفسه على كمال خلاصه. إذن، يجب أن يأتي كلُّ شيء من الله. إن وضع الضعف يمنعنا أن نعرف خلاص الله، وبالتالي أن نطلبه. وهو يبقى كذلك حتّى تمجيدنا الأخير (8: 11؛ 1 كور 15: 43). فبمعونة الروح يستطيع المؤمن أن «يميت» النشاط «اللحميّ»، نشاط الضعف البشريّ (8: 13). فعليه أن يعيش في مناخ الروح (8: 14) الذي يدرّجه في وضع ابن الله (آ 15- 16). أما الكمال فيتطلّب تدخّل صلاة الروح القدس. «الروح يشفع لنا».
ان صلاة الروح الآتي لمعونة ضعفنا، تمنع المسيحيّ من الاستسلام إلى اليأس. وإلاّ خطئ ضدّ الرجاء. كما لا يستطيع أن يسقط في حياة سهلة ينتفي منها كلُّ جهاد. وإلاّ خطئ ضدّ الإيمان والمحبّة. فالروح يهتمّ بأن يُفهمنا كل هذا فنقبله، وإذ يفعل يقدّم الدواء لضعفنا.

3- صلاة الروح القدس في المؤمنين
يأتي الروح إلى معونة ضعفنا، فيوحّد عملنا بعمله، ويحوّله ويرفعه. يأتي إلينا لكي يتسلّم وضعنا. هو يعمل معنا. يضع يده مع يدنا. هذا يُفهمنا أن عمل الروح لا يُلغي مشاركة الانسان، كما لا يُلغي تقبّل الايمان، بل يفترضه.
وإذا أراد المؤمن أن ينال معونة روح الله، وجب عليه أن ينفتح عليه. لهذا عليه أن يتخلّى عن «اللحم» والدم، عن كل ما يدفعه إلى رفض متطلّبات الله. وهكذا يعبّر عن إرادته بأن يقبل تجديد الروح وعمله الذي يحوّله. من جهة، نحن خليقة جديدة في المسيح 2( كور 5: 17)، وخدمتنا تتمّ في جدّة الروح (روم 7: 6). لقد نلنا من الله بنوّة لا تتوافق مع عقليّة العبيد (8: 15- 16)، بل تجعل منّا أناساً روحيّين (8: 5). ومن جهة ثانية، إذا عشنا إيماناً بلا سخاء، نقع في تجربة تعيدنا إلى ما هو لحميّ (غل 3: 3- 5).
وهكذا، مهما كنا روحيّين، يبقى علينا أن نكونه فنميت فينا الأهواء والشهوات البشريّة التي ما زلنا فيها (غل 5: 24؛ روم 8: 13). وحياة النعمة هذه لا يمكن أن يقودها سوى الروح القدس (8: 14). ولا يمكن أن تتمّ إلاّ «بحسب الله» (8: 27). أي حسب مخطّط الله الخلاصيّ الذي أشار إليه بولس في 8: 28- 30. وهكذا تقوم مهمّةُ الروح في أن يُفهمنا هذا المخطّط ويحقّقه فينا.
ويحقّقه الروح فينا، قبل كل شيء، بالصلاة التي تميّز عمله (8: 15؛ غل 4: 6). ونحن نجد هنا عن هذا الوضع صورة متعارضة: بما أننا لا نعرف كيف نصلّي، يصلّي الروح عنّا. إذن، لا يمكن أن تكون هذه الصلاة إلاّ عملاً إلهياً، مستحيلاً على الانسان، لأن تعبيرها يجب أن يكون «حسب الله»، أي يتوافق مع مخطّطه الخلاصيّ. هناك ثلاثة أفعال تصوّر تدخّل الروح، وتدلّ دلالة خاصّة على هذا التدخّل: هو يأتي إلى معونة ضعفنا فيتّحد بنا. وبأنّات لا توصَف يتشفّع من أجلنا. وأخيراً، يشفع للقدّيسين. وهكذا نلاحظ أن عون الروح لا غنى عنه، كما نلاحظ كم ننعم بهذا العون.
وهناك تفصيلان يرتبطان بصلاة الروح هذه. أولاً، تشفّعه من أجلنا يتمّ «في أنّات لا توصَف». لسنا هنا أمام لغة خاصة، لا يفهمها إلاّ المتدرّجون، بل أمام لغة سماوية لا نستطيع أن نتكلّم بها على الأرض (2 كور 12: 4). هي لغة إلهيّة، ولفظ «أنّات» يشير إلى صلاة المسيحيّين الناقصة، كما تُذكر في آ 23: «نحن الذين لنا باكورة الروح نئنّ في أعماق نفوسنا منتظرين من الله التبنّي وافتداء أجسادنا». وبمختصر الكلام، موضوع صلاتنا لا نستطيع أن نعبّر عنه، وهدفها لا نستطيع أن ندركه، لأنه يلامس سرّ الله. غير أن الروح يقوم مقامنا بشكل إلهيّ. يأتي إلى معونتنا، فلا يدمّر صلاتنا، بل يأخذها معه، ينقّيها، يترجمها في«لغة سماويّة»، أي يجعلها توافق مشيئة الآب. ينتصر الروح على توجّه الانسان اللحميّ، الذي يأتي من «ضعفه». وبما أن بولس لا ينظر إلى الخلاص بشكل فرديّ، فالروح يقدّم الكنيسة كلها لله، فيعوّض عن ضعف صلاتها.
والتفصيل الثاني عن هذه الصلاة: نيّة الروح. «حسب الله». هذا يعني المعرفة والمحبّة وتذوّق الروح، وموضوعه الحياة الأبديّة والسلام (8: 6) والحياة بحسب البرّ (8: 10). إن الروح يبغي أن يحوّل المؤمنين إلى ما في المسيح من جديد. وهذا الجديد هو جديده وهو يحقّقه. هذا لا يعني أن الله يدمّر شخصيّة الانسان، بل يستعيد خليقته فيجدّد المؤمن ليُصبح جديراً بقبول الخلاص الذي يقدّم له. الروح يعرف أسرار الله (1 كور 2: 10) وينقلها إلى المؤمنين الذين يعيشون إيمانهم بالمسيح.
هذه الصلاة بحسب الله تبقى سراً للمؤمن. غير أن المؤمن يتحوّل شيئاً فشيئاً بروح الربّ «من مجد إلى مجد» (2 كور 3: 18)، أي من نعمة إلى نعمة. فعملُ الروح يعيد الانسان إلى بُعده الحقيقيّ كخليقة نالت النعمة، ويدعوه للبلوغ إلى التبنّي. لهذا، يحرّك الروح السجود والشكر، كما يحرّك المحبّة الأخويّة، فيتيح للمؤمنين أن يحيوا في كنيسة، إذ يُوحّدهم برباط المحبّة المتبادلة، ويربطهم بالآب في شكر وصلاة يأخذهما ويحوّلهما. فصلاة الروح فينا، ليست طريق السهولة. إنها تتطلّب تنقية وأمانة للنعمة، وسخاء.
إن صلاة الروح تُحقّق «من أجل القديسين» (أي جميع المؤمنين الذين قدّسهم الايمان بافتداء المسيح لهم) مخطّط الله الخلاصيّ: سبق الله فعرفَنا، وأعدّنا لنكون مطابقين لصورة ابنه الذي صرنا إخوته بعد أن بُرّرنا لنبلغ إلى مجده (روم 8: 28- 30). والاتحاد بالروح القدس يُشركنا في حبّ الآب، كما يتجلّى بنعمة الربّ يسوع المسيح (2 كور 13: 13). لهذا، كانت صلاة الروح فينا ضروريّة، لأننا نعيش في نظام الإيمان حيث كل شيء نعمة.

خاتمة
الحياة في الروح تُتمّ الشريعةَ ومتطلّبات الله (8: 4)، بل هي أكثر من هذا. هي نعمة نعيشها ونحن واعون أن كل شيء يرتبط بها، في رجاء يتأسّس على الروح القدس ولا يمكنه أبداً أن يخيب

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM