الخليقة والخلاص المنتظر

18
الخليقة والخلاص المنتظر
8: 18- 25

يشكّل الصليبُ والفشل الشكّ الأكبر في الحياة المسيحيّة، والتجربة التي تهدّد إيماننا وتزعزعه. ومع ذلك، فخلاصُنا يرتبط بالصليب، لأننا سنتمجّد مع المسيح إن نحن تألّمنا معه. ولا يكتفي بولس الرسول بأن يُعلن ضرورة الألم، بل ينير عقل مراسليه باعتبارٍ حول الخليقة في خطّ ما قاله العهد القديم. فمصيرُ الانسان بوجوده العابر بما يحمل من بؤس، لا يختلف عن مصير سائر الخلائق التي تحيط به. وهي مثله تتوق إلى ما لا تمتلكه بعد.
في سفر أيوب، أجاب الربّ من قلب العاصفة على تشكيات أيوب المرّة. ودعاه إلى أن ينظر في الخليقة الكبيرة ويلاحظ حياة الوحوش في البرية. عندئذ فهم هذا المتألّم أنه لن يطلب أن يعرف بعد. فعاد الهدوء إلى قلبه وسجد أمام سرّ الله (أي 38- 42). وأراد سفر الجامعة أن يعرف حياة الانسان في الطبيعة، فما وجد سوى العناء، والتعب دون نتيجة تدوم. فقال: باطل الأباطيل، وسيذكر بولس «الباطل» في هذا النصّ الذي نقرأ. واقتنع الأنبياء أيضاً بتشابه بين مصير الانسان ومصير الخليقة الماديّة. ولكنهم لم يحصروا نفوسهم في مسيرة الأشياء الحاضرة، بل أعلنوا تحوّلاً عجيباً يرافق افتداء الشعب. فجمع بولس هذه الرجاءات التي تجد أساسها العميق في موت يسوع وقيامته. ونقرأ النصّ:
(18) وأرى أن آلامنا في هذه الدنيا لا توازي المجد الذي سيظهر فينا. (19) فالخليقة تنتظر بفارغ الصبر ظهور أبناء الله. (20) وما كان خضوعها للباطل بإرادتها، بل بإرادة الذي أخضعها. ومع ذلك بقي لها الرجاء (21) أنها هي ذاتها ستتحرّر من عبوديّة الفساد لتشارك أبناء الله في حريّتهم ومجدهم. (22) فنحن نعلم أن الخليقة كلها تئنّ حتّى اليوم من مثل أوجاع الولادة. (23) وما هي وحدها، بل نحن الذين لنا باكورة الروح نئنّ في أعماق نفوسنا منتظرين من الله التبنيّ وافتداء أجسادنا. (24) ففي الرجاء، كان خلاصنا، ولكن الرجاء المنظور لا يكون رجاء، وكيف يرجو الانسان ما ينظره؟ (25) أما إذا كنا نرجو ما لا ننظره، فبالصبر ننتظره.

1- الحاضر والمستقبل (8: 18- 19)
لا نسبة بين الحاضر والمستقبل. وسيعود بولس إلى هذه الفكرة مطوّلاً في موضع آخر: «وهذا الضيق الخفيف العابر الذي نقاسيه، يهيّئ لنا مجداً أبدياً لا حدّ له. لأننا لا ننظر إلى الأشياء التي نراها، بل إلى الأشياء التي لا نراها. فالذي نراه هو إلى حين. وأما الذي لا نراه فهو إلى الأبد» (2 كور 4: 17- 18).
إنها لقاعدة عامة في عناية الله وتدبيره: فالبشريّة كلها، يهوداً ووثنيّين، مؤمنين وغير مؤمنين، والجسد كله المعدّ للقيامة، بل الكون كله، يتوق إلى تمجيد المختارين. اعتاد الأنبياء أن يحثّوا الأرض وحيوان البرّ أن لا تخاف، لأن خلاص الله سوف يتجلّى قريباً: «لا تخافي أيتها التربة. ابتهجي وافرحي لأن الربّ عمل العظائم. لا تخافي يا بهائم الحقل. مراعي البريّة نبتت، والشجر أطلع ثمره، والتين والكرم أعطيا قوتهما» (يوء 2: 21- 22). وهناك نصوص تصوّر الحيوانات التي تضع رجاءها في الله. «بهائم البريّة أيضاً تتوجّه إليك، لأن مجاري المياه نضبت، والنار أكلت مراتع البريّة» (يوء 1: 20). «تزأر الأشبال للافتراس والتماس طعامها من الله» (مز 104: 21). «هذه كلها تنظر إليك لترزقها قوتها في حينه. تعطيها رزقها فتلقطه، وتفتح يدك فتشبع خيراً» (مز 104: 27- 28). وهناك نصوص أخرى تدعو السماوات والأرض لكي تبتهج فرحاً أمام الخلاص الآتي: «لتفرح السماوات وتبتهج الأرض، وليهدر البحر وكل ما يملأه. لتغتبط الحقول وكل ما فيها، وليرنّم جميع أشجار الغاب أمام الربّ لأنه آتٍ» (رج مز 96: 11- 13). ونقرأ في مز 98: 8: «لتصفّق الأنهار بالأيدي، ولترنّم الجبال جميعاً». وفي أش 44: 23: «رنّمي أيتها السماوات، فالربّ فعل. واهتفي، يا أعماق الأرض! اندفعي بالترنيم أيتها الجبال، أيتها الغابات وكل أشجارها! الربّ افتدى يعقوب».
عاد بولس إلى هذه العبارات، وقدّم صورة ملموسة: الخليقة كلها تترقّب، ترفع رأسها لترى تمجيد المختارين، الذي سيكون علامة ارتفاعها وتحرّرها.

2- شريعة الباطل (8: 20)
العالم كله يخضع للباطل. هذا ما قاله سفر الجامعة حين صوّر الشمس والريح والأنهار التي تقوم بنشاط يبدو في ظاهره عقيماً (جا 1: 2- 6). حين يتكلّم بولس عن «الباطل»، لا يتوقّف عند الخطيئة التي ستخدمها الخليقةُ الماديّة. ففي العالم الواسع، هناك جزء صغير شارك الانسان في نواياه الشرّيرة. إلاّ أن الرسول تحدّث عن الخليقة كلها وبيّن كيف تئنّ من ألم الولادة (آ 22). «فالباطل» لفظٌ أعمّ من «الفساد» الذي يُذكر في آ 21، ويطبّق بشكل مباشر على الكائنات الحيّة. هذه الكائنات تُولد لتموت. وحياتها محدودة بمدى معيّن. وإن كانت الحياة تدوم، ففي بداية بعد بداية على مثال دوران الكواكب. ظنّ الفلاسفة اليونان أن الأجسام السماويّة لا تفسد، وعرف بولس هذه النظرة. ولكنه تغذّى من الكتب المقدّسة، ففهم أن السماوات والكواكب ستفسد هي أيضاً. قرأ إش 34: 4: «يفنى كلّ جند السماء، والسماوات تُطوى كورق البرديّ، ويسقط جندها جميعاً سقوط أوراق الكرم والتين». وتحدّث يوء 2: 10 عن سماوات ترتعش وشمس وقمر يسودّان وكواكب تخسر ضياءها.
خضعت الخليقة لشريعة الباطل هذا مكرهة، لا بإرادتها. فهي تميل إلى شيء آخر، لا إلى هذا التحرّك الدائم، والموت الذي يتبع الحياة. خضعتْ في الماضي بفعل الله الذي خلق العالم ورتّبه. فصيغة الفعل تدلّ على عمل حُصر في وقت محدّد من الماضي. هذا ما نسمّيه في لغتنا: النواميس الطبيعيّة. هو تنظيم الأعضاء في الجسم البشريّ (1 كور 12: 24)، هي نسبة بين البذرة وحجمها (1 كور 15: 38).
خضعت الخليقة بسبب ذاك الذي أخضعها. قبلت وضعاً فُرض عليها بالعنف، احتراماً لمشيئة الله، ولكنه يعارض تطلّعاتها. صوّر الكتابُ مراراً الخلائق الماديّة كيف تطيع وصايا الله (إش 40: 26؛ 48: 13) وتُتمّ بفرح المهمّة الموكلة بها (با 3: 33- 35؛ أي 38: 35). ولكن في بعض المرات، نجد البحر بشكل قوّة متحرّرة. فينتصر عليه الله فيرتعش في ضعفه أمام الحدود التي وُضعت له (إر 5: 22؛ أم 8: 29؛ أي 7: 12). ويقف بولس في هذا الخطّ التقليديّ فيجعل للخلائق الماديّة شعوراً يشبه شعور البشر، ولكنه لا يتصوّر خليقة، تتمرّد على النظام المحدّد. فكلها تخضع لترتيبات العناية وتتعلّق بمشيئة الله. وهكذا تظهر الخليقة طائعة لتدبيرٍ وضعَه الله، وهي تعيش في الرجاء منتظرة ساعة خلاصها.

3- الخليقة تئنّ وترجو (8: 21- 22)
غير أن لهذا الوضع الحاضر نهاية، فتحلّ محلّه مشاركةُ الخلائق الماديّة في مجد المختارين. وعبارة «عبوديّة الفساد» تقابل عبارة «خضوع للباطل». لا يتوسّع بولس في هذا الموضوع كما فعل الأنبياء، بل يكتفي ببضع كلمات تكفي لكي تعبّر عن الحالة الأخيرة التي ستعرفها الخليقةُ، والانسانُ المفتدى. فالكون ليس فقط مسرحاً لا مبالياً لما يجري عليه. بل هو يتأثّر تأثيراً عميقاً بخطيئة الانسان، كما سوف يتأثّر بالخلاص الآتي. هنا نقرأ نداء الخليقة وجواب الخالق في هو 2: 23- 24: «وفي ذلك اليوم أَستجيب للسماوات، والسماوات تستجيب للأرض، والأرض تستجيب للقمح والخمر والزيت».
لا شكّ في أن الخلائق متنوّعة في الكون، ولكل خليقة خاصيّتها. ولكن الخليقة لا تنفصل عن الأخرى انفصالاً مطلقاً، بل هناك مشاركة. وما يحدث في جسم الانسان يحدث في الكون. ونقول الشيء عينه في ما يخصّ جسد المسيح السريّ: «فإذا تألّم عضوٌ تألّمت معه جميع الأعضاء. وإذا أكرم عضوٌ فرحت معه سائر الأعضاء» (1 كور 12: 26). وهكذا تتمجّد الخليقة كلها بحيث تشكّل وحدة متناغمة. هذا ما استشفّه إشعيا في إحدى رؤاه: «ستفرح البريّة والبادية ويبتهج القفر ويُزهر كالنرجس. يُزهر إزهاراً، ويبتهج ويرنّم طرباً» (35: 1- 2).
ويواصل بولس كلامه في آ 22: «فنحن نعلم». هو لا يقدّم تعليماً جديداً، بل يكثّف معطيات قرأها في الكتاب المقدّس. إلاّ أن تشبيه ألم الولادة الذي يعبّر عن عذاب البشر وضياعهم (أش 13: 8؛ إر 4: 31) لا يطبّق على ما يُصيب العالم الماديّ. أمّا بولس فجعل بولس الصورة تمتدّ امتداداً، لأنه مقتنع بتضامن الانسان مع الطبيعة. وهكذا انفتح الكون على الرجاء حين رأى بداية الخلاص في يسوع المسيح تمتدّ إلى جميع البشر. ما إن ينال البشرّ التبنّي حتّى تنتهي أوجاعُ الولادة في الطبيعة.

4- قلق المؤمنين والرجاء المنتظر (8: 23- 25)
ويعود بولس إلى نقطة الانطلاق: ألم البشر. وهذا الألم حقيقيّ حتّى لدى المسيحيّين الذين نالوا باكورة الروح. فوضعٌ لا مفرّ منه، الموت الآتي، يكفي لكي يجعل المؤمن يئنّ. في 2 كور 5: 2- 5، توسّع بولس في ما سيقوله هنا بإيجاز، فتطلّع إلى البيت السماويّ الذي سوف نلبسه. ثمّ تحدّث في 2 كور 5: 6- 8 عن غربة عن الله يريدها أن تنتهي. لهذا، نراه لا يتأسّف إن هو ترك هذه الحياة «ليقيم مع الربّ». أما في روم 8: 23، فيتطلّع إلى الخلود المجيد دون أن يتكلّم عن الحياة مع المسيح ومشاهدته وجهاً لوجه (1 كور 13: 12) ممّا يشكّل منتهى السعادة. إنه ينظر الآن إلى الواقع الأرضيّ، سواء كان الكون كله أو الجسم الحيّ، جسم الانسان. فهو يعد بمصير مجيد يتبع الزمن الحاضر بما فيه من ألم وحرمان. والنظرة إلى هذا الخلاص النهائيّ، ستُلهم نشيدَ التهليل والنصر، لأن مصير الطبيعة جزء لا يتجزّأ من مخطّط الله وعنايته.
ويتوقّف بولس عند عطيّة الخلاص الذي يقدّمه الله، ويعلن ما يعتقده الإيمان المسيحيّ اعتقاداً عميقاً، وهو أن الخلاص واقع حاضر منذ الآن. فنحن نسلك منذ الآن طريق الخلاص (1 كور 1: 18)، والله يخلّصنا بالبشارة، بالانجيل (1 كور 1: 21). فالمخلّصون هم منذ الآن رائحة المسيح الطيّبة (2 كور 2: 15). في هذا المجال، نقرأ 2 تم 1: 9 مع الفعل في صيغة الماضي: «الله خلّصنا ودعانا دعوة مقدّسة». هنا لا ننسى أن الخلاص هو هدف عمل الله، الآن وفي وقت مقبل من حياتنا.
هذه الثقة بخلاص نمتلكه منذ الآن كانت قويّة جداً، بحيث ظنّ بعض المسيحيّين أنهم لم يعودوا ينتظرون شيئاً. فقالوا: لا قيامة للأموات (1 كور 15: 12). أو اعتبروا القيامة تمّت وانتهى كل شيء (2 تم 2: 18). لا شكّ في أن وضع المسيحيّ الذي يمتلك حقيقة الله وغفران الخطايا بفضل الإيمان، يكوّن الخلاص والبلوغ إلى الحياة الجديدة. فمواعيد الله قد تمّت.
في هذا الشكل، تشوّه التعليم الانجيليّ. فردّ بولس على هذا الموقف. قال: لم تحصل القيامة بعد. بل هي آتية (1 كور 15: 13- 34؛ رج فل 32: 1). المسيحيّ مخلّص، كما قال الجيل المسيحيّ الأوّل، ولكنه لا يمتلك بعدُ ملء الخلاص. فمختلف مراحل المخطّط الالهيّ تتضمّن فصلاً بين امتلاك جذريّ واستعمال فعليّ. نحن مخلّصون، ولكن في الرجاء. والخلاص ميراث مهيّأ لنا، ولكننا لا ننعم به بعد (غل 4: 5).
انتظر الوثني خلاصاً من آلهته. وانتظر اليهوديّ من يرسله الله «على سحاب السماء» (دا 7: 13). أما المسيحيّ فقد امتلك الخلاص بموت يسوع وقيامته. له الباكورة، وامتلاك غير كامل يشكّل عربون ما يحصل عليه كاملاً في النهاية. المسيحيّ مخلّص منذ الآن، ولكنه ما زال في عالم الرجاء. فإن تحقّق الرجاء وصار أمراً منظوراً، لن يعود رجاء. وهكذا لا نعود ننتظر شيئاً، بل نتذوّق خيراً نمتلكه. ولكن تلك ليست حالة المؤمن. هو يرجو، وينتظر واثقاً، تحقيقَ رجائه كما قال يوحنا في رسالته الأولى: «يا أحبّائي، نحن الآن أبناء الله، وما انكشف لنا بعد ماذا سنكون. نحن نعرف أن المسيح متى ظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو» (3: 2).

خاتمة
حين ننظر إلى وضع الخلائق المنظورة ولا سيّما الحيّة منها، نفهم، في الزمن الحاضر، أن حياتنا المسيحيّة لا تقدر أن تتجاوز كل التجاوز الألمَ، ما دمنا في هذا الجسد المائت. فأجمل النجاحات البشريّة لا تكون إلاّ باطلة تجاه الحياة الحقيقيّة. ووحده التحوّل الجذريّ الذي يتجاوز وسائل العمل عندنا، يستطيع أن يقودنا إلى الهدف الذي نصبو إليه. فبالنسبة إلى المؤمن، كل نظرة إلى سعادة ارضيّة تبقى مستبعدة. ولكن ما يُستطاع لدى الناس يستطاع لدى الله، ونحن ننتظره بالرجاء، ولا نتكل إطلاقاً على البشر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM