الحياة بحسب الروح

16
الحياة بحسب الروح
8: 9- 13

حياة في الروح. ذاك هو عنوان روم 8 كله. هذا ما ناله لنا المسيح. ويعرض بولس الرسول مراحل عبورنا من الجسد (أو البدن، اللحم والدم) إلى الروح. فبعد أن يعلن تحوّلنا بفضل يسوع (آ 1- 4)، يقابل بين حياة بحسب الجسد وحياة بحسب الروح. وبما أننا منذ الآن في الروح القدس، يحثّنا الرسول على عيش بحسب الروح من أجل المسيح (آ 9- 13) الذي يقيم فينا.
(9) أما أنتم فلا تسلكون سبيل الجسد، بل سبيل الروح، لأن روح الله يسكن فيكم. ومن لا يكون له روح المسيح، فما هو من المسيح. (10) وإذا كان المسيح فيكم، وأجسادكم ستموت بسبب الخطيئة، فالروح حياة لكم لأن الله برّركم. (11) وإذا كان روحُ الله الذي أقام يسوع من بين الأموات يسكن فيكم، فالذي أقام يسوع من بين الأموات يبعث الحياة في أجسادكم الفانية بروحه الذي يسكن فيكم. (12) فنحن يا إخوتي علينا حقّ وواجب، ولكن لا للجسد حتّى نحيا حياة الجسد. (13) فإذا حييتم حياة الجسد تموتون، وأمّا إذا أمتُّم بالروح أعمال الجسد فستحيون.

1- تحليل النصّ
الحياة الحاليّة ماضية إلى الموت بسبب الخطيئة والموت اللذين دخلا إلى العالم (5: 12). ولكن الحياة الجديدة في الروح ماضية إلى الحياة الأبديّة، بفضل برّ الله الخلاصيّ الذي أحيا المسيح، فأقامه من بين الأموات بحيث لن يموت بعد (6: 9). والجسد الذي يتكلّم عنه النصّ لا يقابل النفس وكأنه ينفصل عنها في الموت، بل هو الانسان كله في وجهته المنظورة، في عمله وحضوره في العالم.
أما 8: 9- 13 فتبدو كما يلي:
- نحن في الروح، لأن المسيح وروح الله هما فينا (آ 9).
- بما أن المسيح فينا، فقد مُتنا عن الخطيئة وحيينا للبرّ (آ 10).
- بما أن الروح هو فينا، وبما أنه روح ذاك الذي أقام يسوع من بين الأموات، حيينا نحن أيضاً بهذا الروح (آ 11).
- والنتيجة: لسنا مديونين بالنسبة إلى الجسد، إلى الوجهة البشريّة فينا بما فيها من ضعف، بل بالنسبة إلى الروح الذي يجب أن نطيعه ولا نطيع سواه (آ 12- 13).
نلاحظ أن الجملة الأولى تُبرز ثلاثة عناصر مرتبطة بعضها ببعض في شميلة تامّة: نحن في الروح. الروح فينا. المسيح فينا. ثم يستعيد النصّ بشكل معاكس كلاً من هذه العناصر ليوضح نتائجها بالنسبة إلى وجودنا وحياتنا: بما أن المسيح فينا، بما أن الروح فينا، بما أننا في الروح. وفي النهاية نلاحظ أننا أمام برهان حقيقيّ يتوخّى أن يدعو المؤمن لكي يحيا بحسب الروح، لكي يسلك سبيل الروح.

2- الجسد والروح
نبدأ فنحدّد ما يعنيه بولس الرسول في هاتين العبارتين: نكون في الجسد. نكون في الروح. نحن هنا أمام مقولتين دينيّتين، لا تتوقّفان عند البيولوجيا والماورائيات. هما تعنيان الانسان كله وكلّ تصرّفه. نحن هنا على مستوى الكائن ونوعيّة حياته. هنا نقول في لغة لاهوتيّة: نكون في طبيعة ضعيفة، ساقطة، خاطئة (اللحم والدم). أو نكون في حالة فائقة الطبيعة، حالة تقديسنا بالروح القدس.
فالجسد (أو: البدن) يعني عند بولس: «جسد الخطيئة» (6: 6). هو لا يتكلّم عن «الجسد» بشكل مجرّد، بل عن الانسان في وضعه التاريخيّ، كما يصوّره الكتاب: كائن طبيعيّ، مأخوذ من التراب، ضعيف وسريع العطب، معدّ للموت والفساد، فريسة الأهواء ومعرّض للتجارب. هو خليقة ماديّة مائتة، ومتمرّدة على الله. لهذا، حين تحدّث بولس عن يسوع، قال إنه كان في جسد شبيه بجسد الخطيئة، ولكن دون أن يستسلم للخطيئة (8: 3؛ 2 كور 5: 21؛ رج عب 4: 15: «خضع مثلنا لكل تجربة ما عدا الخطيئة»).
وتجاه الجسد (اللحم والدم) والضعف والموت والخطيئة، نجد الروح الذي هو قدرة وحياة وقداسة تميّز الله. وحين يعارض بولس «الجسد» بـ «الروح»، نعتبر أنه يتكلّم عن روح الله. هذا لا يعني أن لفظ «روح» لا يمكن أن يدلّ على روح الانسان (8: 16). ولكن في سياق التبرير هذا، حيث ينسب بولس إلى روح الله التبديل الذي يتمّ في سلوك الانسان، نعتبر أننا أمام مقابلة بين جسد الخطيئة وروح الله. هذا ما تبرزه آ 13 حيث روح الله يساعدنا على أن نميت أعمال الجسد.
فعبارة «نكون في الجسد» تعني الكائن الضعيف، المتمرّد على الله، عبد الخطيئة، العاجز عن تتميم الأعمال الصالحة، والمحكوم بالموت الأبديّ. وعبارة «نكون في الروح» نعني الكائن الذي يُمسك به الروح، فيقوده بقدرته المحيية والمقدّسة. وهكذا يحيا في صداقة مع الله ويُتمّ مشيئته. مثل هذه العبارة تقابل عبارة «نكون مع المسيح» (8: 1). فطريقة حياتنا يمكن أن توصف في علاقتها بالروح كما في علاقتها بالمسيح.

3- الروح والمسيح فينا (8: 9)
أ- علاقة بالروح وبالمسيح
تدلّ آ 9 على حياة المسيحيّ في علاقة بروح الله كما في علاقة بالمسيح: فمن يخصّ المسيح يمتلك روحه، وبفضله الذي يتماهى مع روح الله، يكون في الروح. كيف نشرح ذلك؟
لا صعوبة في أن نفهم أن عبارة روح الله تتماهى مع عبارة روح المسيح، مع أن عبارة «روح المسيح» لا تُقرأ إلاّ هنا. غير أننا نقرأ في غل 4: 6 عبارة «روح الابن»، وفي 2 كور 3: 17: «روح الربّ». يشير العهد الجديد ثلاث مرات إلى فيض روح الله على يسوع: في الحبل (لو 1: 35). في العماد (مت 31: 6). في الصعود (أع 2: 33). ويسوع الممجّد يُفيض روح الله على البشريّة (أع 2: 33؛ يو 15: 26؛ 20: 22) انطلاقاً من هذا الفيض الثالث (فلما رفعه الله بيمينه إلى السماء، نال من الآب الروح القدس الموعود به فأفاضه علينا)، الذي لا يذكر بولس سواه. فقد كتب في بداية الرسالة أن يسوع أقيم ابن الله بقدرة حسب روح القداسة، بقيامته من بين الأموات (1: 4). هذا الروح أعدّ يسوعَ ليقوم بدوره في عمل التقديس: بفضله هو يمارس بقدرة، في عالم البشر، وظيفته كابن الله، كالمسيح والربّ.
لهذا، لا تأثير ليسوع إلاّ بهذا الروح. فبفضله يتعلّق به البشرُ ويؤثّر فيهم. فالروح يغلب قلب البشر، ويُفهمهم الكلمة التي يعلنها سرّ يسوع، ويجتذبهم ليتعلّقوا بشخصه ويخضعوا لسلطته (1 كور 12: 3). ثم يختم بختمٍ، أولئك الذين افتداهم يسوع وخلّصهم (أف 1: 13). فمن أراد أن ينتمي إلى المسيح ويرى فيه ربّه، وجب عليه أن «يمتلك» الروح. ومقابل هذا، من له الروح ينتمي إلى يسوع المسيح. فلا يمكن أن نفصل علاقتنا بالروح عن علاقتنا بالمسيح.
ب- علاقة المسيحيّ بالروح
وتصوّر آ 9 علاقة المسيحيّ بالروح كسكن فينا. نقرأ مثلاً في 1 كور 3: 16: «أما تعرفون أنكم هيكل الله، وأن روح الله يسكن فيكم». وفي 6: 19: «أجسادكم هي هيكل الروح القدس». ويقول الرسول أيضاً إن المسيح هو فينا (آ 10). غير أن هذه العلاقة بالمسيح تصوَّر كعلاقة انتماء وتماهٍ: نحن، بشكل سريّ، المسيح. نحن صورته. عندئذ نفهم أن يسكن الروح فينا كما سكن في يسوع، هيكل الله الحقيقيّ. لا نستطيع أن نكون «هيكلاً» إلاّ إذا تماهينا معه.
قبل أن يأتي الروح، هي الخطيئة تسكن في الانسان (7: 20)، وتسود حياته الخلقيّة، وتدفعه إلى اقتراف أعمال سيّئة يشجبها عقله (7: 23). حينئذ يعيش الانسان حسب الجسد، فيصبح مسكنَ الخطيئة والهيكل المعارض لله (7: 17- 20). ولكن ما أن يُقيم الروح فينا حتى يطرد الخطيئة التي لا تستطيع بعد أن تمارس علينا سلطتها وسيادتها (8: 2). وهكذا لن نعود عبيداً لها (6: 17- 18). بعد ذلك، يكون الروح هو السيّد فينا (8: 2) فيدفعنا إلى العمل (8: 14). فلا نعود نسكن في الخطيئة، في الجسد، بل في الروح، نكون تحت تأثير الروح الذي يحوّل طريقة حياتنا ويُلهمنا في سلوكنا.

4- عمل المسيح (8: 10)
من علاقتنا بالروح والمسيح نستنتج ما في آ 10- 11. أما آ 10 فنقرأها كما يلي: «إذا كان المسيح فيكم، من جهة يموت الجسد بالنظر إلى الخطيئة (لا يعود يخدم الخطيئة). ومن جهة ثانية يكون الروح حياة من أجل البرّ (يخدم)». نجد هنا صدى لما في 6: 5- 11. اعتبر بولس أن الايمان والعماد يصوّراننا على صورة المسيح ويجعلاننا شبيهين به شبهاً سرياً. وهكذا يُصبح وضعُه وضعَنا. والحال أن المسيح ميت وحي: من جهة، صُلب ومات عن الخطيئة (دُمّر جسدُه الذي يشبه جسد الخطيئة). ومن جهة ثانية، قام وهو حيّ لله (في دائرة القداسة الالهيّة). إن شبهنا بالمسيح يجعلنا نحن أيضاً في هاتين الحالتين: من جهة صُلبنا معه ومتنا عن الخطيئة. هذا يعني أننا لم نعد في الجسد، لم نعد عبيد الخطيئة. ومن جهة ثانية، نحن أحياء معه لأننا نمتلك روحه: هذا الروح يحيينا «لله» ويلدنا للبرّ، أي للقداسة التي تثمر أعمالاً صالحة ترضي الله. لم تعد الخطيئة هي التي تملك فينا وتدفعنا إلى الشرّ، بل الروح القدس الذي يعمل فينا ويلهمنا سلوك البرّ والخير.

5- عمل الروح (8: 11)
وتصوّر آ 11 عمل الروح فينا، على مثال العمل الذي يعمله المسيح فينا. فان كان المسيح قام وهو حيّ «لله»، فهذا يرتبط بقدرة روح الله الفاعلة فيه. فرسائل بولس تنسب دوماً قيامة يسوع إلى الآب، ولكنها تعلن أيضاً كيف أتمّ الآب هذه القيامة: «قام المسيح من بين الأموات بمجد الآب» (6: 4). «هو حيّ بقدرة الله» (2 كور 13: 4). وفي اللغة البيبليّة، هناك معادلة ملموسة بين المجد والقدرة والروح. وهذا الاستعمال نجده في العهد الجديد حيث يجتمع الروح والقدرة (15: 13؛ أع 10: 38؛ أف 3: 16)، الروح والمجد (1 بط 4: 14). لهذا نقول، حسب بولس، إن الآب أقام يسوع من بين الأموات بروح قدرته ومجده، أي بروحه القدير كل القدرة، وروحه المجيد كل المجد. فبالروح يمارس الله قدرته الخلاّقة، والمحيية (رج تك 1: 2؛ حز 37: 14). فالروح هو مبدأ القدرة في قيامة يسوع التي تمّت بيد الآب. وهو يبقى في الذي أقامه، الأساسَ المستمرّ لحياة تكوّنت بالقيامة. لهذا يؤكّد بولس أن الربّ روح (2 كور 3: 18)، أنه روحٌ محيي (1 كور 15: 45).
بما أن هذا الروح هو فينا، فنحن واثقون أن الله الآب يعمل به لكي يُتمّ من أجلنا ما يميّز الروح وهو اعطاؤنا الحياة كما فعل بالنسبة إلى يسوع. وهكذا يفكّر بولس بقيامتنا الآتية. غير أنه في هذا السياق حيث يصوّر الحياة بحسب الروح، يفكّر أيضاً في هذه الحياة الروحيّة الجديدة التي هي ممكنة منذ الآن لأننا قمنا، بشكل سرّي، مع المسيح، منذ الآن (6: 4- 11). فمع أننا باقون في الجسد المائت، نستطيع منذ الآن، وبفضل الروح، أن نشارك في الحياة التي في يسوع القائم من الموت.

6- واجب المسيحي (8: 12- 13)
هنا نتذكّر أن ف 8 يتطلّع إلى حياة نمتلكها الآن، حياة مؤسّسة على اتحادنا بالمسيح وبالروح القدس. وتستخلص آ 12- 13 نتائج هذا الاتحاد الذي يفرض علينا حياة جديدة. إن بولس يفترض أن الانسان مدين لمن اشتراه، ويجب عليه أن يتصرّف حسب هذا الوضع. ونستطيع القول إن وضع الانسان يتكوّن من مجمل تصرّفاته التي تعني له الكثير. والحال، لم يعد المسيح في الجسد. لهذا، فالتصرّفات التي تميّز حياته حسب الجسد، فقدت معناها. وتقوم هذه التصرّفات بالقيام بأعمال شرّيرة تشجبها شريعة الله وتكون عاقبتها الموت (6: 23). أما المسيحي الذي يسكن في الروح، فهو مدين للروح. فعليه أن يطيعه ويتبعه. منذ الآن، يهتمّ بأعمال الروح، لا بأعمال تدلّ على حياتنا بحسب الجسد. ويشدّد بولس على هذه الوجهة السلبيّة. فالروح فينا يقاوم أعمال الخطيئة التي تُميتنا. هذا ما يقابل تشبّهنا بالمسيح المصلوب. قالت الرسالة إلى غلاطية: «الذين هم للمسيح يسوع صلبوا جسدهم بكل ما فيه من أهواء وشهوات» (5: 24). هذا الصلب يتمّ فينا، لا بقوّتنا الطبيعيّة، بل بقدرة الله بالذات، بقدرة الروح الذي ينقذنا من الخطيئة، ويجعلنا جديرين بأن نعمل الأعمال الصالحة التي تُرضي الله، ويحيينا في قداسة تتفتح في الحياة الأبديّة.

خاتمة
وهكذا، حين اتّحد المؤمن بالمسيح في الإيمان والعماد، إنجذب إلى حياة جديدة. أقام فيه المسيح، أقام فيه الروح، وهكذا تمّ انفصالُه بشكل جذريّ عن الخطيئة. عندئذ، فالروح الذي هو الضيف المقيم في المؤمن، يقدّم له، بحضوره، وبعمله السريّ، إمكانيّةَ حياة جديدة. فلا يبقى له سوى أن يترك هذا الروح يقوده في موت عن الخطيئة بانتظار قيامة في البرّ على مثال المسيح الذي مات عن خطايانا وأقيم من أجل تبريرنا

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM