سلام الربّ في الرجاء

7
سلام الربّ في الرجاء
5: 1- 5

هذا المقطع الذي نقرأ هو جزء من قطعة تمتدّ إلى آ 11 مع عبارة تضمينيّة نقرأها في آ 1 وآ 11: ربّنا يسوع المسيح الذي به. في بداية روم، رسم بولس جدرانيّة واسعة عن الوضع البشريّ: في لوحة أولى صوّر الحكم الذي يشمل البشريّة كلها (11: 8- 3: 20). وجاءت لوحة أخرى معارضة، فتكرّست للكلام عن تبرير جميع البشر في المسيح (3: 21- 5: 11). وفي النهاية جاءت مقابلة تجمع اللوحتين (5: 12- 21). أما الآيات التي نتأمل فيها الآن فتُبرز عظمة الخلاص الذي تمّ بيسوع المسيح. به أُدخلنا إلى حياة الله الحميمة ونعمنا بفرح لا يستطيع أحد أن يأخذه منا. ونحن نقسم كلامنا في ثلاث محطات: نعمنا بسلام (آ 1- 2 أ). نعيش في الرجاء (آ 2 ب- 4). غير أن هذا الرجاء لا يخيب، لأننا نحيا خبرة محبّة الله لأجلنا (آ 5). ففي المسيح يسوع، تجد حياتُنا معناها، وكيانُنا وجهته، في سلام مع الله يفتحنا على الآخرين وعلى العالم.
(1) فلما برّرنا الله بالإيمان، نعمنا بسلام معه بربّنا يسوع المسيح، (2) وبه دخلنا بالإيمان إلى هذه النعمة التي نقيم فيها ونفتخر على رجاء المشاركة في مجد الله. (3) بل نحن نفتخر بها في الشدائد لعلمنا أن الشدّة تلدُ الصبر، (4) والصبر امتحان لنا، والامتحان يلد الرجاء، (5) ورجاؤنا لا يخيب، لأن الله سكب محبّته في قلوبنا بالروح القدس الذي وهبه لنا.

1- السلام عطيّة الله (5: 1- 2 أ)
حين أقمنا خارج المسيح، لم يكن لحياتنا من معنى. عُزلنا عن الله، ابتعدنا، انغلقنا على نفوسنا، فكنّا «بلا رجاء ولا إله في هذا العالم» (أف 2: 12)، فنقلنا الإيمانُ بيسوع المسيح من عالم الظلمة إلى عالم النور، وصالحنا مع الله.
منذ الآن، نعيش في السلام، في الطمأنينة، مع هذا الاله الذي يحبّنا. ولكن لا ننسى أن السلام في المفهوم البيبلي، هو أبعد من غياب الحرب والصراعات. فالسلام واقع إيجابيّ لحياة جديدة مع الله، وعلاقة حميمة معه، وهو يُترجَم بالخير والبركات التي ننال. هذا ما تقوله آ 2 أ: دخلنا إلى هذه النعمة. دخلنا إلى هذا العالم العجيب حيث يغمرنا الله بحبّه، بدون انقطاع. منذ الآن فتح لنا المسيحُ الباب ولن يزال مفتوحاً، فأدخلنا في عالم موته وقيامته. وهذه الحياة الجديدة في علاقة مع الله، تجد امتدادها في علاقات جديدة مع الآخرين. بعد أن نلنا السلام في نفوسنا بسلام الله، نصبح بيسوع سلاماً لمن حولنا: «ملكوت الله... برّ وسلام وفرح في الروح القدس» (14: 17).
وهكذا، بعد أن أدخلنا الله إلى العالم، ونعمنا بالسلام، نعمل من أجل بناء عالم جديد، على صورة المسيح «سلامنا الذي جعل من الاثنين شعباً واحداً، فدمّر البغض وأحلَّ السلام» (أف 21: 4).
جاء الفعل في صيغة الحاضر، لا في صيغة الماضي، ساعة تمّ السرّ الفصحيّ. فدورُ المسيح حاضر اليوم في علاقتنا مع الله. لأن كل ما نمتلكه، نمتلكه بلا انقطاع في يسوع المسيح. فالبشر لا يعرفون بنفوسهم «طريق السلام» (3: 17). هو وحده كشف لنا السلام الحقيقيّ، وأوصلنا إليه، لأن سلام الله يفوق كل إدراك (فل 4: 7).

2- من أجل الرجاء (5: 2 ب- 4)
ولكن الفرح الذي ننعم به الآن، هو شيء قليل بالنظر إلى المستقبل الذي ينتظرنا، إلى «المجد الذي سيظهر فينا» (روم 8: 18). فما نحن في الحقيقة لم يَظهر بعدُ بوضوح. وجسدنا لم يشارك حتّى الآن في قيامة المسيح. والعالم لم يتحوّل إلى أرض جديدة وسماء جديدة. ولكننا مشدودون مع الخليقة كلها نحو ظهور أبناء الله، أي تفتّح كل رغبة فينا بمشاركة كل كياننا والعالم، في مجد الله، وهذا أمر لا يتوقّعه بشر. إن هذا المستقبل، هذا المشروع الذي يعني حياةَ كل انسان، والتاريخَ البشريّ كله، يملأنا افتخاراً، لأن أحداً لا يمتلك مثل هذا الرجاء.
لهذا، فنحن نفتخر أيضاً بالمحن التي تُصيبنا، لأنها تُبرز جدّية رجائنا وتُنيره. وجميع هذه المحن تعلّمنا أن نثبت، نقاوم، نصبر. وهكذا تتكوّن فينا شيئاً فشيئاً، قوّة سبق لها ومرّت في الامتحان. كما ينمو رجاؤنا ويتنقّى. وهكذا تأتي أربعة ألفاظ في شكل سلسلة متماسكة (الشدّة، الصبر، الامتحان، الرجاء) يكون هدفها الرجاء.
إذن يأخذ الألم معنىً إن كنّا مع المسيح، ويأخذ معنى آخر إن لم نكن مع المسيح. فالعالم محطّم بالألم. ولكن جميع الضيقات تُعطي القوّة والرجاء للمسيحيّ، الذي يكتشف فيها عمل ولادة عالم جديد (8: 21). فرجاء المسيحيّ لا يتوقّف على الأرض، بل ينظر إلى أعلى. ولا يتوقّف عند الزمن الحاضر، بل يتطلّع إلى البعيد. أجل، لا ينحصر في هذا العالم، وهو يعلم أن الله هو هدفه الأخير. «إذا كان رجاؤنا في المسيح لا يتعدّى هذه الحياة، فنحن أشقى الناس جميعاً» (1 كور 15: 19). إذن المسيحيّ انسان يقف وقفة القيامة، وهو مشدود إلى الأمام «كأنه يرى ما لا يُرى» (عب 11: 27). ورجاؤه أكيد «لأن الذي وعد هو أمين» (عب 10: 23).

3- اختبار محبّة الله (5: 5)
مثلُ هذا الرجاء لا يمكن أن يخيب، ولا يحمل الخيبة، لأنه مؤسّس على يقين، ويكفله حبُّ الله المفاضُ في قلوبنا بالروح. هي نقطة أساسيّة في الفكر البولسيّ. لقد اختبرنا محبّة الله ونختبرها كلّ يوم. جاء الفعل في صيغة تضمّ واقعين اثنين. الأول يجعلنا في الماضي: عمِلَ الروحُ، فأدخل إلى قلوبنا محبّة الله. هذا يفترض تحوّلاً ينفح فينا حياة الله. والثاني، يدلّ على نتيجة حاضرة لعمل مضى. سبق لنا ولاحظنا هذا الانتقال. ونلاحظه الآن أيضاً، لأن محبّة الله تملأ قلوبنا. وهذا الوعي بأن الله يحبّنا، وخبرة حبّ الله هذه، جزء أساسيّ في الحياة المسيحيّة.
أما الخبرة الأولى فخبرة موت المسيح: «والبرهان أن الله يحبّنا هو أن المسيح مات من أجلنا ونحن بعد خاطئون» (5: 8؛ رج أف 2: 4). ويقول يوحنا في رسالته الأولى: «تلك هي المحبّة: نحن ما أحببنا الله، بل هو الذي أحبّنا وأرسل ابنه كفّارة لخطايانا» (4: 10). والخبرة الثانية، وعيٌ لرباطات فائقة تربطنا بالله. نحن «أبناء» الله. وتُواصل رسالةُ يوحنا الأولى: «انظروا كم أحبّنا الآب حتّى نُدعى أبناء الله! ونحن بالحقيقة أبناؤه» (3: 1)! والخبرة الثالثة، محبّة الآخرين التي هي علامة محبّتنا لله ودلالة لا تردّ: «من لا يحبّ لم يعرف الله، لأن الله محبّة» (1 يو 4: 8). نشير إلى أن هذه المعرفة لا تتوقّف عند العقل والادراك، بل تنبع من الشخص كله.
ويتابع يوحنا في رسالته الأولى: «إذا أحبّ بعضُنا بعضاً، ثبت الله فينا وكمُلت محبّته فينا» (4: 12). كل هذه الخبرة المسيحيّة تتيح لنا أن نؤكّد: «نحن نعرف (أو: عرفنا) محبّة الله لنا ونؤمن (أو: آمنّا) بها. الله محبّة» (1 يو 4: 16). وهكذا، حين نتجذّر في المحبّة (أف 3: 17)، نتأكّد من الرجاء الذي فينا: «لا شيء في الخليقة كلها يقدر أن يفصلنا عن محبّة الله في المسيح يسوع ربّنا» (8: 39).
ثم إن هذه المحبّة هي عطيّة مجانيّة من الله (1 تس 1: 4). هي لا تأتي منا، بل تحيا فينا بالروح. وهنا، نتوقّف أيضاً عند معنيَيْ صيغة الفعل. منذ البداية، أي في المعموديّة، جعل الروح فينا محبّة الله هذه: «نحن الذين كنا بعيدين صرنا قريبين» (أف 21: 3). غير أن عمل الروح هذا يتواصل ولا ينقطع، وبفضله تملأ محبّةُ الله قلوبنا، كل يوم، بحيث نستطيع أن نختبر هذه المحبّة في حياتنا اليوميّة.

خاتمة
نستطيع أن نوجز مضمون هذه الآيات: الله فرحنا. وفرحنا هو الحياة الالهيّة التي نشارك فيها، والتي تستطيع وحدها أن تتجاوب مع كل آمال البشر. هو دخول في حياة محبّة الله نفسه، وذلك في إطار الثالوث. فالروح (آ 5) يربطنا بالابن (آ 1)، والابن يقرّبنا من الآب (آ 1). وهذا الحبّ يُقيم في قلوبنا فيمنحنا السلام والفرح. وإذ نتحوّل هكذا، فنغطس في الحياة الالهيّة، لا نقدر بدورنا إلاّ أن نحبّ وننشر الحبّ حولنا.
وحين تستضيء حياتنا كلها باكتشاف محبّة الله، تتوق إلى كمال هذه المحبّة، تكون مشدودة. ويبقى الرجاء صعباً لمن لم «يختبر» يوماً محبّة الله. ومع ذلك، فهذا الرجاء هو الذي يمنح المسيحي الحياة، ويهبه القوّة، ويقوده إلى هذا الهدف العظيم الذي اكتشفه في يسوع المسيح. وهذا الرجاء الذي يتقوّى بالامتحان يدفعنا إلى أن نضع ثقتنا بالله الذي هو وحده مخلّص العالم. وهكذا تأتي الطمأنينة شيئاً فشيئاً فتجعلنا نقيم في الفرح الكامل (يو 16: 22- 24). وفي هذه الوجهة يُنهي بولس رسالته إلى رومة فيتمنى «أن يغمركم إله الرجاء بالفرح والسلام في الإيمان، حتّى يفيض رجاؤكم بقدرة الروح القدس» (15: 13).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM