أنا معك في كل حين

أنا معك في كل حين
المزمور الثالث والسبعون

1. المزمور الثالث والسبعون هو نشيد حكيم من الحكماء (رج مز 37؛ 39) ينطلق من اختبار لاحظه مرارًا، ألا وهو هذا الانفصام الموجود بين حقائق الإيمان التي تعلّمناها وحقيقة الاختبار الذي نعيشه، فيتساءل مع إرميا (12: 1 ي): "لماذا ينجح طريق المنافقين ويسعد جميع العاملين بالغدر"؟ ويرافق أيوب في اختبار عاشه، فيستقي من ينابيع الوحي ليعطي الاتقياء تعليمًا عن الطريق الواجب اتباعه في مثل هذه المحن. سؤال يطرحه المؤمن ويطرحه اسرائيل وقد تبلبل تفكيره عندما رأى نجاح الأمم الوثنية فتساءل:
لماذا العهد والوعد؟ أية فائدة من أن يكون هناك شعب خاص بالله؟ أية فائدة من عبادة الله وتقدمة الذبائح إليه؟ ما هو مفهوم الثواب والعقاب؟ قال التعليم التقليدي: البار يجازى خيرًا والشرير شرًا. يكون للبار العمر الطويل والمال الوفير والبنون العديدون. والأشرار يُحرمون من ذلك. ولكن الاختبار اليومي أظهر أن هذه القاعدة لا تطبق دائمًا: فالأشرار ينجحون والأبرار يتألّمون، وفي النهاية الكل يموتون. فالحل ليس في الدنيا الحاضرة. فتّشوا عنه في الآخرة.

2. مسألة الثواب والعقاب أمام نجاح الأشرار.
في القسم الأول (آ 1- 3) يتعلّق المؤمن بإيمانه لدى رؤية الأشرار: كادت خطواتي تزل.
في القسم الثاني (آ 4- 12) يصوّر المرتّل سعادة الأشرار: كل ما يفعلونه ينجح.
في القسم الثالث (آ 13- 17) يتساءل ويتردّد: لماذا لا أفعل مثلهم وأترك العهد الذي يربطني بالرب؟
في القسم الرابع (آ 18- 22) يرى مصير الأشرار النهائي إلى الهلاك والموت السريع فيفهم أحكام الرب.
في القسم الخامس (آ 23- 28) يتأكّد أنه يكون مع الرب في يوم من الأيام، لأن حصّة المؤمن هي صداقة مع الله لا يقدر شيء أن يؤثّر فيها.

3. يعرف المرتّل أن الله صالح لاسرائيل (للمستقيمين)، صالح لأتقياء القلوب، على حدّ قول سفر التثنية (28: 1- 14) الذي يحسب اسرائيل شعب الله الخاص المتمثّل بجماعة خدّام الله وعبيده (73: 3؛ 148: 4). ويرى السعادة التي يتمتَّع بها المنافقون، فيحسّ بالتجربة تهدّد إيمانه: من شدّتها كاد المرتّل أن يسقط. يغار من الأمم الوثنية، ويندم لأنه لا يستطيع أن يتمثّل بها (جحود إيمان). ولكنه يرجع إلى نفسه: ما أغبى المؤمن الذي يرغب في أن يلتحق بالمتكبرين والبلهاء، ويترك طريق الرب.
يصوّر المرتّل سعادة الأشرار فيذكّرنا بمقاطع قرأناها عند إرميا (5: 26 ي): "وُجد بين شعبي أشرار... امتلأت بيوتهم من الغش فلذلك صاروا عظماء وأغنياء. هم سمان لامعون. يتمرّسون بالشر فينجحون". ونرى عند أشعيا أن نتيجة هذا النجاح هي الكبرياء (أش 2: 16- 17: تشامُخ البشر وترفّع الإنسان) والظلم والجور نحو الضعفاء المساكين (عا 6: 1)، ثم قساوة القلب وثورة على الله وعلى شريعته (أش 6: 10؛ مز 17: 10؛ 119: 7؛ تث 3: 15؛ أش 6: 10). يتلفّظ الأشرار بكلمات التكبّر فلا يتوقّفون أمام شيء، لا أمام السماوات ولا بحضرة الله (آ 9 و11؛ أي 21: 14- 15؛ ملا 3: 14- 15).
هكذا يصوّر المرتّل الأشرار: هم حتى موتهم يتمتّعون بصحّة جيّدة فلا يعرفون أي وجع (آ 4). يحسبون أنفسهم فوق البشر وأن باستطاعتهم أن يسودوا على الناس (آ 6- 7)، لأن كل شيء مباح لهم وهم العارفون بالخير والشر. اشتروا بمالهم الذين في السماء والذين على الأرض، وهم يعطون الأوامر للعلويّين والسفليّين. يستطيعون أن يجدّفوا وأن يفتروا (آ 9). هم أغنياء، هم آلهة. واله اسرائيل بالنسبة إليهم شخص أعمى وضعيف يترك أتقياءه في الشقاء (آ 11) بينما يزداد غنى الباقون (آ 12).
ويتساءل المرتّل: ما الفائدة من أمانتي لله؟ (آ 13) يزداد شقائي بينما تزداد ثروة الأشرار. ولكن شيئًا واحدًا حفظه من السقوط وخيانة العهد: شقاء أخوته والرباط بهم عبر المحن والآلام منعه من الاجتماع بالوثنيين المشركين والظالمين الجائرين. ولو فعل ذلك لخان ربه وجماعته وجعل إخوته يقنطون وييأسون. ولكن هذا لم يمنعه من أن يصرخ ويبكي إلى أن دخل هيكل الله ليحاجج الرب (مثل أيوب) ويبيّن حقّه أمامه (آ 17).
يتأمّل المرتّل مصير الأشرار فيكتشف أنهم يهلكون سريعًا، وتكون ساعة موتهم ساعة رعب نهائي. تزول صورتهم من أمام الله كما يزول الحلم عندما يستيقظ الإنسان. ينساهم الله كما ينسى الإنسان فكرًا مزعجًا.
ويقرّ المرتّل بذنبه (مثل أيوب): تكلّم بجهالة لأن الحزن أعمى عينيه وأغلق قلبه (آ 22). ونتساءل ما الذي حدث في الهيكل ليكتشف المرتّل مصير الأشرار ومصير الأخيار؟ هل سمع تعليم الكهنة أو كلام الليتورجيا؟ هل حضوره في الهيكل وجداله مع الله ساعده على أن يعبِّر بكلامه عمّا كان يحسّ به في قلبه؟ مهما يكن من أمر، فقد تذكّر المرتّل ما تقوله الليتورجيا عن سلطان الله على كل شيء، حتى على الموت. تذكّر أن الله هو الرب والسيد وإن تكن سيادته لم تظهر بعد.
ولكن المرتّل يعرف أن هذه العدالة الالهية قد بدأت فعلها منذ اليوم. فهي تجرّ الأشرار بحبال الكبرياء والجور حتى يصلوا إلى الكارثة الرهيبة. أما الأخيار، وإن ضربهم الله وعاقبهم، فهو الههم الذي يبقى معهم وبيمينه يقودهم (آ 23) لا إلى العدم بل إلى قربه، إلى المجد الذي يحيط به. الفعل الذي يترجم "تأخذني" هو ذاته المستعمل عندما يقول المرتّل في آ 24: ومن بعد إلى المجد تأخذني، متذكرًا ما فعله الله عندما أخذ أخنوخ الذي لم يوجد بعد (تك 5: 24) وإيليا (2 مل 2: 9) الذي أخذ في العاصفة نحو السماء. (49: 16: الله وحده يفتدي نفسي من يد الموت حين يأخذني). هذا هو مخطط الله. غير أن الإنسان لا يفهمه. أما بالنسبة إلى المرتّل فالله سيكون معه، وهذا يكفيه. أما كيف يكون معه، فهذا ما لا يقوله لنا. أن لي في السماء سواك؟ وفي الأرض لا أفرح إلاّ بك. ما يهمّ المرتّل هو أن الموت لا يستطيع أن يقطع العلاقة التي تربطه بالله، وحياته مع الله هي فوق كل ما نجده في السماء وعلى الأرض من ثروات (آ 25). يستطيع جسده أن يفنى، ولكن الله يبقى له على الدوام. ويُنهي المرتّل تعليمه في الآيتين الأخيرتين (آ 27- 28): سيهلك الأشرار ويكون هو بقرب الله ملجأه. فلم يبق عليه إلاّ أن ينشر الخبر بين الشعب ويحدِّث بأعمال الرب.
4. ماذا عن حياة الإنسان قرب الله بعد الموت؟ سيكون المؤمن مع الله، برفقة الله. أيكون ذلك في السماء، في الجحيم، في "المطهر"؟ هل النفس خالدة؟ أليس كل إنسان مائت؟ هذا ما لا يقوله المزمور، ولكن يبقى أن رباطًا قد نُسج بين الإنسان والرب، لا يستطيع شيء أن يقطعه، ولا يسمح الله لأحد بأن يقطعه. بما أن حبّ الله حاضر حتى في الجحيم، فالموت قد قُهر. أما بالنسبة إلى المنافق، فالله الذي لم يكن فيه خلال حياته لن يكون معه بعد موته، بل يزيل حتى صورته من ذكره. حيث لا اله فهناك العدم. وسيبيّن العهد الجديد أن محبّة الله ستلاحق الجميع، أشرارًا كانوا أم أخيارًا (مت 5: 45) وتطلبهم إلى أن تجدهم. ويعلمنا يسوع حياة الاتحاد بالله في مثل الابن الضال عندما قال (لو 15: 31): "يا بنيّ أنت معي دائمًا أبدًا وكل ما هو لي هو لك". وقال لنا: "طوبى لأطهار القلوب فإنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). وهذه الحياة مع الله لا تظهر منذ الآن، بل ستتحقّق في نهاية الأزمنة، ولا شيء يقف بوجه هذه الحياة فينا، لا الموت ولا الحياة، "لا الملائكة ولا السلاطين... لا شيء يستطيع أن يفصلنا عن محبّة الله التي هي حاضرة في سيدنا يسوع المسيح" (روم 8: 38).

5. انطلق المرتّل من مسألة تقلقه: نجاح الأشرار والضيق والشقاء على الأبرار. تشكّك المرتّل من هذه الحالة وكاد يسقط لو لم يؤكّد في بداية الكلام أن الله صالح. وهذا الشكّ يتمثّل في الاتجاه نحو الآلهة الوثنية التي تجازي خدَّامها أفضل من يهوه وأسرع منه. هؤلاء الوثنيون لا يعرفون قلقًا حتى موتهم. صحَّتهم جيدة ولا يحسّون بآلام البشر. فكأني بهم يفلتون من الوضع البشري ويحسبون أنهم مميّزون وحاملون كل سلطان. وبما أنهم محميون من الشقاء البشري فهم يعتبرون أن الآلهة اختارتهم ليسودوا على الجنس البشري. يظنون أن كل شيء مباح لهم فصاروا ميزان الخير والشر. لقد اشتروا بمالهم الذين هم في السماء والذين هم على الأرض. يمكنهم أن يجدّفوا ويفتروا. إنهم أغنياء، إنهم آلهة.
يصوّر المؤمن هؤلاء الأغنياء فيتألم في داخله. وبالأخص لأنه لا يرضى بتعزية عابرة تقول له إن نجاح الأشرار سراب. فلقد انتظر ولم ير شيئًا. فقال: لماذا أنا ثابت على أمانتي؟
وتعاوده المحنة كل يوم ويكاد يجحد إيمانه لو لم يفكّر أنه بهذا يخون ربه بل يخون اخوته المتألمين. كيف يترك جماعته؟ كيف يقدّم لها ذريعة لتستسلم إلى اليأس؟ وظلّ على هذه الحال إلى أن دخل معبد الرب ووقف أمامه وواجهه كما واجه أيوب ربه. ولكن ما الذي حدث في المعبد ليكتشف المرتّل فجأة مصير الأشرار ومصير المؤمنين؟ هل شارك في الليتورجيا؟ هل سمع كلام الكهنة؟ هل اتصل بمكان حضور الله فتوضَّح فيه يقين قديم ما كان يستطيع أن يبوح به لشدة الضيق والحزن؟ مهما يكن من أمر، تطلَّع المؤمن إلى يهوه سيّد كل شيء وسيّد الموت أيضًا.
الله يقود المؤمن ليأخذه معه وعلى خطاه كما فعل مع أخنوخ (تك 5: 24) وإيليا (2 مل 9: 10) وكما يفعل الآب مع ابنه الوحيد. هذا هو قصد الله النهائي الذي لا يقدر الإنسان أن يدركه: سيكون المرتّل مع الله وهذا يكفيه. قال المرتّل: من لي في السماء، فدلّ أنه لا يريد أحدًا غير الله في السماء وعلى الأرض. وزاد ارتياحه حين علم أنه ولا الموت يقدر أن يفصله عن الله. بعد هذا ماذا يهم وإن زال جسده، فحصته هي الله وهذا يكفيه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM