الربّ إله العهد

الربّ إله العهد
المزمور الحادي والثلاثون

1. المزمور الحادي والثلاثون هو مزمور ينشده المرتّل الذي يشعر بالضيق فيرفع صلاة واثقة إلى الرب. يتألّف من مزمورين متشابهين نجد في كل منهما الشكوى والصلاة وإعلان الثقة بالله وشكره له. القسم الأول (آ 2- 9) يعبّر عن ضيق نفساني كذلك الذي عاشه إرميا المضطهد من بني قومه. ويعبّر القسم الثاني (آ10- 25) عن ضيق جسدي كذلك الذي عاشه أيوب المبتلى بمرض البرص أو بمرض يشبهه. إرميا وأيوب نموذجان للألم، وهما عبرة لكل واحد منا إذا أراد أن يكون أمينًا لله ولكلمته ولوصاياه.

2. الرب اله العهد وهو ملجأنا، وفي يديه نسلّم أرواحنا.
آ 3- 7: توسّل كله ثقة بالله صخرتنا: يهرب المرتّل من الضيق ليحتمي بالرب.
آ 8- 9: يعد المرتّل بأنه سيقدّم إلى الرب أفعال الشكر: أفرحُ أبتهج برحمتك.
نجد في هذا القسم الأول عبارات مأخوذة من الكتاب المقدّس ردّدها المرتّل ووضع فيها حياة جديدة وروحًا جديدة، فعبّر عن الضيق الذي يخنقه. يأتي إلى الهيكل ليسأل النجاة ويعلن عن إيمانه بالله صخرته وملجأه، يؤكّد أنه من حزب الله: ابتعد عن عابدي الاصنام الباطلة، وأسلم روحه وحياته في يد الله الذي يرى مضايق محبّيه ويعيش معهم. وها هو ينشد نشيدًا يمجّد فيه إله الخلاص.
آ 10- 19: توسّل جديد يصوّر فيه المرتّل ألمه، فيرفع إلى الله صلاة واثقة يطلب فيها المعونة.
آ 20- 25: نشيد شكر لله الذي يحمي أصفياءه، ونداء إلى المجتمعين ليشاركوه نشيده.
في القسم الثاني من المزمور نرى مريضًا يتألّم ويئنّ من ضعفه. مرضه يجعل الناس ينفرون منه ويحسبونه كإنسان ميت. ابتعد عنه أعداؤه وشتمه أصحابه: كلّهم تركوه والرب وحده لم يتركه، بل اقترب منه وسمع صوت تضرعه عندما استغاث به. جعل المرتّل أيامه، أي حياته، بين يد الله التي تعطي الحياة، وأبعدها عن أيدي أعدادئه التي تعطي الموت. وكان له الخلاص، فذهب إلى الهيكل وقدّم الذبائح والنذور، ودعا جماعة المصلّين إلى أن يحبّوا الرب فلا يتشبهوا بالمتكبّرين.

3. نجد في هذا المزمور موضوعين: التشكّي والاستسلام إلى الرب. في الموضوع الأول يصوّر المرتّل حالته بصور معروفة: عيناه كلّتا، قواه اضمحلّت تحت وطأة الخطيئة، أعداؤه يطلبون حياته بعناد، أصحابه وجيرانه تركوه. فوصلت به الحالة إلى الشكّ بالله: خفت عندما فكرت أنني قُطعت من أمام عيني الرب. ولكن ما حدث لم يكن بالحسبان: سمع الرب صوت تضرع المرتّل ونجماه، فحدَّث المؤمنين بما عمله الرب له ليسندهم في ضيقهم: أحبّوا الله وترجّوه (97: 10).
الموضوع الثاني: نشيد الاستسلام إلى إرادة الله وسط عالم معاد: لأنك عملت ما عمله فأنا استودع روحي بين يديك. عليك توكلت الآن وفي المستقبل. ما أعمَّ جودتك. تباركت من أجل رحمتك. يتذكّر المرتّل الماضي، فيسلم حياته إلى الرب ويترك رفقة عابدي الاصنام الباطلة. الله وحده يخلّص حبيبه، الله وحده يخلّص شعبه الحال في المنفى. ولكن الله لا يزال هنا والمرتّل يحتاج إلى أن يصلي أيضًا ليشع عليه نور الرب.

4. هذا المزمور مهم بالنسبة إلى شعب العهد الجديد لأن يسوع ردّده يوم آلامه وقبل أن يسلم الروح (لو 23: 46) حين قال: "يا أبت في يديك استودع روحي". أما يكون يسوع قد أحبّ هذا المزمور وردّده مرارًا، علامة تقدمة ذاته الكاملة إلى الآب، فأعطاه عمقًا جديدًا وبُعدًا جديدًا. ونحن المؤمنين ننظر إلى القديس اسطفانس (أع 7: 59) الذي ردّد هذه العبارة نفسها، فنردّدها عند ساعة موتنا، أكان سببه اضطهاد قوى منظورة أو حرب قوى معادية يسميها العهد الجديد الخطيئة والموت والشيطان. وهكذا تصبح صلاة هذا المزمور في الضيق الذي يسبق الموت، صلاةَ المسيحي يردّدها متذكّرًا كلام القديس بولس في الرسالة الثانية إلى الكورنثيين (1: 3- 4): "تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح، الآب الرحيم وإله كل عزاء، فهو الذي يعزّينا في شدائدنا لنقدر نحن بالعزاء الذي نلناه من الله أن نعزّي سوانا في كل شدّة".

5. بعد أن أنشدنا هذا المزمور، أودّ قدر استطاعتي، أن ألج أسراره وأقولها لآذانكم وقلبكم.
نقرأ في رأس هذا المزمور: "للنهاية. داود لنفسه. اختطاف. للنهاية": إذا عرفنا المسيح نعرف ماذا يعني هذا الكلام. لقد كتب الرسول: "غاية الشريعة هي المسيح لتبرير جميع المؤمنين" (روم 10: 4). هي غاية لا تدمّر، بل تكمّل. فلفظة نهاية لها معنيان: إلغاء ما كان أو تكملة ما بدأوا يرسمونه. إذن، للنهاية، للغاية، تعني: للمسيح.
إذن، يتكلّم المسيح هنا بفم النبيّ. أجل، أتجرَّأ وأقول: المسيح هو الذي يتكلّم. فهو يقول في هذا المزمور أمورًا لا تليق إلاّ بالمسيح الذي هو الكامل، رأسنا والكلمة الذي كان في البدء إلهًا قرب الله. بل إن بعضًا من هذه الكلمات لا تليق بالله الذي أخذ في حشا العذراء صورة الخادم. ومع ذلك فالمسيح هو الذي يتكلّم، لأنّ المسيح هو في أعضاء المسيح. وإذا أردتم أن تعرفوا أن رأسه وجسده يكوّنان مسيحًا واحدًا، إسمعوا ما يقوله هو نفسه عن اتحادهما: "يكون الإثنان جسدًا واحدًا" (تك 2: 14). بعد الآن، لم يعودا اثنين بل جسد واحد.
هل تظنّون أنه يقول هذا القول عن أيّة وحدة كانت؟ لنسمع الرسول بولس: "يكون الاثنان جسدًا واحدًا. هذا السرّ عظيم. أقول بالنسبة إلى المسيح والكنيسة" (أف 5: 31). إذن، هو شخص واحد يتكوّن من إثنين، الرأس والجسد، العروس والعريس. ويحتفل أشعيا أيضًا بهذه الوحدة العجيبة والمتسامية لأنه يقول بفم المسيح في نبوءة: "مثل عريس أعطاني الله التاج. مثل عروس زيّنتني بالحلى" (أش 61: 10). هكذا يكون في الوقت عينه العروس والعريس، لأن الإثنين هما جسد واحد. فإذا كان الاثنان في جسد واحد، فلماذا لا يكونان إثنين في صوت واحد.
إذن، هو المسيح يتكلّم بهذه الصورة، لأن الكنيسة تتكلّم في المسيح، ولأن المسيح يتكلّم في الكنيسة، الجسد في الرأس، والرأس في الجسد. ويقول الرسول أيضًا: "كما أن الجسد واحد وإن تألّف من أعضاء كثيرة، وبما أن جميع أعضاء الجسد، رغم كثرتهم، لا يكوّنون إلاّ جسدًا واحدًا، هكذا هو المسيح" (1 كور 12: 12).
حين يتحدّث عن أعضاء المسيح، أي المؤمنين، فهو لا يقول: هذا ما نقول عن أعضاء المسيح. بل يتحدّث عن الكلّ الذي هو في نظره المسيح. "كما أن الجسد واحد وإن تألّف من أعضاء كثيرة...". أعضاء كثيرة وجسد واحد، هذا هو المسيح. فكلنا معًا نتّحد برأسنا. نحن المسيح. ولا قيمة لنا بدون رأسنا. مع رأسنا نحن الكرامة. بدون رأسنا (لا سمح الله) نحن أغصان مشتّتة، مقطوعة، لا تصلح إلاّ للنار.
"أنا الكرمة وأنتم الأغصان. أبي هو الكرّام. وبدوني لا تستطيعون شيئًا" (يو 15: 1). أجل يا رب. لا شيء بدونك. كل شيء معك. فكل ما يعمله بنا يكون وكأنّنا نحن عملناه. في الحقيقة هو يستطيع الكثير. يستطيع كل شيء بدوننا. أما نحن فلا نستطيع شيئًا بدونه.
إذن، مهما كان "الاختطاف" الذي يتحدّث عنه عنوان المزمور، أيكون عاطفة خوف أو "صعود" النفس، فالكلمات التي تلي تليق بالمسيح. بعد أن تكوّنا معًا في جسد المسيح، صرنا واحدًا لأننا معًا. لنقل معه: "عليك يا رب توكّلت، فلن أخزى". (أوغسطينس).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM