عظمة الله في الخلق والوحي

عظمة الله في الخلق والوحي
المزمور التاسع عشر

1. المزمور التاسع عشر هو مزمور حمد ومديح يُنشده المرتّل لله الذي خلق الكون وأعطى الشريعة لشعبه. فالإله الخالق هو ذاته الإله المخلّص، وكلّ ما تحسبه الشعوب المجاورة آلهة (الشمس وغيرها)، إنما هي مخلوقات تمجّد الخالق وتدعو الانسان إلى إنشاد الحمد لله.

2. عظمة الله في خلقه للكون، وفي وحيه بكلمته وشريعته.
آ 2- 7: الفلك ينشد مجد الله لا بالكلام، بل بالتحرّك المنظَّم والعمل الصامت.
آ 8- 11: يُنشد المرتّلُ الشريعةَ التي تُدير الخليقة وتوجّه قلب الانسان.
آ 12- 15: صلاة: يعد المرتّلُ بأنه سيعمل حسب هذه الشريعة.
في البيت الأول (آ 2- 3) يشخّص المرتّل السماء والأيام والليالي وكل الخليقة، ويدعوها لتشارك في إنشاد الله. في البيت الثاني (آ 4) يقول المرتّل إن السماوات والخليقة لا تتكلّم لغة البشر، ولكنّ لها لغتها الخاصّة التي بها تمجّد الله. فعلى الانسان أن يحلّ رموز هذه اللغة. في البيت الثالث (آ 5- 7) نقرأ صورة عن مسيرة الشمس ودورانها وهي كالعريس الخارج من غرفته للقاء عروسه أو كالعدَّاء الذي يريد أن يحوز الغلبة. لم تعُد الشمس إلهًا كما في الديانات الوثنيّة، بل صارت خادمًا للرب وشاهدًا له، وهي تقول للانسان: كما أن نور الشمس يغمرك، كذلك تحيط بك أعمال الله في العالم. ونسمع في القسم الثاني (آ 8- 11) أصوات مديح نفهمها لأنها أصوات البشر وهي تثني على الشريعة التي تنظّم علاقات الناس بالله، وعلاقات الناس بعضهم ببعض. كما أنها تمتدح رحمة الله التي أعطت البشر هذه الشريعة القويّة والوديعة، الثابتة والمفرحة. من حفظَ الشريعة حفظته ونجّته من كل خطر. ونقرأ في القسم الثالث (آ 12- 15) كيف أن المؤمن أخذ على نفسه أنه سيعمل بحسب الشريعة ليرضى الله عنه. وهكذا تتكوّن بالشريعة علاقة شخصيّة بين الله والانسان. الله حاضر دائمًا، أما الانسان فلا يحضر دائمًا. من هنا كانت صلاته رجوعًا دائمًا إلى الرب، وإقرارًا بخطيئة، وطلبًا لمغفرة، ووعدًا بأن تكون كلماته وعواطفه متّجهة إلى الله.

3. تبدو عظمة الله كنور برق ينعكس في قبّة الماء وعبر الأفلاك التي هي مخلوقات الله النورانية. كما أن الانسان يمجّد الله، هكذا تفعل الخلائق. تمجيدُ الانسان يُسمع، وتمجيدُ الخلائق يُرى. وفي مقدّمة هذه الخلائق تبدو الشمس بنورها، وهي ترمز إلى الشريعة التي تعطي الانسان النور والحياة والسعادة والخلاص.
تبدو الشريعة في هذا المزمور نورًا وخلاصًا، لأنها تُعلن وصايا الله في نقاوتها: توجّهُ الانسان دون أن تخنقه، وتربِّية تربية تقوده إلى الرب. اسمها شريعة الربّ، إرشاد الربّ، أمر الربّ.... وهي تعبير عن اهتمام الرب بالانسان فينجِّيه من الخطيئة والموت، ويدلّه على طريق الحياة. عندما يردّد الانسان الشريعة في قلبه تُصبح جزءًا من حياته، وتُدخله في حوار مع الله، وتكون له نورًا في طريقه، وغذاء لحياته.

4. كان المسيح يرى يَد الله تُدير الكون. رآها تشرق كالشمس على الأبرار والأشرار (مت 5: 45)، وتطعم عصافير السماء وتكسي أزهار الحقل (مت 6: 26- 30). وقال لنا القديس بولس (روم 1: 20): "إن قدرة الله وألوهيته تدركها العقول واضحة جليّة في مخلوقاته". والكنيسة عندما تنشد الله الخالق، تشرك صلاتها في صلاة الذي به خُلق كل شيء، والذي هو المخلّص والبكر الذي قام من بين الأموات، وقد شاء الله أن يصالح به كل شيء في الأرض كما في السماوات (رج كو 1: 18- 19).

5. الله الخالق والفادي
يصوّر هذا المزمور الربّ الله في وجهتين: هو الخالق الذي يُحسّ به الوثنيّ إلهًا دون أن يدركه، هو الفادي الذي يعطي شعبه المختار العهد والشريعة ويكشف له حقًا عن ذاته. ونحن سنفهم خبرة الاله الخالق على ضوء خبرة الله الفادي، ونقرأ الفصول الأولى من سفر التكوين على ضوء دعوة الله لابراهيم، بل على ضوء الخروج من مصر.
في المقطع الأول نرى السماوات والأيام والليالي، بل كل الخليقة وكأنها شخص حي تخدم الله وتعبده وتنشد مدائحه. الخليقة تتكلّم عن الاله الذي عرفته كلُّ شعوب الشرق. أما الشريعة فتتكلّم عن يهوه. الخليقة لا تعرف إلاّ اللاهوت، أما شعب اسرائيل فيعرف اسم الله، فيعرف شخص الله. ولكن يبقى أن الخليقة كلّها تقوم بليتورجيا عظيمة يتردّد صداها من يوم إلى يوم ومن ليل إلى ليل. الخليقة تمدح الخالق، الخليقة تروي أمجاد الخالق. قال القديس بولس: "إن قدرة الله الأزليّة وألوهيّته ظاهرة للبصائر في مخلوقاته" (روم 1: 20). فوبّخ الانسان الذي نقصته حكمة تحلّت بها الخليقة، فما مجَّد مثلها خالقَه، بل راح يعبد المخلوقات، بل يعبد ما صنعت يداه (أش 44: 9 ي). ونلاحظ أن هذا النشيد الشامل يُبرز مجدَ الله وعمله ولا يُبرز نعمته. فالانسان يتعجّب ويسجد، ولكنه لا يقدر أن يحب. لا حوار بين الله الخالق والانسان المخلوق. فالانسان مشاهد وليس بشريك.
والشاعر يحسّ بهذا النشيد الكونيّ، ولكنه لا يقدر أن يحيط به. هو يعرف أن هذا النشيد موجود، ولكنه لا يقدر أن يصوّره. إذا كانت الكواكب تُنشد مجدَ الله، إذا كانت الخلائق تحدّث بقدرة الله، إلاّ أن هناك خلائق تنشد أيضًا، ونشيدها مسموع لأنه نشيد بشريّ. ولكن موضوع النشيد يتبدّل، وما يمتدحه المرتّل هو الشريعة أي العهد الذي به يعطي الله الانسان قاعدة قوية ووادعة، ثابتة ومفرحة. لهذا فبنو اسرائيل الذين انشدوا نعمة الهيكل قد انشدوا أيضًا نعمة الشريعة. فبالشريعة يصبح الانسان شريك الله. ومع الشريعة يبدأ حوار بين الله وخليقته. أيكون هذا الحوار صعبًا؟ الأمر لا يهمّ. المهمّ أن الحوار موجود، فلا يبقى فيه الانسان على مستوى الدهشة والاعجاب، بل ينتقل إلى مستوى المسؤولية. لم يَعُد الله فقط ذلك الذي يسمع، بل ذلك الذي يجيب ويتجاوب.
هنا نفهم الفرق بين إله الخلق وإله الفداء، بين إيل ويهوه، بين إله العهد وإله الطبيعة. فإيل يوصل إلى يهوه، ونظرتنا إلى الطبيعة تقودنا إلى سيّد الطبيعة. وإله العهد والله الفادي لشعب من الشعوب، يعرّفنا على الاله الفادي لكل الشعوب، لأنه خلق كل شعب فلم يَعُد لأحد عذر إن لم يعرفه ويمجّده ويشكره كما ينبغي (روم 1: 21).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM