المؤمن في عالم فاسد

المؤمن في عالم فاسد
المزمور الرابع عشر

1. المزمور الرابع عشر هو مزمور توسّل يشكو فيه المرتّل من الضيق الذي يتعرّض له شعبه في بابل. يُنشده كالانبياء الذين يهدّدون شعب الله والشعوب الوثنيّة: تحيكون المكائد على البائس، ولكنكم ستخزون، لأن الله ملجأ له. وهو مزمور تأثَّر بمعلمي الحكمة، فنبَّه العظماء المتساهلين إلى أنه ليس من مشاركة بين ابن بابل الجاهل (في العبرانية نابل) وبين أبناء شعب الله، بين إيمان اليهود وإيمان البابليّين.

2. الله يعاقب الكافرين "الجهّال" على فسادهم، ويخلّص البائسين.
آ 1- 4: الشكوى: يصوّر المرتّل فساد البشر وجنونهم، لأنهم لا يطلبون الله. ليس من يصنع الصلاح.
آ 5- 6: إعلان وتأكيد: إن دينونة الله وعقابه لا يتأخّران.
آ 7: سيتدخّل الله من أجل مدينته وشعبه، ليعطب الخلاص لبني إسرائيل.
قال البابليّون: أين هو إله إسرائيل؟ زال الهيكل، فلم يعد شيء يدلّ على حضور الله. فكان جواب العبرانيين: البابليون جهلة ضالّون، وسيكون عقاب الله على ذنوبهم قاسيًا إن هم ظلّوا متعلّقين بالسحر والعرافة، إن لم يلجأوا إلى إله إسرائيل. نظر الربّ من السماء إلى البابليّين، كما نظر قديمًا إلى الناس الذين كانوا يبنون برج بابل (تك 11)، فاستعدّ لمعاقبتهم عندما رأى أنه لم يجد فهيمًا واحدًا يعمل إرادة الله: ليس من يصنع الصلاح ولا واحد. يسومون شعبي العذاب والضيق. وسوف يأتي عليهم القصاص (آ 5- 6)، لأنهم استهانوا بشعب الله ورفضوا أن يصدّقوا أن الربّ يسكن وسط أحبّائه الذين يجدون فيه الملجأ الوطيد: من هاجم هذا الشعب هاجم الله. وكما نظر الله بغضب إلى بابل، ها هو ينظر من أعلى سمائه بعطف إلى صهيون، ليرسل إليها من يخلّصها ويجعل شعبها ينعم بالبهجة والفرق.

3. كان الكثيرون في إسرائيل يعيشون عيشًا وتنيًا كالبشريّة في عهد نوح (تك 6: 3). لم ينكروا وجود الله، ولكنهم رفضوا عهده، وتخلّوا عن وصاياه، وقالوا: "لا يأتي الربّ بخير ولا بشرّ" (صف 1: 12). عاملوا الله وكأنه غير موجود، أو كأنه كائن ضعيف، وعاملوا القريب معاملة قاسية، فأكلوا لحوم شعبه، وسلخوا جلودهم عنهم، وهشّموا عظامهم كما في القدر وكاللحم في وسط المقلى (مي 3: 3). لكن الله سيدينهم ويعاقبهم، فيقعون في الفخاخ التي وضعوها للقريب (35: 4- 5). من هم هؤلاء الظالمون؟ هم بالدرجة الأولى البابليّون الذين يسخّرون شعب الله المسبيّ، وهم أيضًا عظماء شعب إسرائيل الذين يستغلّون البؤساء والضعفاء.

4. عندما ننشد هذا المزمور نتذكّر ما قاله يسوع عن العالم، ونعرف أن روح العالم هو فينا وبيننا، كما كان في شعب الله، وأن الشر لا يوجد فقط في أعداء شعب الله، بل هو داخل شعب الله وداخل قلوبنا. أما قال يسوع إنه من الداخل، من قلوب البشر تخرج الأفكار الشريرة: الفسق والسرقة والقتل... (مر 7: 21)؟ أما ذكرَ القديس بولس في الرسالة إلى الرومانيين (3: 9 ي) أن اليهود هم جهلة كالوثنيّين، وأنهم جميعَهم خاضعون لسلطان الخطيئة. فالحدّ الفاصل بين الجاهل والحكيم، بين الوثنيّين وشعب الله، يكمن في العمل بموجب الشريعة. فاليهودي يمكنه أن يكون وثنيًا في حياته، فيحلّ عليه غضب الله بسبب مضايقة قريبه. والوثني يمكنه أن يكون يهوديًا، إن عرف الله ومجَّده وشكره كإله (رج روم 1: 21). مثلُ هذا الوثني له شريعة مكتوبة في قلبه يعمل بها فيشهد له ضميره (رج روم 2: 14- 15). أما اليهود فيقول عنهم الكتاب: "بسببكم يجدَّف على اسم الله بين الأمم".

5. المؤمنون والوثنيون
نقرأ في آ 7: حين يردّ الربّ شعبه من السبي...
نحن هنا أمام تعارض بين المنفيّين والوثنيّين، بين الشعب المختار والشعب الذي يستعبده. هذه هي ردّة الفعل عند المؤمن أمام هؤلاء البابليّين الذين لا يدعُون اسم الرب، ويستغلّون شعب الله كما استغله المصرّيون في الماضي.
أما المرتّل فيردّ على هذا القول، ليجنّب أبناء شعبه قولاً يعتبر البابليّين هم أيضًا أبناء ديانة من الديانات: فلا مشاركة ولا توافق بين المؤمن والوثنيّ، ولا تعاهد ممكنًا بين شعب الله وهذا الشعب الغريب. فالبابليّون ليسوا فقط الأعداء، بل إن ديانتهم المملوءة بالأساطير وأعمال السحر لا تجد رضى عند بني إسرائيل. هم لا يعبدون فقط الآلهة المتعدّدة، بل يعبدون الباطل. ولقد حاولوا أن يتطاولوا على الله منذ القديم، منذ حاولوا أن يبنوا ذاك البرج المرتفع ليصلوا به إلى السماء (تك 11: 1 ي). ولكنّهم تعلّموا منذ ذلك الوقت أن عملهم كان جنونًا، فأضاعوا وقتهم بل حياتهم في كبرياء لا فائدة منها.
يقول البابليّون: يهوه الرب غير موجود. ولقد وجدوا برهانًا على كلامهم حين اقتادوا بني إسرائيل على طريق المنفى ولم يدافع عنهم أحد. ثم إنهم حين دخلوا هيكل أورشليم ليسلبوه لم يجدوا إلاّ الفراغ. أين إله شعب إسرائيل، والبابليّون لم يروا شيئًا في الهيكل؟ أما يكون الإسرائيليّ مُلحدًا وناكرًا لوجود الله؟
هنا يردّ المرتّل على هؤلاء الجهّال، ويبيّن لهم أن عباداتهم تقودهم إلى الاستغناء عن الآلهة التي يعتبرون أنهم يتعبّدون لها. هم يريدون أن يضعوا أيديهم على الإله ويستخدموه، بل أن يُحلّوا محلّه شيئًا آخر. أما كلَّمت الحيةُ آدم وحواء في البدء، ودعتهما إلى أن يصيرا آلهة (تك 3: 5)؟
على كل حال سيكون إله شعب إسرائيل ذلك الإله غير المنظور، وسيظلّ خفيًا إلى يوم التجسّد: الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا فأبصرنا مجده (يو 1: 14).

6. ما من بار ولا واحد
استعمل القديس بولس المزمور 14 حين قال في الرسالة إلى أهل رومة (3: 10- 12): "فقد ورد في الكتاب: ما من بار ولا واحد، وما من أحد يدرك، ما من أحد يبتغي وجه الله. ضلّوا جميعًا ففسدوا معًا. ما من أحد يعمل الصالحات، لا أحد".
يورد القديس بولس هذا المزمور في خاتمة برهان يبيّن أن الخطيئة شملت جميع البشر فأخطأوا كلهم. لهذا جعل الوثنيين واليهود معًا، مستعينًا بهذا المزمور الذي يشجب الانسان المُشرك الذي يستخدم الله ولا يخدمه، الذي يسعى لأن يخلّص نفسه بنفسه ولا يطلب الله. هذا ما يلوم به بولس اليهود. فقد صاروا ملحدين مع الشريعة واعتبروا أنهم بسبب أخلاقهم ودينهم، لم يعودوا يحتاجون إلى الله. هم لا يبحثون عن شيء، هم لا ينتظرون شيئًا. وهكذا لم يعد من محلّ في قلوبهم لله ولنعمته. لقد صارت الشريعة كالممارسة السحريّة. فَبِها يحسب اليهوديّ أن كل شيء بأمره، وأنه يستطيع أن يحصل على ما يريد.
الفسادُ شملَ البشريّة كله. هذا ما يقوله القديس بولس ليصل بنا إلى القول إن الخلاص شمل أيضًا البشريّة كلها. غير أن الفساد الذي يتحدّث عنه إنما يتحدّث على المستوى الدينيّ لا على المستوى الخُلقيّ. فحين يتحدّث الانسان عن الله ويتصوّره، يصبح خاطئًا في نظر الله. هو لا ينتظر في التواضع أن يكشف الله عن نفسه له. كل شيء يحدّثنا عن الله، ولكن كل محاولة تسعى لكي تمثّله بشكل عصفور أو حيوان داب، هي خطأ فادح. أما خطيئة الانسان فهي أن لا يقبل بوضعه ويقول: لا أعرف الله ولن أعرفه وحدي. خطأه الكبير يقوم بأن يعلن أن الخليقة هي الخالق

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM