صلاة الثقة والاتكال

صلاة الثقة والاتكال
المزمور الثالث عشر

1. المزمور الثالث عشر هو مزمور توسّل ينشده أحد أتقياء الله ليشكو أمره إلى الرب. يتطلّع إليه بثقة ويعده بأن يقدّم إليه ذبائح الشكر: أرنّم للربّ لأنه أظهر رحمته لي. يتألّم المرتّل وسط أعدائه دون أن يذكر سببًا لألمه. ويتألّم خصوصًا لأن موته سيجعل مضايقيه يتأكّدون أن الحقّ بجانبهم، وأن المرتّل انسان خاطئ لأنه ضعيف. أيكون الله مع الاقوياء؟

2. صلاة الثقة الحارّة على أبواب الموت.
آ 2- 4: يشكو إلى الله أمره ويسأله: إلى متى يا رب؟
آ 5- 6: توسّل وصلاة: أنر عينيّ، إحفظ حياتي، فقد توكّلت على رحمتك.
يتساءل المرتّل أربع مرات: إلى متّى يا رب، إلى متى؟ وهذا يعني أنه قاسى محنة طويلة حتى نفد صبره من الانتظار. وهو يعاتب الرب: كيف ينساه (9: 13)، ويُخفي وجهه عنه (51: 11)، ويتظاهر وكأنه لا يراه؟ ولكن الله ليس الإله البعيد، بل هو الإله القريب من أحبّائه: أنظر إليّ، أعطني جوابًا عن سؤالي، أنر عينيّ، أي أعطني الحياة (أي 17: 5- 7) الجسديّة والروحيّة، فلا أكون في ظلمة الموت، وأنام نومة لا أستيقظ منها (75: 6؛ 89: 5؛ إر 5: 39؛ أي 14: 12).

3. صرخة المرتّل "إلى متى يا رب"، هي نقطة التقاء بين شعورين متضاربين في الظاهر: شعور بضيق شديد يحسّ به المرتّل، وشعور بثقة عجيبة تلج أعماق قلبه. إن ألم المرتّل عميق بعد أن نساه الله مدّة طويلة. إنتظر دون تأفّف، ورفع الصلاة تلو الصلاة حين أحسّ أنه وصل إلى حافة القبر ونومة الموت. ولهذا كانت صرخته، لا صرخة يأس، بل صرخة انسان ينتظر خلاص الرب، وكله ثقة بأن هذا الخلاص صار قريبًا لأن الله يهتمّ بحياة محبيه فلا يدع أحدًا يهدّد حياتهم: أية فائدة للرب من موت الانسان الذي لا يقدر أن يسبّح الله وهو في الجحيم؟ موتُ الانسان خسارة لله، وموضوع شماتة للأعداء. يقول عدوّي: قويتُ عليه، ويبتهج مُضايقيّ إذا زللت.
ويصرخ المؤمن صرخة ثقة تنبع من الضيق الحاضر، فيقول للرب ماذا يجب أن يعمل لئلا يشمت العدّو بمن جعل نفسه حصّة الله. يقول العدو: الله لا يسمع، وإن سمع فلا يقدر. ويقول المؤمن: ولكن هذا مستحيل. عندئذ ينقلب الضيق في قلب المرتّل إلى راحة، والقلق إلى يقين، والشكّ إلى ثقة كاملة برحمة الله، والحزن إلى ابتهاج: توكّلت على رحمتك، وابتهجت بخلاصك.

4. كانت أحاديث يسوع مع أبيه وصلواته إليه نابعة من حياته. قال في بستان الزيتون: "يا أبي إذا كان لا يمكن، فلتكن مشيئتك" (مت 26: 42). وعلى الصليب: "إلهي إلهي لماذا تركتني" (مت 27: 46). "وفي أيام حياته البشريّة رفع الصلوات والتضرعات بصراخ شديد ودموع إلى الله القادر أن يخلّصه من الموت فاستجاب له لتقواه" (عب 5: 7). مات ودُفن، لكنه لم يُدم طويلاً في القبر، بل صار صلبه نصرًا وموته غلبة (كو 2: 14- 15؛ 1 كور 15: 20).
وتطرح الكنيسة السؤال الذي يطرحه المرتّل: إلى متى يا ربّ تنتظر لتُظهر رحمتك؟ إلى متى أيّها السيّد الحقّ القدوس، لا تدين سكّان الأرض (رؤ 6: 10)، فيلبس شهداؤك الحلل البيضاء علامة الانتصار والظفر، وتبدو كنيستك في بهاء العروس النازلة من السماء من عند الله (رؤ 21: 10- 11)؟

5. متى كتبت المزامير التي تحكي عن محنة يعيشها المرتّل
هناك نظرتان: نظرة أولى تعتبر أن المزمور كُتب بعد أن عبرت المحنة ونجا المؤمن من الضيق. ولكن هذا يعني أن المرتّل لم يصلِّ خلال المحنة. ولكن كل شيء يبيّن لنا أن الصلاة التي يقدّمها لنا المؤمن، هي التي قالها في وقت الضيق. هو لم يكتبها في ذلك الوقت، ولكنه ردّدها خلال المحنة وأعلنها ساعة النجاة مرفقًا إياها بنشيد الشكر.
نظرة ثانية تعتبر أن المرتّل يأتي الهيكل وهو في عزّ المحنة، فيصلّي أمام الكاهن. حينئذ يعده الكاهن بالخلاص عبر الكلمات أو الحركات الطقسيّة. هو يسبّق على الأحداث ليملأ قلب المؤمن ثقة بربه. ولكن هذا التسبيق هو في نظر المرتّل عمل الله نفسه، وباكورة الخلاص التامّ. لهذا فهو يستشفّ قبل الوقت خلاصه، ويطلق نشيدًا يمتدح فيه ربّه. هو لم يحصل بعدُ على الخلاص الكامل، ولكنه دخل في بداية مسيرة الخلاص، وهو متأكّد أنه يصل إلى نهايتها: ما رضيتَ أن تعمله يا ربّ، فلتكمّله يدُك ولا تملّ. هذا ما يقوله أحد المزامير. ويزيد القديس بولس في رسالته إلى أهل فيليبي (1: 6): "ذاك الذي بدأ هذا العمل الصالح، سيسير في إتمامه إلى يوم المسيح يسوع"، إلى يوم مجيء المسيح ظافرًا ليدين الناس قاطبة.

6. ليست نعمةٌ صغيرة أن نحسّ بنسيان الله. فهذا النسيان ليس في الله شعورًا نفسيًا، بل تخلٍّ بسيط. غير أن عددًا كبيرًا من الذين هم موضوع هذا التخلّي يجهلونه ولا يهتّمون بالتحسّر عليه.
أما الملك النبيّ فلم يكتف بأن يعرفه، بل حسب حساب طوله. فكلماته "إلى متى" تدلّ على نفس تشعر بطول محنتها، فيُنتزع منها البكاء والتنهّد. تأمّلوا هنا سبب الاهتمام الكبير لدى القديس: هو لا يهتمّ بأمور الأرض، ولا بالغنى، ولا بالمجد، بل برضى الله وصداقته وحسب. وكيف لاحظ أن الله نسيه؟ لأنه عرف الأوقات التي فيها ذكره الله، كما عرف كل المعرفة ما معنى أن نُنسى لدى الله أو نكون حاضرين أمام "ذاكرته"...
"إلى متى تميل بوجهك عني"؟ هو النسيان في أعلى درجاته. لجأ الملك النبيّ إلى لغة الاستعارة ليدلّ على عمل الله، على غضبه وانتقامه. فالله يميل بوجهه عنّا حين تكون أعمالنا معارضة لوصاياه. لقد قال بواسطة نبيّه: "حين تبسطون أيديكم إليّ، أحجب عينيّ عنكم". ويعطي السبب: "لأن أيديكم مملوءة من الدماء" (أش 1: 15). فهذا التخلّي من قبل الله، هذا "الكره" تجاهنا، هو برهان عن عنايته واهتمامه. لأنه لا يتصرّف هكذا إلاّ ليجتذبنا إليه اجتذابًا أقوى. فالذي يسيطر عليه هوى عنيف، يبتعد بعض المرات عن الشخص الذي يحبّ ولكنه يحتقر حبّه له: هذا لا يعني أنه لم يعد موضوع مودّته، ولكنه يريد بهذه الطريقة أن يعيده إليه، ويربطه برباطات أوثق.
فبعد أن تشكّى داود من بُعد الله هذا، عرّفنا إلى نتائج هذا النسيان بالنسبة إليه: "إلى متى تملأ نفسي من الغصّة"؟ كما أن الذي خرج من المرفأ يتيه في كل جهة، كذلك الذي حُرم من النور فهو يرتطم بجميع الحواجز. وهكذا أيضًا ذاك الذي نساه الله. فهو دومًا فريسة الهمّ والقلق والعذاب.
أما أنا فجعلت رجائي في رحمتك. أية أعمال صالحة تحملها كسند لصلواتك لكي يتنازل الله أيضًا وينظر إليك، لكي يستجيب طلبك، لكي ينير عينيّ عقلك؟ ما هي مستنداتك؟ قد يتحدّث الآخرون عن "بواعث"... أما أنا ففيك وضعت رجائي، وما لجأتُ إلاّ إلى لطفك ورحمتك. "لقد رجوت رحمتك".
أنظروا إلى تواضع هذا الملك القديس وسموّ عواطفه. كان باستطاعته أن يشير إلى عدد كبير من الأعمال الصالحة لينال مات الله استجابة صلاته. ولكنه لم يذكرها، بل اكتفى بأن يذكر رحمة (الله). ونحن نسمعه يقول في مزمور آخر: "إذا كنت صنعت هذا، إذا كنت رددت على الخير بالشرّ" (7: 4- 5). فالضرورة تدفعه إلى هذا القول. ولكنه في ظرف آخر، يسكت عن فضائله، ولا يؤسّس نجاح صلواته إلاّ على نطف الله ورحمته. وإذ كان واثقًا كل الثقة بأن رجاءه لا يخيب، زاد: "سيمتلئ قلبي فرحًا بما تمنحني من خلاص". (يوحنا فم الذهب).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM