الله ملجأ البائس

الله ملجأ البائس
المزمور الحادي عشر

1. المزمور الحادي عشر هو مزمور توسّل ينشده المرتّل طالبًا عون الأبرار على الأشرار. وهو نشيد ثقة يهدف إلى إعطاء تعليم وعبرة للحاضرين: لا حماية للمؤمن عند الناس، لأن لا ملجأ له إلاّ في الهيكل، مكان حضور الرب.
2. الله ملجأ البائس والمسكين، وبقربه يحسّ الإنسان بالطمأنينة.
آ 1- 3: يتشكّى المرتّل من مكايد الأشرار، فينصحه أصحابه بالهرب.
آ 4- 7: يعلن المرتّل ثقته بالله العادل الذي ينظر إلى الأشرار من علوّ سمائه فيعاقبهم.
الآية الأولى من المزمور تلخّص المزمور كله، إذ هي بمثابة فعل إيمان أمام أصدقاء المرتّل الذي ينصحونه بالهرب كالعصفور (مز 55: 7؛ 9: 10) إلى منطقة جبليّة تحتوي على مغاور تساعده على الاختفاء عن أعين الاعداء. والآية الثانية تعطينا صورة عن الخطر المحدق بالمرتّل (القوس- السهم). ونجد في الآية الثالثة فكرة عن الفوضى الضاربة في المجتمع بسبب غياب المسؤولين. في هذه الحالة الخطيرة، يرفض المرتّل نصائح الاصدقاء، ويعلن إيمانه بإله صهيون وإله السماء الجالس فوق الكون كله. بعد أن اختبر كلّ الناس، رأى أن حظّ الأشرار هو النار والكبريت كما على سادوم وعامورة (تك 19: 24) أو على جوج ورفاقه (حز 38: 24). وأنهم سيُدانون فيشربون كأس ريح السموم الشرقية: أما الأبرار، فوجه الرب إليهم، وهم يتأمّلون وجهه فيستنيرون بنوره ويتمتّعون ببركاته.

3. نقرأ في هذا المزمور فعل إيمان المرتّل بالهيكل وبالله الحاضر في الهيكل (1 مل 2: 28- 35): الله يسكن في هيكله المقدّس، وهو قريب من البشر. الله عرشه في السماء وهو بعيد عن الناس. قال التقليد اليهوهي: إن الله يأتي إلى الأرض ويعيش مع البشر ويأكل معهم (تك 3: 8؛ خر 24: 9- 11). ورفض التقليدُ الالوهيمي القول إن الله يسكن بيتًا صنعته أيدي البشر. وجاء التقليد الكهنوتي، فجمع غنى التقليدين السابقين، فقال: الله هو في السماء، وسماء السماء لا تسعه. والله هو أيضًا في هيكله المقدّس وبين شعبه. فالمؤمن الذي يريد أن يلتقي اله السماء والأرض، يذهب إلى الهيكل وهناك يراه. لا حلوليّة أو نظرة تشبيهيّة تجعل الله انسانًا من الناس (كما في التقليد اليهوهي). ولا روحانيّة مشوَّهة تجعل الله بعيدًا كل البعد عن الانسان (كما في التقليد الالوهيمي)، بل نظرة متوازنة تتجاوب ورغبة الانسان الذي يحتاج إلى إله في السماء قويّ يعلو فوق مدارك البشر، وإلى إله في الهيكل نعرف أين نجده ونسمع كلامه وندخل في مخطّطه التاريخي من أجلنا.
4. كان يسوع قد دعانا لأن نعلن إيماننا بدون خوف. غير أنه هرب يومًا من اليهود لأن ساعته لم تكن جاءت بعد (يو 7: 30). ولكن عندما جاءت ساعته، لم يقبل بنصيحة بطرس التي تدعوه إلى رفض الألم والموت (مر 8: 23)، بل توسّل القوّة من أبيه لكي يجابه مصيره (يو 16: 32) ويقبل كل شيء من يد الآب (يو 19: 11) فكان له أن يجلس على عرش القداسة فوق الملائكة الذين ينشدون مجده أبد الدهر. والكنيسة التي تبرّرتْ بدم مخلّصها في صراعها مع الشيطان، تعرف أنها ستنظر وجه الله وتتمتّع به مع كل أبنائها الذين عانوا في أجسادهم آلام المسيح وموته.

5. الاعتصام والحماية
هذا هو موقف المؤمن الذي يلتجئ إلى الهيكل ليحتمي بالرب. كان القاتل الذي لم يتعمّد القتل، يلتجئ إلى مدينة عيّنها الله (خر 21: 13) أو إلى الهيكل كما فعل أدونيّا لما هرب من وجه سليمان الملك (1 مل 1: 50؛ رج 2: 28- 30). يطلب الانسان حمى الله القدير، ويسلّم نفسه إلى عدالته. ذاك كان مضمون صلاة سليمان يوم دشّن الهيكل: "إذا أساء أحد وأتى ليحلف أمام مذبحك في هذا الهيكل، فاسمع أنت من السماء، وكُن بين عبيدك قاضيًا يحكم على الشرّير ويبرّئ البار" (1 مل 8: 31- 32). حينئذ نستطيع أن نهنّئ الذين احتموا عند الرب (2: 11)، لأنهم سيجدون عنده الخلاص (7: 2). يظلّلهم فيهلّلون له (5: 12)، ويحفظهم فيعلنون له: أنت ربّنا (16: 1).
إذًا تكون الحماية في مكان محدّد، في خيمة الرب، أو تحت ستر جناحه (61: 5) فيظلّلهم بريشه (91: 4). ولكن نلاحظ ميلاً إلى المعنى الروحي وإلى الموقف الداخلي. فحين يحتمي الانسان بالرب، فكأنه يطلب منه أن ينقذه ويحفظه (25: 20). فمن احتمى بالربّ، يستطيع أن يتذوّق صلاحه ورحمته (34: 9). في هذا الخطّ نفهم كيف أن السبعينيّة ترجمت الفعل العبري: ترجَّى، وثق، اتكل. وكذا فعلت الارامية فسمت الاعتصام استنادًا إلى كلمة الله وتوكلاً عليها.

6. اتكلت على الله، فلماذا تقولون لي: "أهربي يا نفسي كالعصفور إلى الجبل". ونجد في ترجمة أخرى: "انتقل إلى الجبل مثل العصفور". وترجمة ثالثة: "بدّل مكانك".
"لأن الأشرار يحنون القسيّ، وقد هيّأوا سهامهم في جعبتهم ليضربوا في الظلمة "أصحاب القلوب المستقيمة". وحسب ترجمة أخرى: "كما في الظلمة".
"لأنهم دمّروا كل ما صنعته باتقان". وحسب ترجمة أخرى: "لأن النواميس قد انقلبت". وترجم مفسّر آخر: "لأن تعاليم الحقيقة قد ديست بالأرجل". كم هي عظيمة قوّة الرجاء بالله. إنها حصن لا يؤخذ، وسور لا يُقهر، وعون قوّي، وميناء هادئ... وقوّة فوق الطبيعة تؤمّن لنا مخرجًا سهلاً وسط أعظم الأخطار. بها أنتصر أناس بلا سلاح، على أعداء مدجّجين بالسلاح...
"الرب يقيم في هيكله المقدّس. عرش الربّ هو في السماء". ترون كيف يعرّفنا بإيجاز إلى العون الذي ينتظره. تسألون: ماذا فعل البار؟ طلب ملجأ في الله الذي هو في السماوات ويملأ بوسعه كل شيء. هو لم يحن قوسه مثل خصمه. هو لم يهيّئ جعبته على مثاله، ولم يُعدّ في السرّ وسائل الهجوم. فأسلحته الوحيدة ضد جميع أعدائه كانت الثقة بالله. جعل أمام هذه الاسلحة ذاك الذي لا يحتاج إلى أيّ من هذه الوسائل الدفاعيّة... بل يفعل كل شيء بإشارة من مشيئته. انظروا بأي سهولة يقدّم الله لنا سنده الذي لا يُقهر.
"عيناه تهتمان بالنظر إلى الفقير، وجفناه يسألان بني البشر. الرب يدين البار والشرّير. وهكذا من يحبّ الاثم يكره نفسه". ويقول مترجم آخر: "الرب يتفحّص بعناية". وآخر: "يمتحن البار والشرير، فتمقت نفسُه ذاك الذي يحبّ الجور". وآخرون في النهاية: "ذاك الذي يحبّ الجور يبغض نفسه".
انظروا كم يستعدّ الله دومًا للاسراع إلى معونتكم وللتعجيل في الدفاع عنكم. هكذا يملأ كل شيء بحضوره. هكذا يرى، هكذا ينظر إلى كل شيء. وعمله الذي يحبّه، وإن لم نصلِّ إليه، هو أن يمدَّ عنايته إلى البشر ويهتمّ بهم، أن يوقف مجهود الظلم ويعين ضحاياه، أن يجازي فضيلة هؤلاء ويعاقب إثم أولئك. إذن، لا يستطيع شيء أن يفلت منه، ووسع نظراته يضمّ الأرض كلها. وهو لا يكتفي بأن ينظر إلى الشرّ بل يريد أن يصلحه. هذا ما يعبّر عنه مفسّر آخر فيسميه: "الرب العادل". فإن كان عادلاً فهو لا يستطيع أن ينظر بلامبالاة إلى الشرّ الذي يُقترف أمام ناظريه. فهو حقًا يمقت الأشرار ويوافق على سلوك الأبرار. (يوحنا فم الذهب).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM