السعادة الحقيقيّة

السعادة الحقيقيّة
المزمور الأول

1. المزمور الأول هو مزمور تعليميّ أنشده أحد معلمي الحكمة الذي يعتبر وحي الله ينبوع نعمة للمؤمنين. مزمور لا عنوان له، ويعتبره المفسّرون والآباء مدخلاً إلى المزامير وبداية بشرى حسنة تدعو الناس إلى السعادة مع الرب.

2. البار ينجح في طريقه والمنافق يفشل وشرير إلى الهلاك.
آ 1- 3: من يعيش بحسب الشريعة، يكون مصيرُه مصير شجرة تعيش قرب المياه فتبقى خضراء.
آ 4- 6: مصير المنافقين إلى الهلاك يوم الدين.
رغبة الانسان العميقة هي رغبة في السعادة: يصوّر لنا المزمور الأول رجلين، واحد كوَّن سعادته بحسب رغبته. وآخر وجد السعادة في الربّ، فقال فيه المزمور: طوبى للرجل، هنيئًا للرجل. فكانت له بركة الربّ التي هي حقيقة في الحاضر ووعد في المستقبل. بثلاث كلمات: يسير، يقف، يجلس، يلخّص المزمورُ مجمل حياة الانسان.
يبتهج حبيب الله بالشريعة، ويهذّ بها ويلهج. يتلوها بصوت منخفض، يردّدها ويتأمّل فيها. والشريعة ليست فقط ما نقرأه في الوصايا العشر، بل خبر كل ما عمله الرب لأجل شعبه وما يطلبه الله من شعبه. هذا التعليم يتأمّل فيه المؤمن ليل نهار فيوجّه حياته لتصبح مرتبطة بالرب، وبكل ما يقوله له الرب أو يأمره به. مثل هذا الرجل يشبه شجرة قرب مجرى المياه: لا يخاف الجفاف المميت، ويحمل ثمارًا في كل فصول السنة، وتدوم ثماره. إنه ينجح في كل ما يعمل.
أما المنافق الشرّير فهو يحسب أن شريعة الربّ لا تعطي السعادة، فيرفضها ويصير كشجرة بلا ورق ما تعتّم أن تبيس، أو كبعض القشّ الذي تذرّيه الريح. وفي ساعة الدين يظهر مصيرُ المنافق: لن يجسر على الوقوف في الدين، ويبقى منخفض الرأس. أما البار فيقف مرفوع الراس.

3. يشبّه الكاتب وصايا الله بطريق يسير فيه المؤمن، بالطريق الذي سار فيه شعب الله في البريّة، من مصر أرض الخطيئة والوثنيّة، إلى كنعان أرض اللقاء بالرب والحياة بحسب مشيئته. والهدف الذي يتطلّع إليه الانسان يجعله بحاجة إلى طريق قويم، فلا يقول مع المنافقين في سفر أيوب (21: 14): "إبعد عنّا يا ربّ، فنحن لا نرغب في معرفة طريقك". الله وحده يدلّ الانسان على الطريق القويم في كتبه المقدسة، فيطلب إليه ممارسة العدالة والمحبّة الاخوية والسير معه بتواضع (مي 6: 8). من سار على هذا الطريق طوال حياته وخضع قلبه خضوع الايمان، وتطلّعت عيناه إلى الله، سيشعر كيف أن الله يُنجح حياتَه اليوم، ويكلّل أعماله في النهاية.

4. يدلّنا هذا المزمور على الطريق الذي يجب أن نتبعه، والهدف الذي نستطيع الوصول إليه. يسوع المسيح وحده، حقّق ذلك بطريقة كاملة، فكانت إرادةُ الله حياته ورغبته (يو 4: 34؛ عب 10: 7). هو وحده البار (أع 3: 14؛ 1 بط 3: 18) الذي يسلّم أمره إلى الآب عبر آلامه وموته وقيامته. والمسيحيّ يسير على خطى المسيح سامعًا كلماته: "طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها" (لو11: 28). والمحبّة هي الطريق الذي يقود إلى الملكوت (مر 12: 34) وإلى الحياة (لو 10: 27).

5. الشريعة
يحدّثنا المزمور الأول عن الشريعة التي قرأها المؤمن، وحفظها عن ظهر قلبه، وتمتم كلماتها، وردّدها نهارًا وليلاً. فما هي الشريعة؟
الشريعة تعليم يعطيه الله للبشر لينظّم سلوكهم في الحياة. وهي تتألّف أولاً من المجموعات التشريعيّة التي ترتبط بموسى، وبالتقاليد الواردة في كتب الشريعة الخمسة أو البنتاتوكس (أي المجلدات الخمسة).
للبشريّة جمعاء قواعدُ أدبيّة وأخلاقيّة تمنع الناس من القتل وغيره من الشرور، ولكن شعب اسرائيل وحده حصل على شريعة وضعيّة أوحى بها الله إلى عبده موسى.
فإذا قرأنا البنتاتوكس الذي يروي قصد الله منذ البداية إلى موت موسى، لوجدنا مجموعات تدخل في إطار الخلق (تك 2: 2 ي) والعهد مع نوح (تك 9: 1- 7) ومع إبراهيم (تك 17: 9- 14). خلال الخروج من مصر، نقرأ ما يتعلّق بالفصح (خر 12: 1- 28، 43- 45)، وعلى سيناء وخلال الاقامة في البريّة، كل ما ينظِّم حياة شعب الله الجديدة. ونجد أيضًا في سفر العدد مجموعة شرائع (1: 1- 10: 28؛ ف 15؛ ف 17- 19؛ ف 26- 30؛ ف 35) حول تكريس المعبد وحياة الكهنة واللاويّين.
هذه النصوص تتضمّن مواد متنوعّة عن الشريعة تنظّم حياة شعب الله في كل الميادين. فهناك فرائض أخلاقيّة وفرائض مدنيّة، وتوصيات عباديّة. فكلّ حياة بني اسرائيل مسيَّرة حسب أوامر الله. لهذا اتّخذت الشريعة أسماء: هي تعليم وشهادة وفريضة. هي وصيّة وحكم. هي كلمة الله ومشيئته وطريقه. وهكذا تتعدّى الشريعة حدود التشريع البشريّ لتخلق علاقة بين الله وأبناء شعبه. أما سموّ الشريعة فيعود إلى ارتباطها بالعهد. فحين قطع الله عهدًا مع بني اسرائيل وجعلهم شعبه الخاص، أرفق اختيار هذا بمواعيد (خر 23: 22- 33؛ لا 26: 3- 13؛ تث 28: 1- 14). ولكنه وضع أيضًا شروطا: على شعب اسرائيل أن يسمع كلمة الله ويحفظ فرائضه وإلاّ حلّت به اللعنات المنصوص عنها في الكتاب (خر 23: 21؛ لا 26: 14- 45؛ تث 28: 15- 68). وحين يحتفل الشعب بتجديد العهد، فهو يُلزم نفسه بأن يحفظ شريعة الله (خر 19: 7 ي؛ 24: 7؛ رج يش 24: 21- 24؛ 2 مل 23: 3). وهكذا تبدو الشريعة عنصرًا هامًا من التدبير الديني الذي يُهيّئ شعب اسرائيل لجيء الخلاص. ومتطلّباتها، مهما كانت قاسيّة، هي في الواقع نعمة، لأنها تتوخّى أن تجعل من بني اسرائيل شعبًا يتحلّى بالحكمة ومخافة الله (تث 4: 5- 8)، وتوحّده بإرادة الله، وتقوده إلى القداسة التي ينتظرها الله منه.
لهذا نجد الشريعة حاضرة في كل مرافق الحياة. حاضرة عند الكهنة القيّمين على الشريعة يعلّمونها للشعب في المعابد بمناسبة الأعياد خاصة. وحاضرة عند الأنبياء يطبّقونها على ظروف الحياة الجديدة ويعلنون متطلّباتها. وحاضرة عند الكتبة والحكماء، بل عند كل جماعة إسرائيل الذين يجعلونها في قلب حياتهم ويتعلّقون بها، ولو كلّفهم هذا التعلّق التضحية بحياتهم (1 مك 1: 57- 63؛ 2: 29- 38؛ 2 مك 6: 18- 28؛ 7: 1 ي).
هذه الشريعة التي وضعها الربّ في شعبه (78: 5) وعلّمها لمؤمنيه (94: 12)، هي حياة المرتّل وعلّة وجوده. لهذا ينشدها ولا يملّ، ويشهد بها أمام الآخرين، ويعلّمها لأبنائه لئلاّ يتركوها. أمّا أن يكون شعب اسرائيل قد ذهب إلى السبي لأنه ترك شريعة الرب ونسي السماع لصوته، فهذا ما سيفهمه العائدون من السبي. وهذا ما يجب أن نفهمه نحن أبناء العهد الجديد الذي أعطانا يسوع شريعة واحدة تتلخّص في وصيّة المحبّة وتتوزّع في وصايا عديدة أساسها الوصايا العشر.

6. "طوبى للرجل الذي لم يذهب إلى مشورة الاشرار". فالمهندسون الذين يرفعون الأبنية العالية، يجعلون لها أساسات تناسب علوّ البناء. وبنّاؤو السفن الذين يصنعون سفنًا تسع عشرة آلاف قنطار، ينسّقون بدَن السفينة فيجعلونه مناسبًا لثقل الحمولة. وكذا نقول عن ولادة الكائنات الحيّة. فالقلب وهو أول من يكوَّن حسب الطبيعة، يتقبّل بنية طبيعيّة تناسب الحيّ الذي سينشأ. لهذا، وبما أن الجسد مكوّن بالاتّفاق مع مبادئه الخاصة، فالكائنات الحية لها قامات مختلفة. فكما أن الأسس هي للبناء، والبدن للسفينة، كذلك القلب لجسم الحيّ. وكذا نقول عن هذه المقدّمة القصيرة لبناء سفر المزامير كله. فبما أن المرتّل سيعطي نصائح عديدة وصعبة ومملوءة خيرًا وتعبًا وكدًا، فهو حين يعلن خطبته، يبيّن مسبقًا النهاية السعيدة التي تنتظر المقاتلين. وهكذا نحتمل في رجاء الخيرات المحفوظة لنا، صعوبات الحياة من دون تذمّر. وكذا نقول عن فندق مفيد ننتظره: فهو يريح من التعب والمشقّة أولئك الذين يسيرون في طريق وعرة.
فالتعلّق بالبضائع يجعل التاجر يجابه البحر. والأمل بالحصاد يُنسي المزارع تعبه. وبالتالي فمصلح كل حياة، المعلّمُ الأسمى، روحُ الحق، قد تحدّث بحكمة وفنّ عن الثواب ليجعلنا نعجّل فنتمتّع بالروح بخيرات أبدية ونتجاوز تعب الساعة الحاضرة.
"طوبى للرجل الذي لم يذهب إلى مشورة الأشرار". السعيد أولا بصورة رئيسية هو حقًا صالح، وهو الله. ولقد أشار القديس بولس إلى المسيح فقال: "حسب تجلّي الهنا العظيم ومخلّصنا يسوع المسيح" (تي 2: 13). فالكائن الصالح في نفسه هو سعيد. إليه يتطلّع الكلّ، وفيه يرغب الكلّ. هو الطبيعة الثابتة والعظمة السامية والينبوع الجاري والنعمة الفيّاضة والكنز الذي لا ينفد. ولكن الناس الجهّال الذين يحبّون العالم ويتنكّرون لطبيعة الخير، يطوّبون أشياء باطلة كالغنى والصحة والترف. فليس شيء من هذا صالح في طبعه لأن يتغيّر بسهولة إلى ضدّه، ولا يمكن له أن يصلح مُقتنيه. فمن هو بارّ بسبب مقتنياته؟ ومن هو عفيف بسبب صحّته؟ وهذه الاشياء التي هي صالحة، تُصبح أداة الخطيئة للذين يستعملونها استعمالاً سيّئًا. فطوبى لمن يملك الخيرات السامية التي لا يستطيع أن ينزعها منه أحد. ولكن كيف نعرف ذلك؟ "طوبى للرجل الذي لم يذهب إلى مشورة الاشرار".
وقبل أن أقول ماذا يعني عدم الذهاب إلى مشورة الاشرار، أودّ أن أجيب على تساؤل الذين يقولون: لماذا اختار المرتّل الرجل وحده ليهنئه؟ وهل يمنع عن المرأة التهنئة؟ كلاّ ثم كلاّ، لأن فضيلة الرجل والمرأة واحدة. فبما أنه كان لخلقهما الكرامةُ عينها فثوابُهما هو هو بالضرورة. فاسمع سفر التكوين: "صنعَ الله الانسان، صنعه على صورة الله. رجلاً وامرأة صنعه" (تك 1: 27). بما أن طبيعتهما واحدة، فأعمالهما هي هي تمامًا. وبما أن عملهما متساو فالثواب مماثل. إذًا لماذا أغفل المرأة حين ذكر الرجل؟ لأنه اعتبر الكلام كافيًا بأن يذكر الجزء الرئيسي فيدلّ على الكلّ، وطبيعتُهما واحدة.
"إذًا طوبى للرجل الذي لم يذهب إلى مشورة الاشرار". نلاحظ دقّة الكلمات وكيف أن كل كلمة مملوءة تعليمًا. هو ما قال: الذي لا يذهب إلى مشورة الأشرار، بل "الذي لم يذهب". فالذي لم يصل إلى هدف حياته، لا يُعلَن سعيدًا بسبب الشكّ الذي على نهايته. أما الذي أتمّ واجبه وكل حياته بنهاية لا معارضة فيها، يُسمّى حقًا سعيدًا. ولماذا يطوّب الذين يسيرون في شريعة الرب (مز 119: 1)؟ لا يطوّب الكتاب فقط أولئك الذي ساروا، بل الذين يسيرون أيضًا. فالذين يعملون الخير يجدون تأييدًا في عالمهم ذاته. أما الذين يتجنّبون الشرّ، فلا يُمدحون إن ابتعدوا فقط عن الشرّ مرّة أو مرتين، بل إن استطاعوا أن يتجنّبوا الشر كليًا. وتبرز لنا أيضًا في النصّ صعوبة أخرى. لماذا لا يطوّب من يمارس الفضيلة، بل الذي لا يخطأ؟ سعادة الفرس والثور والحجر هي هي، فأي جامد يسير في طريق الخطأة؟
وأي كائن غير عاقل يجلس في كرسي العدوى؟ انتظر قليلاً وستجد الجواب. لأنه يضيف: "ولكن إرادته في شريعة الرب" (مز 1: 2). فالتأمّل في الشريعة الالهية لا يليق إلاّ بالخليقة العاقلة. أما نحن فنقول أيضًا إن قنية الخير تبدأ بالانفصال عن الشر: "ابتعد عن الشر واصنع الخير" (مز 37: 27). (باسيليوس).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM