بعد دمار الهيكل

بعد دمار الهيكل
المزمور الرابع والسبعون

1. المزمور الرابع والسبعون هو مزمور توسّل أنشده المؤمنون يوم نُجِّس الهيكل وهُدم مرّة أولى سنة 587 مع نبوخذ نصر والبابليين، ويوم نُجِّس مرة ثانية مع أنطيوخوس ملك انطاكية. أنشدوه ليعبّروا فيه عن ألمهم لما رأوا الله يُغلب على أمره في هيكله فيترك شعبه دون حمى وملجأ، والبلاد في سكوت الموت. هذا الوضع يذكرنا بساعة الجلجلة، ساعة صمت الله تاركًا الكذب والعنف والجور يأخذ مجراه. هل يقبل الله أن يبقى ساكتًا ويتحمّل كلام التجديف؟ سؤال يطرحه اليهود المؤمنون على نفوسهم، ولا نزال نحن أيضًا نطرحه على نفوسنا في ساعات الضيق والاضطهاد.

2. ينظر المؤمنون إلى خراب الهيكل فيبكون ويشكون أمرهم إلى الله.
آ 1- 2: يذكر المرتّل غضب الله على شعبه وغنم مرعاه، وعلى أرضه التي أخذها وأورثها لشعبه وسكن فيها.
آ 3- 7: وصف الحالة: عدو يزاحم الله ويجلس سيّدًا في بيت الله، في المكان الذي جمع فيه الرب شعبه للصلاة. ساد العدوّ وتجبّر، وحطّم كل أثر للممالك السابقة (المنقوشات والعلامات)، ثم ذهب مخلفًا وراءه الدمار. إذا كان الهيكل هو بيت الله، فالله قد غُلب على أمره وأجبر على ترك مقامه (78: 60- 61).
آ 8- 11: يشكو الشعب أمره: هُدم مكان اللقاء بين الله وشعبه بانتظار أن يفنى الشعب. فالشعب لا يسمع صوت الله، وقد لفّه سون الموت، بعد أن زال الهيكل وغاب الأنبياء ولم يعد من أثر لكلام الله. لماذا لا يتحرّك الله والعدو يتحدَّاه؟
آ 12- 17: يتلو المرتّل نشيد حمد لقدرة الله التي عملت في الماضي أعمالاً عظيمة. ويتساءل أين هي الآن أعمال ربّ الكون القدير؟ في الماضي تغلّب على مياه الغمر وانتصر على الوحوش القديمة (لاويتان التنين الكنعاني برؤوسه السبعة). في الماضي جلس ملكًا في السماء، ثم احتلّ الأرض وملك عليها ورتَّب الأيام والليالي وتعاقب الفصول.
آ 18- 21: هذا الاله الذي عمل مثل هذه الأعمال، ما له يبقى ساكتًا ولماذا يغيب عن الأرض تاركًا العنف والجور يتحكّمان بالبشر، ناسيًا واجبه في الدفاع عن البائس والمسكين؟
آ 22- 23: الخاتمة: يطلب المرتّل من الله أن يقبل التحدّي. ليقم ألله: ليدافع عن شعبه وليدافع أيضًا عن قضيّته.

3. هُدم الهيكل وأعمل الأعداء فيه الفأس (آ 5- 6) قبل أن يُعملوا الحريق (آ 7- 8). ارتفعت في الهيكل أصواتهم وزمجروا (آ 4)، فسمع الناس تجاديف الجنود بدل أصوات الأناشيد، ورأوا بيارق الآلهة الكاذبة بدل بيارق الله. نجِّس قدس الاقداس (آ 7، 18) والله لم يتدخّل (آ 1، 10، 11). فلو افترضنا أن اسرائيل كان يستحق هذا القصاص، أما كان يجب على الله أن يتحرك فيدافع عن اسمه القدوس وعن هيكله؟ هل نسي أن صهيون مكان سكناه، واسرائيل غنمه وشعبه ووارثه في الأرض؟ فليأت ليرى هيكله المنجَّس الخرب. إذا كان لا يريد أن يهتم بشعبه، فليهتمّ أقلّه بنفسه. أين أمانته لنفسه وهو الذي فعل المعجزات في الماضي؟ هل نسي؟ هل اضمحلّت قدرته؟

4. ينتهي المزمور بصلاة مضاعفة إلى الرب: لا تنسَ أحباءك المساكين، لا تنس خصومك الذين عيَّروك ورفعوا صوتهم فيك. يتشكّك المرتّل من تنجيس الهيكل وتدميره، ولكن ذلك لا يلغي إيمانه. هو يتألّم ولكنه لا يشك. هو يبكي لكنه لا ييأس. فرجاؤه قويّ وهو يستند إلى عمل الله في الماضي.
لم يسمح الرب بأن ينجَّس هيكله ويُهدم فحسب، بل سمح بأن يُصلَب ابنه هيكل الله الجديد. الرب هو الكلي القدرة، ولكنه ذلك الذي ارتضى بمحبَّته أن يكون كلّي الضعف فيخلّص العالم بالضعف وجهالة الصليب. والذين ربطوا مصيرهم بمصيره، يجب أن يقبلوا الانحدار معه في ضعفه، وأن يعرفوا أن خلاص العالم يتمّ بضعف ابن الله وموته.

5. دمار الهيكل
لقد دمِّر الهيكل. ما اكتفى الأعداء بأن أعملوا الفأس في الخشب، بل أحرقوا كل شيء لئلا يبقى منه أثر. ولكن أفظع من أي شيء هو أن الأعداء دنّسوا كل شيء في الهيكل قبل أن يدمِّروه. المعبد هو موضع الصمت، أما الأعداء فزمجروا فيه وهتفوا. ما عاد المؤمن يسمع أصوات التراتيل بل أناشيد الجنود والغناء الوثني. وجاء الجيش فجعل بيارقه بدل بيارق الله وأصنامه في الاماكن المشرفة من الهيكل ليراها الجميع. ثم هجموا عنى المكان المقدس كل التقديس، فرموا كل شيء على الأرض ونجَّسوه ودنَّسوا اسم الله القدوس بأقوالهم وأفعالهم. ويتعجّب المؤمن: أين كان الله ولماذا سمح لهم أن يفعلوا ذلك؟ لا شكّ في أن الشعب استحق أن يؤدَّب. ولكن ما دخل هذا بمصالح الله؟ لماذا لم يعمل شيئًا ليحافظ على قداسة اسمه وهيكله؟ ألم تعد صهيون مسكنه وبنو اسرائيل غنم مرعاه؟
ما حدث هو مستحيل ولا يمكن الإنسان أن يفكّر فيه. لهذا يبدأ المرتّل فيتساءل باسم الجماعة: أإلى الأبد نبذتنا؟ لماذا؟ ويدعو الربَّ لأن يقوم بزيارة إلى هيكله فيتأمّل الخراب ويتذكّر الايام السالفة. هو الذي فعل في الماضي، ألم يعد يقدر أن يفعل اليوم؟
وينتهي المرتّل فيقول: يا رب، لا تنسَ مؤمنيك، لا تنسَ الذين نجَّسوا المكان المقدس. ويبقى على إيمانه رغم ألمه. هو يؤمن ولكنه لا يشك، وهو يبكي ولكنه لا ييأس. لقد وضع رجاءه في الله وفي أعماله منذ القديم.
لن نجد الجواب الوافي في العهد القديم، فنتوجّه إلى العهد الجديد. وحين نتذكّر أن يسوع جعل نفسه الهيكل، وأن الرب قبل أن يدمّر هذا الهيكل يوم الجمعة العظيمة نفهم أن الله ليس فقط من يخلّص بقدرته، بل من يخلّص بحبّه الذي اقتاده إلى الضعف.

6. "لا يخزى المسكين". فالكبرياء هي التي دفعت الآخرين إلى الخزي. ترون يا إخوتي، كم يجب أن يكون الفقر لنا عذبًا. وترون أن الفقراء والمحتاجين يخصّون الله. لا شكّ الفقراء في الروح لأن ملكوت السماوات لهم. ولكن من هم هؤلاء الفقراء في الروح؟ هم الوضعاء، أولئك الذين يرتعدون أمام الله، الذين يقرّون بخطاياهم، الذين لا يحسبون حساب استحقاقاتهم وبرّهم. ومن هم أيضًا؟ الذين يمدحون الله حين يعملون صالحًا، ويتَّهمون أنفسهم حين يصنعون شرًا. قال النجي: على من يحلّ روحي إلاّ "على المتواضع، على إنسان السلام الذي يرتعد لكلمتي" (أش 66: 2)
هذا ما فهمه المرتّل: ما عاد مرتبطًا بالأرض. ما عاد يلاحق المواعيد الأرضيّة التي نجدها في العهد القديم. لقد صار متسوِّلاً فقيرًا. هو عطشان إلى مياهك لأن مياهه نضبت. بما أنه صار إلى ما صار، فلا يُخز في رجائه. ولا يَعُد المتواضع في خزيه، فالفقراء والبائسون يمدحون اسمك. حين يعترفون بخطاياهم يمدحون اسمك. لا أولئك المملوءون بحالهم المنتفخون كبرياء حين يشعرون ببرّهم الخاص. لا هؤلاء. فمن هم إذن؟ الفقراء والمساكين الذين يمجّدون اسمك (أوغسطينس).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM