الفصل السادس عشر: فصح الملكوت: الموت والقيامة

 

الفصل السادس عشر

فصح الملكوت: الموت والقيامة

1 - موقع ف 26-28
قدّمت خطبة مت الاسكاتولوجيّة نهاية التاريخ البشري، ونهاية كل حياة بشريّة على أنها وقفة بحضور يسوع الذي يعطي كلَّ واحد وجهَه الأبديّ ويحدّد معنى حياته وموته في جماعة الملكوت. إذا كان ابن الانسان الذي هو ابن الله، يؤسّس الواقع الأخير لكل انسان، فلأنه انسان من الناس، انسان محدّد هو يسوع الناصري الذي يعبّر بموته عن معنى حياته. ومجيء (باروسيا) ابن الانسان يتجذّر في التاريخ البشريّ: موت المسيح وقيامته. عند ذاك، يؤتي واقعُ هذا الموت وهذه القيامة للوجود البشري مدلولَه الأخير. فهذا الواقع يعنينا جميعًا، لأن يسوع مات لأجلنا وقام لأجلنا (26: 28-29).

أ - وحدة خطبة المجيء مع الآلام
إن قيمة الصليب لا تُدرك إلاّ لدى ذاك الذي صار الصليب له مجيءَ الربّ. وهذا الصليب هو الحضور الآنيّ للقائم من الموت في واقع الحياة اليوميّ. أجل، إن الذي بدأ يستشفّ في ذاته معنى الحياة بالصليب، يدرس المسيح كعلامة صدق وأساس إيمان. أما الذي يتهرّب فيبقى خارج الأمور ولا يدرك من حياة يسوع وآلامه وموته وقيامته سوى خبر يتدارسه المؤرِّخ وعالم الاجتماع، لا المؤمن الذي يبحث عن معنى لحياته.
في هذا المنظار تجعلنا الفصولُ الأخيرة من انجيل متّى. في هذا المعنى، هي تُواصلُ تقديمَ فقاهة من أجل الكنيسة ومن أجل المؤمن. إن متّى يدلّنا على المسيح في نور الايمان، وفي هذا النور يحدّد موقع الكنيسة.
وتبرز هذه الوحدة العميقة بين الخطبة الاسكاتولوجيّة (ف 24-25) وخبر الآلام والقيامة (ف 26-28)، حين نعرف أن تاريخ الكون وكل انسان يجد مدلوله الأخير في حدث المجيء الذي هو حدث فريد: فعمل يسوع (أي موته وقيامته) ينير عالمنا ويعطيه هويّته حين يفتحه على هجمة حضور الله المجيد. إن حدث المجيء يكوّن الملكوت في نموّه ويرسم وجهه في الزمان والمكان، هذا الوجه الذي هو الكنيسة. وهكذا تكون الخطبة الاسكاتولوجية نبوءة تتمّ في موت وقيامة يسوع الذي هو أساس وجود الكنيسة.
وهكذا ظل مت أمينًا لتقليد أخبار الحاش (= الآلام) والقيامة، التي ألِّفت باكرًا من أجل حاجات الكرازة في الكنيسة الاولى. وفي الوقت عينه، ما تردّد في أن يمزج عناصر جاءته من مراجع أخرى، قد يكون جهلها مر أو لو ولكن عرفها يو. وهكذا شدّد في مقاطع خاصّة به على وجهة المجيء في موت يسوع وقيامته. هنا نذكر المقاطع الخاصّة بمتّى: 26: 52-54 (12 فرقة من الملائكة)؛ 27: 3-10 (موت الخائن)، 19 (حلم امرأة بيلاطس)، 24-25 (بيلاطس يغسل يديه، صياح الشعب: ((دمه علينا)))، 52-54 (قيامة القديسين في موت يسوع)، 62: 68 (حراسة القبر)؛ 28: 2-4، 9 (نزول ملاك الرب، لقاء يسوع مع النسوة)، 11-15 (رشوة الحرس)، 16-20 (يسوع في الجليل، رسالة إلى الكون كله).

ب - تقابلات بين ف 24-25 وف 26-28
ونبدأ باكتشاف التقابلات بين الخطبة الاسكاتولوجيّة وخبر الحاش والقيامة.
أولاً: المقدمة
إن المقدمة إلى الخطبة الاسكاتولوجيّة (24: 1-7) ترينا يسوع تاركًا الهيكل مع تلاميذه. أعلن لهم دمار هذا الهيكل، فحرّك لديهم سؤالين سيكونان برنامجًا لخطبة يسوع على جبل الزيتون. ومقدّمة خبر الآلام (26: 2-5) تتضمّن اعلان يسوع عن الفصح لتلاميذه، وتقريرًا عن قرار اتّخذه عظماء الكهنة وشيوخ الشعب. هاتان النقطتان تقدّمان تصميم الفصول الثلاثة (ف 26-28) التي فيها سنعود إلى جبل الزيتون (26: 30)، وإلى الهيكل (26: 55؛ رج 26: 60؛ 27: 40، 51).
ثانيًا: القسم الأول
القسم الأول من خطبة المجيء (24: 4-36) يشدّد على لفظة ((حصل)) (24: 6، 20، 21 مرتين، 32، 34؛ رج 24: 44). هذا الفعل يتكرّر في خبر الحاش - القيامة (26: 2، 5، 6، 20، 42، 54، 56؛ 27: 1، 24، 45، 54، 57؛ 28: 2، 4، 11). وموضوع ((الضلال)) (بلانان) يعود هنا وهناك عند مت وحده (24: 4، 5، 11، 24 و27: 63-64). مع مر، ((خيانة)) التلاميذ (باراديدوناي) (24: 9-10) توازي ((تسليم)) يسوع (26: 2، 15، 16، 21، 23، 24، 25، 45، 46، 48؛ 27: 2، 3، 4، 18، 26). عند مت وحده، يقابل ((علامة)) (سيمايون) المجيء (24: 3، 30) علامةُ يهوذا (26: 48). والعبارة نفسها التي تعني إعلان ((انجيل الملكوت هذا)) تعود مرّتين (24: 14 و26: 13) بشكل أكثر وضوحًا ممّا عند مر 13: 10؛ 14: 9؛ 16: 15.
يأتي ابن الانسان على سحاب السماء (رج دا 7: 13) في الخطبة الاسكاتولوجية كما في محاكمة يسوع (24: 30 و26: 64؛ رج مر 13: 26 و14: 62). وموضوع قرب الملكوت، العزيز على قلب مت (3: 2؛ 4: 17؛ 10: 7؛ رج 21: 1، 34) يجد هنا تقاربات لها معناها (24: 32-33 و26: 18، 45-46)، وقد غابت من مر ولو. ونلاحظ أيضًا تلميحات إلى ملائكة تعلن المجد (24: 31، 36؛ 25: 31، 41 و26: 53؛ 28: 2، 5)، وهي خاصة بمتّى. والتقابل بين ((كلمات لا تزول)) والكأس ((التي لا يمكن أن تعبر)) (24: 35 و26: 39، 42، 53؛ رج مر 13: 32 و14: 36).
ثالثًا: القسم الكتابي
القسم الثاني من الخطبة (ف 24-25) الذي يبدو بشكل أمثال، يتوسّع في فن أدبي: يختلف كل الاختلاف عن الفن الأدبي الذي يقدّم مثول يسوع أمام السنهدرين والمحكمة الرومانية، وصلب يسوع. إلاّ أننا نلاحظ وجهة الدينونة التي يتّخذها مجيء الرب (24: 5؛ 25: 6-19؛ رج 24: 42-44 و26: 64)، هي وجهة يقدّمها مت بشكل حيّ وكأنها تيوفانيا (ظهور إلهي) مع تجليّاتها الكونيّة (27: 51-54؛ 28: 2-4 و24: 29-31). وجواب العريس للعذارى الجاهلات (لا أعرفكن، 25: 12) يجعلنا نفكّر بنكران بطرس للمسيح ثلاث مرات (لا أعرف الرجل، 26: 7، 72، 74). وشراء الزيت (25: 9-10) وشراء حقل الفخّار (27: 7) يتوازيان. وهناك موضوع الشهادة التي قد تكون صحيحة (24: 14) أو كاذبة (26: 6-56)، وموضوع الاعلان النبويّ (26: 56-68 و24: 11-24).
رابعًا: القسم الثالث
والقسم الثالث الذي هو جمع الأمم أمام ابن الانسان (25: 31-46) يدعو إلى المقابلة مع موت المسيح وقيامته. فلقب ملك (25: 34، 40) سيعود في الحكم على يسوع (27: 11، 29، 37، 42). أما ملكوت الآب فيُذكر في 25: 34 و26: 29. صُلب يسوع مع لصين، واحد عن يمينه والآخر عن يساره (27: 38؛ رج 25: 33، 34، 41). ((سُقي)) خلاً (27: 48؛ رج 25: 35، 37، 42). النسوة قرب الصليب ((خدمنه)) منذ الجليل (27: 55؛ رج 25: 44). ((فرح)) (28: 8؛ رج 25: 21-23) ((اللقاء)) (28: 9؛ رج 25: 1، 6) ينير هؤلاء النسوة في صباح الفصح، وقد أرسلهنّ يسوع إلى ((اخوته)) (28: 10؛ رج 25: 40). كما أرسل التلاميذ إلى ((جميع الأمم)) (28: 19؛ رج 25: 32؛ 24: 9، 14)، مع تأكيد بأن القائم من الموت سيبقى حاضرًا معهم حتى ((انقضاء الدهر)) (28: 20؛ رج 24: 3).
كل هذه التقابلات على مستوى الألفاظ والصور، تدلّ على وحدة الرؤية المتاويّة: ففعلُ يسوع حين مات وقام هو مجيء ابن الانسان. دعوته هي تتمّة مجيئه في جماعة البشر.

2 - بنية الخبر

أ - نظرة إجماليّة
إذا قرأنا مقدّمة مت (26: 2) التي تستعيد عبارة ((ابن الانسان)) (بها بدأت، دينونة الأمم،، 25: 31)، نفهم حالاً أنها تقدّم إجمالةَ التوسّع كله.
- قرُب عيد الفصح وابن الانسان يُسلم...
- يُسلم لكي يُصلب...
- وبعد يومين، يُصلب ابن الله ويأتي الفصح.
أولاً: مشيئة الله
هذه الجمل الثلاث تعبّر عن مشيئة الله: أخبر يسوع تلاميذه عن الطريقة التي بها يُتمّ ابن الانسان مجيئه. وتتوزّع الألفاظ المفتاح على الشكل التالي:
- ((حصل)) (غانستاي): 26: 2، 5 (= 27: 24)، 6، 20، 42 (= 6: 10)، 54، 56 (= 24: 6؛ 28: 11)؛ 27: 1، 24، 45، 54، 57؛ 28: 2، 4، 11.
- ((أسلم)) (باراديدوناي): 26: 2، 15، 16، 21، 23، 24، 25، 45، 46، 48؛ 27: 2، 3، 4، 18، 26.
- ((صلب)) (ستاورون): 27: 22، 23، 26، 31، 35، 53 (رج 20: 19؛ 23: 34)؛ 28: 5.
- ((الصليب)) (ستاوروس): 27: 32، 40، 42 (رج 10: 38؛ 16: 24).
- ((بعد يومين)): بعد الاشارات الزمنيّة نجد رسمة الثلاثة أيام: في اليوم الاول، يوم الفطير (26: 17)، تمّت الاستعدادات لوليمة الفصح. ((ولما جاء المساء (26: 20)، العشاء. وحين ((جاء الصباح)) (27: 1)، مجلس عظماء الكهنة والشيوخ. من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، كان يسوع على الصليب (27: 45). ولما ((جاء المساء)) (27: 57)، دُفن. ((في الغد الذي بعد التهيئة)) (27: 62) وُضع الحرس على القبر. بعد السبت، عند الفجر، في اليوم الأول من الاسبوع (28: 1) ((حصل زلزال)) القيامة (28: 2؛ رج 27: 54). وظهر موضوع ((اليوم الثالث)) في 27: 63-64 فأعلن القيامة.
ثانيًا: نيّة البشر
تجاه مشيئة الله التي تُلقي ضوءًا على الحدث، نكشف نيّة البشر التي قرأناها في آ 3-5. فالألفاظ المستعملة هنا ستعود على مدّ خبر الحاش (= الآلام) كما يستطيع البشر أن يدركوه.
- اجتمع عظماء الكهنة وشيوخ الشعب في رواق عظيم الكهنة.
- تشاوروا ليمسكوا يسوع بالحيلة ويقتلوه.
- ولكن لا خلال العيد لئلاّ تحدث بلبلة في الشعب.
وهنا أيضًا نستطيع أن نلاحظ الالفاظ التي تعود في الخبر:
- ((عظماء الكهنة، وشيوخ الشعب)): 26: 3 (14)، 47، 59؛ 27: 1، 3 (16)، 12، 20، 41 (62)؛ 28: 11. ((عظيم الكهنة)): 26: 3، 51، 57، 58، 62، 63، 65.
- ((اجتمع)) (سيناغستاي): 26: 3، 57؛ 27: 17، 27، 62؛ 28: 12.
- ((تشاور)) (تآمر) (سومبولواين)؛ 26: 4 (سومبوليون لمبانين): 27: 1، 7؛ 28: 12؛ رج 12: 14؛ 22: 15.
- ((أمسك)) (قبض) (كراتاين)؛ 26: 4، 48، 50، 55، 57؛ 28: 9.
- ((قتل)) (أمات) (أبوكتايناين): 26: 4 (تناتون)؛ 26: 59؛ 27: 1.
- ((العيد)) (هيورتي): 26: 5؛ 27: 15.
- (( بلبال)) (توريبوس): 26: 5؛ 27: 24.
- ((الشعب)) (لاوس): 26: 3، 5، 47؛ 27: 1، 25، 64.
وانطلاقًا من هذه الآيات التي بدت بشكل مقدّمة (26: 2، 5)، والتي دوّت في مت بشكل يختلف عمّا في مر ولو، وبعد الأخذ بعين الاعتبار المقاطع الخاصة بمتّى، نستطيع أن نكتشف البنية التي تتضمّن آلام (= حاش) المسيح وقيامته.

ب - جاء الفصح وابن الانسان يُسلم (26: 6-56)
إن موضوع الفصح الذي ((جاء))، يتضمّن في الواقع الاقسام الثلاثة لخبر يمتدّ على ف 26-28. في هذا التوسّع الأول، يدلّ ((الفصح)) على العيد اليهوديّ، الذي سيتخّذ معنى جديدًا في تأسيس الافخارستيا. ويظهر التعارض واضحًا بين ما فعله يسوع وموقف البشر ولا سيّما التلاميذ.
> هناك وجهتان في المقدّمة تعودان في وحدة أولى (آ 6-16) تتضمّن مسحة يسوع الملوكية المسيحانيّة (آ 7) من أجل دفنه (آ 12). نجد تضمينًا مع لفظة ((طيب)) في آ 7 وآ 12، ومشروع يهوذا بأن ((يسلمه)) (آ 15، 16).
> هناك وحدة ثانية تصوّر الجماعة الفصحيّة والخيانة التي كُشفت (آ 17-30). يجري المشهد داخل مجموعة التلاميذ (آ 17، 18-19، 20، 26). أعدَّ الفصح (آ 17 وآ 19) وتضمّنت الوليمة زمنين (إذ كانوا يأكلون، آ 21 و26): كشفٌ عن الخائن وعطيّة الجسد والدم.
> تشتُّت الجماعة ساعة كان يسوع يتّحد مع مشيئة أبيه. هذا هو موضوع الوحدة الثالثة (آ 31-56) التي تحيط بها لفظة ((كلّ)) (جميع) (آ 31، 56) فتدلّ على جماعة ((التلاميذ))، وتعود في نهاية المرحلة الأولى (آ 35) حيث يعلن الشكّ والنكران ((في تلك الليلة)) (آ 31، 34). بعد صلاة إلى الآب في الجسمانيّة ونداء إلى السهر يشكّلان مرحلة ثانية، تبدأ مرحلة ثالثة مع توقيف يسوع، يحدّدها تضمين (سيوف وعصي، 47، 55) ويختتمها هرب ((كل)) ((التلاميذ)) (آ 56).

ج - ابن الانسان يُسلم ليُصلب (26: 57-27: 44)
ويحلّ محلّ موضوع ابن الانسان الذي يُسلم (26: 46) موضوعُ الموت على الصليب: بعد أن قبضوا (آ 56-57) على يسوع، أخذوه إلى عظيم الكهنة قيافا.
> المحاكمة أمام عظيم الكهنة وإنكار بطرس ليسوع (آ 57-55): يتقابل في هذه المتتالية لوحتان. يكون فيهما البطلان ((عظيم الكهنة)) (تضمين، آ 57، 65) الذي ارتبط بلفظة ((موت)) (آ 59، 66). و((بطرس)) (تضمين في آ 69، وآ 75) الذي ارتبط بلفظة ((خارجًا)) (آ 69، و75). هما بقرب يسوع المسيح (آ 63، 68)، ابن الله (آ 68) الجليلي (آ 69)، الناصريّ (آ 71)، الانسان (آ 72، 74). ويشكّل مشهد الهزء القصير (آ 67-68) انتقالة.
> ندامة يهوذا والمثول أمام بيلاطس (27: 1-26): يتقارب موضوع ((الدم)) و((البراءة)) (آ 41 و24-25). وهنا أيضًا نجد ثلاث مراحل: تُخصَّص الأولى ليهوذا وثمن الدم البريء (آ 1-10). والثانية تجعل الوالي (آ 11 و14) أمام ملك اليهود. والثالثة تجعل يسوع ((الذي يُقال له المسيح)) (آ 17 و22) بموازاة ((برأبا)) الذي ((يطلقه)) بيلاطس من أجل الشعب (تضمين: آ 15-16 و26).
> صلب ملك اليهود، ابن الله (27: 27-44): لقبان أعطيا ليسوع خلال محاكمته مرتين: ((ملك اليهود)) (آ 29، 37؛ رج آ 11) و((ابن الله)) (آ 40، 43؛ رج 26: 63 و27: 54). ويبقى لقب ثالث: ((ملك اسرائيل)) (آ 42). هذه الألقاب الثلاثة تتوزّع على خبر الصلب (تضمين: ((هزئ))، آ 29 و41) الذي قسم إلى ثلاث مراحل (تضمين مع ((الرداء)) في آ 28، 31 ومع ((لصين صلبا معه)) في آ 38 و44).

د - جاء فصح ابن الله (27: 45-28: 20)
يشكّل موت يسوع وقيامته في نظر مت، تيوفانيا واحدة انطبعت بتلميحين اثنين إلى زلزال (27: 51؛ 28: 2). وفعل ((حصل)) يتّخذ هنا مكانة هامة لأنه يدلّ على بداية الأزمنة الثلاثة في هذه التيوفانيا (27: 45، 57؛ 28: 2).
> موت ابن الله (آ 45-56) يتوسع في ثلاث مراحل: الصرخة الكبرى أو بالأحرى ((الصوت العظيم)) (تضمين مع آ 46 و50). الزلزال أو الهزة الأرضية (تضمين مع آ 51 و54). هكذا يعترف قائد المئة ((بابن الله)) (آ 54). والنساء اللواتي تبعن يسوع من الجليل وخدمنه، كن ينظرن (آ 55).
> دفن يسوع (آ 57-66) يركّز الانتباه على جسد يسوع و((المكان)) الذي وُضع فيه (آ 57، 60)، وعلى انتظار النسوة أمام القبر (آ 61)، وأخيرًا على حرس القبر (آ 62-66) بشلّة ((تضبط)) القبر (آ 64-66). أما ((استيقاظ)) يسوع بعد ثلاثة أيام فقد أشير إليه بموضوع الضلال (آ 63-64).
> قيامة يسوع (28: 1-15) تبدأ ((في اليوم الأول من الأسبوع)) (آ 1) وتنتهي ((حتى اليوم)) (آ 15). وتتوزّعها ثلاث مرات ((وإذا)) (آ 2، 9، 11) فتبدأ خبر الزلزال والحرس، ساعة يوصي ملاك الرب النسوة بأن لا يخفن (آ 1-8). بعد ذلك يلتقي بهنّ يسوع ويرسلهنّ إلى إخوته (آ 9-10). ولكن عظماء الكهنة رشوا الحرس لكي يتحدّثوا عن القيامة وكأنها كذبة كبيرة (آ 11-15).
وتأتي الخاتمة: مهمة الرسل إلى الكون كله (28: 16-20): ذهب التلاميذ الأحد عشر إلى الجليل، ليُرسلوا إلى جميع الأمم. وينتهي الانجيل في وعد مع ((وإذا)): ((ها أنا معكم (رج 1: 23: عمانوئيل)... حتى انقضاء الدهر)) (رج 24: 3).

3 - تحليل خبر الآلام (= الحاش) والقيامة

أ - نظرة عامة
نطرح هنا سؤالين. الأول، متى مات المسيح؟ والثاني، من هو المسؤول عن موت المسيح؟
حين يكون الموضوع آلام يسوع، يُطرح مرارًا السؤال الثاني: في أي تاريخ مات المسيح؟ وإذ حاول النقّاد أن يفصّلوا على مستوى التاريخ المعالم الكرونولوجيّة في الأناجيل، اتّفقوا بشكل عام ليحدّدوا موت يسوع يوم الجمعة 7 نيسان سنة 30 وليلة الفصح أي في 14 نيزان حسب الروزنامة اليهوديّة. حلّ الفصح في تلك السنة يوم السبت. وإذ فعلوا هذا فضّلوا يو الذي رأى يسوع يموت ساعة كانت تُذبح الحملان في الهيكل (بو 19: 31)، أي في 14 نيزان، الساعة الثالثة بعد الظهر.
أما الازائيون فأخذوا بكرونولوجيا أخرى: رأوا يسوع يحتفل بالفصح مع تلاميذه في ليلة آلامه. هذا الاحتفال يتمّ بشكل رسميّ في أولى ساعات 15 نيزان أي في مساء 14، لأن اليوم يبدأ، في نظر اليهودي، عند غروب الشمس. إذن، حسب النقّاد، قدّم الازائيون موت يسوع على أنه حصل غداة هذا العشاء الفصحي أي 15 نيزان بعد الظهر، يوم الفصح بالذات، يوم السبت. ولكن هذا يتعارض والمعطيات اليوحناويّة، بل لا يبدو معقولاً من جهة العادات اليهوديّة، ولا يتوافق إلاّ بصعوبة كبيرة مع مجمل الاشارات الازائيّة نفسها.
حاول بعضهم أن يتجاوز هذه الصعوبات فافترض أن يسوع استبق العشاء الفصحي فاحتفل به مساء الخميس أي في أولى ساعات 14 نيزان، أو مساء الثلاثاء (بداية 12 نيزان الرسمي)، بعد أن تبع روزنامة ليتورجيّة تختلف عن الروزنامة الرسمية. في أي حال، قد مات في 14 نيزان بعد الظهر قبل أن يبدأ عيد الفصح الرسمي. هذه الفرضيّة معقولة على المستوى التاريخيّ، ولكنها لا تشرح لماذا ترك الازائيون هذين الكلندارين، كما أنها تترك جانبًا مسألة النيّة الرمزية واللاهوتيّة في استعمال الأناجيل للمعالم الكرونولوجيّة. هذا ما نعود إليه حين نتحدّث عن تأسيس الافخارستيا وعن دفن يسوع.
مهما يكن من أمر، فليس أكيدًا بأن عشاء الوداع الذي أخذه بسوع مع تلاميذه قد وافق على المستوى المادي الفصحَ اليهوديّ الرسميّ. المهم هو أن الأناجيل أدركت الرباط بالفصح، وخصوصًا بموت يسوع وقيامته اللذين يُتمّان ((مرّة واحدة)) (عب 9: 28) الفصح اليهوديّ، ويستطيعان بالتالي أن يكونا موضوع احتفال يومًا بعد يوم ((لذكره)) (لو 22: 19) في الافخارستيا. بالاضافة إلى ذلك، من الصعب، بل من المستحيل أن نقبل بأن كل الأحداث التي روتها الأناجيل جرت في فسحة قصيرة من الوقت، في يومين. إن الرسمة الموجزة للأخبار قد تكون ارتبطت باحتفال فصحيّ يدوم ثلاثة أيام، في الجماعات المسيحيّة الأولى. وهكذا تكون الليتورجيا لعبت دورًا كبيرًا في تدوين الأناجيل فأمّنت لها الاطار الاخباري.
ثانيًا: محاكمة يسوع
والمسألة الثانية التي تُطرح هي مسألة محاكمة يسوع لدى اليهود ولدى الرومان. فالسنهدرين هو المحكمة العليا المؤلّفة من 70 عضوًا، وحيث يكفي 23 عضوًا لكي يصدر الحكم. هل يستطيع أن ينعقد في الليل؟ هل كان يحق له أن يحكم بالاعدام؟ ما هو الدور الذي اتخذه بيلاطس؟ هل كان فقط منفّذ قرار السنهدرين؟ يستحيل علينا أن نجيب هنا عن هذه الاسئلة وعن عدد كبير غيرها قد تُطرح في الخط عينه. درس النقّاد مختلف وجهات المسألة. غير أنه من الأكيد أن العلاقة بين محاكمة اليهود ليسوع ومحاكمة الرومان لها بُعد لاهوتيّ يجد أساسه في التاريخ.
لقد فهم الانجيليون أن مسؤولية موت يسوع لا يمكن أن تقع على أكتاف شعب خاص ولا على أفراد محدّدين ((ما كانوا يعلمون ما يعملون)) (لو 23: 34). بما أن يسوع كان التتمّة الأخيرة للبشريّة كلها، فقد كان من المنطقيّ أن يقتله كلّ الذين رفضوا هذه التتمّة، أي جميع البشر دون تمييز، فلا يستطيع أحد أن يلقي تبعة الخطيئة على غيره قبل أن يدين نفسه.
فبحسب النظرة البيبليّة، يُقسم العالم على المستوى الدينيّ بين يهود ووثنيين (أو: أمم). لهذا، حين أرادت الكنيسة الأولى، التي ورثت هذا الماضي العريق، أن تدلّ على هذه الشموليّة، لجأت إلى هذه ((المقولة)). فالجميع، يهودًا أو يونانيين (ونحن معهم) قد شاركوا في موت المسيح لأننا نقتله ولأننا ننال منه الخلاص. لقد فهم المسيحيّون الأوّلون أنه يستحيل عليهم بقواهم الخاصة، أن يدركوا انسانًا إلهًا. ما استطاعوا أن يعرفوا ((لاهوت)) القائم من الموت إلاّ حين تقبّلوا الغفران الذي قدّمه حبًا بهم من خلال موته.

ب - جاء الفصح وأسلم ابن الانسان (25: 6-56)
وها نحن نبدأ مسيرتنا في خبر الآلام فنكتشف مجيء ابن الانسان الذي هو حضور الربّ الابديّ في حريّات بشريّة.
أولاً: المسح بالطيب في بيت عنيا واتفاقية يهوذا (26: 6-16)
يجري المشهد في بيت عنيا، بيت العناء (والفقر) (رج 21: 17) عند شخص اسمه سمعان الأبرص الذي لا نعود نراه في الأناجيل (قد نكون أمام تذكّر لمعجزة الأبرص في 8: 1-4 وز وهي أولى معجزات يسوع في الأناجيل الازائيّة). وها نحن ندخل في الآلام بواسطة امرأة، بعد أن فسّر يسوع فعلتها استباقًا لدفنه (آ 12). فالنساء هنّ اللواتي يرافقن يسوع أيضًا في ساعة دفنه (27: 55-56، 61) ويتقبلنّ مهمّة اعلان قيامته للتلاميذ (28: 5-10).
هذه المرأة (حسب مت آ 7 ومر 14: 3) صبّت طيبًا على رأس يسوع. قد تكون فعلتها استقبالاً له (مز 113: 2). وقد تدلّ في هذا الموضع على المسحة الكهنوتيّة (خر 30: 22-33) وعلى الطيب الذي يُحرق أمام يهوه (خر 30: 34-38)، وعلى المسحة الملكيّة (رج 1صم 9: 16-17؛ 10: 1؛ مز 45: 8). فالجماعة الرسولية قد تحدّثت باكرًا عن يسوع ((ممسوح الرب)) (أع 4: 26 = مز 2: 2). فالمسحة النبويّة التي نالها في العماد حين حلّ عليه الروح (3: 16-17 = أش 42: 1؛ رج مت 12: 18-21 = أش 42: 1-4)، قد تمّت في موته (وآلامه على الصليب) الذي يمنحه المسحة الكهنوتيّة والملوكية. وهكذا ظهر يسوع حقًا كالمسيح المنتظر. ومع ذلك، ففي زمن متّى، لم يكن الجميع قد أدركوا البُعد الحقيقيّ لحياة ربّهم. فخبر المسح بالطيب في بيت عنيا يجعلنا نستشفّ هذه الصياغة اللاهوتيّة البطيئة.
بدأ مت فقابل بين المرأة وبين التلاميذ (مر 14: 4 يتحدّث عن((بعض))؛ ويو 12: 4 عن يهوذا) الذين ((استاؤوا)) (20: 24؛ 21: 15). نحن هنا بلا شك أمام تلميح إلى الجدالات التي قسمت الجماعات المتاويّة حول متشيّعين لأعمال المحبّة ومدافعين (ولاسيّما النساء) عن أولويّة الصلاة والعبادة. عرف العالم اليهوديّ هو أيضًا هذه الجدالات حيث يبرز عنصر من العناصر الثلاثة التي تكوّن العالم: الشريعة، العبادة، أعمال الرحمة. وتقديم مت للدينونة الأخيرة (25: 31-46) حيث يتماهى يسوع مع أصغر إخوته الصغار، يُفهمنا ردّّة الفعل لدى التلاميذ.
طلب موسى من الرب لاسرائىل أن لا يكون فقراء في الأرض (تث 15: 4). ولكنه رأى بثاقب عقله أن الفقراء لن يزولوا من الأرض، وأنه يجب أن نمدّ لهم يد العون (تث 15: 11): هو انشداد لا نستطيع أن نتجنَّبه، في قلب شعب الله، بين متطلبة العهد والواقع اليوميّ. لا يلغي يسوع هذه الفريضة. بل يبيّن المعنى الذي تأخذه بالنظر إلى شخصه . وافق على ما فعلته امرأة، لأنها انتبهت إليه هو الفقير الذاهب إلى الموت مع إخوته الفقراء والمعذّبين في كل مكان وزمان. غير أن التلاميذ اهتمّوا بالأحرى بقيمة المال أكثر من اهتمامهم بواقع الفقراء الشخصيّ. حكموا على المرأة، مع أنها بفعلتها عرفت أن تكتشف الطريق الحقيقيّ الذي يجعلنا ننتبه إلى الفقراء. بعد اليوم، صار الطريق المباشر إلى المعذبين يمرّ بيسوع. فحين ندركه هو نعود إلى أصغر الصغار، إلى إخوته (25: 40-45) الذين يتماهى معهم. فعمل المحبّة يدلّ على طريقة تقبّل الآخر، والوصيّة الثانية تشبه الأولى (22: 39). ونحن حين نطلب ملكوت الآب يُعطى لنا الباقي كله زيادة (7: 37).
دُعيت الجماعة المتاويّة (وجماعتنا أيضًا) للعودة إلى الانجيل (آ 13). فحيث أُعلن الانجيل، ستساعد المرأة التلاميذ في كل الأزمان على اكتشاف المعنى الحقيقيّ للمحبّة من خلال يسوع الحاضر في إخوته المتألمين. لا نستطيع أن نضع من جهة يسوع (الذي نكرمه بمالنا في شعائر العبادة)، ومن جهة أخرى الفقراء (الذين نساعدهم بصدقاتنا). فنحن لا نكتشف الفقراء حقًا إلاّ من خلال ذاك الذي صار فقيرًا من أجلنا لكي نغتني بفقره.
ولكن واحدًا من الاثني عشر لم يفهم. فالخائن يهتمّ بالمال أكثر من اهتمامه بشخص يسوع. ربط مت خبر خيانة يهوذا بالمسح بالطيب في بيت عنيا مع الاداة ((توتي)) (حينئذ، آ 14). أما يو 12: 4 فجعل يهوذا يتدخّل في مشهد هذه المسحة. الخيانة أمر شنيع جدًا. وهكذا نفهم صعوبة المسيحيّبن الأوّلين أن يقبلوا بأن يكون يسوع اختار رسولاً سيكون خائنًا. وبأن يلعب هذا الخائن دورًا في مخطّط الله. لهذا عادوا إلى الكتب المقدسة (كما يفعلون في كل صعوبة) حين توقّفوا عند وضع يهوذا. وكان تلميح إلى خاتمة الراعيين في زك 11: 12 حيث نرى ((التجّار)) (الذين يمثّلون رؤساء اسرائيل) يعطون النبي (الذي يمثّل الله) بدون وعي منهم أجرة قليلة: ثلاثين من الفضة، هي ثمن عبد (رج خر 21: 23). وحين استعاد مت فعل ((أسلم)) (باراديدوناي، آ 15-16) الذي جعله في فم يسوع في آ 2، شدّد على أن الخيانة تتسجّل في قصد الله: إن ابن الانسان يُسلم إلى الموت لأجل خلاص البشر.
ثانيًا: الجماعة الفصحيّة والخيانة المخفيّة (26: 17-30)
لقد بدأ حاش يسوع في وسط جماعة التلاميذ. فهو ((يسلم)) (باراديدوناي، آ 21، 23-24، 25) هنا أولاً. وهنا ((يعطي)) (ديدوناي، آ ،26 27) جسده ودمه.
((في اليوم الأول من الفطير)) (أي الخبز بدون خمير. حسب طقوس الفصح يزول الخمير من البيوت على مدى سبعة أيام). كان 15 نيزان. وهو أول الأيام السبعة التي فيها سيعيّد الفصح. كان يبدأ بالعشاء الفصحيّ. بدا مت، شأنه شأن مر ولو، كأنه يخلطه مع ((يوم التهيئة)) الذي فيه يُذبح حملُ الفصح (رج مر 14: 2؛ لو 22: 7؛ يو 18: 28؛ 19: 14)، بعد الظهر، على ساحة الهيكل. لا يتكلّم مت عن هذا الذبح (نحر الحملان). فهو يريدنا أن نفهم (مثل يو 19: 36) أن الحمل الحقيقيّ المذبوح هو يسوع (1كور 5: 7: يسوع فصحنا قد ذُبح). وهذا ما يظهر في ساعة الدفن (27: 62). لقد استبق يسوع بيوم واحد العشاء الفصحيّ. وهذا ما نحسّ به حين نقرأ مت. ولكن التفحّص المتنبّه يجعلنا نكتشف أن الهدف اللاهوتي يسيطر على المعطيات الكرونولوجيّة الصرف.
والاشارة الأولى نجدها في جواب يسوع لتلاميذه الذين سألوه عن الموضع الذي فيه ((سيأكل الفصح)). أجاب: ((إذهبوا إلى المدينة، إلى فلان...)) (آ 18). يدلّ عدم التحديد في العبارة المتاويّة على أن الكلام يتوجّه إلى القارئ. ((فلان)) هو أنا، أنت. هو كل انسان يكتشف نفسه معنيًا بموت ((المعلّم)). وإذ كان يهوذا يبحث عن ((الفرصة المناسبة)) (اوكايريان، آ 16) لكي يسلمه، أكد يسوع أن ((زمانه)) (كايروس) قريب (انغيس): نحن هنا في صدى مثَل التينة الذي تذكره الخطبة الاسكاتولوجيّة (24: 33)، واستباق لتوقيف يسوع في بستان الزيتون (آ 45-46). ونلاحظ أيضًا عبارة يسوع: ((عندك أصنع الفصح مع تلاميذي)). إن كلمة يسوع تحقّق ما تقول: فصحُه، أي عودته إلى الآب مع جماعته، يعطي المدلول العميق لفعل ((أكل)) الذي يُذكر مرّتين (آ 21، 26).
والاشارة الثانية نجدها في عبارة ((ولما كان المساء)) التي تبدأ خبر أول تكثير للأرغفة (14: 15)، والتي تعود ساعة دُفن يسوع (25: 57). فالفصح اليهوديّ يبدأ ((حين يأتي المساء)) أي عند غياب الشمس الذي يدلّ على نهاية 14 نيزان وبداية 15 نيزان. واليوم الأول من الفطير يتّخذ معنيين. وهكذا ننتقل دون أن ندري من يوم التهيئة إلى اليوم الأول من الأسبوع الفصحيّ. وفوق فعلة يسوع ((الذي أعطى جسده)) ((لنأخذه ونأكله)) في أولى ساعات عيد الفصح اليهودي، نجد عمل يوسف (الرامي) الذي جاء ((يأخذ)) جسد يسوع (27: 59) عندما ((جاء المساء)). صورتان لاهوتيّتان طُبعتا الواحدة فوق الأخرى. الصورة الأولى في آلام يسوع والصورة الأخيرة. هذا ما يلفت انتباهنا. وكل شيء يحصل وكأن يسوع يؤسّس الافخارستيا ويُدفن ساعة يُحتفل بالفصح الرسميّ.
والاشارة الثالثة تتكوّن من ردّة فعل التلاميذ. حين أعلن يسوع الخيانة بعبارة ((واحد منكم)) (آ 21)، ((حزنوا جدًا)) بهذا الحزن الذي يجتاح ذاك الذي يحسّ بنفسه معنيًا بالأمر (مثل التلاميذ بعد التجلّي في 17: 23، ورفاق العبد الذي لا يرحم في 18: 31). كل واحد من التلاميذ أصيب بهذا الإنباء، لأن كل واحد اكتشف نفسه معرَّضًا لأن يخون. وهذا ما يدلّ عليه السؤال: ((هل أنا يا رب)) (آ 22)؟ يتكرّر السؤال فقط عند متّى كصدى في فم يهوذا: ((هل أنا رابي)) (آ 25)؟ فيسوع ظل ليهوذا معلّمًا مثل سائر المعلّمين ولم يصبح له ((الربّ)). هي ساعة الدينونة، ونحن نعلم أن ابن الانسان الذي يُسلم (آ ،24 رج آ21) يستطيع وحده أن يدين ذاك الذي يسلمه. أجاب يسوع يهوذا، كما أجاب عظيم الكهنة (آ 64) والوالي (27: 11): ((أنت قلت)). فالانسان يدين نفسه في علاقته بالمسيح، أكان تلميذًا أم لا، أكان يهوديًا أم وثنيًا: ((لأنك بحسب كلامك تتبرّأ، وبحسب كلامك يحكم عليك)) (12: 37). إن ((رثاء)) يهوذا (آ 24) ليس نبوءة تشير إلى هلاكه الابدي. بل هو نداء يتوجّه إلى كل واحد منا ليدخل إلى أعماق ضميره: تسليم ابن الانسان أمر مشين. مصير الذي لم يولد أفضل من مصيره. إذن، العمل هو الذي يُدان كما دينت الشكوك (18: 6-7). في الواقع، نرى هنا الشك (والعثار) في كل خطورته.
سيقول يسوع أقوالاً لم يسمع بها أحد داخل هذه الجماعة من ((الخونة)) التي تعترف به رغم كل شيء ربًا. استعاد ما فعله في تكثيري الأرغفة: ((بارك (اولوغيساس)، كسر، أعطى...)) (آ 26؛ رج 14: 19). ((شكر (اوخرستيساس) وأعطى (آ 27؛ رج 15: 36). هذه الفعلات هي جزء من العشاء الفصحي اليهودي. مباركة الخبز وكأس الشكر. وهكذا، إذ أتمّ يسوع الاحتفال التقليدي، ((صنع)) الفصح الحقيقيّ. أسلم الرب جسده ودمه إلى جماعته. أعطاهم ليأكلوا الجسد الذي يسلمونه، ليشربوا الدم الذي يسفكونه. فهذه الجماعة الممزّقة تستعيد وحدتَها حين تقيم في هذا الجسد وحين تتقبّل عهد الدم. بما أن كل خطيئة تقتل (تميت) ابن الانسان، فابن الانسان وحده يستطيع أن يغفر عبر موته (آ 28) بعد أن يسلم ذاته إلى أيدي الخطأة (آ 45).
الافخارستيا هي في الوقت عينه غفران نناله معًا. ووليمة نشارك فيها الله. تذكّر يسوع عهد البرية الذي جعل من اسرائيل شعب الله (رج خر 24: 8)، فأكمله وأخذ يعلنه ((في ذلك اليوم)) (آ 29؛ رج 24: 36) الذي فيه يشرب ((نتاج الكرمة)) جديدًا في ((ملكوت أبيه)). وهكذا دلّ على جماعة الأبناء الاسكاتولوجيّة، التي تدشّنت في الجماعة الكنسيّة حيث يحيا الرب موته وقيامته (عمل فريد من الخلاص الشامل) لأجل كثيرين (آ 28) مع كل واحد (معكم، آ 29) من تلاميذه. لقد بدأ مجيء ابن الانسان مع إنشاد مز 36 الذي يعلن حبّ الله الأبديّ لشعبه. ونجد هنا من جديد جبل الزيتون حيث تفوّه يسوع بخطبته الاسكاتولوجيّة (آ 30؛ رج 24: 3).
ثالثًا: جماعة مشتّتة ويسوع يتّحد بمشيئة الآب (26: 31-56)
إن جماعة التلاميذ التي هي باكورة جماعة ملكوت الآب، لا تستطيع أن تحيا إلاّ بحضور يسوع فيها. غير أن هذا الحضور يقودها إلى حيث لا تستطيع أن تذهب بعد، إلى بستان الجسمانية ما دام يسوع لم يذهب إليه. هذا الموضع هو موضع مشيئة الآب. لقد لاحظنا كم شدّد مت على الجماعة التي يكوّنها رباط يوحّد التلاميذ بيسوع (مع تلاميذي، آ 18، مع الاثني عشر،آ 20، معكم، آ 29، معهم، آ 36) ويوحّدهم به (معي، آ 23، معك، آ 35، معي، آ 38، 40، مع يسوع، آ 51). غير أن على هذه الجماعة أن تختبر الشكّ والعثار (آ 31-33). أن تختبر الإنكار (آ 34-35) والخيانة (آ 46، 48) والتشتّت (آ 31، 56) لكي تدرك أن يسوع وحده يجمعها. كل التلاميذ سيمرّون من هنا (آ31، 33و 35، 56) ولن يفلت أحد حتّى بطرس (آ 34).
ولاحظ مت أن كل ما ((يحصل)) (آ 54، 56) يرتبط بمشيئة الله التي ستتمّ (آ 42) حسب ما قاله يسوع في صلاة الأبانا (6: 10). أبرز مت (آ 54، 56؛ رج مر 14: 19) موضوع تتمة الكتب (فزاد ((الأنبياء))، آ 56) الذي بدأه في آ 31 بإيراد زك 13: 7 حول الراعي الذي ضُرب فتشتّتت الخراف.
جماعة مشتّتة واتحاد بمشيئة الآب. هذان هما القطبان في هذه الوحدة الادبيّة التي انطبعت بتضمينين: ((كل)) (آ 31، 35) ((التلاميذ)) (آ 35، 56). وأعلن اللقاء في الجليل (آ 32؛ رج 28: 7-10). ولكن الآن يسيطر ليل (آ 31-34) الشك والانكار قبل أن يصيح الديك ليدعو إلى التوبة ويعلن خبر القيامة.
يحب أن ((يبتعد)) (ابارخستاي، آ 36، 42، 44) يسوع عن تلاميذه، أن يعبر في الصلاة هوّة الحزن والقلق التي تفصل إرادته المرتبطة منذ الآن بالجماعة بواسطة كأس العهد (آ 27، 39) عن إرادة الآب التي ((تتمّ)). فقد ((اقتربت الساعة وابن الانسان يُسلم إلى أيدي الخطأة)) (آ 45؛ رج آ 28)، ومشيئة الآب تكمن في أن لا يفلت يسوع من كائنه الصحيح: فهناك تجربة لدى كل انسان تقوم بأن يتهرّب، بأن لا يكون أمينًا لدعوته الخاصّة. هذه المشيئة لا تغرِّبنا عن ذواتنا، بل تفرض علينا أن نذهب إلى حدود ذواتنا. غير أن السهر الذي أوصى به يسوع للاستعداد لمجيء ابن الانسان (24: 42-44)، ليس في متناول التلاميذ. نحن نتقبّله كعطيّة ننالها بصلاة يسوع الذي يوقظنا من رقادنا. فالتلميذ لا يستطيع أن يقول: ((لتكن مشيئتك)) إلاّ إذا ترك يسوع يحمل صلاته. هكذا نكون أبناء حين نكتشف نفوسنا أحرارًا تحرّرنا بقدرة الآخر الذي هو الربّ.
التلاميذ ليسوا وحدهم. ففي مسيرة يسوع على الأرض، رأينا الجموع العديدة تتبعه. وهنا أيضًا يتدخّل الجمع (آ 47، 55)، ولكنه مسلّح بالسيوف والعصي. القتل أسهل من قبول الموت الذي يجعلنا أبناء حين ننفتح على مشيئة الآب. وكان جواب يسوع لقبلة يهوذا ملغزًا: ((لماذا أنت هنا))؟ ((ألهذا أنت هنا))؟ ((إصنع ما لأجله أتيت هنا)). لا شكّ في أننا في الوقت عينه أمام قول يدلّ على الحزن وقبول الواقع الذي يعبّر عن مشيئة الآب. ونفكر بما في مز 55: 13-14، 21-22. نفكّر بصلاة الانسان الذي اضطهدوه وخانوه. وامتشق واحد من أتباع يسوع سيفًا على عبد رئيس الكهنة. أجاب يسوع (هذا لا نجده إلاّ في مت): ((ردّ سيفك إلى موضعه لأن جميع الذين يأخذون بالسيف يهلكون بالسيف)) (آ 52). هذا مثل يذكّرنا أن العنف يجتذب العنف. وأضاف مت فذكر ((اثنتي عشرة كتيبة من الملائكة)) يستطيع يسوع أن يدعوها لمساعدته (آ 53). هذا ينير خيار يسوع، ويبعدنا عن المسيحانيّات الكاذبة: رفض سيف الغيورين كما رفض الجيوش السماويّة الاسكاتولوجيّة التي تمنّتها جماعة قمران، كما رفض أن يظهر على جناح الهيكل لتحمله الملائكة. (4: 6-7). ملكوت الآب ملكوت واقعي. وإذا أردنا أن ندخله، نمرّ عبر واقع الموت. والجماعة الاسكاتولوجيّة التي تمثلها 12 فرقة من الملائكة ستأتي فيما بعد. في مشهد التجارب، لم تقترب الملائكة لتخدم يسوع إلاّ بعد أن انتصر على الثلاّب. فتتمة الكتب ليست كلمة فارغة. ما دامت الساعة لم تأت، ما كان باستطاعتهم أن يوقفوا يسوع ((ساعة كان يعلّم في الهيكل)) (21: 23). إذن، سمح لهم يسوع بحريّته أن يمسكوه. وقبل أن يهرب تلاميذه جميعًا. ففي عزلة جذريّة اتّحدت حريّته بمشيئة الآب. وهذه الوحدة التي تعبّر عنها القيامة، تستطيع وحدها أن تجمع في الجليل جماعة الصغار التي لا يريد الاب أن يهلك واحد منها (18: 14).
ج - يُسلم ابن الانسان ليُصلب (26: 57-27: 46)
أولاً: استجواب لدى عظيم الكهنة وإنكار بطرس ليسوع (26: 57-75)
هذه المتتالية التي تتضمّن مشهدين يعمل فيهما عظيم الكهنة قيافا وبطرس، ويفصل بينهما حدث قصير نجد فيه الهزء بيسوع (آ 67-68)، تحصل في إطار واحد هو قصر عظيم الكهنة (آ 58-59؛ رج 26: 3). تفرّد مت عن مر ولو وأعطانا اسمه: قيافا (يو 18: 13-14). كان حنان رئيس كهنة منذ 6 ق م حتى سنة 15 ب م. عزله فاروس غراتوس وأحلّ محلّه اليعازر سنة 16-17، ثم يوسف الملقب قيافا، وهو من جماعة الصادوقيين. ظلّ رئيس كهنة حتى سنة 36. غير أن حنان ظل يمارس سلطة كبيرة في المجلس. قيافا هو المحقّق. وبطرس هو كيفا أي الصخر.
وأعلن وجودُ بطرس منذ البداية (آ 58). جلس مع الخدم وأراد أن ((يرى العاقبة)) (كتب مت وحده). وهكذا نشهد المحاكمة في بيت عظيم الكهنة من خلال نظر التلميذ الجاحد.
منذ البداية، قال لنا مت إن عظماء الكهنة والمجلس طلبوا ((شهادة زور)) (بسيدومرتيريا، آ 59؛ رج 15: 19) على يسوع. أما هذا بغريب على مجلس يُطلب منه أن يبحث عن الحقيقة؟ غير أن مت أعلمنا أن الشاهد الوحيد الصادق هو الذي يتماهى مع ربّه ويواجه معه الاضطهاد والموت (10: 18؛ 24: 14).
تكرّرت لفظة ((موت)) (تناتون،آ 59، تناتوس، آ 66) فدلّت على أن الأمر قد ُقضي. فالشهادة الوحيدة التي احتفظوا بها هي إعلان يسوع حول ((هيكل الله)) الذي يستطيع أن يدمّره ويعيد بناءه في ثلاثة أيام (آ 61). وزاد مر 14: 58 شرحًا: ((هذا الهيكل الذي صنعته أيدي البشر... والهيكل الآخر الذي لم تصنعه أيدي البشر)) (رج يو 2: 19). وجاء الاتهام بشكل تحدٍّ مليء بالسخرية، وسيردّده العابرون على الجلجلة (27: 40؛ رج مر 15: 29). والتلميح إلى القيامة لا يمكن أن يُفهم كما فهمته الكنيسة الاولى التي توسّعت في موضوع جسد يسوع، هيكل الله الجديد ومركز العبادة الروحيّة. ثم إن فكرة المعبد المثالي ليست غريبة على عقليّة زمن يسوع كما نرى في نظام الجماعة في قمران (8: 5-11). لقد أتمّ يسوع ما استشفّه الكتاب المقدس والعالم اليهوديّ. فمن يكون إذن؟
وأخيرًا، طرح عظيم الكهنة على يسوع سؤالاً واحدًا حول هويّته: استحلاف احتفاليّ جعل فيه الله شاهدًا ليُجبر المتّهم على الكلام. وعرض لقبين: ((المسيح)) و((ابن الله)). حين يُقالان معًا فهما لا يدلاّن على لاهوت يسوع. لأن لفظة ((ابن الله)) تعبّر بالأحرى عن طابع المسيح الملكي (مز 2: 7). ما أراده عظيم الكهنة هو أن يأخذ من يسوع اعلانًا واضحًا عن مسيحانيّته وعن صحّة رسالته. غير أن يسوع أجاب جواب تهرّب؟ ربما. ولكن يسوع في الوقت نفسه يعيد عظيم الكهنة إلى وعيه، ويرفع الجدال من وضع زمنيّ إلى وضع سماويّ. هو يكشف هويّته الحقيقيّة التي ستظهر قريبًا: منذ الآن ترون ابن الانسان جالسًا عن يمين القدرة وآتيًا على سحاب السماء (آ 64).
حين وضع يسوع معًا مز 110: 1 (يعود إلى المسيح الملك الذي سيجلس على عرش ملك الله في اسرائىل، رج 1أخ 28: 5؛ 29: 23؛ 2أخ 9: 8) ودا 7: 13 (الذي صوّر عن طريق الاستعارة مجيء المسيح كرؤية سماويّة)، أكّد لاهوته بحيث هتف عظيم الكهنة: إنه يجدّف. لقد أدرك أن يسوع أكّد على وجود واقع في شخصه الخاص كان استعارة في سفر دانيال. وعبارة ((جلس عن يمين)) التي كانت تدلّ في الأصل (في المزمور) على موقع القصر الملكي عن يمين (أي: في جنوب) الهيكل (بيت الله)، تُرجمت في فم يسوع واقعًا سماويًا: إنه مساو لله. ونفهم استياء رئيس الكهنة الذي لم يستطع أن يدرك بُعد الوحي الذي وصل إليه: إن مسيح دانيال المجيد قد اتّخذ سمات عبد الله المتألم كما في أش. وحين أرسل السنهدرين يسوع إلى الموت حقّق من دون أن يدري حقيقة هذه الكلمة. مزّق قيافا ثيابه علامة الحزن مستبقًا تمزيق حجاب الهيكل (27: 51) ليظهر مجد القائم من الموت.
ومع ذلك نفضّل ألاّ نرى نبيًا في هذا المسيح الذي يتلاعب بنصوص الكتاب المقدس. وبرز مشهدُ الهزء (آ 67-68). ((لُطم وهو خاضع وما فتح فمه)) (أش 53: 7). هذا هو عبد الله المتألّم.
وبطرس الذي عرف في يسوع المسيح ابنَ الله الحيّ في قيصريّة فيلبس (16: 16)، لم يعد يعرف هذا الرجل الذي صار بالنسبة إلى الجواري ((يسوع الجليليّ)) (آ 69) أو ((الناصريّ)) (آ 71). ثلاث مرات أنكر الرجلَ، ونسي خطبة الرسالة: ((من ينكرني أمام الناس أنكره أنا أيضًا أمام أبي الذي في السماء)) (10: 33). ولكن انكاره ليس بنهائيّ. خرج منه حين ((ذهب إلى الخارج)) (آ 75. هذا ما شدّد عليه مت وحده)، وبكى بكاء مرًا (رج لو 22: 62).
ثانيًا: ندم يهوذا والمثول أمام بيلاطس (27: 1-26)
تُقدّم لنا هذه المتتاليةُ أيضًا لوحتين يحتلّ فيهما يهوذا (من جهة) وبرأبا (من جهة ثانية) مكانًا مميَّزًا. وتجتمع هاتان اللوحتان بما قاله يسوع للوالي (27: 18-14). وما يؤمّن وحدة هذه المتتالية كلها هو شخص بيلاطس ((الوالي)) (آ 2، مرتين، 14-15، 21، 27). ولكن حول بيلاطس، وحول يسوع، يدور عظماء الكهنة وشيوخ الشعب (آ 1، 6، 12، 20) والجموع (آ 20، 24) والشعب (آ 25) ويهوذا (آ 3) وبرأبا (آ 16، 17، 20، 21، 26) وامرأة بيلاطس (آ 19). فكأني بالمشهد توسّع فصار قاعة محكمة لا يجسر فيها أحد أن يأخذ موقفًا: ((أنت وما ترى)) (آ 4، هذا ما قاله اليهود ليهوذا). أي ((تدبّر أمرك)). ونقرأ في آ 24 كلام بيلاطس للرؤساء: ((أنتم وما ترون)) (دبّروا حالكم). هي قضيّة لم يتعوّد عليها الناس. حُكم بالموت على انسان (آ 26) قال فيه يهوذا إنه ((أسلم دمًا بريئًا))، وأكّد عنه بيلاطس أنه ((بريء من دمه)) (آ 24؛ رج دا 13: 62).
أورد مت وحده بين الأناجيل موت يهوذا (رج أع 1: 15-20). ارتكز من أجل ذلك على تقليد شعبيّ ربط بين نهاية الخائن و((حقل الدم)) (حقل دما) الذي يقع في وادي جهنّم ويعرفه سكان أورشليم. والانتحار شنقًا يذكّرنا بموت أحيتوفل، الذي كان رفيق داود الحميم ثم خانه (2صم 17: 23). ثم كان تفسير مدراشي دمج قول زكريا النبي حول راعيي اسرائىل (زك 11: 11-13؛ رج مت 26: 14-15) مع قول إرميا (18: 2-3؛ 19: 1-2؛ 32: 6-15) الذي ترك ماله للفخاريّ أو للذي يصبّ المعادن. هذا ما أتاح لمتّى أن يبيّن مرّة أخرى أن قصد الله يمرّ عبر أعمال البشر حتى أحقرها. وفي النهاية، شدّد النصّ على ((ثمن الدم)) (آ 6) الذي قيل عنه أنه ((زكي)) (آ 4): كيف يقيّم البشر ثمن الثمين في بني اسرائيل (آ 9)؟ يبدو أنهم لم يعيروا اهتمامًا إلى الدرَّة الثمينة، إلى ملكوت السماوات (رج 13: 45-46). فأثمن بني اسرائيل قد بيع كعبد أو حيوان من أجل الذبيحة. في الواقع، كان يهوذا واعيًا حين عرف براءة يسوع. وبدا انتحاره رسمة سريعة عن فعل إيمان لم يتفتّح في الرجاء. ومكانة القبر الفارغ بعد القيامة (رج 28: 16، الأحد عشر) تعبّر عن حريّة الانسان الذي يقبل الخلاص المقدّم إليه أو يرفضه. نحن هنا أمام ندم جاء متأخّرًا.
واقتيد يسوع إلى الوالي الروماني الذي سأله. ما همّ هذا الوثني ولقبي ((مسيح)) و((ابن الله)) (رج 26: 63)؟ فالقضايا الدينيّة لا تستوقفه. ولكن حدّثوه عن ((ملك اليهود)). هذا موضوع سياسيّ يرتبط بصلاحيّاته، لأن الملك في العالم اليهوديّ صار خاضعًا للامبراطوريّة الرومانيّة. فلقب ((ملك اليهود)) سبق وأعطي ليسوع بفم وثنيين، بفم مجوس جاؤوا من المشرق (2: 2)، فحوّل هيرودس كلامهم وسأل: أين يولد المسيح (3: 4)؟ وهنا يسوع أجاب أيضًا بلغة تهرّب (آ 11؛ رج 26: 25، 64)، وأعاد بيلاطس إلى وجدانه. غير أن عظماء الكهنة والشيوخ اتّهموا يسوع، فاستعاد الوالي تقريبًا ما قاله قيافا: ((أما تسمع كل ما يشهدون به عليك)) (آ 13؛ رج 26: 62)؟ أما يسوع فظلّ صامتًا (آ 12، 14؛ 26: 62، 63). ما عاد له شيء يقوله، بعد أن دلّ على نفسه أنه ((المسيح)) و((ابن الله)) و((ملك اليهود)).
تجاه التفاوض التجاري بين يهوذا وعظيم الكهنة، نجد التفاوض بين بيلاطس والجمع الذي حرّكه عظماء الكهنة والشيوخ. تذكّر الوالي العيد الذي سيحتفلون به، هذا العيد الذي لا يجب أن يكون فيه بلبلة (26: 5). العيد قريب (آ 15). والبلبلة تتنامى (آ 24). ولكن بيلاطس لا يهتمّ بمعنى العيد بل بعفو يطلبه عن برأبا (كان اسمه يشوع برأبا، آ 16-17).
وأورد مت وحده مشهدين: تدخُّل امرأة بيلاطس التي تكلّمت عن يسوع ((البار)) (آ 19)، وفعلة الوالي الذي غسل يديه أمام الجمع (هي عادة يهودية، تث 2: 1-9؛ مز 26: 6؛ 73: 13) قائلاً: ((أنا بريء من دم هذا الصدّيق)) (آ 24. نجد هذا الكلام في عدد من المخطوطات). لم تدخل هذه العناصر عن طريق العرض والصدفة: ساعة أقرّ العالم الوثني الذي يمثّله بيلاطس وامرأته أن هذا الرجل هو صدّيق وبريء، طلبوا ((كلهم)) (آ 22) أن يُصلب، و((كل الشعب)) (آ 25؛ رج 26: 5) اعتبر نفسه مسؤولاً ساعة تهرّب الوالي من مسؤوليّته. وكانت صرخة الشعب: ((دمه علينا وعلى أولادنا)). وسار في هذا الخطّ انجيل بطرس (المنحول) الذي يعود إلى منتصف القرن الثاني.
هنا يجب أن ندرك هدف متّى. إن الشعب اليهوديّ كله أخذ على عاتقه مسؤوليّةً تهرّب منها بيلاطس. حكم على يسوع لأنه لم يرَ في دمه دم ((العهد المراق عن كثيرين لغفران الخطايا)) (26: 28).فأمانة الشعب لدم العهد الذي عُقد بموسى في سيناء (خر 24: 8) منعته من المشاركة في دم العهد الذي تمّ في موت يسوع. فدم الأنبياء (23: 30) يقوم عبر التاريخ بتمييز يتجاوز المسؤوليات القانونيّة والاخلاقيّة في محاكمة يسوع: إن العمل الذي به قبل يسوع موته ((فدية عن كثيرين)) (20: 28) هو مجيء ابن الانسان على سحاب السماء (26: 64) ليدين كل ضمير في قلب الحرّيات البشريّة.
وفي النهاية، ((أسلم)) بيلاطس يسوع ليُصلب: للمرة الاخيرة يستعمل مت هذا الفعل الذي سبق له فميّز عمل شيوخ الكهنة وعظماء الشعب (آ 18)، وعمل يهوذا (آ 3، 4): كل واحد يسلم يسوع للصلب بقدر المسؤولية التي يحمّله إياها إيمانُه بالمسيح.
ثالثًا: صلب ملك اليهود ، ابن الله (27: 27-44)
أمام صليب المسيح دُعيت جميع الأمم، أمام هذا الصليب (آ 32، 40، 42) الذي هو في قلب العالم والتاريخ البشريّ. و((ملك اليهود)) (آ 29، 37) يكلّل بالشوك كما على المسرح ((بيد)) الفرقة كلها (آ 27) قبل أن يُصلب (آ 35). و((ابن الله)) هو موضوع سخرية كبيرة من قبل المارّة (آ 39). وعظماء الكهنة والكتبة والشيوخ (آ 14) يهزأون من هذا اللقب الجديد لقب ((ملك اسرائيل)) (آ 42).
إن مشهد الهزء من ملك اليهود (آ 27-31) هو صدى الهزء الذي تحمّله المسيح النبي (26: 67، 68) خلال الليل. وهو يمتدّ حتى الجلجلة، كما يقول فعل ((امبايزاين)) (هزئ) الذي استعاده مت هنا ثلاث مرّات (آ 29، 31، 41). قد يقابل هذا الحدثُ ذاك الذي جعله لو 23: 6-16 أمام بيلاطس. إن مت شدّد على طابع الهزء المشين: الملك الوديع والمتواضع (21: 5) قد ارتدى قميصًا قرمزيًا (آ 28، 31)، قميص جندي روماني، ووُضع على رأسه إكليل الشوك وفي يده قصبة وكأنها صولجان، وسُلّم إلى جنود رعاع انهالوا عليه ضربًا وهزءًا: أجل، لقد تحقّقت نبوءة عبد الله المتألّم كما نقرأها في أش 52: 13-53: 12.
ويُذكر سمعان القيريني في بداية مشهد الصلب (آ 32-37). رأى مت في هذا المشهد تتمّة الكتب: تلميح إلى مز 69: 23 (جعلوا في طعامي علقمًا وفي عطشي سقوني خلاً) ومز 22: 18 (اقترعوا على ثيابي). اللباس يدلّ على هويّة الشخص، على قدرته الشخصيّة. وإذ عرِّي يسوع مرتين من ثيابه (آ 28، 31)، لم يعد سوى انسان يصنعون منه ما يشاؤون. لقد صار الآن عريانًا بحيث لم يعرفه أحد لولا الكتابة فوق رأسه: ((يسوع ملك اليهود)) (هي خبرة المستشفى حيث يذهب الانسان إلى العمليّة بعد أن يأخذوا منه كل ما يدلّ عليه. فيبقى له المرض تدلّ عليه كتابة في السرير الذي يُحمل عليه إلى غرفه العمليات).
ولم يُصلب يسوع وحده. بل جعلوه بين اللصوص (آ 38، 44). كان قد ذكر مت سببَ الحكم على يسوع حسب المحكمة الوثنيّة. وها هو يستعيد بإيجاز مسيرة المحاكمة اليهوديّة حيث اتّهم يسوع ((بالتجديف)) آ 39). يريدون منه أن ينزل عن الصليب، على مثال المجرّب الذي أراده أن ينزل عن جناح الهيكل على أجنحة الملائكة (4: 5-6). ولكنه لا يستطيع أن يخلّص البشر إلاّ إذا ظلّ على الصليب.
فكّر عظماء الكهنة أيضًا بـ((ملك اسرائيل)) (آ 42) يفرض نفسه بقوّة. هو الذي انتظره اليهود. أما في نظر مت، فهناك مدلول أعمق لا يفهمه إلاّ الذي اكتشف في يسوع ملكوت السماوات: ((ملك اسرائىل)) هو ((ابن الله)) (رج 2: 15). وأخيرًا، جعل مت في فم عظماء الكهنة مقطعًا من مز 22 (آ 8)، سبق له وذكره مرتين (آ 35 = مز 22: 18؛ آ 39 = كز 22: 9)، فدلّ على هدفه بأن البار المتألّم في المزمور وجد تمامه الحقيقيّ في يسوع الذي اتّكل على الله فبرّره الله الذي يخلص البائس من مضايقه (22: 23-32). هذه النجاة لا يمكن أن تكون إلاّ تيوفانيا، ظـهور المسيح ابن الله. هذا ما يبقى لنا أن نشرحه.

د - لقد جاء فصح ابن الله (27: 45 - 28: 20)
صوّر مت موت يسوع وكأنه تيوفانيا، كأنها ظهور إلهيّ دلّ عليه الزلزال ساعة أسلم يسوع الروح (آ 51، 54)، وساعة قام (آ 2، رج آ 4). وذكّرنا في الوقت عينه ((ارتجاج)) أورشليم حين دخل إليها يسوع دخوله المسيحانيّ (21: 10). ونحد هنا أيضًا فعل ((حصل)) (غينستاي) الذي له مدلوله (آ 45، 54، 57؛ 28: 4، 4): فالفصح الحقيقيّ الذي أعلنه يسوع (26: 2) قد ((حصل)) حقًا، وموتُ يسوع كشف عن معناه حين كشف مجد الله الذي يقيم البشر إلى الحياة. ففي نظر مت، فعل المسيح المائت والقائم (من الموت) هو حدث المجيء والعودة.
أولاً: موت ابن الله (27: 45-56)
نجد في هذه المتتالية ثلاث وحدات أدبيّة. الأولى، صرختا يسوع (صوت عظيم، فوني ميغالي، آ 46، 50) في بداية مز 22، والساعة التي فيها أسلم الروح ذاك الذي نُفّذ فيه حكم الموت (آ 45-50). الثانية، الزلزال الذي ذُكر مرّتين(آ 51، 54) والاعتراف بابن الله في فم قائد المئة والحرس (آ 51، 54). والثالثة، نظرة النسوة ((اللواتي رافقن يسوع من الجليل وخدمنه)) (آ 55-56).
هناك عناصر مختلفة تذكّرنا بالرؤية الأولى في المعموديّة التي يُحيط بها إعلان المعمدان والتجربة في البريّة. لسنا هنا على مستوى الصدف. فيسوع طلب قبل عماده من يوحنا ((أن يترك الآن)). فتركه السابق (3: 15). وهنا قال الناس: ((نتركه. ونرى هل يأتي إيليا)) (آ 49). ويسوع ((ترك الروح)) (آ 50، أسلم الروح). في الظهور العماديّ، انفتحت السماوات (3: 16) فتركت الروح ينزل على يسوع. والآن تنفتح القبور (آ 52) لتترك ((أجسام القديسين الراقدة)) تخرج. وتحدّد موقع التجربة الثانية في ((المدينة المقدّسة)) (4: 5). فالعبارة عينها (وهي خاصة بمتّى) تعود في آ 53 (ولا توجد في مكان آخر). جاء يسوع من ((الجليل)) ليعتمد بيد يوحنا (3: 13). وعاد إلى الجليل (4: 12) بعد أن انتصر على التجارب وجاءت الملائكة ((تخدمه)) (4: 11). ونتذكّر هنا أن النسوة تبعن يسوع من ((الجليل)) وكنَّ ((يخدمنه)) (آ 55). والعودة إلى الجليل أتاحت لمتّى أن يورد قول أشعيا النبيّ (8: 23-9: 1) حول ((جليل الأمم))، ليعلن النور العظيم ((للشعب الجالس في الظلمة... وفي ظلال الموت)) (4: 16). وهنا ((حصلت ظلمة على الأرض كلها)) (آ 45)، ((والذين كانوا راقدين في الموت استيقظوا)) (آ 52).
وأخيرًا، ساعة أعلن الصوت من السماء: ((هذا هو ابني الحبيب)) (3: 17؛ رج يو 1: 34)، اعترف قائد المئة الآن: ((في الحقيقة كان هذا ابن الله)) (آ 54؛ رج 14: 33؛ رج مر 15: 39). نستنتج من كل هذا أن مت قرّب بين مشهدين ليدلّ على أن تيوفانية الموت تُتمّ رؤية المعموديّة فتدل على بُعد ((اقتراب ملكوت السماوات)) (3: 2؛ 4: 17). فالمسيح الذي أجلسه الآب على العرش الملكي في المعموديّة، يُتم رسالته بموته ويكشف عن طابعها الالهي.
أما الجواب على الصوتين اللذين سُمعا في بداية الانجيل، فهما صوت المرسل الذي أعلنه أش في مت 3: 3، والصوت الذي عرف الابن الوحيد في شخص الجليليّ الذي حلّ عليه الروح (3: 16-17). وتقابلهما الآن ((الصرخةُ العظيمة)) التي أطلقها يسوع مرتين، فاستسلم إلى الله في صرخة الثقة الواعية والممزّقة، مستعيدًا مز 22: 2 (آ 46، فوني ميغالي) ((وأسلم الروح)) (آ 50). فابن الله الوحيد الذي صار انسانًا، لا يستطيع أن يعترف ببنوّته إلاّ إذا جعل نفسه بين يدَي الآب، إلاّ إذا سلّم كل كيانه في موت حقيقيّ. ((ترك الروح)) الذي اقتاده إلى بريّة البشر ليجرَّب (4: 1). وهي الآن التجربة الأخيرة التي يواجهها: ((إن كنت ابن الله فخلِّص نفسك)) (آ 40؛ رج 4: 3، 6). هو لن يخلِّص نفسه. ولكن بما أنه ابن الله، فهو يسلّم ((خلاصه)) بين يدي الآب.
لا شكّ في أن يسوع صلّى ((إلهي)) (إيلي أو إيليا)، وهي لفظة نستطيع أن نقرأها بشكلين مختلفين: يرى فيها المؤمن تتمّة وضع البار المتألّم الذي يتكلّم في مز 22. أما الذي لا يؤمن فيسخر من هذا النداء المتأخّر الذي يطلق إلى إيليا النبيّ (كانوا يظنّون أنه يأتي ليدلّ على المسيح، ملا 3: 23؛ رج مت 11: 7-14؛ 17: 1-13). أما الانسان الشفوق فقدّم اسفنجة مملوءة خلاً، يستعملها الجنود الرومان ليخفّفوا آلام المتألمين (مثل التخدير). اكتشف الانجيليون في هذا العمل (آ 48؛ رج مر 15: 36؛ لو 23: 36؛ يو 19: 29) تتمة مز 69: 22.
قد تكون الاشارة إلى ((الساعة)) مرتبطة بعادة ليتورجيّة. نقرأ في آ 45: ((من الساعة السادسة... حتى التاسعة)). وحتى اليوم يصلّون في الأديار صلوات الساعة السادسة (أي الظهر)والساعة التاسعة (أي الثالثة بعد الظهر). ولكنّنا لا نستطيع أن نستنتج من ذلك شيئًا.
وبدأت التيوفانيا مع ((وإذا)) (كاي إيدو، آ 51؛ رج 3: 16-17). لقد تمّت في إطار ((زلزلة)) (سائسموس، آ 51، 54)، ساعة ترك يسوع الروح. نحن هنا بلا شك أمام تذكير برؤية حز 37 حيث العظام اليابسة تستعيد الحياة خلال زلزال (خر 37: 7) ساعة تنبّأ النبي للروح (حز 37: 13). فُتحت القبور وأخرج منها يهوه الشعبَ الذي اقتاده إلى أرض اسرائيل (حز 37: 12). بهذه العلامة استطاعوا أن يعرفوا الرب (حز 37: 6، 13).فحين أعطى يسوع روحه في مت، حرّك قيامة كل بشر: أجساد القديسين الراقدين استيقظوا ليدخلوا لا في أرض بركة عابرة مثل أرض اسرائيل، بل في ((المدينة المقدسة))، في أورشليم القائمة حيث تتحقّق المواعيد الاسكاتولوجيّة. في ساعة موت يسوع، تحدّث مت وحده عن قيامته، عن استيقاظه (آ 53). وزاد: اجتذب أجساد القدّيسين. وهذا الواقع ((ظهر)) لعديدين. هذا يعني أن الايمان بالقيامة (قيامة المسيح وقيامة كل جسد) يتجسّد في الكنيسة التي نالت الروح.
هذا ما ((حصل)) (آ 54) مدشّنًا الأزمنة الاسكاتولوجيّة (رج 24: 6، 34): هو مجيء ابن الانسان. بعد هذا نفهم أن ((يتمزّق حجاب الهيكل)) (آ 51)،لأنه صار بلا جدوى. لماذا إخفاء الحضور الالهيّ ساعة تجلّى هذا الحضور وعُرف في موت ابن الله. وصرخة ((قائد المئة والذين يحرسون الجسد معه)) (آ 54) تدلّ على أن الوثنيين هم أيضًا يستطيعون الآن أن يبلغوا إلى ((معرفة الله)) كما تحدّث عنها حز 37: 6، 13، 14.
ونجد هنا النسوة: ((أم ابني زبدى)) (آ 56) التي تدخّلت من أجل ابنيها قبل الدخول إلى أورشليم (20: 20-21). وظهرت نساء أخرى للمرّة الأولى. ولكن مت قال، شأنه شأن لو 23: 49 (رج مر 15: 41)، إنهن تبعنه من الجليل وكنّ يخدمنه. وسوف يتوضّح شيئًا شيئًا معنى ((ينظرن من بعيد)) (آ 55)
ثانيًا: دفن يسوع (27: 57-66)
إن كان مت قد أدرك موت يسوع وقيامته في وحدة عميقة، إلاّ أنه لا ينسى أن الموت كان واقعيًا. وهذا الواقع يعبّر عنه بشكل ملموس في الدفن.
نحن في مساء السبت، أي يوم التهيئة (مر 15: 42). في الواقع، تطلّع الانجيليون إلى تهيئة من نوع آخر. لهذا ذكر مت في المناسبة العشاء الافخارستي في إشارة خفيّة: ((ولما كان المساء)) (آ 57؛ رج 26: 20). دُفن يسوع ساعة كان اليهود يتّكئون إلى المائدة ليأكلوا حمل الفصح. هذا الحمل الذي أكله يسوع ((البارحة)) وجعله في واقع موته فصحًا مسيحيًا. وطلب يوسف الرامي (شدّد مت أنه كان تلميذًا، آ 57، رج يو 19: 38) من بيلاطس جسد يسوع فأعطاه إياه. فجاء ((وأخذ الجسد)) (آ 59) متجاوبًا مع نداء وجّهه يسوع في العشاء الأخير: ((خذوا كلوا، هذا هو جسدي)) (26: 26). وندرك الآن لماذا كدّس مت المعطيات الكرونولوجيّة: فالفصح الحقيقيّ هو موت يسوع وقيامته. هذا هو التذكار، هذا هو ((القبر)) والصرح (منيمايون، آ 60 مرتين: رج آ 52-53) الجديد الذي هو علامة القيامة.
إذن، دفنُ يسوع هو علامة موته. لهذا تكلّم مت عن ((القبر)) (تافوس، آ 61) حين ذكر النسوة اللواتي جلسن جلسة التلاميذ الذين يتقبّلون الكلمة ويتركونها تلج إلى أعماق قلوبهم ليفهموها. لقد صارت المشاهدة (والنظـر) انتظارًا داخليًا: هي صدى فعلة المرأة التي مسحت يسوع في بيت عنيا بالطيب (26: 6-13)، فأشار مت إلى المعنى: من أجل دفني. هذه بداية الدفنة (26: 12).
وأقحم مت هنا حدثًا خاصًا به،حدث الحرس على القبر. هذا ما يتيح له أن يُدخل خبر القيامة: فقد أعلنت (وهذا فنّ مت) بلسان عظماء الكهنة والفريسيين الذين اجتمعوا عند بيلاطس (آ 63-64). فالقيامة لا يمكن أن تكون ((ضلالة)) (رج 24: 4، 11، 24) لمن لا يدرك واقعها في العمق، مثل النسوة. أن يجتمع رؤساء الشعب عند الحاكم يوم السبت أمرٌ غير معقول، ولا سيّما في عيد الفصح. لهذا، تحاشى مت الكلام عن السبت فقال: ((في الغد الذي هو بعد التهيئة)) (آ 62). وهكذا جعلنا نشعر أن ذاك اليوم يشبه سائر الأيام. ففي الكنيسة صار الفصح هو القيامة.
إن خبر حراسة القبر الذي يعود بلا شكّ إلى أخبار شعبيّة (كما هو الأمر بالنسبة إلى كذبة الحرس، 28: 11-15)، يتوخّى بدون شكّ أن يردَّ على اعتراضات جاءت من اليهود: يعتبرون أن القيامة غير معقولة بدون قيامة الجسد. ولكن يبقى أن نعرف أي ((جسد)) (1كور 15: 35، 44). فجسد القائم من الموت ليس جسدًا نستطيع أن نسرقه. وهل يستطيع التلاميذ أن يسرقوه بعد أن سيطر عليهم الرعب فتفرّقوا؟ ما يقوله لنا مت هو أن وجود الكنيسة يفرض على كل واحد منا أن يجيب جوابًا شخصيًا على القول: يسوع قد قام. فمن أجاب بالايجاب أكّد على معنى لعالم يحكم على حياته. ومن أجاب سلبًا (ما قام يسوع) التزم بأن يجد معنى آخر للعالم، فيؤكّد بشكل ضمنيّ أن الكنيسة تضلّنا وتضلّ نفسها. ولكننا نعرف أن المسيح قام، وهذا ما يبدّل حياتنا ونظرتنا إلى العالم.
ثالثًا: قيامة يسوع (28: 1- 15)
يستحيل علينا أن نرسم تاريخ تكوين أناجيل القيامة في هذه العجالة. لهذا نحاول أن نكتشف هدف مت. ونتذكّر النقاط المشتركة مع انجيل بطرس. نحن أمام تيوفانيا لا نستطيع أن نفصلها عن خبر موت يسوع. فالأمور تسير وكأن الزلزلة التي حصلت بعد أن أسلم يسوع الروح (27: 51، 54)، قد تكرّرت بعد يوم السبت (28: 2). ويشير النصّ من جديد إلى حز 37. نحن هنا أمام حادث واحد وحيد. جعلنا مت في قلب الليل ((عند فجر اليوم الأول من الأسبوع)) (28: 1)، ساعة صياح الديك الأول. هي ليلة الفصح التي يتحدّث عنها خر 11: 4؛ 12: 12، 29، والتي يذكرها حك 18: 14، 15. أما الزمن اللاهوتيّ لهذا الحدث فهو ما عملته ((مريم المجدليّة ومريم الاخرى)) (اثنتان من أجل الشهادة) اللتان جاءتا ((تنظران)) القبر: هاتان الاشارتان تعيداننا إلى موت يسوع(27: 55) ودفنه (27: 61). قد نجد هنا تلميحًا ليتورجيًا إلى احتفال افخارستيّ تمارسه الجماعة الاولى على قبر الرب، فتتذكّر العشاء الأخير (27: 57-60).
صوّر مت نزول ((ملاك الرب)) (هي طريقة خفرة للدلالة على حضور الله نفسه، رج تك 16: 17؛ 22: 11؛ خر 3: 2). أظهر الربّ انتصاره على الموت، والحجر يرمز إلى طابع ما لا عودة عنه. ودُحرج الحجر وجلس الملاك عليه. موقفه ولباسه السماوي يذكّراننا بقديم الأيام في رؤية دانيال (دا 7: 9-10).أما البرق فيذكّرنا بالخطبة الاسكاتولوجيّة (24: 27) وهي تعود إلى دا 10 والرؤية الكبرى، وظهور الانسان اللابس الكتّان (دا 10: 5-6)، ثم الملاك الذي يدعو النبيّ الراكع مرتين أن لا يخاف (دا 10: 7-8، 12، 18-19) قبل أن يعلن له زمن الغضب وزمن القيامة (دا 11-12). حين استيقظ القديسون ساعة موت يسوع (27: 52-53)، تملّك الحرسَ الرعب (آ 4)، فصاروا كالأموات. فالذين أغلقوا القبر وختموا الحجر ليمنعوا الموت من أن يردّ ضحيّته، صاروا الآن موتى من الخوف. أما النسوة فكان خوفهنّ خوف الفرح. فالتيوفانيا، شأنها شأن الزلزلة التي تشير إليها، تميّز بين الحرس والنسوة: فالخوف هو هنا وهناك، كما وُجد عند قائد المئة المعترف بالمسيح (27: 54). ولكنه يسحق الحرس (28: 4) ويملأ قلب النسوة بالفرح (28: 8) لأن قلبهنّ كان عامرًا بالرجاء. إذن، هي رؤية دينونة يصوّرها مت، وهذه الدينونة تجعل الكنيسة تسير مسيرتها: لم يعد للنسوة أن يطلبن ((هنا)) يسوع المصلوب (آ 5-6). فقد ((قام من بين الأموات)) (آ 6-7؛ رج 27: 64). إنه حيّ، وهو يسبق تلاميذه إلى الجليل(آ 7).
أدركت النسوة القيامة وفهمن تعليم الملاك لأنهن ((نظرن)). فعبر خبر الحاش والآلام، طرحت النسوة في كل مرة الاسئلة الحقيقيّة، من خلال موقفهنّ وتدخلاتهن: تلك التي بدّدت الطيب في بيت عنيا (26: 7-13). الخادمات في قصر قيافا (26: 69، 71). زوجة بيلاطس (27: 19). النسوة اللواتي أتين من الجليل إلى الجلجلة (27: 55-56) أو إلى القبر (27: 61). وحدهنّ استشففن سرّ شخص يسوع. وهذا الادراك العميق للسرّ هيأهنّ لتقبّل البلاغ الفصحيّ الذي أعطي لهنّ في كلمات قاطعة: ذاك الذي صُلب لأجل البشر قد أقامه الله من بين الأموات. وهكذا نجد المنظار الذي رُسم في بداية خبر الآلام والقيامة (26: 2-4).
ولكن هذا الوحي سيطلقهن في الرسالة: يجب أن ينقلن كلمة الحياة التي تنفي الخوف وتملأهنّ فرحًا منذ الآن. سارت العذارى العشر للقاء العريس (25: 1). وها هو يسوع يأتي بنفسه للقائهن. بل هو حاضر فيهنّ. وهو يرسلهنّ إلى ((إخوته)) الذين نكتشف فيهم وجه الآب كما تقول الخطبة الاسكاتولوجيّة (25: 40).
حملت النسوة البشارة (ابانغايلاين، آ 10)وكذلك فعل الحرس (آ 11) الذين ذهبوا إلى عظماء الكهنة. أخبروهم بالحدث ولكنهم جهلوا معناه. فتشاور عظماء الكهنة مع الشيوخ، كما سبق لهم واجتمعوا في الآلام (26: 3). وكان الحديث هنا وهناك عن المال. فكما دُفع الثمن في موت يسوع (ليهوذا)، كذلك دُفع الثمن في قيامته (للحرس). وأخذ الحرس ينشرون ((بين اليهود)) درسًا تعلّموه (آ 15) سيذكره يوستينوس سنة 150 ب م. وهكذا يبقى الموت والقيامة حتى اليوم السؤال الأساسي في التاريخ. وأمامه تظهر حرّيات البشر.
رابعًا: رسالة التلاميذ في المسكونة (28: 16-20)
شدّد لو (يو بعض الشيء) على واقع ظهورات القائم (من الموت) لتلاميذه، فصوّر اتصالات مألوفة معه. أما مت فركّز الانتباه على هجمة الرب الممجّد (كما في ليتورجية عيد القيامة) في حياة النسوة اليوميّة وفي حياة التلاميذ. هاتان الطريقتان المتكاملتان تقدّمان لنا نمطين يجعلاننا ندرك قيامة الربّ. الأول سيرويّ. يُبرز الوجهة الملموسة. يتركّز على أورشليم. ذات بُعد دفاعي. والثاني جلياني. يُبرز واقع المجد. يتركّز على الجليل. اتجاهه اتجاه لاهوتيّ واضح. هاتان اللغتان تقابلان مرحلتين للصياغة الكرستولوجيّة في الكنيسة الاولى. ويجب أن نأخذهما معًا لكي ندرك سرّ القيامة في ملئه.
اهتمّ مت برباط الارسال بحدث القيامة، لأن مسيرة التلاميذ إلى الجليل تنفّذ أمرًا أعطاه الملاك (آ 7) ثم يسوع (ا 10) للنسوة. والنسوة نقلن البلاغ. وهكذا تجد خطبة الرسالة (ف 10) تتمّتها هنا: وأخيرًا انطلق التلاميذ كما أمرهم يسوع.
لم يعد هنا إلاّ ((أحد عشر)) تلميذًا بعد أن غاب يهوذا (27: 3-6). لا يتكلّم الانجيليّ عن ((رسل)) بل عن ((إخوة)) (آ10) وتلاميذ (آ7، 16) يسوع. والموضع الذي دعوا إليه هو ((الجبل))، موضع الوحي الأسمى، الذي يذكّرنا بالعظة الأولى (5: 1؛ 8: 1) وصلاة يسوع (14: 23) وتكثير الأرغفة (15: 29) والتجلّي (17: 1، 9)، وكل هذه محطات هامة على طريق تكوين التلاميذ وتهيئتهم للرسالة.
قال الانجيليّ بسرعة إن التلاميذ ((رأوا)) يسوع. ولكنه شدّد على عملهم الليتورجيّ: ((سجدوا له)) كما فعلوا من قبل في السفينة (14: 33) وكأنهم استبقوا خبرة الآلام. هذا الموقف يعبّر عن الايمان. غير أن سجودهم ما زال يخامره الشكّ (والارتياب) الذي هو رفيق لا ينفصل عن الايمان. اقترب يسوع منهم كما فعل في التجلّي (17: 7) ودعاهم لكي يعمّقوا علاقتهم به. فاللقاء مع القائم من الموت لا ينفي حرية الايمان.
إن لقاء يسوع وتعليمه عند مت يستعيدان بنية أخبار الدعوة في العهد القديم (خر 3: 6-12؛ إر 1: 5-8). حين منح تلاميذه السلطة البنويّة التي تسلّمها من الروح في عماده، منحهم سلطته (28: 18) التي أعطيت له في السماء والأرض. فجماعة الذين يؤمنون بيسوع لا يجدون في ذواتهم امكانية الايمان. فهم ينالونها من قدرة الله التي تصل إليهم بواسطة القائم من الموت : ((اذهبوا إذن)) (28: 19). ونالوا بدورهم سلطان تجميع تلاميذ جدد بالتعليم والتعميد.
يبدو هذا التعليم عملاً داخليًا يحرّك تصرّفًا خاصًا: ((احفظوا كل ما أوصيتكم به)) (28: 20). هو الانجيل كله الذي يصبح تعليم حياة للتلاميذ. يصبح سرًا نعيشه في سرّ العماد، ويمتدّ في مسيرة الحياة اليوميّة. فالحياة الاخلاقيّة في الجماعة المسيحيّة هي الانجيل كما يتجسّد في حياتنا وأقوالنا وأعمالنا.
وتعليم الرب الذي ارتدى سلطة واسعة وتضمّن كل ما أصى به، يتوجّه إلى ((جميع الأمم)) (28: 19) لأنهم جميعًا مدعوّون إلى الخلاص الذي يحمله الملكوت (20: 16؛ 22: 12). وجماعة التلاميذ كلها مسؤولة عن هذا النداء، متّحدة مع الآب الذي لا يريد أن يهلك أحد من هؤلاء الصغار)) (18: 14). وهكذا يصبح التلاميذ مسؤولين عن الأمم لأن انجيل يسوع هو لجميع الأمم.
ولكن كيف يتجرّأ التلميذ أن يجعل نفسه في هذه الرسالة الشاملة؟ لأنه يعرف أن يسوع ليس شخصًا فردًا محصورًا في حدود الزمان والمكان. يسوع هو ربّ السماء والأرض. وقد بدأ تحقيق سلطانه في جماعة تلاميذه. فهو الذي قال: ((أنا معكم كل الأيام حتى انقضاء الدهر)) (28: 20). في العهد القديم وعد الله أنبياءه بأن يكون معهم. أما الآن فهذا الحضور يمتدّ إلى كل أزمنة التاريخ حتى النهاية، لأن المسيح لم يعد خاضعًا للزمان والمكان، بل صار الزمانُ والمكان خاضعين له.

4- البعد اللاهوتي

أ - الموت والقيامة في مت
أولاً: يسوع ابن الانسان الحقيقي
إذا أردنا الآن أن نكتشف الخطوط الكبرى لطريق مت في تقديم حاش المسيح وآلامه، نذكر في الدرجة الأولى القطب المركزي الذي يُشرف على التوسيع كله: المسيح يسوع الذي رأيناه حيًا، يدلّ بموته أنه حقًا ابن الله. هو ابن الانسان الحقيقيّ الذي جاء في السحاب، وهو يشرف على التمييز الحاسم لضمائر البشر. منذ البداية إلى النهاية، هو يطيع مشيئة الآب في اتحاد تام. منذ الانباء الأول (26: 2) حتى الاستسلام بين يدي الله (27: 46) مرورًا بصلاة النزاع في الجسمانيّة (26: 39، 42) وفعلة الحرية التي بها أسلم نفسه(26: 52-54) أو جوابه الواثق لعظيم الكهنة (26: 64). وهو بالحركة عينها يستسلم إلى البشر بضمير يعرف إلى أين هو ذاهب: الافخارستيا، التوقيف، الهزء. وهذا الاستسلام الذي يصبح ينبوع حياة وبلاغ فرح للإخوة. فصحُ يسوع هو عبور إلى الآب وعبور إلى البشر.
ثانيًا: لاهوت التاريخ
هكذا يتوسّع مت في لاهوت التاريخ. يرى في موت يسوع وقيامته مجيء ابن الانسان الذي يحوّل تاريخ البشر إلى ملكوت الله. فعلى ضوء عمل المسيح الأخير في بُعده الخاص (يسوع هو انسان بين الناس) كما في بعده الكوني (إن ابن الانسان يكمل مصير كل انسان)، تتّخذ كل حياته معناها النهائي. وتظهر منذ الآن كسلسة أحداث، بل كتتمة إرادة واثقة تتجاوز الانسان وتغمره معًا. فكل محاولات الانسان يقرأها مت منطلقًا من المدلول الأخير الذي يمنحه لها دخول الابن الحبيب في مجد الآب. فحين يكتب منذ حديثه عن السابق (3: 2؛ 4: 17) أن ملكوت السماوات قد اقترب، فهو يعني بكلامه أن القائم من الموت قد اقترب من البشر، لأن الرؤية العماديّة كشفت بنوّته الالهيّة.
وفي خبر الآلام، كل شيء يتحدّد موقعُه انطلاقًا من النهاية. فعمل المرأة التي مسحت يسوع بالطيب في بيت عنيا، هو عملها في دفنه (26: 12)، وصار بلاغ فرح للذين يعرفون بعملها (26: 12). ففي هذه المرأة يقرأ مت نظرة (مشاهدة) النسوة إلى القبر (27: 55-56، 61؛ 28: 13)، والبلاغ الذي يحملنه إلى التلاميذ، إخوة الربّ (28: 6، 7-10). والمبادلة التي تمّت بين عظماء الكهنة ويهوذا (26: 5-15؛ رج 27: 4-10)، هي صورة مسبقة لما سيفعلونه مع الحرس على القبر (28: 12-15) بعد القيامة. فنحن لا نستطيع أن ((نعبد الله والمال)) (6: 24).
يُنظر إلى جماعة التلاميذ منذ البداية على أنها جماعة العهد النهائيّة في الجسد المبذول والدم المراق (26: 26-29) رغم الخيانة والشك والانكار وأعمال التراخي الاستسلام. فمتّى يرى منذ الآن صورة جماعة التلاميذ الملتئمة في الجليل (28: 7-8، 10). فالحريّة التي بها يعلن يسوع آلامه، ويستسلم إلى الذين يوقفونه، ويجيب من يسأله في المحاكمة اليهوديّة والمحاكمة الرومانيّة، ويسلّم روحه للآب على الصليب، كل هذا يجعلنا نستشفّ لقاء بعد القيامة (28: 9، 16) حيث يأتي يسوع إلى أخصّائه بسلطة سامية. أجل، إن التاريخ في نظر مت، هو قراءة الأحداث انطلاقًا من النهاية في وجهة الابديّة التي تضيئها.
ثالثًا: الكرستولوجيا في مت
لقد انطبعت الكرستولوجيا في مت بهذه النظرة إلى التاريخ. فحين أهتمّ الانجيليّ قبل مولد يسوع وخلال حياته كلها على الأرض، بأن يلاحظ أن هذا الأمر يحصل ((لكي تتمّ كلمة النبيّ))، شرح لنا بعبارات أخرى، أننا لا نستطيع أن نفهم ما قالوا لنا إلاّ على ضوء التتمة الذي هو يسوع، الحاضر منذ البدء. فهو ابن داود وهو يعطي الثبات لملكيّة داود وسلالته. وهو ابن الانسان لأنه يكشف عمق الواقع الانساني. وهو ابن الله، لأنه يعطي الآب أن يكون أب البشر وأن يكون البشر أبناء ملك المجد. وهو المسيح الوحيد الذي يساعدنا على تمييز كل النظريات المسيحانيّة. وهو اسرائىل الحقيقيّ لأن اسرائيل يكتشف فيه دعوته إلى ملكوت السماوات.
غير أن جميع هذه الألقاب الكرستولوجيّة تبقى ملتبسة بعض الشيء، لأن مدلولها الحقيقيّ يفلت دومًا منّا. وهذا ما وعاه مت: فالتلميذ الذي أعطي له أن يعرف أسرار الملكوت (13: 11)، يتوجّه إلى معلّمه كما إلى ((ربّه)) . وهو يستطيع أن يتصرّف هكذا، لأن الربّ تماهى مع العبد (10: 24-25) وأعطى حياته فدية عن الكثيرين (20: 28).وهكذا إذ يشعر بالمسافة التي تفصله عن ربّه، وهي مسافة توسّعها الخطيئة والرفض الذي فينا، يدرك أن هذه المسافة قد تزول بواسطة ذاك الآتي إليه (28: 18؛ رج 17: 7). يأتي إليه من وراء الموت، من عند مجد الآب، ويرى فيه أخاه (25: 40). إن زرْع الملكوت الذي وُضع في قلب التلميذ هو حضور ((الصغير)) في قلب جماعة تشارك في غفران نالته، هو العبد المتألّم الذي تجسّد في حياة التلميذ المضطهد (5: 10-12؛ 10: 17-20؛ 24: 9-14). هكذا تتفتح الكرستولوجيا (شخص يسوع المسيح) المتاوية في اكليزيولوجيا (درس عن الكنيسة) في تماسك تام: فحضور المسيح وسط أخصّائه يجعل من الكنيسة باكورة الملكوت.
رابعًا: البعد الكوني في مت
إن آلام المسيح وموته تتّخذ عند مت بعدًا كونيًا في علاقتها مع تذكر مجيء ابن الانسان في الخطبة الاسكاتولوجيّة. رأينا أهمية ((الزلزال)) (27: 51، 54؛ 28: 2-4) في مت، وأدركنا تأثيره على البحر (8: 24) وفي مدينة أورشليم ساعة الدخول المسيحاني لابن داود (21: 10). إن الانقلاب الذي تمّ في الطبيعة فتجاوب معها البشر، يدلّ على أن مشيئة الآب تتمّ ((في السماء كما على الأرض)) (6: 10). إذا كانت الشمس تظلم (24: 29؛ 27: 45)، فلكي يضيء النور على الشعب الجالس في الظلمة (4: 16)، ولكي ينير البرق الأفق (24: 27؛ 28: 3)، ولكي يشعَّ وجهُ المتجلّي كالشمس (17: 2).
يجب أن لا نطلب بعد آيات، ساعة أعطيت لنا آية يونان (12: 38-40؛ 16: 1-4). والقدرة التي تحرّك العوالم هي موت وقيامة ابن الانسان الآتي على السحاب، هي سلطة ذاك الذي ((يشفي كل مرض وكل علّة)) (4: 23؛ 9: 35) لأنه ((أخذ أوهاننا وحمل أمراضنا)) (8: 17). والصلب الذي سام به العالمُ عبد الله المتألم، هذا البار المضطهد، لم يغلب قوة الحبّ الذي ربطه بالآب وردّه إلى البشر قائمًا من الموت.
إن حجاب الهيكل (والحجاب الذي يضعه كل انسان لئلا يكتشف وجه الله) قد مزِّق منذ الآن وبشكل نهائيّ، فخسر قدرته على الفصل بين الله والانسان. وذاك الذي طرد الباعة (21: 12) من الهيكل وأحلّ فيه العميان والعرج (21: 14) قد جعل الانسان في كل مكان وفي كل زمان في حضرة الآب الذي يرى الخفايا (6: ،4 ،6 18) الذي يجعل نفسه حاضرًا في أصغر الصغار (25: 40). كل الأرض قد صارت هيكل الله. وما عادت تقدر أن تسجن الحياة: فالصخور تشقّقت والموتى قاموا (27: 52)، ودُحرج الحجر عن القبر (28: 2) بواسطة ملاك الربّ الذي أتاح ليوسف أن يدخل في تاريخ البشر ويُنمي في أرض اسرائىل (1: 20، 24؛ 2: 13، 19)، الابنَ الحبيب (3: 17) الذي اسمه عمانوئيل (1: 23).

ب - انجيل متّى انجيل الكنيسة
نطرح هنا موضوعين: اسرائيل وجماعة التلاميذ. الكنيسة وملكوت السماوات. بالنسبة إلى القسم الأول، يطرح سؤال: ما هي الكنيسة بالنسبة إلى العالم اليهوديّ؟ والجواب يمرّ عبر كرستولوجيا، عبر دراسة هويّة يسوع. ويُطرح في القسم الثاني سؤال حول انتظار الكنيسة لربّها. والجواب يمرّ عبر اسكاتولوجيا ينضمّ فيها الماضي والحاضر والمستقبل، فنتعرّف إلى طبيعة ملكوت السماوات.
أولاً: اسرائيل وجماعة التلاميذ
كان بولس قد أظهر القطيعة والجديد اللذين حملهما مجيء يسوع، وقدّم ((سرّ اسرائيل)) في تاريخ الخلاص بأسلوب جدليّ. وجاء بعد ذلك مت ولو، فشدّدا على تواصل تاريخ الخلاص. أبرز لو الموقع الضروريّ لاسرائيل في هذا التاريخ. أما مت فبيّن لجماعته التي لا تشكّ بالدور المميّز للشعب المختار، أن تاريخ اسرائيل يتمّ كله في يسوع المسيح. ولكن هذا التواصل في مخطط الله الخلاصي الوحيد، يراه مت في تعارض لا رجوع عنه مع العالم اليهوديّ الرسميّ، لأن هذا العالم يرفض مسيحانيّة يسوع وينغلق على نفسه راذلاً ذاك الذي جاء ليكمّله. إن السؤال حول هويّة جماعة تلاميذ يسوع تلتقي مع سؤال حول يسوع نفسه.
> التلاميذ ويسوع
الحياة المسيحيّة في نظر مت هي حياة التلاميذ: فالمهمّة الشاملة جعلت البشر يسمعون الربّ ويتبعونه (28: 19-20). ومجموعة ((التلاميذ)) التي تحيط بيسوع على مدّ حياته على الأرض، قد قدّمت النموذج لهذه الحياة في الكنيسة: جماعة سارت في السفينة على خطى يسوع في مياه الحياة المضطربة (8: 23-28).
غير أن مجموعة التلاميذ هذه ليست نموذجًا طبق الأصل عن المدارس الرابينيّة، وإن كانت هناك بعض التشابهات: فالرباط الذي يجمع يسوع بتلاميذه يفجّر العلاقة بين الرابي والتلميذ. فيسوع يقدّم نفسه كـ ((معلّم)) (ديدسكالوس، 10: 24-25؛ 26: 18)، بل ((المعلّم)) الأوحد (23: 80) و((المدبّر)) الأوحد (كاتيغيتيس، 23: 10). ولكن المؤمنين لا يعطونه أبدًا هذا اللقب. فهو لهم فقط ((الربّ)).
الرابي يفسّر التوراة. يقود تلاميذه، لا نحو شخصه، بل نحو الشريعة التي تعبّر عن إرادة الله. أما يسوع فيجعل نفسه محور تعلّق أخصائه. هو البرّ الكامل. وهو الشريعة التي نتبعها (أكولوتاين، يرد 25 مرة في مت). وهو يطلب تعلّقًا حصريًا بشخصه (10: 37-38؛ 16: 24-26؛ 19: 27-28). فما يحدّد التلميذ بعد الآن، هو تماهيه مع ربّه (10: 24-25): ((ليس التلميذ أفضل من المعلّم، ولا العبد أفضل من سيّده)).
وإذ يتابع التلاميذ وجود الرب ورسالته، ينالون سلطته. فالكلمات التي يقولونها هي كلماته حول اقتراب الملكوت. والأعمال التي يقومون بها هي أعمال الخلاص التي بدأ فقام بها. فمن هو يسوع ليدلّ على هذه المتطلّبات تجاهه؟ وبالتالي، من هم هؤلاء التلاميذ الذين يجمعهم، ويدعوهم إلى اتّباعه ليجعل منهم كنيسته على مثال الشعب العبراني الذي دُعي في سيناء فكوّن جماعة الله؟
> اسرائيل الكامل: يسوع وجماعته
ليس يسوع مفسّرًا للشريعة على مثال الكتبة. هو تفسير الشريعة. هو مفتاح الشريعة التي لا نفهمها إلاّ به. فهو ما جاء ليدمّر كلام الشريعة والأنبياء. بل جاء يكمّل (5: 17). إنه البرّ التام. إنه الشريعة التي بلغت إلى كمالها.
وما قيل في الماضي عن اسرائيل، يقال الآن عن يسوع، لأنه حقًا ابن اسرائيل ولأنه أخذ على عاتقه كل واقع شعبه لكي يقوده إلى ملئه. هو الابن الذي دُعي من مصر ( 2: 15 = هو 11: 1). إنه الابن الحبيب وموضوع رضى الآب (3: 7؛ 17: 5؛ تك 22: 2؛ مز 2: 2؛ أش 42: 1). إنه عبد يهوه (12: 18-21 = أش 42: 1-4). لقد واجه التجارب في البريّة (4: 1-11 = تث 6: 13، 16؛ 8: 3). بعد أن عبر الاردن (بعماده) سار في أرض الميعاد حتى أورشليم.
في يسوع الذي ظهر في جليل الأمم (4: 15) يحقّق اسرائيل دعوته كـ((شعب)) للأمم، حسب الوعد المعطى لابراهيم: ((بك تتبارك جميع أمم الأرض)) (تك 12: 3؛ رج إر 4: 2؛ سي 44: 21). ويكمّل هذه الدعوة. شدّد مت على كل هذا (4: 15-16 = أش 8: 12؛ 11: 5 = أش 35: 5-6؛ 61: 1). وأبرز التعليم الشامل الذي نقرأه عند الأنبياء، لأن ((باسمه أناطت الأمم رجاءها)) (12: 21 = أش 42: 4).
وفي الوقت عينه، ما قيل عن يهوه في العهد القديم، يقال الآن في يسوع: هو يتكلّم بسلطان (7: 28). يأمر البحر (8: 26-27). يغفر الخطايا (9: 1-8). يدعو شعبه (16: 19) ويطعمه في البريّة (14: 15-24؛ 15: 32-39). يعيش وسط أخصّائه كحضور الله بالذات (18: 20؛ 28: 20؛ رج 1: 23. هو ((شكينه))).
إذن، هو في الوقت عينه يعمل أعمال اسرائيل (لأنه انسان) ويعمل أعمال الله (هو الله وابن الله): إنه ((المسيح ابن الله الحيّ)) (16: 16؛ رج 1: 1، 23) الذي فيه يكتمل تاريخ شعبه. صدقُ اسرائىل يُقاس بتتمّته للشريعة. ولكن يسوع هو تمام الشريعة لأنه يقود كل شريعة إلى تتمتّها.
وهذا التفسير المسيحاني لحياة يسوع في معنى جذري على مستوى التتمة والشموليّة، يحدّد موقع تلاميذ يسوع خارج العالم اليهوديّ الرسمي ويكوّنهم في وحدة لا يمكن أن تخلط مع ((مجامعهم)) (كما يقول مت 4: 23؛ 9: 35؛ 10: 17؛ 12: 9؛ 13: 54؛ رج 23: 34) ولن يمضي وقت حتى يُسمَّوا ((هراطقة)) (مينيم)، وفي النهاية يُحرمون من المشاركة في الصلاة والحياة مع اليهود (تمّ هذا الحرم سنة 80 أو سنة 94 بناء على طلب رابي غملائيل الثاني).
لو قدّم يسوع نفسه على أنه رابي يعطي تفسيرًا شخصيًا للشريعة، لكان قُبل في تقليد الحكماء الطويل الذي نجد صداه في فصول الآباء (فرقة أبوت). ولكانت كنيسته وجدت مكانها وسط الشيع اليهوديّة في عصره. ولكن بما أنه أراد أن يجمع في شخصه كل مصير اسرائيل، أعلن نفسه أعظم من الهيكل (12: 6) وربّ السبت (12: 8)، وسمّى نفسه المسيح الموعود والآتي على السحاب (26: 63). عارض كل التمثّلات التي تمثّلها معاصروه عنه. بدت القطيعة حتميّة بين اليهود الذين اعتبروه رابي يعطي نفسه اعتبارات غير مقبولة، وبين الذين صار لهم الرب وابن الله الحيّ (هذه هي نقطة الخلاف الاساسيّة بين العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ).
وهذا الفصل بين العالمين لم يحصل دون أن يترك حنينًا في الجماعة المتاويّة (ف 23-24) التي ظلّت واعية لرسالتها تجاه ((الخراف الضالّة من بيت اسرائيل)) (10: 6). متطلّبةُ يسوع تبدو مفرطة وتتجاوز الحدّ البشري: لم يعد هناك من اسرائيل سواه هو (يسوع هو اسرائيل الحقيقي) مع التلاميذ الذين يجمعهم ويدعوهم إلى السير وراءه ، لأنه يكوّن معهم ملكوت السماوات الذي يُتمّ مصيرَ شعب الله.
فهل يبقى اسرائيل اسرائيل بعد؟ هل خسر هويّته بشكل نهائيّ؟ لا شكّ في أن العالم اليهوديّ الرسميّ الذي يمثّله الفريسيون وعظماء الكهنة، قد أُخذ منه ملكوت الله وأعطي ((لأمّة)) تعطي ثمرًا (21: 43). لا شكّ في أن ((بيته تُرك خرابًا)) (23: 38 = إر 22: 5). ولكننا لا نستطيع أن نتكلّم عن رذل اسرائيل ولا عن رذله النهائيّ. ولا نستطيع أن نقول أيضًا إن اسرائيل الماضي قد انتقل إلى ((جميع الأمم)) التي لأجلها تمارس الكنيسةُ رسالتها (28: 18، 20؛ رج 24: 9، 14؛ 25: 32).
هناك سؤال يُطرح حول المدلول الذي يأخذه الشعب اليهودي بعد مجيء المسيح. وقد أعطيت أجوبة مختلفة. عدد كبير يعتبر الوجود الحالي للعالم اليهودي علامة متواصلة للعنة تلفّظ بها المسيح (مت 23) وتحقّقت سنة 70 بدمار أورشليم والهيكل. وكانت النتيجة أن بعضهم اعتبر الشريعة ألغيت وصارت الديانة اليهوديّة عضوًا مريضًا وشاهدًا مستمرًا على متطلّبات الخيار الالهي الهائلة، لأن الاختيار انتقل كله إلى الكنيسة. في هذا الخط يسير الطرح الذي فيه تحلّ الكنيسة كجماعة مسيحانيّة محلّ اسرائيل العهد القديم. في هذا الخط أيضًا صيغت في الكنيسة ممارسة الرسالة تجاه الشعب اليهوديّ من أجل ارتداده بعض المرات بالقوّة.
إذا أخذنا بعين الاعتبار استمراريّة الشعب اليهودي على مدى ألفَي سنة من التاريخ المسيحيّ، أما يجب بالأحرى أن نتطلّع إلى الخصب الذي تشكّله للكنيسة نفسها استمراريةُ الرجاء المسيحاني لدى هذا الشعب. في هذا الخط يدعونا مت إلى أن نفكّر: نتذكّر في نهاية هجوم ف 23 حيث المنظار الاسكاتولوجي الذي يتوسّع فيه دومًا يُبرز انتظارَ اسرائيل وانشداده نحو التتمّة. بما أن الانجيل الأول لا يماهي أبدًا بين ملكوت السماوات والكنيسة، فهذا علامة أن اسرائيل اللامكتمل ما زال يلعب دورًا ايجابيًا تجاه الكنيسة. فهو يذكّرها أن عليها أن تصبح ما هي؟ وأنها لا تقدر أن توجد إلاّ إذا سارت مجتذبة البشريّة للدخول إلى ملكوت السماوات. يقتلعها الله من تجربة مستمرة وهي أن تتماهى مع الملكوت (ليست بعدُ الملكوت. لم تصل بعدُ إلى المجد. فهي في طريق الآلام الصاعدة إلى أورشليم)، ويدفعها إلى الحياة في مسيرة مؤلمة على طريق البرّ والرجاء الذي يقدّمه لها المسيح الذي هو اسرائيل الكامل. فإذا كان يسوع في نظر مت التتمة النهائية، فهو يعرف أيضًا أن هذه التتمّة لم تصل بعد إلى نهايتها في العالم، بل هي تغذّي رجاء الشعوب بالرجاء الذي أعطي لاسرائيل.
كان يسوع يهوديًا حقيقيًا في أرض شعبه وتاريخه. هو شخص يتضمّن شعبه فيه. إنه يمثّل اسرائيل في تتمّته. إذن يسوع هو اسرائيل الحقيقيّ على مستوى

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM