ملك يشهد للحق

ملك يشهد للحق
18: 31- 37

لو كانت مملكتي من هدا العالم لدافع عني أتباعي.
يحتلّ اللقاء بين يسوع وبيلاطس عند يوحنا جزءاً أكبر من عند الإزائيين. لقد أراد يوحنا أن يصوّر الآلام لا كغوص مأساوي وأليم يعيشه نبيّ في الألم والموت، بل ككشف متدرّج للإبن تجاه العالم. فمسيرة يسوع خلال آلامه تصوَّر كمسيرة مجيدة للرب، سيّد كل شيء، والعارف بما سيحصل له، والفارض سلطته على الجنود الذين جاؤوا ليوقفوه (18: 6). وهو يدخل في حوار تدريجي مع بيلاطس.
سلطته وملكه هما من نظام آخر. لا جيش له بتصرّفه. والسيف الذي استعمله بطرس؟ قال له يسوع: "أرجِع سيفك إلى غمدك" (18: 11).
جعل يوحنا صورتين متعارضتين للملكية، الواحدة تجاه الأخرى. بيلاطس هو حاكم فوّضه الإمبراطور الروماني. هو يمثّل الإمبراطورية الرومانية بكل قوتها المنظور، مع الجيوش والإدارة التي ترافقه. أما يسوع فيختلف عنه كل الإختلاف. عنده فرقة حوله. ولكنها تبخّرت منذ اليوم الذي صوّر لهم الملك الذي سيكونه في طريق الآلام. وبقي له بعض الصيّادين الجليليين الذين سحرتهم شخصيته وسيطر عليهم حلمهم بالتسلّط، فما عادوا يفهمونه، بل كانوا يتشاجرون حول الأماكن الأولى في الملكوت المقبل.
في هذا الوقت نفهم فطنة يسوع أمام بيلاطس. سأله بيلاطس: "أملك أنت"؟ أجاب يسوع: "أنت تقول ذلك". رفض أن يعرّف عن نفسه أنه ملك، لأن هذا اللقب مفخّخ. مملكته حقيقية، ولكنها "ليست من هذا العالم". وأعضاء هذه المملكة هم الذين "ينتمون إلى الحق"، أي الذي يتقبّلون البشارة التي حملها، ويعملون بموجبها.
على الصليب كتب بيلاطس في ثلاث لغات، في اليونانية واللاتينية والعبرية: "يسوع الناصري ملك اليهود". حين ذكر يوحنا هذا الحدث، شدّد في كلام وجّهه إلى قرّاء مسيحيين، على أن الصلب يدلّ حقاً على مملكة يسوع الشاملة. كان يسوع قد قال: "حين أُرفع عن الأرض أجتذب إلي كل أحد".
عندئذٍ يبدو الصليب كخاتمة كل التجسّد، وعلامة حبّ الله السامية تجاه البشر عبر ابنه. "لقد أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الحبيب". ونحن نتطلّع إلى نهاية التاريخ ساعة تصبح مملكة يسوع ظاهرة للجميع.
لا شك في أن موضوع الملك يجعلنا في عالم آخر، وهو بعيد كل البعد عن العالم الإنجيلي. لهذا كان يسوع فطناً بالنسبة إليه. ولهذا، يجب أن نبحث عن صور أخرى تعبرّ عن رغبة يسوع بأن يجمع البشر كلّهم بعصا رعايته. إن مملكة يسوع هي منذ الآن هنا. ويسوع صار بموته وقيامته بكر الأموات وأمير الحياة. والذين يريدون أن يكونوا من مملكته، عليهم أن يقبلوا بالقواعد الموضوعة: الأولون يصيرون الآخرين. وصغار القوم الذي يشبهون الأطفال الضعفاء الذين لا يهتم بهم الكبار، هؤلاء الصغار يحتلّون المراكز الأولى.
عندما ننظر إلى النجاحات التقنية البارعة لدى الإنسان، لا نستطيع إلا أن نعجب بذكاء الإنسان وعناده. فهو يبدو حقاً ملكَ الكون كله. ولكننا قرأنا اليوم صفحة من إنجيل يوحنا تشير إلى المسيح يسوع، ذاك الذي مات معذّباً منذ ألفي سنة. فقد أعلن أمام موظّف روماني قويّ أنه ملك بشكل يتجاوز كل ما في الأرض، أنه الملك الحقيقي. غير أن هذه التأكيدات لم تنجّه من الموت، بل صُلب مع لصين. ومع ذلك فملايين من الناس يعتبرونه دوماً مخلّصهم وسيّد مصيرهم!
من نصدّق؟ الكنيسة التي تقدّم لنا هذا المصلوب لنعبده كملك، أم العالم المعتمد على تقنيته وعلمه، والذي يعلن أن ملك الإنسان وحده فاعل وناجح.
نحن لسنا ضد العلم وضد التقنية. بل نفرح امام تطورهما من أجل رخاء الإنسان وسعادته. ولكن لا نخطىء. فكلمات يسوع هي الحقيقة: "ما الذي يفيد أن تحتلّ الكون، إن خسرت نفسك"؟ نستطيع أن نخسر نفوسنا بالموت الطبيعي. بل هناك شّر أكبر، أن نخسرها في الكبرياء والظلم والأنانية والبغض والحرب. لقد أعلن المسيح أن الإنسان يقدر أن يربح حياته بالخدمة والمحبة، وهكذا ننتصر حتى على الموت الطبيعي.
هنا نجد الشهود الذين قالوا لنا إن نجّار أورشليم قَبِل بحرية تامة أن يمرّ عبر الألم والموت. وهكذا أكّد تضامنه مع الجنس البشري كله، وصار خادماً له حتى أعطى حياته من أجله. لهذا أقامه الله ومجّده لحياة جديدة. هؤلاء الشهود هم بطرس، يوحنا، متى، بولس والآخرون. وهناك جمهور كل الذين على مدى الأجيال واليوم أيضاً، إلتقوا به كخادمهم وملكهم، كحقيقتهم ورجائهم.
كل الذين قبلوا أن يثقوا به ثقة تامة، شعروا بهذه الخبرة الحميمة، وعرفوا أن المسيح يملك فيهم كضيف صامت وفي الوقت نفسه فاعل. فهل نستطيع أن نحب إخوتنا إن لم ينتزعنا روح يسوع المسيح من أثقال أنانيتنا وكبريائنا ليجعلنا نبحث عن حقيقة الحبّ؟ يبقى أن نطلب إلى المسيح ملكنا أن يجتذبنا لنسير بفرح على خطاه في خدمة إخوتنا، كعمّال صالحين في ملكوت العدالة والرجاء والمحبة.
شكراً لك يا رب. أعطيتنا ملكاً هو أعظم الملوك ولا يشبه ملكاً من الملوك. شكراً ليسوع المسيح الشاهد الأمين الذي تكلّم أمام بيلاطس بكلام الحق ومات لأنه قال الحق. شكراً لك من أجل يسوع، بكر الأموات، أجلسته عن يمينك ورفعته فوف الملائكة وكل قوات السماوات. شكراً من أجل يسوع الذي أحبّنا كثيراً حتى بذل ذاته عنا، وجعل منا مملكة كهنة لك. شكراً من أجل يسوع الذي يأتي في السحاب فيراه جميع البشر حتى الذين طعنوه. شكراً من أجل يسوع الذي يقول معك ومع الروح القدس: أنا الألف والياء، أنا البداية والنهاية، أنا الذي هو والذي جاء والقدير. لك المجد يا رب مع إبنك وروحك القدوس إلى الأبد

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM