أنا نور العالم

أنا نور العالم
9: 1- 40

أتؤمن أنت بابن الله؟ قال: "آمنت يا سيدي". وسجد ليسوع.
دُوّن خبر المولود أعمى بفن دراماتيكي بارز. إنه يدل بالصورة على إعلان ليسوع خلال عيد المظال: "أنا نور العالم. من يتبعني لا يمشي في الظلام، بل يكون له النور الذي يقود إلى الحياة" (8: 12؛ 9: 5).
بعد مقدّمة لاهوتية حول سبب هذه العاهة، يتكثّف خبر المعجزة في آيتين (آ 6- 7). نلاحظ هنا (كما في كل إنجيل يوحنا) مبادرة يسوع: هو الذي رأى الأعمى. هو الذي وجّه إليه الكلام دون أن يطلب المريض شيئاً. وبعد فعلة تدل على خلق الإنسان الأول (جبل التراب)، إعتزل يسوع عن "المسرح". ذهب الأعمى وحده إلى البركة. تُرك تجاه الذين يلاحقونه بأسئلتهم ويهدّدونه بالطرد من الجمع (آ 8- 34). ولن يظهر يسوع إلا في النهاية ليكشف عن نفسه للأعمى الذي شُفي، ويعطي المعنى لهذا الإنقلاب التام في الوضع: الذين ظنوا أنهم يرون هم في الواقع عميان.
يجب أن نقرأ الخبر على مستويين: مستوى شفاء تام به يسوع يوم السبت، وما تبع هذا الشفاء من جدال، ثم مستوى مواجهة مؤلمة بين السلطات اليهودية وأعضاء من الجماعة المسيحية. وهذا مما تدل عليه آ 22: بعد دمار الهيكل سنة 70، فرض الفريسيون ترتيباً قاسياً في ما يخصّ ممارسة الشريعة، وقرّروا أن يطردوا من المجمع كل الذين يقرون بأن يسوع هو مسيح إسرائيل. تدبير مأساوي (رج 16: 2) لكل الذين كانوا مسيحيين وأرادوا أن يظلّوا أمناء للارث اليهودي. إن وضعهم يشبه وضع المولود أعمى.
ونلاحظ بعض وجهات هذه الفقاهة العمادية. تمّت المعجزة عن بُعد. تكلّم يسوع، فوجب على الأعمى أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام. وأعطى الإنجيلي التفسير الرمزي لاسم العلم هذا: المرسل (في السريانية: شيلوحا). فينبغي على القارىء أن يفهم أن الماء الذي يعيد النظر ليس أي ماء كان، بل ذاك الذي يأتي من مرسَل الله (7: 37- 38).
وإن سلسلة الإستجوابات التي يخضع لها الأعمى تجعلنا نشهد تدرّجاً في إيمان الأعمى. تكلّم أولاً عن الرجل الذي يسمّونه يسوع (آ 11). ثم رأى فيه النبي (آ 17). وأخيراً ذاك الآتي من عند الله (آ 33). وصل إلى كل هذا من دون عون خارجي. وأهلُه أنفسهم تخلّوا عنه خوفاً من اليهود (آ 20- 23). وعند نهاية الدراما، جاء يسوع إلى الأعمى وقدّم نفسه كابن الإنسان أو إبن الله (آ 35).
شاهدنا في موضوع السامرية مراحل ارتداد ترتبط بالمحيط الذي تعيش فيه هذه المرأة. أما الآن فنشهد صراعاً مؤلماً يعيشه إنسان وحده فيقوده حتى نهاية بحثه، بالرغم من المعارضة المتصاعدة التي يقوم بها محيطه. فالمقابلة بين خبر السامرية وخبر المولود أعمى تساعدنا على إلقاء الضوء على طرق مختلفة يأخذها "الموعوظون" (يستعدون للعماد) لكي يبلغوا إلى المسيح نور العالم. ونجد هنا أيضاً تنبيهاً للمؤمنين الأكيدين من نفوسهم، المفتحرين بيقيناتهم. فقد يكون غير المؤمنين أكثر إيماناً من المؤمنين.
نحن في طبيعتنا لا نستطيع أن نقبل بالعبث. نحن نحتاج إلى معنى عقلي أو ديني لكل شيء. وأمام الألم الذي نتحمّله ظلماً، وأمام شقاء البريء، وأمام عبثية الشّر، يبحث الإنسان عن المخطىء أو المخطئين: نزوات الآلهة (في العصور القديمة)، شّر سرّي في أصل البشرية، الشياطين، ضعف البشر. إذا كان هذا الإنسان أعمى منذ مولده، فيجب أن نبحث عن خاطىء: هو أو والداه!
ما نستغربه هو أن يسوع لا يقدّم جواباً مباشراً على مشكلة الشّر. ولكنه يبيّن ويؤكّد أن هذا الشّر لا يأتي من الله، ويدلّ على أنه يعمل بكل قواه لكي يحارب الشّر على جميع المستويات. إنه وجه الرحمة والحنان لإله العهد الذي لا يريد الشّر.
هو يشفي الأجساد. ولكنه يريد بالحري أن يشفي قلب الانسان الذي ضربه شّر سرّي يجعله لا يسمع (أصم) كلمة الحياة ولا يرى (أعمى) نور الحقّ. وكان شفاء هذا الأعمى مناسبة ليدلّ على رغبة الله وهي: أن يحرّرنا من ظلمتنا. أن ينير قلوبنا. أن يجعل من كل واحد منا خليقة جديدة.
وهذا العمل، عمل التنقية والخلق من جديد، قد حصلنا على بذاره في المعمودية. وهذا السرّ الديناميكي يعمل على مدّ حياتنا. فنحن، شأننا شأن هذا الأعمى الذي ينمو إيمانه على مراحل، ما زلنا نتقبّل المسيح النور، لكي نكتشف فينا وحولنا مهاجمات الشّر وتواطئنا مع الظلمة.
إن المسيحيين الأولين في هذا الشرق سمّوا المعمودية "إستنارة". فروح معموديتنا هو ينبوع متواصل لإيماننا الذي هو إمكانية جديدة تتيح لنا أن "نرى". فأنا أكون مسيحياً، ليس فقط عندما أؤمن بالله. فالبشر لم ينتظروا المسيحيين ليؤمنوا بالله! أكون مسيحياً حين "أرى" البشر والأحداث وحياتي وتاريخ البشرية بـ "عين" يسوع المسيح.
إن مأساة الإنسان تشبه مأساة الفريسيين في هذا الخبر: إنه يرفض أن يتقبّل المسيح النور الذي يكشف له جذور أعماله الشريرة، ويتبيّن له أنه يفضّل عليه ظلمة مساوماتنا وتخاذلنا وتراخينا. وفي النهاية، نخاف أن نقوم في نوره الذي يفرض علينا أن نبدّل طريقة حياتنا.
"هل تؤمن بي"؟ إن المسيح يدعونا إلى خيار حاسم. إما أن أقول "أؤمن" وأتقبل النور؟ واما ان اقول (مثل الفريسيين) "أرى" فأرضى عن خطيئتي وأعتبر أني أعرف ما هو صالح لي!
إذا أردنا أن نؤمن، نبدأ فنفتح عيوننا. فمعجزة المولود أعمى أظهرت عمى الفريسيين. وأظهرت أن يسوع هو نور العالم. ولكن لكي نصل إلى فعل إيمان الأعمى، يجب أن يكون الوضع واضحاً. فهذا الرجل الطيّب يقف على طريق يمرّ فيها يسوع. وهو مستعدّ لأن يسمع كلمة يسوع الذي يرسله ليغتسل في بركة سلوام. عاد فرأى. لم يصدّق الفريسيون ما حدث. سيسمعون الأعمى وهو يروي لهم ما حدث له. ولكن هذا الخبر لا يتوافق مع تقليدهم. إنهم ليسوا مستعدّين ليكونوا تلاميذ يسوع. فالمعجزة تطلب منهم أن يتخلّوا عن نظرتهم إلى الله، وقد إتخذوها منذ ولادتهم، ليتعرّفوا إلى الجديد الذي يقدّمه يسوع. أما الأعمى فقد جدّد قلبه لكي يؤمن. قال يسوع: "أنت تراه". أجاب الأعمى: "أؤمن". هذه هي معجزة الإيمان التي تفتح العيون

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM