الكبير في ملكوت السماء

الكبير في ملكوت السماء
10: 35- 45

من أراد أن يكون فيكم عظيماً، يكون لكم خادماً.
كل مرة أنبأ يسوع بآلامه، لم يفهمه تلاميذه. في المرة الأولى قاومه بطرس فسمّاه يسوع: يا شيطان (8: 33). في المرة الثانية، إنشغل التلاميذ بمن يكون الأول (9: 33). وتبع الانباء الثالث طلب طموح من ابني زبدى اللذين كانا من أوفر المدعوين وأقرب المقرّبين إلى يسوع (5: 37؛ 9: 2): طلبا المكان الأول قرب الملك المسيح الذي يصعد إلى أورشليم "ليتوّج هناك"! إن طلبهما يعبرّ عمّا يريد كل تلميذ أن يناله في سره. هذا يفسّر تذمرّهم كلّهم، ويكشف النظرة البشرية والأرضية إلى الملكوت.
أعطاهما يسوع جوابين. الأول، شرب الكأس. الثاني، الغطس في المعمودية. يدلّ الأول على محنة الآلام والموت مع ما يرافقها من تخلّ ظاهر من تبل الله (كأس الغضب، أش 51: 17؛ إر 25: 15). والثاني يدلّ على ضيق الموت غرقاً في المياه الهائجة (مز 42: 9؛ 69: 2). إستعد التلميذان ليدفعا الثمن الغالي. وسيكون لهما أن يتحمّلا المحن القاسية. قُتِل يعقوب بحدّ السيف (أع 12: 1) ولن يكون حظّ يوحنا أفضل من حظّ أخيه. أجل، لم يرفض يسوع طلبهما: سيمرّان في الموت كشهداء للمسيح.
أما أماكن الشرف فهي في يد الآب الذي هيّأ كل شيء. إذن، لا بدّ من التخلّي عن كل مكافأة والسير وراء يسوع. إن الملكوت الذي يعلنه يسوع يعارض ممالك يأمر فيها الرؤساء ويبسطون سلطانهم. لا يجب أن يكون الأمر هكذا وسط التلاميذ ومسؤولي الجماعة في المستقبل. عليهم أن يتبعوا يسوع الذي جعل نفسه خادماً. في الملكوت، الآخرون هم الأولون. الفقراء والمظلومون والمحتقرون قد أعطاهم يسوع حياته وفضلّهم على الآخرين.
والكلمة الأخيرة في هذا الإنجيل تحمل معنى عميقاً في نظرة الكنيسة الأولى إلى يسوع المسيح. وهي تقابل المعنى الذي أعطاه يسوع لموته. يبدو أن مصير عبد الله المتألم ألقى الضوء على معنى آلام يسوع وموته. أخذ لنفسه لقب "ابن الإنسان" الذي عرفه اليهود في سفر دانيال وسائر كتب الجليان. ولكنه بدّل الصورة فزاد على المعنى التقليدي (ابن الإنسان المجيد، الآتي في السحاب، الديان والملك، دا 7: 13- 14) بُعد الإتضاع والفشل الذي كان مجهولاً حتى ذلك الوقت: لقد كشف يسوع عن نفسه حقاً في ذلّ الموت. غير أن الصورة السرية لعبد الله المتألم كما في أشعيا، هي التي أعطت للموت الرهيب الذي يقترب، كل معناه. أحسّ يسوع أن موته سيكون كموت عبد الله، ينبوعَ خلاص للجميع. والحياة المعطاة كفّارة عن الكثيرين، تدل على عطاء يسوع حياته كاملة بالإتحاد مع أبيه. موت يسوع هو بذل وحبّ، هو عطاء في سبيل الآخرين.
رغم حضور يسوع وتعليمه، تشاجر ابنا زبدى والإثنا عشر على المكان الأول قرب يسوع. هذا يعني أن تجربة السلطة لا تزال حاضرة ساعة نصير تلاميذ يسوع.
تُسمّى كل مهمة في الكنيسة خدمة. فعلى كل واحد في الكنيسة أن يتساءل: كيف يمارس هذه الخدمة؟ فالسلطة تبقى تجربة للجميع في الكنيسة وفي خارجها. فيجيب أن يكون الإنجيل حاجزاً ضد هذا الخطر الذي لا نستطيع أن نتهرّب منه.
كم يصعب علينا أن نوفّق بين "طلباتنا" ومخطّط حب الله علينا. نحن لسنا على مستوى ما يريده منا. وهذا ما تدلّ عليه ردّة الفعل لدى الرسل بعد كل مرة أنبأ يسوع بآلامه وموته (أي: بفصحه وعبوره إلى الآب). المسافة واسعة بين ضيق طموحاتنا واتّساع مواعيد الله.
إن ابني زيدى (ابني خالة يسوع) أملا ببعض المجد القريب يحصلان عليه من يسوع: نريد أن نشاركك في السلطة وكرامة الأماكن الأولى حين تصير رئيساً بلا منازع. لم يشجب يسوع طلبهما. بل أجابهما ببساطة: "لا تعرفان ما تطلبان". إن رغبتكما في المجد تتجاوز طلبكما البشري. وفي النهاية، حصل يعقوب ويوحنا على مركز مميَّز. إستُجيب لهما بعد أن شاركا يسوع في "عماده"، في غطسه في مياه الموت ومحنته الفصحية.
هل يستجيب الله دوماً أدعيتنا؟ في الواقع، هناك خلاف بيننا وبينه حول مضمون حاجاتنا. ونحن نكتشف شيئاً فشيئاً وفي الصلاة حاجاتنا الحقيقية. في هذا المعنى، ليست الصلاة "حيلة" على الله، بل مدرسة حقيقة ووضوح وتواضع. فيها ننقّي رغباتنا، ونعي حدودنا، ونفهم أننا لا نقدر أن نكمل نفسنا بنفسنا، أن نشبع عطشنا إلى الحب. في الصلاة، يعلّمنا الروح حاجاتنا الحقيقية: وهي أن نحب وأن نحبّ حباً أبدياً لا حدود له.
الصلاة هي موضع ارتداد نتعلّم فيه الإنتقال من رغباتنا المركّزة طوعاً عن نفوسنا، على منافعنا وما فيها من أنانية، إلى رغبة الله فينا. الله يرى الإنسان كبيراً. وهو يسمع دوماً طلباتنا. فعبر ماديتّها الضيقة، عبر صلواتنا وما فيها من جهل، يستجيب الله رغبتنا اللامحدودة بالسعادة ويفتحها على مستقبل أوسع، على مشروع حبّ لا يضاهيه شيء.
نطلب من الله ما يروق لنا. والله يعطينا ما يليق بنا. والفرق كبير بين الإثنين. لا يريد الله أن يعمل بدوننا ما قرَّر أن يعمله معنا. ولن نستطيع يوماً أن نسأل أكثر ممّا أعطي لنا في يسوع المسيح. فالقديس بولس يرفع المجد "لله القادر بقوّته أن يفعل أكثر جداً مما نطلبه أو نتصوّره" (أف 3: 20).
المسيح هو عبد الله ونحن نتبعه في طريقه. ولكن الرسل يتجادلون وهمهم أن يعرفوا: من هو الأكبر؟ ولكن إثنين منهم يسألان يسوع: أن يجلس الواحد عن يمينه والثاني عن يساره في مجده. لم يفهموا طريق يسوع. ونحن لن نفهمه ما زلنا متعلقين بأنانيتنا ومنفعتنا وراحتنا. طريق المسيح هو طريق اللقاء بالآخرين والإنفتاح عليهم. طريق المسيح هو طريق الخدمة والعطاء في التواضع والامحّاء أمام الإخوة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM